منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
نرحب بضيوفنا الكرام اللهم اجعلنا واياكم من اهل الجنة
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
نرحب بضيوفنا الكرام اللهم اجعلنا واياكم من اهل الجنة
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة

منتدى علمي لنشر الدين وعلومه
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
((عن عبد الله بن عمر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: بلغوا عني ولو آية, ومن كذب علي متعمداً, فليتبوأ مقعده من النار))
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )

 

 المدخل إلى إعجاز القرآن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:35 am

لمدخل إلى إعجاز القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله وحده قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه الله تعالى‏:‏ الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين وصلواته على محمد سيد المرسلين وعلى آله أجمعين‏.‏

هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة وكل ما به يكون النظم دفعة وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد ويرى بها مشئماً قد ضم إلى معرق ومغرباً قد أخذ بيد مشرق وقد دخلت بأخرة في كلام من أصغى إليه وتدبره تدبر ذي دين وفتوة دعاه إلى النظر في الكتاب الذي وضعناه وبعثه على طلب ما دوناه والله تعالى الموفق للصواب والملهم لما يؤدي إلى الرشاد بمنه وفضله‏.‏

قال عبد القاهر رضي الله تعالى عنه‏:‏ معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض‏.‏

والكلم ثلاث‏:‏ اسم وفعل وحرف وللتعليق فيما بينها طرق معلومة وهو لا يعدو ثلاثة أقسام‏:‏ وتعلق اسم بفعل‏.‏

وتعلق حرف بهما‏.‏

تعلق اسم باسم

فالاسم يتعلق بالاسم بأن يكون خبراً عنه أو حالاً منه أو تابعاً له صفة أو تأكيداً أو عطف بياني أو بدلاً أو عطفاً بحرف أو بأن يكون الأول مضافاً إلى الثاني أو بأن يكون الأول يعمل في الثاني عمل الفعل ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول وذلك في اسم الفاعل كقولنا‏:‏ زيد ضارب أبوه عمراً وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وهم يلعبون لاهية قلوبهم ‏"‏ واسم المفعول كقولنا‏:‏ زيذ مضروب غلمانه وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ذلك يوم مجموع له الناس ‏"‏ والصفة المشبهة كقولنا‏:‏ زيد حسن وجهه وكريم أصله وشديد ساعده والمصدر كقولنا‏:‏ عجبت من ضرب زيد عمراً وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ‏"‏ أو بأن يكون تمييزاً قد جلاه منتصباً عن تمام الاسم‏.‏

ومعنى تمام الاسم أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة وذلك بأن يكون فيه نون تثنية كقولنا‏:‏ قفيزان براً أو نون جمع كقولنا‏:‏ عشرون درهماً‏.‏

أو تنوين كقولنا‏:‏ راقود خلا وما في السماء قدر راحة سحاباً أو تقدير تنوين كقولنا‏:‏ خمسة عشر رجلاً أو يكون قد أضيف إلى شيء فلا يمكن إضافته مرة أخرى كقولنا‏:‏ لي ملؤه عسلاً وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ملء الأرض ذهباً ‏"‏‏.‏

تعلق اسم بفعل

وأما تعلق الاسم بالفعل فبأن يكون فاعلاً له أو مفعولاً فيكون مصدراً قد انتصب به كقولك‏:‏ ضربت ضرباً ويقال له‏:‏ المفعول المطلق‏.‏

أو مفعولاً له كقولك‏:‏ ضرب زيداً‏.‏

أو ظرفاً مفعولاً فيه زماناً أو مكاناً كقولك‏:‏ خرجت يوم الجمعة ووقفت أمامك مفعولاً معه كقولنا‏:‏ جاء البرد والطيالسة‏.‏

ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها‏.‏

أو مفعولاً له كقولنا‏:‏ جئتك إكراماً لك وفعلت ذلك إرادة الخير بك وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله ‏"‏‏.‏

أو بأن يكون منزلاً من الفعل منزلة المفعول وذلك في خبر كان وأخواتها والحال والتمييز المنتصب عن تمام الكلام مثل‏:‏ طاب زيد نفساً وحسن وجهاً وكرم أصلاً‏.‏

ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء كقولك‏:‏ جاءني القوم إلا زيداً لأنه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام‏.‏

تعلق حرف بهما

وأما تعلق الحرف بهما فعلى ثلاثة أضرب

أحدها أن يتوسط بين الفعل والاسم فيكون ذلك في حروف الجر التي من شأنها أن تعدي الأفعال إلى ما لا تتعدى إليه بأنفسها من الأسماء مثل أنك تقول‏:‏ مررت فلا يصل إلى نحو زيد وعمرو‏.‏

فإذا قلت‏:‏ مررت بزيد أو على زيد وجدته قد وصل بالباء أو على‏.‏

وكذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى مع في قولنا‏:‏ لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها بمنزلة حرف الجر في التوسط بين الفعل والاسم وإيصاله إليه‏.‏

إلا أن الفرق أنها لا تعمل بنفسها شيئاً لكنها تعين الفعل على عمله النصب‏.‏

وكذلك حكم إلا في الاستثناء فإنها عندهم بمنزلة هذه الواو الكائنة بمعنى مع في التوسط وعمل النصب في المستثنى للفعل ولكن بوساطتها وعون منها‏.‏

تعلق الحرف بما يتعلق به العطف والضرب الثاني من تعلق الحرف بما يتعلق به العطف وهو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول كقولنا‏:‏ جاءني زيد وعمرو ورأيت زيداً وعمراً ومررت بزيد وعمرو‏.‏

تعلقه بمجموع الجملة

والضرب الثالث‏:‏ تعلقه بمجموع الجملة كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط الجزاء بما يدخل عليه‏.‏

وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناولة بالتقييد بعد أن يسند إلى شيء‏.‏

معنى ذلك أنك إذا قلت‏:‏ ما خرج زيد وما زيد خارج لم يكن لنفي الواقغ بها متناولاً الخروج على الإطلاق بل الخروج واقعاً من زيد ومسنداً إليه‏.‏

لا يغرنك قولنا في نحو‏:‏ لا رجل في الدار أنها لنفي الجنس فإن المعنى في ذلك أنها قي الكينونة في الدار عن الجنس ولو كان يتصور تعلق النفي بالاسم المفرد لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها لا إله لنا أو في الوجود إلا الله فضلاً من القول وتقديراً لما لا يحتاج إليه وكذلك الحكم أبداً‏.‏

فإذا قلت‏:‏ هل خرج زيد‏.‏

لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقاً ولكن عنه واقعاً من زيد‏.‏

وإذا قلت‏:‏ إن يأتني زيد أكرمه لم تكن جعلت الإتيان شرطاً بل الإتيان من زيد‏.‏

وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان بل الإكرام واقعاً منك‏.‏

كيف وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال‏.‏

وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت وإكرام من غير مكرم ثم يكون هذا شرطاً وذلك جزاء ومختصر كل الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد وأنه لا بد من مسند ومسند إليه كذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة كإن وأخواتها‏.‏

ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ كأن يقتضي مشبهاً ومشبهاً به كقولك‏:‏ كأن زيداً الأسد‏.‏

وكذلك إذا قلت‏:‏ لو ولولا وجدتهما يقتضيان جملتين تكون الثانية جواباً للأولى‏.‏

وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلاً ولا من حرف واسم إلا في النداء نحو‏:‏ يا عبد الله‏.‏

وذلك أيضاً إذا حقق الأمر كان كلاماً بتقدير الفعل المضمر الذي هو أعني وأريد وأدعو و يا دليل على قيام معناه في النفس‏.‏

فهذه هي الطرق والوجوه في تعلق الكلم بعضها ببعض‏.‏

وهي كما تراها معاني النحو وأحكامه‏.‏

وكذلك السبيل في كل شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلم بعضها ببعض لا ترى شيئاً من ذلك يعدو أن يكون حكماً من أحكام النحو ومعنى من معانيه‏.‏

ثم إنا نرى هذه كلها موجودة في كلام العرب ونرى العلم بها مشتركاً بينهم‏.‏

وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا‏:‏ إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها وكانت حقائق لا تتبدل ولا تختلف بها الحال إذ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الوصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر وقيد الخواطر والفكر وحتى خرست الشقاشق وعدم نطق الناطق وحتى لم يجر لسان ولم يبن بيان ولم يساعد إمكان ولم ينقدح لأحد منهم زند لم يمض له حد وحتى أسال الوادي عليهم عجزاً وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله ونرده عن ضلاله وأن نطب لدائه ونزيل الفساد عن رائه فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل في دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه ويستقصي التأمل لما أودعناه‏.‏

فإن علم أنه الطريق إلى البيان والكشف عن الحجة والبرهان تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقاً غيره أومى لنا إليه ودلنا عليه وهيهات ذلك وهنه أبيات في مثل ذلك من البسيط‏:‏ إني أقول مقالاً لست أخفيه ولست أرهب خصماً إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة في النظم إلا بما أصبحت أبديه فما لنظم كلام أنت ناظمه معنى سوى حكم إعراب تزجيه اسم يرى وهو أصل للكلام فما يتم من دونه قصد لمنشيه وآخر هو يعطيك الزيادة في ما أنت تثبته أوأنت تنفيه تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ تلقى له خبراً من بعد تثنيه هذان أصلان لا تأتيك فائدة من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التمام فما سلطت فعلاً عليه في تعديه هذي قوانين يلفى من تتبعها مايشبه البحر فيضاً من نواحيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه إلا انصرفت بعجزعن تقصيه هذا كذاك وإن كان الذين ترى يرون أن المدى دان لباغيه ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم بما يجيب الفتى خصماً يماريه يقول‏:‏ من أين أن لا نظم يشبهه وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى حكم من النحو نمضي في توخيه لو نقب الأرض باغ غير ذاك له معنى وصغد يعلو في ترقيه ما عاد إلا بخسر في تطلبه ولا رأى غير غي في تبغيه ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في أحكامه ونروي في معانيه كانت حقائق يلفى العلم مشتركاً بها وكلا تراه نافذاً فيه قولوا وإلا فأصغوا للبيان تروا كالصبح منبلجاً في عين رائيه الحمد لله وحده وصلواته على رسوله محمد وآله‏.‏

مقدمة المؤلف بقلمه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين نحمده على عظيم نعمائه وجميل بلائه ونستكفيه نوائب الزمان ونوازل الحدثان ونرغب إليه في التوفيق والعصمة ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله يقيناً يملأ الصدور ويعمر القلب ويستولي على النفس حتى يكفها إذا نزغت ويردها إذا تطلعت‏.‏

وثقة بأنه عز وجل الوزر والكالىء والراعي والحافظ وأن الخير والشر بيده‏.‏

وأن النعم كلها من عنده وأن لا سلطان لأحد مع سلطانه نوجه رغباتنا إليه ونخلص نياتنا في التوكل عليه وأن يجعلنا ممن همه الصدق وبغيته الحق وغرضه الصواب وما تصححه العقول وتقبله الألباب ونعوذ به من أن ندعي العلم بشيء لا نعلمه وأن نسدي قولاً لا نلحمه وأن نكون ممن يغره الكاذب من الثناء وينخدع للمتجوز في الإطراء وأن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل ويموه على السامغ ولا يبالي إذا راج عنه القول أن يكون قد خلط فيه ولم يسدد في معانيه‏.‏

ونستأنف الرغبة إليه عز وجل في الصلاة على خير خلقه والمصطفى من بريته محمد سيد المرسلين وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين وعلى آله الأخيار من بعدهم أجمعين‏.‏

وبعد فإنا إذا تصفحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشرف ونتبين مواقعها من العظم ونعلم أي أحق منها بالتقديم وأسبق في استيجاب التعظيم وجدنا العلم أولاها بذلك‏.‏

وأولها هنالك إذ لا شرف إلا وهو السبيل إليه ولا خير إلا وهو الدليل عليه ولا منقبة إلا وهو ذروتها وسنامها ولا مفخرة إلا وبه صحتها وتمامها ولا حسنة إلا وهو مفتاحها ولا محمدة إلا ومنه يتقد مصباحها‏.‏

وهو الوفي إذا خان كل صاحب والثقة إذا لم يوثق بناصح‏.‏

لولاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلا بتخطيط صورته وهيئة جسمه وبنييه لا ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقاً ولا وجد بشيء من المحاسن خليقاً‏.‏

ذاك لأنا وإن كنا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلا بالفعل وكان لا يكون فعل إلا بالقدرة فإنا لم نر فعلاً زان فاعله وأوجب الفضل له حتى يكون عن العلم صدره وحتى يتبين ميسمه عليه وأثره‏.‏

ولم نر قدرة قط أكسبت صاحبها مجداً وأفادته حمداً دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب وقائدها حيث تؤم وتذهب ويكون المصرف لعنانها والمقلب لها في ميدانها فهي إذاً مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره وتقتفي رسمه آلت ولا شيء أحشد للذم على صاحبها منها ولا شين أشين من إعماله لها‏.‏

فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلاً يخالفك فيه ولا ترى أحداً يدفعه أو ينفيه‏.‏

فأما المفاضلة بين بعضه وبعض وتقديم فن منه على فن فإنك ترى الناس فيه على آرء مختلفة وأهواء متعادية ترى كلاً منهم لحبه نفسه وإيثاره أن يدفع النقص عنها يقدم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن‏.‏

ويحاول الزراية على الذي لم يحظ به والطعن على أهله والغض منهم‏.‏

ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك‏:‏ فمن مغمور قد استهلكه هواه وبعد في الجور مداه ومن مترجح فيه بين الإنصاف والظلم يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم‏.‏

فأما من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلا بالعمل وحتى يصدر في كل أمره عن العقل فكا لشيء الممتنع وجوده‏.‏

ولم يكن ذلك كذلك إلا لشرف العلم وجليل محله وأن محبته مركوزة في الطباع ومركبة في النفوس وأن الغيرة عليه لازمة للجبلة وموضوعة في الفطرة وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه ولا ضعة أوضع من الخلو عنه فلم يعاد إذاً إلا من فرط المحبة ولم يسمح به إلا لشدة الضن‏.‏

ثم إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً وأبسق فرعاً وأحلى جنى وأعذب ورداً وأكرم نتاجاً وأنور سراجاً من علم البيان الذي لولاه لم تر لساناً يحوك الوشي ويصوغ الحلي ويلفظ الدر وينفث السحر ويقري الشهد ويريك بدائع من الزهر ويجنيك الحلو اليانع من الثمر‏.‏

والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها وتصويره إياها لبقيت كامنة مستورة ولما استبنت لها يد الدهر صورة ولاستمر السرار بأهلتها واستولى الخفاء على جملتها‏:‏ إلى فوائد لا يحركها الإحصاء ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء‏.‏

إلا أنك لن ترى على ذلك نوعاً من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه ومني من الحيف بما مني به ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه‏.‏

فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة وظنون ردية وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش‏.‏

ترى كثيراً منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين وما يجده للخط والعقد‏.‏

يقول‏:‏ إنما هو خبر واستخبار وأمر ونهي‏.‏

ولكل من ذلك لفظ قد وضع له وجعل دليلاً عليه‏.‏

فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فارسية وعرف المغزى من كل لفظة ثم ساعده اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها فهو بين في تلك اللغة كامل الأداة بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها‏.‏

يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت جاري اللسان لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة‏.‏

وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية‏.‏

فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب أو يخطىء فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب‏.‏

وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة لا يعلم أن ها هنا دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر ولطائف متقاها العقل وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها ودلوا عليها وكشف لهم عنها ورفعت الحجب بينهم وبينها وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام ووجب أن يفضل بعضه بعضاً وأن يبعد الشأؤ في ذلك وتمتد الغاية ويعلو مرتقى ويعز المطلب‏.‏

حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يخرج من طوق البشر‏.‏

ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقاثق وهذه الخواص واللطائف لم تتعرض لها ولم تطلبها‏.‏

ثم عن لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها وسداً دون أن تصل إليها‏.‏

وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها وعليه المعول فيها وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها ويبين فاضلها من مفضولها‏.‏

فجعلت تظهر الزهد في كل واحد من النوعين وتطرح كلاً من الصنفين وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلمهما‏.‏

أما الشعر فخيل إليها أنه ليس فيه كثير طائل وأن ليس إلا ملحة أو فكاهة أو بكاء منزل أو وصف طلل أو نعت ناقة أو جمل أو إسراف قول في مدح أو هجاء وأنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في صلاح ديني أو دنيا‏.‏

وأما النحو فظنته ضرباً من التكلف وباباً من التعسف وشيئاً لا يستند إلى أصل ولا يعتمد فيه على عقل‏.‏

وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب وما يتصل بذلك مما تجده في المبادئ فهو فضل لا يجدي نفعاً ولا تحصل منه على فائدة‏.‏

وضربوا له المثل بالملح كما عرفت إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين وآراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بها ذاك لأنهم بإيثارهم الجهل بذلك على العلم في معنى الصاد عن سبيل الله والمبتغي إطفاء نور الله تعالى‏.‏

وذاك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت وبانت وبهرت هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر ومنتهياً إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر‏.‏

وكان محالاً أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيهما قصب الرهان‏.‏

ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل وزاد بعض الشعر على بعض كان الصاد عن ذلك صاداً عن أن تعرف حجة الله تعالى‏.‏

وكان مثله مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرؤوه‏.‏

ويصنع في الجملة صنيعاً يؤدي إلى أن يقل حفاظه والقائمون به والمقرئون له‏.‏

ذاك لأنا لم نتعبد بتلاوته وحفظه والقيام بأداء لفظه على النحو الذي أنزل عليه وحراسته من أن يغير ويبذل إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر تعرف في كل زمان ويتوصل إليها في كل أوان ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف ويأثرها الثاني عن الأول‏.‏

فمن حال بيننا وبين ماله كان حفظنا إياه واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه كان كمن رام أن ينسيناه جملة ويذهبه من قلوبنا دفعة‏.‏

فسواء من منعك الشيء الذي ينتزع منه الشاهد والدليل ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة والاطلاع على تلك الشهادة‏.‏

ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفي به من دائك وتستبقي به حشاشة نفسك وبين من أعدمك العلم بأن فيه شفاء وأن لك فيه استبقاء‏.‏

فإن قال منهم قائل‏:‏ إنك قد أغفلت فيما رتبت فإن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه‏.‏

ولأن الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب‏.‏

واستوى الناس قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجاً بالقرآن‏.‏

قيل له‏:‏ خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها والعلم بها ممكناً لمن التمسه فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي له كان معجزاً قائم فيه أبداً وأن الطريق إلى العلم به موجود والوصول إليه ممكن فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجة الله تعالى وآثرت في الجهل على العلم وعدم الاستبانة على وجودها‏.‏

وكان التقليد فيها أحب إليك والتعويل على علم غيرك آثر لديك ونح الهوى عنك وراجع عقلك واصدق نفسك يبن لك فحش الغلط فيما رأيت وقبح الخطأ في الذي توهمت‏.‏

وهل رأيت رأياً أعجز واختياراً أقبح ممن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر وأقوى وأقهر وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشرك كل القوة ولا تعلو على الكفر كل العلو‏.‏

والله المستعان‏.‏

وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون رفضه له وذمه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل وسخف وهجاء وسخف وكذب وباطل على الجملة‏.‏

والثاني‏:‏ أن يذمه لأنه موزون مقفى ويرى هذا بمجرده عيباً يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه‏.‏

والثالث‏:‏ أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر ويقول‏:‏ قد ذموا في التنزيل‏.‏

وأي كان من هذه رأياً له فهو في ذلك على خطأ ظاهر وغلط فاحش وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر وبالضد مما جاء به الأثر وصح به الخبر‏.‏

أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسخف وكذب وباطل فينبغي أن يذم الكلام كله وأن يفضل الخرس على النطق والعي على البيان‏.‏

فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه‏.‏

والذي زعم أنه ذم الشعر من أجله وعاداه بسببه فيه أكثر‏.‏

لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون والعامة ومن لا يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل‏.‏

ونحن نعلم أن لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثراً في عصر واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظماً في الأزمان الكثيرة ولغمره حتى لا يظهر فيه‏.‏

ثم إنك لو لم ترو من هذا الضرب شيئاً قط ولم تحفظ إلا الجد المحض ما لا معاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك غنى ومندوحة ولوجدت طلبتك ونلت مرادك وحصل لك ما نحن ندعوك إليه من الفصاحة‏.‏

فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب‏.‏

هذا وراوي الشعر حاك وليس على الحاكي عيب ولا عليه تبعة إذا هو يقصد بحكايته أن ينصر باطلاً أو يسوء مسلماً وقد حكى الله تعالى كلام الكفار‏.‏

فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر ومن أجله أريد وله دون تعلم أنك قد زغت عن المنهج وأنك مسيء في هذه العداوة وهذه العصبية منك على الشعر‏.‏

وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح ثم لم يعبهم ذلك إذا كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله‏.‏

قالوا‏:‏ وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه بالأبيات من الشعر وكان من أوجعها عنده من الكامل‏:‏ وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكره المرزباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال‏:‏ أتي عمر رضوان الله عليه بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن طلحة بن عبيد الله ومحمد بن حاطب فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمدون بالباب يطلبون الكسوة‏.‏

فقال‏:‏ ائذن لهم يا غلام‏.‏

فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها وقال‏:‏ هذه لمحمد بن حاطب وكانت أمه عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أيهات أيهات‏.‏

وتمثل بشعر عمارة بن الوليد من الطويل‏:‏ أسرك لما صرع القوم نشوة خروجي منها سالماً غير غارم بريئاً كأني قبل لم أك منهم وليس الخداع مرتضى في التنادم ردها‏!‏ ثم قال‏:‏ ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل‏.‏

وقال‏:‏ أدخل يدك فخذ حلة وأنت لا تراها فأعطهم‏.‏

قال عبد الملك‏:‏ فلم أر قسمة أعدل منها‏.‏

وعمارة هذا هو عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه فقالت‏:‏ لا أتزوجك أو تترك الشراب‏.‏

فأبى ثم اشتتد وجده بها فحلف لها ألا يشرب‏.‏

ثم مر بخمار عنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم‏.‏

فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه‏.‏

ومكثوا أياماً ثم خرج فأتى أهله‏.‏

فلما رأته امرأته ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ثياب الندامى عندهم كالغنائم ولكننا يا أم عمرو نديمنا بمنزلة الريان ليس بعائم أسرك‏.‏

‏.‏

‏.‏

البيتين‏.‏

فإذاً رب هزل صار أداة في جد وكلام جرى في باطل ثم استعين به على حق كما أنه رب شيء خسيس توصل به إلى شريف بأن ضرب مثلاً فيه وجعل مثالاً له‏.‏

قال أبو تمام من الكامل‏:‏ والله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس وعلى العكس فرب كلمة حق أريد بها باطل فاستحق عليها الذم كما عرفت خبر الخارجي مع علي رضوان الله عليه‏.‏

ورب قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال‏:‏ رجع طاووس يوماً عن مجلس محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال‏:‏ ما ظننت أن قول سبحان الله يكون معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاماً فقال رجل من أهل المجلس‏:‏ سبحان الله‏!‏ كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف‏.‏

فبهذا ونحوه فاعتبر واجعله حكماً بينك وبين الشعر‏.‏

وبعد فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه المقت منك أنك وجدت فيه الباطل والكذب وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك ولم يوجب له المحبة من قلبك كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب ومجتمع فرق الآداب والذي قيد على الناس المعاني الشريفة وأفادهم الفوائد الجليلة وترسل بين الماضي والغابر ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد ويؤدي ودائع شرف عن الغائب إلى الشاهد حتى ترى به آثار الماضين مخلدة في الباقين وعقول الأولين مرددة في الآخرين وترى لكل من رام الآدب وابتغى الشرف وطلب محاسن القول والفعل مناراً مرفوعاً وعلماً منصوباً وهادياً مرشداً ومعلماً مسدداً‏.‏

وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر والزاهد في اكتساب المحامد داعياً ومحرضاً وباعثاً ومحضضاً ومذكراً ومعرفاً وواعظاً ومثقفاً‏.‏

فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا الرأي منك وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه‏.‏

ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به‏.‏

ولكنك أبيت إلا ظناً سبق إليك وإلا بادئ رأي عن لك فأقفلت عليه قلبك وسددت عما سواه سمعك‏.‏

فعي الناصح بك وعسر على الصديق والخليط تنبيهك‏.‏

نعم وكيف رويت‏:‏ الأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً فيريه خير له من أن يمتلىء شعراً‏.‏

ولهجت له وتركت قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن من شعر لحكماً وإن من البيان لسحراً ‏"‏‏.‏

وكيف نسيت أمره صلى الله عليه وسلم بقول الشعر ووعده عليه الجنة وقوله لحسان ‏"‏ قل وروح القدس معك وسماعه له واستنشاده إياه وعمله صلى الله عليه وسلم‏!‏ به واستحسانه له وارتياحه عند سماعه أما أمره به فمن المعلوم ضرورة وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه ويسمع منهم ويصغي إليهم ويأمرهم بالرد على المشركين فيقولون في ذلك ويعرضون عليه‏.‏

وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب ‏"‏ ما نسي ربك وما كان ربك نسياً شعراً قلته ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وماهو يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ أنشده يا أبا بكر ‏"‏‏.‏

فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه من الكامل‏:‏ زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب وأما استنشاده إياه فكثير من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسقي قول أبي طالب من الكامل‏:‏ وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل ‏.‏

‏.‏

‏.‏

الأبيات‏.‏

وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال‏:‏ لما نظررسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرعين قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل ‏"‏ قال‏:‏ وذلك لقول أبي طالب‏:‏ كذبتم وبيت الله إن جد ما أرى لتلتبسن أسيافنا بالأنامل وينهض قوم في الدروع إليهم نهوض الروايا في طريق حلاحل ومن المحفوظ في ذلك حديث محمد بن مسلمة الأنصاري جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق قال‏:‏ فتذاكرنا الشكر والمعروف‏.‏

قال‏:‏ فقال محمد‏:‏ كنا يوماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت‏:‏ ‏"‏ أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته ‏"‏‏:‏ فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة من السريع‏:‏ علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا‏!‏ فقال‏:‏ يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا حسان أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى‏.‏

وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني وفي خبر آخر فشعث مني وإنه سأل هذا عني فأحسن القول ‏"‏ فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك‏.‏

وروي من وجه آخر أن حسان قال‏:‏ يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره‏.‏

ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول‏:‏ ‏"‏ أبياتك ‏"‏ فأقول من الكامل‏:‏ ارفع ضعيفك لايحر بك ضعفه يوماً فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى قالت‏:‏ فيقول عليه السلام‏:‏ ‏"‏ يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده‏:‏ صنع إليك عبدي معروفاً فهل شكرته عليه فيقول‏:‏ يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال‏:‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده ‏"‏‏.‏

وأما علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت‏:‏ عدي وتيم تبتغي من تحالف فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عرضت بهما وجرى بينهن كلام في هذ المعنى‏.‏

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليهن وقال‏:‏ ‏"‏ يا ويلكن‏!‏ ليس فى عديكن ولا تيمكن قيل هذا‏.‏

وإنما قيل في عدي تميم وتيم تميم ‏"‏‏.‏

وتمام هذا الشعر وهو لقيس بن معدان الكلبي من بني يربوع من الطويل‏:‏ فحالف ولا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف ألا من رأى العبدين أو ذكرا له عدي وتيم تبتغي من تحالف وروى الزبير بن بكار قال‏:‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة من الكامل‏:‏ يا أيها الجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد الدار فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا أبا بكر أهكذا قال الشاعر ‏"‏ قال‏:‏ لا يا رسول الله ولكنه قال من الكامل‏:‏ يا أيها الرجل المحول رحله هلا سألت عن آل عبد مناف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هكذا كنا نسمعها ‏"‏‏.‏

وأما ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه الخبر من وجوه‏.‏

من ذلك حديث النابغة الجعدي قال‏:‏ أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي من الطويل‏:‏ بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أين المظهر يا أبا ليلى ‏"‏ فقلت‏:‏ الجنة يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ أجل إن شاء الله ‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ أنشدني‏.‏

فأنشدته من قولي من الطويل‏:‏ ولاخير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أجدت لا يفضض الله فاك‏.‏

قال الرازي‏:‏ فنظرت إليه فكأن فاه البرد المنهل ما سقطت له سن ولا انفلت ترف غروبه‏.‏

ومن ذلك حديث كعب بن زهير‏:‏ روي أن كعباً وأخاه بجيراً خرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العزاف فقال كعب لبجير‏:‏ إلق هذا الرجل وأنا مقيم ها هنا فأنظر ما يقول‏.‏

وقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم‏.‏

وبلغ ذلك كعباً فقال في ذلك شعراً‏.‏

فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه‏.‏

فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏ إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل منه رسول الله وأسقط ما كان قبل ذلك‏.‏

قال‏:‏ فقدم كعب وأنشد النبي قصيدته المعروفة من البسيط‏:‏ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مغلول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول سح السقاة عليها ماء محنية من ماء أبطح أضحى وهو مشمول ويل امها خلة لو أنها صدقت موعودها أو لو ان النصح مقبول حتى أتى على آخرها‏.‏

فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا‏:‏ زولوا زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل لايقع الطعن إلا في نحورهم وما بهم عن حياض الموت تهليل شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق أن اسمعوا‏.‏

قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء‏.‏

والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به مستفيض‏.‏

وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كأن الوزن عيب وحتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله فقد أبعد وقال قولاً لا يعرف له معنى وخالف العلماء في قولهم‏:‏ إنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً أيضاً‏.‏

فإن زعم أنه إنما كره الوزن لأنه سبب لأن يغنى في الشعر ويتلفى به فإنا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل والقول الفصل والمنطق الحسن والكلام البين وإلى حسن التمثيل والاستعارة وإلى التلويح والإشارة وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه وإلى الضئيل فتفخمه وإلى النازل فترفعه وإلى الخامل فتنوه به وإلى العاطل فتحليه وإلى المشكل فتجفيه‏.‏

فلا متعلق له علينا بما ذكر ولا ضرر علينا بما أنكر فليقل في الوزن ما شاء وليضعه حيث أراد فليس يعنينا أمره ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه وهذا هو الجواب لمتعلق إن تعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما علمناه الشعر وما ينبغي له ‏"‏‏.‏

وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن حفظه وروايته‏.‏

وذاك أنا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولاً فصلاً وكلاماً جزلاً ومنطقاً حسناً وبياناً بيناً‏.‏

كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة وحماه الفصاحة والبراعة وجعله لايبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم وخلاف لما عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب‏.‏

وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من أجلها ونحذو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية محالاً والتعلق بها خطلاً من الرأي وانحلالاً‏.‏

فإن قال‏:‏ إذا قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما علمناه الشعر وما ينبغي له ‏"‏ فقد كره للنبي صلى الله عليه وسلم الشعر ونزهه عنه بلا شبهة‏.‏

وهذه الكراهة وإن كانت لا تتوجه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بين وفصيح حسن ونحو ذلك فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر وذاك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلاماً عن كونه شعراً‏.‏

حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر‏.‏

هذا محال وإذا كان لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب برواية الشعر وإعمال اللسان فيه قيل له‏:‏ هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان الكلام إذا وزن حط ذلك من قدره وأزرى به وجلب على المفرغ له في ذلك القالب إثماً وكسبه ذماً كان من حق العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصاً دون من يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه‏.‏

فأما قولك‏:‏ إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذاً لم أقصده من أجل ذلك المكروه ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة وأجعله مثالاً في براعة‏.‏

أو أحتج في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن فأرى موضع الإعجاز وأقف على الجهة التي منها كان وأتبين الفصل والفرقان فحق هذا التلبس أن لا يعتد علي وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عمد إلى أن تواقع المكروه وقصد إليه‏.‏

وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعنوا بالتوقف على حيل المموهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان الغرض كريماً والقصد شريفاً‏.‏

هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمناه من الأخبار وما صح من الآثار وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع النبي صلى الله عليه وسلم الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام الموزون غير ما ذهبوا إليه‏.‏

وذاك لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره سماع الكلام موزوناً وأن ينزه سمعه عنه كما نزه لسانه ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحث عليه‏.‏

وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعراً ولا يؤيد فيه بروح القدس‏.‏

وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل سبيل الوزن في منعه عليه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر والدلالة أقوى وأظهر ولتكون أكعم وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه والمنع من حفظه وروايته والعلم به فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرىء القيس وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن وفي غريبه وغريب الحديث‏.‏

وكذلك يلزمه أن يدفع ما تقدم ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له‏.‏

هذا ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله وأن يحمل ذنب الشاعر على الشعر لكان ينبغي أن يخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً ‏"‏ ولولا أن القول يجر بعضه بعضاً وأن الشيء يذكر لدخوله في القسمة لكان حق هذا ونحوه أن لا يشاغل به وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره‏.‏

وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له وإصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم وأشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه‏.‏

ذاك لأنهم لا يجدون بداً من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه إذ كان قد علم أن لألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانة حتى يعرض عليه‏.‏

والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه‏.‏

ولا ينكر ذلك إلا من نكر حسه وإلا من غالط في الحقائق نفسه وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه ولم ير أن يستسقيه من مصبه ويأخذه من معدنه ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض وآثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلاً فإن قالوا‏:‏ إنا لم نأب صحة هذا العلم ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها وفضول قول تكلفتموها ومسائل عويصة تجشمتم القكر فيها‏.‏

ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا بها الحاضرين قيل لهم‏:‏ خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول وعويص لا يعود بطائل ما هو فإن بدأوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس كقولهم‏:‏ كيف تبني من كذا كذا وكقولهم‏:‏ ما وزن كذا وتتبعهم في ذلك الألفاظ الوحشية كقولهم‏:‏ ما وزن عزويت وما وزن أرونان وكقولهم في باب ما لا ينصرف‏:‏ لو سميت رجلاً بكذا كيف يكون الحكم وأشباه ذلك‏.‏

وقالوا‏:‏ أتشكون أن ذلك لا يجدي إلا كد الفكر وإضاعة الوقت قلنا لهم‏:‏ أما هذ الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به وليس يهمنا أمره‏.‏

فقولوا فيه ما شئتم وضعوه حيث أردتم‏.‏

فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن تجري على ما أجريت عليه كالقول في المعتل وفيما يلحق الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغير بالإبدال والحذف والإسكان‏.‏

أو ككلامنا مثلاً على التثنية وجمع السلامة‏:‏ لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد‏.‏

ولم تبع النصب فيهما الجر وفي النون أنه عوض عن الحركة والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان العلة فيه‏.‏

والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان لأصول‏.‏

وأنه إذا حصل منها اثنان في العلم أو تكرر سبب صار بذلك ثانياً من جهتين‏.‏

وإذا صار كذلك أشبه الفعل لأن الفعل ثان للاسم والاسم المقدم والأول وكل ما جرى هذا المجرى‏.‏

قلنا‏:‏ إنا نسكت عنكم في هذا الضرب أيضاً ونعذركم فيه ونسامحكم على علم منا بأن قد أسأتم الاختيار ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظ لكم ومنعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة‏.‏

فدعوا ذلك وانظروا في الذي اعترفتم بصحته وبالحاجة إليه هل حصلتموه على وجهه وهل أحطتم بحقائقه وهل وفيتم كل باب منه حقه وأحكمتموه إحكاماً يؤمنكم الخطأ فيه إذا أنتم خضتم في التفسير وتعاطيتم علم التأويل ووازنتم بين بعض الأقوال وبعض وأردتم أن تعرفوا الصحيح من السقيم‏.‏

وعدتم في ذلك وبدأتم وزدتم ونقصتم وهل رأيتم إذ قد عرفتم صورة المبتدأ والخبر وأن إعرابهما الرفع أن تجاوزوا ذلك إلى أن تنظروا في أقسام خبره فتعلموا أنه يكون مفرداً وجملة‏.‏

وأن المفرد ينقسم إلى ما يحتمل ضميراً له وإلى ما لا يحتمل الضمير‏.‏

وأن الجملة على أربعة أضرب وأنه لا بد لكل جملة وقعت خبراً لمبتدأ من أن يكون فيها ذكر يعود إلى المبتدأ أن هذا الذكر ربما حذف لفظاً وأريد معنى‏.‏

وأن ذلك لا يكون حتى يكون في الحال دليل عليه إلى سائر ما يتصل بباب الابتداء من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بد منها وإذا نظرتم في الصفة مثلاً فعرفتم أنها تتبع الموصوف وأن مثالها قولك‏:‏ جاءني رجل ظريف ومررت بزيد الظريف هل ظننتم أن وراء ذلك علماً وأن هاهنا صفة تخصص وصفة توضح وتبين وأن فائدة التخصيص غير فائدة التوضيح كما أن فائدة الشياع غير فائدة الإبهام‏.‏

وأن من الصفة صفة لا يكون فيها تخصيص ولا توضيح ولكن يؤتى بها مؤكدة كقولهم‏:‏ أمس الدابر‏.‏

وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ‏"‏‏.‏

وصفة يراد بها المدح والثناء كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جده وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر وبين كل واحد منها وبين الحال وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافتها لثبوت المعنى للشيء ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت‏.‏

‏.‏

وهكذا ينبغي أن تعرض عليهم الأبواب كلها واحداً واحداً ويسألوا عنها باباً باباً‏.‏

ثم يقال‏:‏ ليس إلا أحد أمرين إما أن تقتحموا التي لا يرضاها العاقل فتنكروا أن يكون بكم حاجة في كتاب الله تعالى وفي خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي معرفة الكلام جملة إلى شيء من ذلك وتزعموا أنكم إذا عرفتم مثلاً أن الفاعل رفع لم يبق عليكم في باب الفاعل شيء تحتاجون إلى معرفته وإذا نظرتم إلى قولنا‏:‏ ‏"‏ زيد منطلق ‏"‏ لم تحتاجوا من بعده إلى شيء تعلمونه في الابتداء والخبر‏.‏

وحتى تزعموا مثلاً أنكم لا تحتاجون في أن تعرفوا وجه الرفع في ‏"‏ الصابئون ‏"‏ في سورة المائدة إلى ما قاله العلماء فيه وإلى استشهادهم بقول الشاعر من الوافر‏:‏ وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق وحتى كأن المشكل على الجميع غير مشكل عندكم‏.‏

وحتى كأنكم قد أوتيتم أن تستنبطوا من المسألة الواحدة من كل باب مسائله كلها فتخرجوا إلى فن من التجاهل لا يبقى معه كلام‏.‏

وإما أن تعلموا أنكم قد أخطأتم حين أصغرتم أمر هذا العلم وظننتم ما ظننتم فيه فترجعوا إلى الحق وتسلموا الفضل لأهله وتدعوا الذي يزري بكم ويفتح باب العيب عليكم ويطيل لسان القادح فيكم‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

هذا ولو أن هؤلاء القوم إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة وإذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه ولم يخوضوا في التفسير ولم يتعاطوا التأويل لكان البلاء واحداً ولكانوا إذ لم يبنوا لم يهدموا وإذ لم يصلحوا لم يكونوا سبباً للفساد ولكنهم لم يفعلوا‏.‏

فجلبوا من الداء ما أعيى الطبيب وحير اللبيب وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حد يئس من تلافيه فلم يبق للعارف الذي يكره الشغب إلا التعحب والسكوت‏.‏

وما الآفة العظمى إلا واحدة وهي أن يجيء من الإنسان أن يجري لفظه ويمشي له أن يكثر في غير تحصيل وأن يحسن البناء على غير أساس‏.‏

وأن يقول الشيء لم يقتله علماً‏.‏

ونسأل الله الهداية ونرغب إليه في العصمة‏.‏

ثم إنا وإن كنا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها وتحويل الأشياء عن حالاتها ونقل النفوس عن طباعها وقلب الخلائق المحمودة إلى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:37 am

تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة

تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة وكل ما شاكل ذلك مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رغم الحاسد‏.‏

ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلاً ويظهر فيه مزية‏.‏

وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخباراً وأمراً ونهياً واستخباراً وتعجباً وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت من صاحبتها على ما هي موسومة به حتى يقال إن رجلاً أدل على معناه من فرس على ما سمي به‏.‏

وحتى يتصور في الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه وأبين كشفاً عن صورته من الآخر فيكون الليث مثلاً أدل على السبع المعلوم من الأسد وحتى إنا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية والفارسية ساغ لنا أن نجعل لفظة رجل أدل على الأدمي الذكر من نظيره في الفارسية‏.‏

وهل يقع في وهم وإن جهد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية أو أن تكون حروف هذه أخص وامتزاجها أحسن ومما يكد اللسان أبعد وهل تجد أحداً يقول‏:‏ هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها‏.‏

وهل قالوا‏:‏ لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه‏:‏ قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم‏.‏

وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقاً للتالية في مؤداها وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ‏"‏‏.‏

فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع‏!‏ أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقريها إلى إن شككت فتأمل‏!‏ هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية قل‏:‏ ابلعي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها وكذلك فاعتبر سائر ما يليها‏.‏

وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء ب يا دون أي نحو‏:‏ يا أيتها الأرض‏.‏

ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال‏:‏ ابلعي الماء ثم اتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها‏.‏

ثم أن قيل‏:‏ وغيض الماء‏.‏

فجاء الفعل على صيغة فعل الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر‏.‏

ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قضي الأمر ‏"‏‏.‏

ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو ‏"‏ استوت على الجودي ‏"‏‏.‏

ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن‏.‏

ثم مقابلة قيل في الخاتمة ب قيل في الفاتحة‏.‏

أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب فقد اتضح إذاً اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة‏.‏

وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ‏.‏

ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفظ الأخدع في بيت الحماسة من الطويل‏:‏ تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا وبيت البحتري من الطويل‏:‏ وإني وإن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعي فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن‏.‏

ثم إنك تتأملها في بيت أبيى تمام من المنسرح‏:‏ يا دهر قوم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من خرقك فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة‏.‏

ومن أعجب ذلك لفظة الشيء فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع وضعيفة مستكرهة في موضع‏.‏

وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي‏:‏ ومن مالىء عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى وإلى قول أبي حية من الطويل‏:‏ فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول‏.‏

ثم انظر إليها في بيت المتنبي من الطويل‏:‏ لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوقه شيء عن الدوران فإنك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم‏.‏

وهذا باب واسع فإنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلماً بأعيانها‏.‏

ثم ترى هذا قد فرع السماك وترى ذاك قد لصق بالحضيض‏.‏

فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ وإذا استحقت المزية والشرف واستحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم لما اختلف بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبداً أو لا تحسن أبداً‏.‏

ولم تر قولاً يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبر وكيف يورد ويصدر كهذا القول‏.‏

بل إن أردت الحق فإنه من جنس الشيء يجري به الرجل لسانه ويطلقه‏.‏

فإذا فتش نفسه وجدها تعلم بطلانه وتنطوي على خلافه‏.‏

ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد ولا يكون له صورة في فؤاد‏.‏

الفروق بين الحروف المنظومة والكلم المنظومة

ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل‏:‏ الفرق بين قولنا‏:‏ حروف منظومة وكلم منظومة‏.‏

وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط وليس نظمها بمقتضى عن معنى ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسماً من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه‏.‏

فلو أن واضع اللغة كان قد قال ربض مكان ضرب لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد‏.‏

وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتضي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس‏.‏

فهو إذاً نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق‏.‏

وكذلك كان عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصح‏.‏

والفائدة في معرفة هذا الفرق أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل‏.‏

وكيف يتصور أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش وكل ما يقصد به التصوير وبعد أن كنا لا نشك في أن لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر إذا أنت عزلت دلالتهما جانباً‏.‏

وأي مساغ للشك في أن الألفاظ لا تستحق من حيث هي ألفاط أن تنظم على وجه دون وجه‏.‏

ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ التي هي لغات دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء‏.‏

ولا يتصور أن يجب فيها ترتيب ونظم‏.‏

ولو حفظت صبياً شطر كتاب العين أو الجمهرة من غير أن تفسر له شيئاً منه وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيئتها ويؤديها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور لرأيته ولا يخطر ببال أن من شأنه أن يؤخر لفظاً ويقدم آخر‏.‏

بل كان حاله حال من يرمي الحصى ويعد الجوز‏.‏

اللهم إلا أن تسومه أنت أن يأتي بها على حروف المعجم ليحفظ نسق الكتاب‏.‏

ودليل آخر وهو أنه لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس ثم النطق بالألفاظ على حذوها لكان ينبغي ألا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم أو غير الحسن فيه لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساساً واحداً ولا يعرف وأوضح من هذا كله وهو أن النظم الذي يتواصفه البلغاء وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة‏.‏

وإذا كانت مما يستعان عليه بالفكرة ويستخرج بالروية فينبغي أن ينظر في الفكر بماذا تلبس أبالمعاني أم بالألفاظ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ فهو الذي تحدث فيه صنعتك وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويرك فمحال أن تتفكر في شيء وأنت لا تصنع فيه شيئاً‏.‏

وإنما تصنع في غيره لو جاز ذلك لجاز أن يفكر البناء في الغزل ليجعل فكره فيه وصلة إلى أن يصنع من الآجر وهو من الإحالة المفرطة‏.‏

فإن قيل‏:‏ النظم موجود في الألفاظ على كل حال ولا سبيل إلى أن يعقل الترتيب الذي تزعمه في المعاني ما لم تنظم الألفاظ ولم ترتبها على الوجه الخاص قيل‏:‏ إن هذا هو الذي يعيد هذه الشبهة جذعة أبداً والذي يحلها أن تنظر‏:‏ أتتصور أن تكون معتبراً مفكراً في حال اللفظ مع اللفظ متى تضعه بجنبه أو قبله وأن تقول‏:‏ هذه اللفظة إنما صلحت هاهنا لكونها على صفة كذا‏.‏

أم لا يعقل إلا أن تقول‏:‏ صلحت هاهنا لأن معناها كذا ولدلالتها على كذا ولأن معنى الكلام والغرض فيه يوجب كذا ولأن معنى ما قبلها يقتضي معناها فإن تصورت الأول فقل ما شئت‏.‏

واعلم أن كل ما ذكرناه باطل‏.‏

وإن لم تتصور إلا الثاني فلا تخدعن نفسك بالأضاليل ودع النظر إلى ظواهر الأمور‏.‏

واعلم أن ما ترى أنه لا بد منه من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة من حيث إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولاً في النطق فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكراً في نظم الألفاظ أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجيء بالألفاظ على نسقها فباطل من الظن ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظر حقه‏.‏

وكيف تكون مفكراً في نظم الألفاظ وأنت لا تعقل لها أوصافاً وأحوالاً إذا عرفتها عرفت أن حقها أن تنظم على وجه كذا ومما يلبس على الناظر في هذا الموضع ويغلطه أنه يستبعد أن يقال‏:‏ هذا كلام قد نظمت معانيه‏.‏

فالعرف كأنه لم يجر بذلك إلا أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النظم في المعاني قد استعملوا فيها ما هو بمعناه ونظير له وذلك قولهم‏:‏ إنه يرتب المعاني في نفسه وينزلها ويبني بعضها على بعض‏.‏

كما يقولون‏:‏ يرتب الفروع على الأصول ويتبع المعنى المعنى ويلحق النظير بالنظير‏.‏

وإذا كنت تعلم أنهم استعاروا النسج والوشي والنقش والصياغة لنفس ما استعاروا له النظم وكان لا يشك في أن ذلك كله تشبيه وتمثيل يرجع إلى وأعلم أن من سبيلك أن تعتمد هذا الفصل حداً وتجعل النكت التي ذكرتها في على ذكر منك أبداً فإنها عمد وأصول في هذا الباب‏.‏

إذ أنت مكنتها في نفسك وجدت الشبه تنزاح عنك والشكوك تنتفي عن قلبك ولا سيما ما ذكرت من أنه لا يتصور تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه‏.‏

ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك‏.‏

فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها‏.‏

وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتجج إلى تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق‏.‏

في أن النظم هو تعليق الكلم بعضها ببعض

واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علماً لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض وتجعل هذه بسبب تلك‏.‏

هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس‏.‏

وإذا كان كذلك فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله‏.‏

وإذا نظرنا في ذلك علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلاً لفعل أو مفعولاً أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبراً عن الآخر أو تتبع الاسم اسماً على أن يكون الثاني صفة للأول أو تأكيداً له أو بدلاً منه أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة أو حالاً أو تمييزاً أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفياً أو استفهاماً أو تمنياً فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطاً في الآخر فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا معنى أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى ذلك الحرف وعلى هذا القياس‏.‏

وإذا كان لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه وكان ذلك كله مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء ومما لا يتصور أن يكون فيه ومن صفته بان بذلك أن الأمر على ما قلناه من أن اللفظ تبع للمعنى في النظم وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتاً وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب النطق فيها ترتيب ونظم وأن يجعل لها أمكنة ومنازل وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك‏.‏

والله الموفق للصواب‏.‏

في الفصاحة

وهذه شبهة أخرى ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن يقدم على القول من غير روية‏.‏

وهي أن يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان كالذي أنشده الجاحظ من قول ساعر من السريع‏:‏ وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر وقول ابن يسير من الخفيف‏:‏ لا أذيل الآمال بعدك إني بعدها بالأمال جد بخيل كم لها موقفاً بباب صديق رجعت من نداه بالتعطيل لم يضرها والحمد لله شيء وانثنت نحو عزف نفس ذهول قال الجاحظ‏:‏ فتفقد النصف الأخير من هذا البيت فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ بعض‏.‏

ويزعم أن الكلام في ذلك على طبقات فمنه المتناهي في الثقل المفرط فيه كالذي مضى‏.‏

ومنه ما هو أخف منه كقول أبي تمام من الطويل‏:‏ كريم متى أمدحه أمدحه والورى جميعاً ومهما لمته لمته وحدي ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان إلا أنه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه ويشهر أمره في ذلك ويحفظ عليه‏.‏

ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه كان الفصيح المشاد به والمشار إليه‏.‏

وأن الصفاء أيضاً يكون على مراتب يعلو بعضها بعضاً وأن له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز‏.‏

والذي يبطل هذه الشبهة إن ذهب إليها ذاهب أنا إن قصرنا صفة الفصاحة على كون اللفظ كذلك وجعلناه المراد بها لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة ومن أن تكون نظيرة لها‏.‏

وإذا فعلنا ذلك لم نخل في أحد أمرين‏:‏ إما أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا نعرج على غيره وإما أن نجعله أحد ما نفاضل به ووجهاً من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام‏.‏

فإن أخذنا بالأول لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به‏.‏

وفي ذلك ما لا يخفى من الشناعة لأنه يؤدي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة من وضوح الدلالة وصواب الإشارة وتصحيح الأقسام وحسن الترتيب والنظام والإبداع في طريقة التشبيه والتمثيل والإجمال ثم التفصيل ووضع الفصل والوصل موضعهما وتوفية الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطهما مدخل فيما له كان القرآن معجزاً حتى ندعي أنه لم يكن معجزاً من حيث هو بليغ ولا من حيث هو قول فصل وكلام شريف النظم بديع التأليف وذلك أنه لا تعلق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف‏.‏

وإن أخذنا بالثاني وهو أن يكون تلاؤم الحروف وجهاً من وجوه الفضيلة وداخلاً في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا لأنه ليس بأكثر من أن يعمد إلى الفصاحة فيخرجها من حيز البلاغة والبيان وأن تكون نظيرة لهما وفي عداد ما هو شبههما من البراعة والجزالة وأشباه ذلك مما ينبىء عن شرف النظم وعن المزيا التي شرحت لك أمرها وأعلمتك جنسها أو يجعلها اسماً مشتركاً يقع تارة لما تقع له وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان‏.‏

وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده‏.‏

وإن تعسف متعسف في تلاؤم الحروف فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز وأخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو فيما له كان القرآن معجزاً كان الوجه أن يقال له‏:‏ إنه يلزمك على قياس قولك أن تجوز أن يكون هاهنا نظم للألفاظ وترتيب لا على نسق المعاني ولا على وجه يقصد به الفائدة ثم يكون مع ذلك معجزاً وكفى به فساداً‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزاً حتى يكون اللفظ ذلك دالا وذاك أنه تصعب مراعاة التعادل بين الحروف إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني‏.‏

كما أنه إنما تصعب مراعاة السجع والوزن ويصعب كذلك التجنيس والترصيع إذا روعي معه المعنى قيل له‏:‏ فأنت الآن إن عقلت ما تقول قد خرجت من مسألتك وتركت أن يستحق اللفظ المزية من حيث هو لفظ وجئت تطلب لصعوبة النظم فيما بين المعاني طريقاً وتضع له علة غير ما يعرفه الناس وتدعي أن ترتيب المعاني سهل وأن تفاضل الناس في ذلك إلى حد وأن الفضيلة تزداد وتقوى إذا توخي في حروف الألفاظ التعادل والتلاؤم وهذا منك وهم وذلك أنا لا نعلم تعادل الحروف معنى سوى أن تسلم من نحو ما تجده في بيت أبي تمام‏:‏ كريم متى أمدحه أمدحه والورى وبيت ابن يسير‏:‏ وانثنت نحو عزف نفس ذهول وليس اللفظ السليم من ذلك بمعوز ولا بعزيز الوجود ولا بالشيء لا يستطيعه إلا الشاعر المفلق والخطيب البليغ فيستقيم قياسه على السجع والتجنيس ونحو ذلك مما إذا رامه المتكلم صعب عليه تصحيح المعاني وتأدية الأغراض‏.‏

فقولنا‏:‏ أطال الله بقاءك وأدام عزك وأتم نعمته عليك وزاد في إحسانه عندك لفظ سليم مما يكد اللسان وليس في حروفه استكراه‏.‏

وهكذا حال كلام الناس في كتبهم ومحاوراتهم لا تكاد تجد فيه هذا الاستكراه لأنه إنما هو شيء يعرض للشاعر إذا تكلف وتعمل‏.‏

فأما المرسل نفسه على سجيتها فلا يعرض له ذلك‏.‏

هذا والمتعلل بمثل ما ذكرت من أنه إنما يكون تلاؤم الحروف معجزاً بعد أن يكون اللفظ دالاً لأن مراعاة التعادل إنما تصعب إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني إذا تأملت يذهب إلى شيء ظريف وهو أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى وذلك محال لأن الذي يعرفه العقلاء عكس ذلك وهو أن يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ فصعوبة ما صعب من السجع هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ وذاك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافاً لها فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب أو دخلت في ضرب من المجاز أو أخذت في نوع من الاتساع وبعد أن تلطفت على الجملة ضرباً من التلطف‏.‏

وكيف يتصور أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى وأنت إن أردت الحق لا تطلب اللفظ بحال وإنما تطلب المعنى وإذا ظفرت بالمعنى فاللفظ معك وإزاء ناظرك وإنما كان يتصور أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى أن لو كنت إذا طلبت المعنى فحصلته احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة وذلك محال‏.‏

هذا وإذا توهم متوهم أنا نحتاج إلى أن نطلب اللفظ وأن من شأن الطلب أن يكون هناك فإن الذي يتوهم أنه يحتاج إلى طلبه هو ترتيب الألفاظ في النطق لا محالة‏.‏

وإذا كان لك فينبغي لنا أن نرجع إلى نفوسنا فننظر هل يتصور أن نرتب معاني أسماء وأفعال حروف في النفس ثم تخفى علينا مواقعها في النطق حتى يحتاج في ذلك إلى فكر وروية وذلك ما لا يشك فيه عاقل إذا هو رجع إلى نفسه‏.‏

وإذا بطل أن يكون ترتيب الففظ مطلوباً بحال ولم يكن المطلوب أبداً إلا ترتيب معاني وكان معول هذا المخالف على ذلك فقد اضمحل كلامه وبان أنه ليس لمن حام في حديث المزية والإعجاز حول اللفظ ورام أن يجعله السبب في هذه الفضيلة إلا التسكع في الحيرة والخروج عن فاسد من القول إلى مثله‏.‏

والله الموفق للصواب‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا كان اللفظ بمعزل عن المزية التي تنازعنا فيها وكانت مقصورة على معنى فكيف كانت الفصاحة من صفات اللفظ البتة وكيف امتنع أن يوصف بها المعنى قال‏:‏ معنى فصيح وكلام فصيح المعنى قيل‏:‏ إنما اختصت الفصاحة باللفظ وكانت من صفته من حيث كانت عبارة عن كون اللفظ على وصف إذا كان عليه دل على المزية التي نحن في حديثها وإذا كانت لكون اللفظ دالاً استحال أن يوصف بها المعنى كما يستحيل أن يوصف المعنى بأنه دال مثلاً فاعرفه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فماذا دعا القدماء إلى أن قسموا الفضيلة بين المعنى واللفظ فقالوا‏:‏ معنى لطيف ولفظ شريف وفخموا شأن اللفظ وعظموه حتى تبعهم في ذلك من بعدهم وحتى قال أهل النظر‏:‏ إن المعانى لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ‏.‏

فأطلقوا كما ترى كلاماً يوهم كل من يسمعه أن المزية في حاق اللفظ‏.‏

قيل له‏:‏ لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ وكان لا سبيل للمرتب لها والجامع شملها إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره إلا بترتيب الألفاظ في نطقه تجوزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب‏.‏

ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد كقولهم‏:‏ لفظ متمكن يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه‏.‏

ولفظ قلق ناب يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه كالحاصل في مكان لا يصلح له فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ مما يعلم أنه مستعار له من معناه‏.‏

وأنهم نحلوه إياه بسبب مضمونه ومؤداه‏.‏

هذا ومن تعلق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه بعد الذي مضى من الحجج فهو رجل قد أنس بالتقليد فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من هاهنا وثم‏.‏

ومن كان هذا سبيله فليس له دواء سوى السكوت عنه وتركه وما يختاره لنفسه من سوء النظر وقلة التدبر‏.‏

قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك وتعمل رويتك وتراجع عقلك وتستنجد في الجملة فهمك‏.‏

وبلغ القول في ذلك أقصاه وانتهى إلى مداه‏.‏

وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزية وبيان الجهات التي منها تعرض وإنه لمرام صعب ومطلب عسير‏.‏

ولولا أنه على ذلك لما وجدت الناس بين منكر له من أصله ومتخيل له على غير وجهه ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة ولا تملك فيه إلا الإشارة وأن طريق التعليم إليه مسدود وباب التفهيم دونه مغلق وأن معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير وأن تدين للتبيين والتصوير وأن ترى سافرة لا نقاب عليها ونادية لا حجاب دونها وأن ليس للواصف لها إلا أن يلوح ويشير أو يضرب مثلاً ينبىء عن حسن قد عرفه على الجملة وفضيلة قد أحسها من غير أن يتبع ذلك بياناً ويقيم عليه برهاناً ويذكر له علة ويورد فيه حجة وأنا أنزل لك القول في ذلك وأدرجه شيئاً فشيئاً وأستعين بالله تعالى عليه وأسأله التوفيق‏.‏

اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره

اعلم أن لهذا الضرب اتساعاً وتفنناً لا إلى غاية إلا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعم على شيئين‏:‏ الكناية والمجاز‏.‏

والمراد بالكناية هاهنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومىء به إليه ويجعله دليلاً عليه مثال ذلك قولهم‏:‏ هو طويل النجاد يريدون طويل القامة وكثير رماد القدر يعنون كثير القرى‏.‏

وفي المرأة‏:‏ نؤوم الضحى والمراد أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها‏.‏

فقد أرادوا في هذا كله كما ترى معنى ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود وأن يكون إذا كان‏.‏

أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر رماد القدر وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إلى الضحى‏.‏

وأما المجاز فقد عول الناس في حده على حديث النقل وأن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز‏.‏

والكلام في ذلك يطول‏.‏

وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع أخر‏.‏

وأنا أقتصر هاهنا على ذكر ما هو أشهر منه وأظهر‏.‏

والاسم والشهرة فيه لشيئين‏:‏ الاستعارة والتمثيل‏.‏

وإنما يكون التمثيل مجازاً إذا جاء على حد الاستعارة‏.‏

فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه تريد أن تقول‏:‏ رأيت رجلاً هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء فتدع ذلك وتقول‏:‏ رأيت أسداً‏.‏

وضرب آخر من الاستعارة وهو ما كان نحو قوله‏:‏ من الكامل‏:‏ إذ أصبحت بيد الشمال زمامها هذا الضرب وإن كان الناس يضمونه إلى الأول حيث يذكرون الاستعارة فليسا سواء وذاك أنك في الأول تجعل الشيء الشيء ليس به‏.‏

وفي الثاني تجعل للشيء الشيء ليس له‏.‏

تفسير هذا أنك إذا قلت‏:‏ رأيت أسداً فقد ادعيت في إنسان أنه أسد وجعلته إياه ولا يكون الإنسان أسداً‏.‏

وإذا قلت‏:‏ إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فقد ادعيت أن للشمال يداً‏.‏

ومعلوم أنه لا يكون للريح يد‏.‏

وهاهنا أصل يجب ضبطه وهو أن جعل المشبه المشبه به على ضربين‏:‏ أحدهما تنزله منزلة الشيء تذكره بأمر قد ثبت له فأنت لا تحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته وذلك حيث تسقط ذكر المشبه من الشيئين ولا تذكره بوجه من الوجوه كقولك‏:‏ رأيت أسداً‏.‏

والثاني أن تجعل ذلك كالأمر الذي يحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته‏.‏

وذلك حيث تجري اسم المشبه به صراحة على المشبه فتقول‏:‏ زيد أسد وزيد هو الأسد‏.‏

أو نجيء به على وجه يرجع إلى هذا كقولك‏:‏ إن لقيته لقيت به أسداً وإن لقيته ليلقينك منه الأسد‏.‏

فأنت في هذا كله تعمل في إثبات كونه أسداً أو الأسد وتضع كلامك له‏.‏

وأما في الأول فتخرجه مخرج ما لا يحتاج فيه إلى إثبات وتقرير‏.‏

والقياس يقتضي أن يقال في هذا الضرب أعني ما أنت تعمل في إثباته وتزجيته أنه تشبيه على حد المبالغة ويقتصر على هذا القدر ولا يسمى استعارة‏.‏

وأما التمثيل الذي يكون مجازاً لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قولك للرجل يتردد في الشيء بين فعله وتركه‏:‏ أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى‏.‏

فالأصل في هذا‏:‏ أراك في ترددك كمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى‏.‏

ثم اختصر الكلام وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخرها على الحقيقة كما كان الأصل في قولك‏:‏ رأيت أسداً‏:‏ رأيت رجلاً كالأسد ثم جعل كأنه الأسد على الحقيقة‏.‏

وكذلك تقول للرجل يعمل غير معمل‏:‏ أراك تنفخ في غير فحم وتخط على الماء فتجعله في ظاهر الأمر كأنه ينفخ ويخط والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك‏.‏

وتقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ويمتنع منه‏:‏ ما زال يفتل في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد‏.‏

فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة وغارب‏.‏

والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقاً يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب فيحكه ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس‏.‏

وهو في المعنى نظير قولهم‏:‏ فلان يقرد فلاناً يعنى به أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذه ذلك فيسكن ويثبت في مكانه حتى يتمكن من أخذه‏.‏

وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه التمثيل ثم لم يفصحوا بذلك وأخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلاً‏.‏

قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح وأن للاستعارة مزية وفضلاً وأن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة‏.‏

إلا أن ذلك وإن كان معلوماً على الجملة فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه وحتى لا يبقى عليه موضع شبهة ومكان مسألة فنحن وإن كنا نعلم أنك إذا قلت‏:‏ هو طويل النجاد وهو جم الرماد كان أبهى لمعناك وأنبل من أن تدع الكناية وتصرح بالذي تريد‏.‏

وكذا إذا قلت‏:‏ رأيت أسداً كان لكلامك مزية لا تكون إذا قلت‏:‏ رأيت رجلاً هو في معنى الشجاعة وفي قوة القلب وشدة البطش وأشباه ذلك وإذا قلت‏:‏ بلغني أنك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى كان أوقع من صريحه الذي هو قولك بلغني أنك تتردد في أمرك وأنك في ذلك كمن يقول‏:‏ أخرج ولا أخرج‏.‏

فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى‏.‏

ونقطع على ذلك حتى لا يخالجنا شك فيه فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون عرفنا السبب في ذلك والعلة ولم كان كذلك وهيأنا له عبارة تفهم عنا من نريد إفهامه وهذا هو قول في ذلك‏.‏

اعلم أن سبيلك أولاً أن تعلم أن ليست المزية التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره والمبالغة التي تدعي لها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها‏.‏

تفسير هذا أن ليس المعنى إذا قلنا‏:‏ الكناية أبلغ من التصريح أنك لما كنيت عن المعنى زدت في ذاته بل المعنى أنك زدت في إثباته فجعلته أبلغ وآكد وأشد‏.‏

فليست المزية في قولهم‏:‏ جم الرماد أنه دل على قرى أكثر بل المعنى أنك أثبت له القرى الكثير من وجه وهو أبلغ‏.‏

وأوجبته إيجاباً أشد وادعيته دعوى أنت بها أنطق وبصحتها أوثق‏.‏

وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك‏:‏ رأيت أسداً على قولك‏:‏ ‏"‏ رأيت رجلاً لا يتميز من الأسد في شجاعته وجرأته أنك قد أفدت بالأول زيادة في مساواته الأسد بل أنك أفدت تأكيداً وتشديداً وقوة في إثباتك له هذه المساواة وفي تقريرك لها‏.‏

فليس تأثير الاستعارة إذاً في ذات المعنى وحقيقته بل في إيجابه والحكم به‏.‏

وهكذا قياس التمثيل ترى المزية أبداً في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه‏.‏

فأذا سمعتهم يقولون‏:‏ إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلاً فضلاً وتوجب لها شرفاً وأن تفخمها في نفوس السامعين وترفع أقدارها عند مخاطبين فإنهم لا يريدون الشجاعة والقرى وأشباه ذلك من معاني الكلم المفردة وإنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له ويخبر بها عنه‏.‏

هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبداً وأن يعلم أن ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل ولا هي منا بسبيل وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب‏.‏

وإذ قد عرفت مكان هذا المزية والمبالغة التي لاتزال تسمع بها وأنها في الإثبات دون المثبت فإن لها في كل واحد من هذه الأجناس سبباً وعلة‏.‏

أما الكناية فإن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح أن كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه أن إثبات الصفة بإثبات دليلها وإيجابها بما هو شاهد في جودها آكد وأبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فتثبتها ساذجاً غفلاً وذلك أنك لا تدعي شاهد الصفة ودليلها إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط‏.‏

وأما الاستعارة فسبب ما ترى لها من المزية والفخامة أنك إذا قلت‏:‏ رأيت أسداً كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده‏.‏

وذلك أنه إذا كان أسداً فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها‏.‏

وإذا صرحت بالتشبيه فقلت‏:‏ رأيت رجلاً كالأسد كنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجح بين أن يكون وبين أن لا يكون ولم يكن من حديث الوجوب في شيء‏.‏

وحكم التمثيل حكم الاستعارة سواء فإنك إذا قلت‏:‏ أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحير والتردد كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر‏.‏

فتقول‏:‏ قد جعلت تتردد في أمرك فأنت كمن يقول‏:‏ أخرج ولا أخرج فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى‏.‏

اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة وأن تتفاوت التفاوت الشديد‏.‏

أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتذل كقولنا‏:‏ رأيت أسداً ووردت بحراً ولقيت بحراً والخاصي النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال كقوله من الطويل‏:‏ وسالت بأعناق المطي الأباطح أراد أنها سارت سيراً حثيثاً في غاية السرعة وكانت سرعة في لين وسلاسة كأنه كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجرت بها‏.‏

ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللطف وغلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر من البسيط‏:‏ سالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير أراد أنه مطاع في الحي وأنهم يسرعون إلى نصرته وأنه لا يدعوهم لحرب أو نازل خطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا وتنصب من هذا المسيل وذلك حتى يغص بها الوادي ويطفح منها‏.‏

ومن بديع الاستعارة ونادرها إلا أن جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرساً له وأنه مؤدب وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه من الكامل‏:‏ عودته فيما أزور حبائبي إهماله وكذاك كل مخاطر وإذا احتبى قربوسه بعنانه علك الشكيم إلى انصراف الزائر فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه وفي أن استدراك أن هيئة العنان في موقعه من قربوس سرج كالهيئة في موضع الثوب من ركبة المحتبي‏.‏

وليست الغرابة في قوله‏:‏ وسالت بأعناق المطي الأباطح على هذه الجملة وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته الماء يجري في الأبطح فإن هذا شبه معروف ظاهر‏.‏

ولكن الدقة واللطف في خصوصية أفادها بأن جعل سال فعلاً للأباطح ثم عداه بالباء ثم بأن أدخل الأعناق في البيت فقال‏:‏ بأعناق المطي ولم يقل بالمطي ولو قال‏:‏ سالت المطي في الأباطح لم يكن شيئاً‏.‏

وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى سال ولكن في تعديته على والباء وبأن جعله فعلاً لقوله‏:‏ شعاب الحي‏.‏

ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا حسن‏.‏

وهذا موضع يحق الكلام فيه‏.‏

اليوم يومان مذ غيبت عن بصري نفسي فداؤك ما ذنبي فأعتذر أمسي وأصبح لا ألقاك واحزنا لقد تأنق في مكروهي القدر سوار بن المضرب وهو لطيف جداً من الوافر‏:‏ بعرض تنوفة للريح فيها نسيم لا يروع الترب وان بعض الأعراب من الكامل‏:‏ ولرب خصم جاهدين ذوي شذاً تقذي عيونهم بهتر هاتر لد ظأرتهم على ما ساءهم وخسأت باطلهم بحق ظاهر المقصود‏:‏ لفظة خسأت‏.‏

ابن المعتز من الرجز‏:‏ حتى إذا ما عرف الصيد الضار وأذن الصبح لنا في الإبصار المعنى‏:‏ حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئاً لما كان تعذر الإبصار منعاً من الليل جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذناً من الصبح‏.‏

وله من مجزوء الوافر‏:‏ بخيل قد بليت به يكد الوعد بالحجج وله من الطويل‏:‏ ومما هو في غاية الحسن وهو من الفن الأول قول الشاعر أنشده الجاحظ‏:‏ لقد كنت في قوم عليك أشحة بنفسك إلا أن ماطاح طائح يودون لو خاطوا عليك جلودهم ولا يدفع الموت النفوس الشحائح قال‏:‏ وإليه ذهب بشار في قوله من الرجز‏:‏ وصاحب كالدمل الممد حملته في رقعة من جلدي ومن سر هذا الباب أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي‏.‏

مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة الجسر في قول أبي تمام من البسيط‏:‏ لا يطمع المرء أن يجتاب لجته بالقول ما لم يكن جسراً له العمل وقوله من البسيط‏:‏ بصرت بالراحة العظمى فلم ترها تنال إلا على جسر من التعب فترى لها في الثاني حسناً لا تراه في الأول‏.‏

ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقي من البسيط‏:‏ قولي‏:‏ نعم ونعم إن قلت واجبة قالت‏:‏ عسى وعسى جسر إلى نعم فترى لها لطفاً وخلابة وحسناً ليس الفضل فيه بقليل‏.‏

ومما هو أصل في شرف الاستعارة أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات قصداً إلى أن يلحق الشكل بالشكل وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد‏.‏

مثاله قول امرئ القيس من الطويل‏:‏ فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل لما جعل لليل صلباً قد تمطى به ثنى ذلك فجعل له أعجازاً قد أردف بها الصلب وثلث فجعل له كلكلاً قد ناء به‏.‏

فاستوفى له جملة أركان الشخص وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه وإذا نظر إلى ما خلفه وإذا رفع البصر ومدده في عرض الجو‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:39 am

القول في النظم وفي تفسيره

واعلم أن هاهنا أسراراً ودقائق لا يمكن بيانها إلا بعد أن نعد جملة من القول في النظم وفي تفسيره والمراد منه وأي شيء هو وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه‏.‏

فينبغي أن نأخذ في ذكره وبيان أمره وبيان المزية التي تدعى له من أين تأتيه وكيف تعرض فيه وما أسباب ذلك وعلله وما الموجب له وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم وتفخيم قدره والتنويه بذكره وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ‏.‏

وبتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه ولا قوام إلا به وأنه القطب الذي عليه المدار والعمود الذي به الاستقلال‏.‏

وما كان بهذا المحل من الشرف وفي هذه المنزلة من الفضل وموضوعاً هذا الموضع من المزيه وبالغاً هذا المبلغ من الفضيلة كان حرى بأن توقظ له الهمم وتوكل به النفوس وتحرك له الأفكار وتستخدم فيه الخواطر‏.‏

وكان العاقل جديراً أن لا يرضى من نفسه بأن يجد فيه سبيلاً إلى مزية علم وفضل استبانة وتلخيص حجة وتحريردليل‏.‏

ثم يعرض عن ذلك صفحاً ويطوي دونه كشحاً وأن يربأ بنفسه وتدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلد الذي لا يبت حكماً ولا يقتل الشيء علماً ولا يجد ما يبرىء من الشبهة ويشفي غليل الشاك‏.‏

وهو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة ويباين من هو بهذه الصفة فإن ذلك دليل ضعف الرأي وقصر الهمة ممن يختاره ويعمل عليه‏.‏

واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها‏.‏

وذلك أنا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه‏.‏

فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك‏:‏ زيد منطلق و زيد ينطلق وينطلق زيد ومنطلق زيد وزيد المنطلق والمنطلق زيد وزيد هو المنطلق وزيد هو منطلق‏.‏

وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك‏:‏ إن تخرج أخرج وإن خرجت خرجت وإن تخرج فأنا خارج وأنا خارج إن خرجت وأنا إن خرجت خارج‏.‏

وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك‏:‏ جاءني زيد مسرعاً وجاءني يسرع وجاءني وهو مسرع أو هو يسرع وجاءني قد أسرع وجاءني وقد أسرع‏.‏

فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له‏.‏

وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى فيضع كلاً من ذلك في خاص معناه نحو أن يجيء ب ما في نفي الحال وب لا إذا أراد نفي الاستقبال وب إن فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون وب إذ فيما علم أنه كائن‏.‏

وينظر في الجمل التي تسرد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو وموضع لكن من موضع بل‏.‏

ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كله وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له‏.‏

هذا هو السبيل فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه‏.‏

هذه جملة لا تزداد فيها نظراً إلا ازددت لها تصوراً وازدادت عندك صحة وازددت بها ثقة وليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئاً إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها ووافق فيها‏.‏

درى ذلك أو لم يدر‏.‏

ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد النظم فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق من الطويل‏:‏ وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه وقول المتنبي من الكامل‏:‏ ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل السيوف عوامل وقوله‏:‏ الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل وقوله‏:‏ من الطويل‏:‏ وقول أبي تمام من الكامل‏:‏ ثانيه في كبد السماء ولم يكن لاثنين ثان إذ هما في الغار وقوله من البسيط‏:‏ يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً من راحتيك درى ما الصاب والعسل وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم وعابوه من جهة سوء التأليف أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف وإضمار أو غير ذلك ما ليس له أن يصنعه وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم‏.‏

وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها‏.‏

ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم ثبت أن الحكم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرض فيه‏.‏

وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئاً غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم‏.‏

والله الموفق للصواب‏.‏

وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم‏.‏

وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت وعند ماذا ظهرت فإنك ترى عياناً أن الذي قلت لك كما قلت‏.‏

اعمد إلى قول البحتري من المتقارب‏:‏ بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت له الحادثا ت عزماً وشيكاً ورأياً صليبا تنقل في خلقي سؤدد سماحاً مرجى وبأساً مهيبا فكالسيف إن جئته صارخاً وكالبحر إن جئته مستثيبا فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزاراً في نفسك فعد فانظر في السبب واستقص في النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر وحذف وأضمر وأعاد وكرر وتوخى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فأصاب في ذلك كله ثم لطف موضع صوابه وأتى مأتى يوجب الفضيلة أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله‏:‏ هو المرء أبدت له الحادثه ثات ثم قوله‏:‏ تنقل في خلقي سؤدد بتنكير السؤدد وإضافة الخلقين إليه‏.‏

ثم قوله‏:‏ فكالسيف وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى‏:‏ لا محالة فهو كالسيف‏.‏

ثم تكريره الكاف في قوله‏:‏ وكالبحر ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه‏.‏

ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر وذلك قوله صارخاً هناك ومستثيباً هاهنا‏.‏

لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أوما هو في حكم ما عددت فأعرف ذلك‏.‏

وإن أردت أظهر أمراً في هذا المعنى فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس‏:‏ فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب وسلط أعداء وغاب نصير تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور وإني لأرجو بعد هذا محمداً لأفضل ما يرجى أخ ووزير فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة ومن الحسن والحلاوة ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو لا إذ نبا على عامله الذي هو تكون‏.‏

وأن لم يقل‏:‏ فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر‏.‏

ثم أن قال‏:‏ تكون ولم يقل‏:‏ كان ثم أن نكر الدهر ولم يقل‏:‏ فلو إذ نبا الدهر ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد‏.‏

ثم أن قال‏:‏ وأنكر صاحب ولم يقل‏:‏ وأنكرت صاحباً‏.‏

ترى في البيتين الأولين شيئاً غير الذي عددته لك تجعله حسناً في النظم وكله من معاني النحو كما ترى‏.‏

وهكذا السبيل أبداً في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه‏.‏

فصل في أن مزايا النظم بحسب الموضع وبحسب المعنى المراد والغرض المقصود وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها‏.‏

ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام ثم بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض‏.‏

تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد من قوله‏:‏ تنقل في خلقي سؤدد وفي دهر من قوله‏:‏ فلو إذ نبا دهر فإنه يجب أن يروقك أبداً وفي كل شيء‏.‏

ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله‏:‏ وأنكر صاحب فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا‏.‏

بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش‏.‏

فكما أنك ترى الرجل قد تهور في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يتهد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب‏.‏

كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم‏.‏

واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين‏.‏

فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق والاستاذية وسعة الذرع وشدة المنة حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري‏.‏

ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة حتى تعرف البيت الواحد مكان الرجل من الفضل وموضعه من الحذق وتشهد له بفضل المنة وطول الباع وحتى تعلم إنه لم تعلم القائل أنه من قبل شاعر فحل وأنه خرج من تحت يد صناع‏.‏

وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت‏:‏ هذا هذا‏.‏

وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر والكلام الفاخر والنمط العالي الشريف والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البزل ثم المطبوعين الذي يلهمون القول إلهاماً‏.‏

ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد بل أن تفلي ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات وذلك ما كان مثل قول الأول وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم من الوافر‏:‏ فقد لاقيتنا فرأيت حرباً عواناً تمنع الشيخ الشرابا انظر إلى موضع الفاء في قوله‏:‏ فقد لاقيتنا فرأيت حرباً ومثل قول العباس بن الأحنف من البسيط‏:‏ قالوا‏:‏ خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا انظر إلى موضع الفاء وثم قبلها‏.‏

ومثل قول ابن الدمينة من الطويل‏:‏ أبيني أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالك أبيت كأني بين شقين من عصا حذار الردى أو خيفة من زيالك تعاللت كي أشجى وما بك علة تريدين قتلي قد ظفرت بذلك انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله‏:‏ تريدين قتلي قد ظفرت بذلك ومثل قول أبي حفص الشطرنجي وقاله على لسان علية أخت الرشيد وقد كان الرشيد عتب عليها من البسيط‏:‏ لو كان يمنع حسن العقل صاحبه من أن يكون له ذنب إلى أحد ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي انظر إلى قوله‏:‏ قد كنت أحسب وإلى مكان هذا الاستئناف‏.‏

ومثل قول أبي دؤاد من الخفيف‏:‏ ولقد أغتدي يدافع ركني أحوذي ذو ميعة إضريج سلهب شرجب كأن رماحاً حملته وفي السراة دموج انظر إلى التنكير في قوله‏:‏ كأن رماحاً‏.‏

ومثل قول ابن البواب من مجزوء الوافر‏:‏ أتيتك عائذاً بك من ك لما ضاقت الحيل وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيته جلل وإن قتل الهوى رجلاً فإني ذلك الرجل انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله‏:‏ فإني ذلك الرجل‏.‏

ومثل قول عبد الصمد من السريع‏:‏ مكتئب ذو كبد حرى تبكي عليه مقلة عبرى يرفع يمناه إلى ربه يدعو وفوق الكبد اليسرى صدع الغواني إذ رمين فؤاده صدع الزجاجة ما لذاك تدان انظر إلى قوله‏:‏ ما لذاك تدان وتأمل حال هذا الاستئناف‏.‏

ليس من بصير عارف بجوهر الكلام حساس متفهم لسر هذا الشأن ينشد أو يقرأ هذه الأبيات إلا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه يعجب ويعجب ويكبر شأن المزية به والفضل‏.‏

شواهد على النظم

يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك‏.‏

نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين‏.‏

وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة‏.‏

فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معاً كقول البحتري من الطويل‏:‏ إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها فهذا نوع‏.‏

ونوع منه آخر قول سليمان بن داود القضاعي من الوافر‏:‏ فبينا المرء في علياء أهوى ومنحط أتيح له اعتلاء وبينا نعمة إذ حال بؤس وبؤس إذ تعقبه ثراء ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير من الطويل‏:‏ وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت وكقول البحتري من الطويل‏:‏ لعمرك إنا والزمان كما جنت على الأضعف الموهون عادية الأقوى ومنه التقسيم وخصوصاً إذا قسمت ثم جمعت كقول حسان من البسيط‏:‏ قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع ومن ذلك وهو شيء في غاية الحسن قول القائل من البسيط‏:‏ لو أن ما أنتم فيه يدوم لكم ظننت ما أنا فيه دائماً أبداً فقد سكنت إلى أني وأنكم سنستجد خلاف الحالتين غدا قوله‏:‏ سنستجد خلاف الحالتين غدا جمع فيما قسم لطيف‏.‏

وقد ازداد لطفاً بحسن ما بناه عليه ولطف ما توصل به إليه من قوله‏:‏ فقد سكنت إلى أني وأنكم‏.‏

وإذ قد عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحد أجزاؤه حتى يوضع وضعاً واحداً فاعلم أنه النمط العالي والباب الأعظم والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه‏.‏

ومما ندر منه ولطف مأخذه ودق نظر واضعه وجلى لك عن شأو قد تحسر دونه العتاق وغاية يعيا من قبلها المذاكي القرح الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين بيت امرىء القيس من الكامل‏:‏ كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي وبيت الفرزدق من الكامل‏:‏ والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار وبيت بشار من الطويل‏:‏ كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ومما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله قول زياد الأعجم من الطويل‏:‏ وإنما كان أعجب لأن عمله أدق وطريقه أغمض ووجه المشابكة فيه أغرب‏.‏

واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم له بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها على بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين‏.‏

وذلك إذا كان معناك معنى لا يحتاج أن تصنع فيه شيئاً غير أن تعطف لفظاً على مثله كقول الجاحظ‏:‏ جنبك الله الشبهة وعصمك من الحيرة وجعل بينك وبين المعرفة نسباً وبين الصدق سبباً وحبب إليك التثبت وزين في عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى وأشعر قلبك عز الحق وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذل اليأس وعرفك ما في الباطل من الذلة وما في الجهل من القلة‏.‏

وكقول بعضهم‏:‏ لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمين ما أفصح لسانه وأحسن بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقه‏.‏

ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع‏:‏ أيفاخرك الملك اللخمي فو الله لقفاك خير من وجهه ولشمالك خير من يمينه ولأخمصك خير من رأسه ولخطؤك خير من صوابه ولعيك خير من كلامه ولخدمك خير من قومه‏.‏

وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان‏:‏ اللسان أداة يظهر بها حسن البيان وظاهر يخبر عن الضمير وشاهد ينبئك عن غائب وحاكم يفصل به الخطاب وواعظ ينهى عن القبيح ومزين يدعو إلى الحسن وزارع يحرث المودة وحاصد يحصد الضغينة ومله يونق الأسماع‏.‏

فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه دون نظمه وتأليفه وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعاً وحتى تجد إلى التخمر سبيلاً وحتى تكون قد استدركت صواباً‏.‏

فإن قلت‏:‏ أفليس هو كلاماً قد اطرد على الصواب وسلم من العيب أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة قيل‏:‏ أما والصواب كما ترى فلا‏.‏

لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان والتحرز من اللحن وزيغ الإعراب‏.‏

فنعتد بمثل هذا الصواب‏.‏

وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم فليس درك صواب دركاً فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه ويصعب الوصول إليه وكذلك لا يكون ترك خطأ تركاً حتى يحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر وفضل روية وقوة ذهن وشدة تيقظ‏.‏

وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعنى به‏.‏

حتى إذا وازنت بين كلام وكلام ودريت كيف تصنع فضممت إلى كل شكل شكله وقابلته بما هو نظير له وميزت ما الصنعة منه في لفظه مما هي منه في نظمه‏.‏

واعلم أن هذا أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ وبين أن تكون في النظم باب يكثر فيه الغلط ترى مستحسناً قد أخطأ بالاستحسان موضعه فينحن اللفظ ما ليس له‏.‏

ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه فظننت أن حسنه ذلك كله للفظ منه دون النظم‏.‏

مثان ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز من الطويل‏:‏ وإني على إشفاق عيني من العدا لتجمح مني نظرة ثم أطرق فترى أن هذه الطلاوة وهذا الظرف إنما هو لأن جعل النظر يجمح وليس هو لذلك بل لأن قال في أول البيت‏:‏ وإني حتى دخل اللام في قوله‏:‏ التجمح‏.‏

ثم قوله مني‏.‏

ثم لأن قال‏:‏ نظرة ولم يقل‏:‏ النظر مثلاً‏.‏

ثم لمكان ثم في قوله‏:‏ ثم أطرق وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله‏:‏ على إشفاق عيني من العدا‏.‏

وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك فانظر إلى قوله‏:‏ وقد تقدم إنشاده قبل‏:‏ سالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير فإنك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها إنما تم لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى بما توخي في وضع الكلام من التقديم والتأخير‏.‏

وتجدها قد ملحت ولطفت وبمعاونة ذلك ومؤازرته لها‏.‏

وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلا منها عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه فقل‏:‏ سالت شعاب الحي بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره‏.‏

ثم انظر كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة وكيف تعدم أريحيتك التي كانت وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها وجملة الأمر أن هاهنا كلاماً حسنه للفظ دون النظم وآخر حسنه للنظم دون اللفظ وثالثاً قد أتاه الحسن من الجهتين ووجبت له المزية بكلا الأمرين والإشكال في هذا الثالث وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه وتراك قد حفت فيه على النظم فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ وقدرت في حسن كان به وباللفظ أنه للفظ خاصة‏.‏

وهذا هو الذي أردت حين قلت لك‏:‏ إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته‏.‏

ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واشتعل الرأس شيباً ‏"‏ لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا للمزية موجباً سواها‏.‏

هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك‏.‏

ولا هذا الشرف العظيم ولا هذه المزية الجليلة وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة‏.‏

ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسنذ الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو سببه فيرفع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوباً بعده مبيناً أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم‏:‏ طاب زيد نفساً وقر عمرو عيناً وتصبب عرقاً وكرم أصلاً وحسن وجهاً‏.‏

وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولاً من الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه‏.‏

وذلك أنا نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى وإن كان هو للرأس في اللفظ‏.‏

كما أن طاب للنفس وقر للعين وتصبئب للعرق وإن أسند إلى ما أسند إليه يبين أن الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك وتوخي به هذا المذهب أن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحاً فتقول‏:‏ اشتعل شيب الرأس والشيب في الرأس‏.‏

ثم تنظر‏:‏ هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة وهل ترى الروعة التي كنت تراها فإن قلت‏:‏ فما السبب في أن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه وأنه قد استغرقه وعم جملته حتى لم يبق من السواد شيء أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به‏.‏

وهذا ما لا يكون إذا قيل‏:‏ اشتعل شيب الرأس أو الشيب في الرأس‏.‏

بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة‏.‏

ووزان هذا أنك تقول‏:‏ اشتعل البيت ناراً‏.‏

فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه‏.‏

وتقول‏:‏ اشتعلت النار في البيت‏.‏

فلا يفيد ذلك بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانباً منه‏.‏

فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة‏.‏

ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وفجرنا الأرض عيوناً ‏"‏ التفجير للعيون في المعنى وأوقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس‏.‏

وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا مثل الذي حصل هناك‏.‏

وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيوناً كلها وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها‏.‏

ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل‏:‏ وفجرنا عيون الأرض أو العيون في الأرض لم يفد ذلك ولم يدل عليه ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض وتبجس من أماكن منها‏.‏

واعلم أن في الآية الأولى شيئاً آخر من جنس النظم وهو تعريف الرأس بالألف اللام وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة وهو أحد ما أوجب المزية‏.‏

ولو قيل‏:‏ واشتعل رأسي‏.‏

فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن فاعرفه‏.‏

وأنا أكتب لك شيئاً مما سبيل الاستعارة فيه هذا السبيل ليستحكم هذا الباب في نفسك ولتأنس به‏.‏

فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب من الرجز‏:‏ الليل داج كنفا جلبابه والبين محجور على غرابه ليس كل ما ترى من الملاحة لأن جعل لليل جلباباً وحجر على الغراب‏.‏

ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى فجعل الليل مبتدأ وجعل داج خبراً له وفعلاً لما بعده وهو الكنفان وأضاف الجلباب إلى ضمير الليل‏.‏

ولأن جعل كذلك البين مبتدأ وأجرى محجوراً خبراً عليه وأن أخرج اللفظ على مفعول‏.‏

يبين ذلك أنك لو قلت‏:‏ وغراب البين محجور عليه أو‏:‏ قد حجر على غراب البين لم تجد له هذه الملاحة‏.‏

وكذلك لو قلت‏:‏ قد دجا كنفا جلباب الليل لم يكن شيئاً‏.‏

ومن النادر فيه قول المتنبي من الخفيف‏:‏ غصب الدهر والملوك عليها فبناها في وجنة الدهر خالا قد ترى في أول الأمر أن حسنه أجمع في أن جعل للدهر وجنة وجعل البنية خالاً في الوجنة‏.‏

وليس الأمر على ذلك فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام مخرجه الذي ترى وأن أتى بالخال منصوباً على الحال من قوله فبناها‏.‏

أفلا ترى أنك لو قلت‏:‏ وهي خال في وجنة الدهر لوجدت الصورة غير ما ترى‏.‏

وشبيه بذلك أن ابن المعتز قال‏:‏ يا مسكة العطار وخال وجه النهار وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة لا في استعارة لفظة الخال إذ معلوم أنه لو قال‏:‏ يا خالاً في وجه النهار أو‏:‏ يا من هو خال في وجه النهار لم يكن شيئاً‏.‏

ومن شأن هذا الضرب أن يدخله الاستكراه‏.‏

قال الصاحب‏:‏ ‏"‏ إياك والإضافات المتداخلة فإن ذلك لا يحسن‏.‏

وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل من الخفيف‏:‏ ياعلي بن حمزة بن عماره أنت والله ثلجة في خياره ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح‏.‏

ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضاً من الطويل‏:‏ وظلت تدير الراح أيدي جاذر عتاق دنانير الوجوه ملاح ومما جاء منه حسناً جميلاً قول الخالدي في صفة غلام له من المنسرح‏:‏ ويعرف الشعر مثل معرفتي وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفي القريض وزان دينا ر المعاني الدقاق منتقد ومنه قول أبي تمام من الكامل‏:‏ خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى والليل أسود رقعة الجلباب ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم قول المتنيي من الطويل‏:‏ وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة فإنك ترى العامي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبره له حتى يألفه ويختار المقام عنده‏:‏ قد قيدني بكثرة إحسانه إلي وجميل فعله معي حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده وإنما كان ما ترى من الحسن بالمسلك الذي سلك في النظم والتأليف‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:41 am

التقديم والتأخير

هو باب كثير الفوائد جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية‏.‏

لا يزال يفتر لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفة‏.‏

ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ عن مكان إلى مكان‏.‏

واعلم أن تقديم الشيء على وجهين‏:‏ تقديم يقال إنه على نية التفخير وذلك في كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه وفي جنسه الذي كان فيه كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ والمفعول إذا قدمته على الفاعل كقولك‏:‏ منطلق زيد وضرب عمراً زيد‏.‏

معلوم أن منطلق وعمراً لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعاً بذلك وكون ذلك مفعولاً ومنصوباً من أجله‏.‏

كما يكون إذا أخرت‏.‏

وتقديم لا على نية التأخير ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم وتجعل له باباً غير بابه وإعراباً غير إعرابه وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما يكون مبتدأ ويكون الآخر خبراً له فتقدم تارة هذا على ذاك وأخرى ذاك على هذا‏.‏

ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق حيث تقول مرة‏:‏ زيد المنطلق‏.‏

وأخرى‏:‏ المنطلق زيد‏.‏

فأنت في هذا لم تقدم المنطلق على أن يكون متروكاً على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان بل على أن تنقله عن كونه خبراً إلى كونه مبتدأ‏.‏

وكذلك لم تؤخر زيداً على أن يكون مبتدأ كما كان بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبراً‏.‏

وأظهر من هذا قولنا‏:‏ ضربت زيداً وزيد ضربته‏.‏

لم تقدم زيداً على أن يكون مفعولاً منصوباً بالفعل كما كان ولكن على أن ترفعه بالابتداء وتشغل الفعل بضميره وتجعله في موضع الخبر له وإذ قد عرفت هذا التقسيم فإني أتبعه بجملة من الشرح‏.‏

واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام‏.‏

قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول‏:‏ كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم‏.‏

ولم يذكر في ذلك مثالاً‏.‏

وقال النحويون إن معنى ذلك أنه قد تكون أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر في الأذى أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعنيهم منه شيء فإذا قتل وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي زيد فيقول‏:‏ قتل الخارجي زيد‏.‏

ولا يقول‏:‏ قتل زيد الخارجي‏.‏

لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة‏.‏

فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وأنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه‏.‏

ثم قالوا‏:‏ فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أنه يقتل فقتل رجلاً وأراد المخبر أن يخبر بذلك فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول‏:‏ قتل زيد رجلاً ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل طرافته وموضع الندرة فيه وبعده كان من الظن‏.‏

ومعلوم أنه يكن نادراً وبعيداً من حيث كان واقعاً بالذي وقع به ولكن من حيث كان واقعاً من الذي وقع منه فهذا جيد بالغ‏.‏

إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير‏.‏

وقد وقع في ظنون الناس يكفي أن يقال‏:‏ إنه قدم للعناية ولأن ذكره أهم من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية وبم كان أهم ولتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه‏.‏

حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبعه وكذلك صنعوا في سائر الأبواب فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار والإظهار والإضمار والفصل والوصل ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهم لك بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك‏.‏

لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها والشق الذي يحويها والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم‏.‏

ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه وإحراز فضيلته كثيرة‏.‏

وهذه من أعجبها إن وجدت متعجباً وليت شعري إن كانت هذه أموراً هينة وكان المدى فيها قريباً والجدا يسيراً من أين كان نظم أشرف من نظم وبم عظم التفاوت واشتد التباين وترقى الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزية عليها ونجعل الإعجاز كان بها فتكون تلك الحوالة لنا عذراً في ترك النظر في هذه التي معنا والإعراض عنها وقلة المبالاة بها أو ليس هذا التهاون إن نظر العاقل خيانة منه لعقله ودينه ودخولاً فيما يزري بذي الخطر‏.‏

ويغض من قدر ذوي القدر وهل يكون أضعف رأياً وأبعد من حسن التدبر منك إذا أهمك أن تعرف الوجوه في ‏"‏ أأنذرتهم ‏"‏ والإمالة في ‏"‏ رأى القمر ‏"‏ وتعرف الصراط والزراط وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة ولا يدفعك عن بيان ولا يدخل عليك شكاً ولا يغلق دونك باب معرفة ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل وإلى الخطأ في تأويل وإلى ما يعظم المعاب عليك ويطيل لسان القادح فيك ولا يعنيك ولا يهمك أن تعرف ما إذا جهلته عرضت نفسك لكل ذلك وحصلت فيما هنالك‏.‏

وكان أكثر كلامك في التفسير وحيث تخوض في التأويل كلام من لا يبني الشيء على أصله ولا يأخذه من مأخذه ومن ربما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره وتشنع آثاره‏.‏

ونسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل‏.‏

واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين فيجعل مفيداً في بعض الكلام وغير مفيد في بعض‏.‏

وأن يعلل تارة بالعناية وأخرى بأنه توسعة علم الشاعر والكاتب حتى تطرد‏.‏

لهذا قوافيه ولذاك سجعه‏.‏

ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى‏.‏

فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلاً على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكل حال‏.‏

ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال‏.‏

فأما أن يجعله بين بين فيزعم أنه للفائدة في بعضها وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض فمما ينبغي أن يرغب عن القول به‏.‏

وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه‏.‏

ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت‏:‏ أفعلت فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده‏.‏

وإذا قلت‏:‏ أأنت فعلت فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه‏.‏

ومثال ذلك أنك تقول‏:‏ أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه مجوز أن يكون قد كان وأن يكون لم يكن‏.‏

وتقول‏:‏ أ أنت بنيت هده الدار أ أنت قلت هذا الشعر أ أنت كتبت هذا الكتاب فتبدأ في ذلك كله بالاسم‏.‏

ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان وكيف وقد أشرت إلى الدار مبنية والشعر مقولاً والكتاب مكتوباً وإنما شككت في الفاعل من هو‏.‏

فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاك‏.‏

ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر‏.‏

فلو قلت‏:‏ أ أنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها أ أنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه خرجت من كلام الناس‏.‏

وكذلك لو قلت‏:‏ أبنيت هذه الدار أقلت هذا الشعر أكتبت هذا الكتاب قلت ما ليس بقول ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك‏:‏ أموجود أم لا ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنك تقول‏:‏ أقلت شعراً قط أرأيت اليوم إنساناً فيكون كلاماً مستقيماً ولو قلت‏:‏ أ أنت قلت شعراً قط أ أنت رأيت إنساناً أخطأت وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول‏:‏ من قال هذا الشعر‏.‏

ومن بنى هذه الدار ومن أتاك اليوم ومن أذن لك في الذي فعلت وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين‏.‏

فأما قيل شعر على الجملة ورؤية إنسان على الإطلاق فمحال ذلك فيه لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله‏.‏

ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن الفاعل من هو وكان يصح أن يكون سؤالاً عن الفعل أكان أم لم يكن لكان ينبغي أن يستقيم ذلك‏.‏

واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة وهي للاستفهام قائم فيها إذا كانت هي للتقرير‏.‏

فإذا قلت‏:‏ أأنت فعلت ذاك كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل‏.‏

يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمرود‏:‏ ‏"‏ أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ‏"‏ لا شهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان ولكن أن يقر بأنه منه كان‏.‏

وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم‏:‏ أأنت فعلت هذا‏.‏

وقال هو عليه السلام في الجواب‏:‏ ‏"‏ بل فعله كبيرهم هذا ‏"‏‏.‏

ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب‏:‏ فعلت أو لم أفعل‏.‏

فإن قلت‏:‏ أو ليس إذا قال‏:‏ أفعلت فهو يريد أيضاً أن يقرره بأن الفعل كان منه بأنه كان على الجملة‏.‏

فأي فرق بين الحالين فإنه إذا قال‏:‏ أفعلت فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة‏.‏

وإذا قال‏:‏ أأنت فعلت كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره ولم يكن منه في نفي الفعل تردد‏.‏

ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود مشار إليه كما رأيت في الآية‏.‏

واعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان وإنكار له لم كان وتوبيخ لفاعله عليه‏.‏

ولها مذهب آخر وهو أن يكون لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله‏.‏

ومثاله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ أصطفى البنات على البنين‏.‏

ما لكم كيف تحكمون ‏"‏‏.‏

فهذا رد على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدي إلى هذا الجهل العظيم‏.‏

وإذا قدم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعراً‏:‏ أ أنت قلت هذا الشعر كذبت لست ممن يحسن مثله‏.‏

أنكرت أن يكولن القائل ولم تنكر الشعر‏.‏

وقد تكون إذ يراد إنكار الفعل من أصله ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل الله أذن لكم ‏"‏ الإذن راجع إلى قوله‏:‏ ‏"‏ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ‏"‏‏.‏

ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله‏.‏

إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك لأن يجعلوا في صورة من غلط فأضاف إلى الله تعالى إذناً كان من غير الله فإذا حقق عليه ارتدع‏.‏

ومثال ذلك قولك للرجل يدعي أن قولاً كان ممن تعلم أنه لا يقوله‏:‏ أهو قال ذاك حقيقة أم أنت تغلط تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل لينصرف الإنكار إلى الفاعل فيكون أشد لنفي ذلك وإبطاله‏.‏

ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ‏"‏ أخرج اللفظ مخرجه إذا كان ثبت تحريم في أحد أشياء ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله ونفي أن يكون قد حرم شيء مما ذكروا أنه محرم‏.‏

وذلك أن كان الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنه قد كان ثم يقال لهم‏:‏ أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو أفي هذا أم ذاك أم في الثالث ليتبين بطلان قولهم ويظهر مكان الفرية منهم على تعالى‏.‏

ومثل ذلك قولك للرجل يدعي أمراً وأنت تنكره‏:‏ متى كان هذا أفي ليل أم نهار تضع الكلام وضع من سلم أن ذلك قد كان ثم تطالبه ببيان وقته لكي يتبين كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتاً ويفتضح‏.‏

ومثله قولك‏:‏ من أمرك بهذا منا وأينا أذن لك فيه وأنت لا تعني أن أمراً قد كان بذلك من واحد منكم إلا أنك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيق عليه وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول‏:‏ فلان وأن يحيل على واحد‏.‏

وإذ قد بينا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل ماض فينبغي أن ينظر فيه والفعل مضارع‏.‏

والقول في ذلك أنك إذا قلت‏:‏ أتفعل وأ أنت تفعل لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال‏.‏

فإن أردت الحال كان المعنى شبيهاً بما مضى في الماضي فإذا قلت‏:‏ أتفعل كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله وكنت كمن يوهم أنه يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن‏.‏

وإذا قلت‏:‏ أ أنت تفعل كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل‏.‏

وكان أمر الفعل في وجوده ظاهراً وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن‏.‏

وإن أردت ب تفعل المستقبل كان المعنى‏:‏ إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه وتزعم أنه لا يكون أو أنه لا ينبغي أن يكون‏.‏

فمثال الأول من الطويل‏:‏ ايقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه‏.‏

ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله فتجهله في طمعه فتقول‏:‏ أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ‏"‏ ومثال الثاني قولك للرجل يركب الخطر‏:‏ أتخرج في هذا الوقت أتذهب في غير الطريق أتغرر بنفسك وقولك للرجل يضيع الحق‏:‏ أتنسى قديم إحسان فلان أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان كما قال من الطويل‏:‏ أأترك إن قلت دراهم خالد زيارته إني إذاً للئيم جملة الأمر أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل فإن بدأت بالاسم فقلت‏:‏ أ أنت تفعل أو قلت‏:‏ أهو يفعل كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممن يجيء منه وأن يكون بتلك المثابة‏.‏

تفسير ذلك أنك إذا قلت‏:‏ أأنت تمنعني أ أنت تأخذ على يدي صرت كأنك قلت‏:‏ إن غيرك الذي يستطيع منعي لأخذ على يدي ولست بذاك ولقد وضعت نفسك في غير موضعك‏.‏

هذا إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز ولأنه ليس في وسعه‏.‏

وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه لأنه لا يختاره ولا يرتضيه وأن نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه‏.‏

ومثاله أن تقول‏:‏ أهو يسأل فلانا هو أرفع همة من ذلك‏.‏

أهو يمنع الناس حقوقهم هو أكرم من ذاك وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته وأن نفسه نفس لا تسمو وذلك قولك‏:‏ أهو يسمح بمثل هذا أهو يرتاح للجميل هو أقصر همة من ذلك وأقل وجملة الامر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل إنه يفعل أو قال هو‏:‏ إني أفعل‏.‏

وأردت ما تريده إذا قلت‏:‏ ليس هو بالذي يفعل وليس مثله يفعل‏.‏

لا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت‏:‏ أتفعل ألا ترى أن المحال أن تزعم أن معنى في قول الرجل لصاحبه‏:‏ أتخرج في هذا الوقت أتغرر بنفسك‏.‏

أتمضي في غير الطريق أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك وبموضع من يجيء منه ذاك‏.‏

ذاك لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام‏.‏

وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا‏:‏ ‏"‏ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ‏"‏ أنا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام وأن غيرنا من يفعله جل الله تعالى وقد يتوهم المتوهم في الشيء من ذلك أنه يحتمل فإذا نظر لم يحتمل فمن ذلك قوله‏:‏ أيقتلني والمشرفي مضاجعي وقد يظن الظان أنه يجوز أن يكون في معنى أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي ويتعلق بأنه قال قبل‏:‏ يغط غطيط البكر شد خناقه ليقتلني والمرء ليس بقتال ولكنه إذا نظر علم أنه لا يجوز وذاك لأنه قال‏:‏ والمشرفي مضاجعي فذكر ما يكون منعاً من الفعل‏.‏

ومحال أن يقول هو ممن لا يجيء منه الفعل ثم يقول‏:‏ إني أمنعه لأن المنع يتصور فيمن يجيء منه الفعل ومع من يصح منه لا من هو منه محال ومن هو نفسه عنه عاجز فاعرفه‏.‏

واعلم أنا وإن كنا نفسر الاستفهام في مثل هذا بالإنكار فإن الذي هو محض المعنى أنه لتنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه‏.‏

فإذا ثبت على دعواه قيل‏:‏ فافعل فيفضحه ذلك‏.‏

وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ‏.‏

وإما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته وقيل له‏:‏ فأرناه في موضع وفي حال‏.‏

وأقم شاهداً على أنه كان في وقت‏.‏

ولو كان يكون للإنكار وكان المعنى فيه من بدء الأمر لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل‏:‏ إنه يكون حتى ينكر عليه كقولهم‏:‏ أتصعد إلى السماء أتستطيع أن تنقل الجبال أ إلى رد ما مضى سبيل وإذ قد عرفت ذلك فإنه لا يقرر بالمحال وبما لا يقول أحد‏:‏ إنه يكون إلا على سبيل التمثيل وعلى أن يقال له إنك في دعواك ما ادعيت بمنزلة من يدعي هذا المحال وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع‏.‏

وإذ قد عرفت هذا فمما هو من هذا الضرب قونه تعالى‏:‏ ‏"‏ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ‏"‏‏.‏

ليس إسماع الصم مما يدعيه أحد فيكون ذلك للإنكار‏.‏

وإنما المعنى فيه التمثيل والتشبيه وأن ينزل الذي يظن بهم أنهم يسمعون أو أنه يستطيع إسماعهم منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدي العمي‏.‏

ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل‏:‏ أتسمع الصم‏.‏

هو أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أ أنت خصوصاً قد أوتيت أن تسمع الصم ‏"‏ وأن يجعل في ظنه أنه يستطيع إسماعهم بمثابة من يظن أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصم‏.‏

ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة من الكامل‏:‏ فدع الوعيد فما وعيدك ضائري أطنين أجنحة الذباب يضير جعله كأنه قد ظن أن طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير حتى ظن أن وعيده يضير‏.‏

واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل أعني تقديم إسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل‏.‏

فإذا قلت‏:‏ أزيداً تضربظ كنت قد أنكرت أن يكون زيد بمثابة أن يضرب أو بموضع أن يجترأ عليه ويستجاز ذلك فيه ومن أجل ذلك قدم غير في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل أغير الله أتخذ ولياً ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون ‏"‏ وكان له من الحسن والمزية والفخامة ما علم أنه لا يكون لو أخر فقيل‏:‏ قل أتتخذ غير الله ولياً وأتدعون غير الله وذلك لأنه قد حصل بالتقديم معنى قولك‏:‏ أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً وأيرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك‏.‏

وأيكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل‏:‏ أ أتخذ غير الله ولياً وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط ولا يزيد على ذلك فاعرفه‏.‏

وكذلك الحكم في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه ‏"‏‏.‏

وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أن من كان مثلهم بشراً لم يكن بمثابة أن يتبع ويطاع وينتهى إلى ما يأمر ويصدق أنه مبعوث من الله تعالى وأنهم مأمورون بطاعته كما جاء في الأخرى‏:‏ ‏"‏ إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا ‏"‏ وكقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ‏"‏ فهذا هو القول في الضرب الأول وهو يكون يفعل بعد الهمزة لفعل لم يكن‏.‏

وأما الضرب الثاني وهو أن يكون يفعل لفعل موجود فإن تقديم الاسم يقتضي شبهاً بما اقتضاه في الماضي من الأخذ بأن يقر أنه الفاعل أو الإنكار أن يكون الفاعل‏.‏

فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم‏:‏ أ أنت تجيء إلى الضعيف فتغصب ماله أ أنت تزعم أن الأمر كيت وكيت وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ‏"‏ ومثال والثاني ‏"‏ أهم يقسمون رحمة ربك ‏"‏‏.‏

وإذ قد عرفت هذه المسائل في الاستفهام فهذه مسائل في النفي‏.‏

إذا قلت‏:‏ ما فعلت‏.‏

كنت نفيت عنك فعلاً لم يثبت أنه مفعول‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما أنا فعلت‏.‏

كنت نفيت عنك فعلاً ثبت أنه مفعول‏.‏

تفسير ذلك أنك إذا قلت‏:‏ ما قلت هذا‏.‏

كنت نفيت أن تكون قد ذاك وكنت نوظرت في شيء ثبت أنه مقول‏.‏

وكذلك إذا قلت‏:‏ ما ضربت زيداً‏.‏

كنت نفيت عنك ضربه ولم يجب أن يكون قد ضرب بل يجوز أن يكون قد ضربه غيرك وأن كون قد ضرب أصلاً‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما أنا ضربت زيداً‏:‏ لم تقله إلا وزيد مضروب وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب‏.‏

ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأول أن يكون المنفي عاماً كقولك‏:‏ ما قلت شعراً قط وما أكلت اليوم شيئاً وما رأيت أحداً من الناس‏.‏

ولم يصلح في الوجه الثاني فكان خلفاً أن تقول‏:‏ ما أنا قلت شعراً قط وما أنا أكلت اليوم شيئاً وما أنا رأيت أحداً من الناس وذلك لأنه يقتضي المحال وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كل شعر في الدنيا وأكل كل شيء يؤكل ورأى كل أحد من الناس‏.‏

فنفيت أن تكونه‏.‏

ومما هو مثال بين في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله من المتقارب‏:‏ وما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب نارا المعنى‏:‏ كما لا يخفى على أن السقم ثابت موجود وليس القصد بالنفي إليه ولكن إلى أن يكون ومثله في الوضوح قوله من الطويل‏:‏ وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله الشعر مقول على القطع والنفي لأن يكون هو وحده القائل له‏.‏

وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق ويصير العلم به كالضرورة‏.‏

أحدهما أنه يصح لك أن تقول‏:‏ ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس‏.‏

وما ضربت زيداً ولا ضربه أحد سواي‏.‏

ولا يصح ذلك في الوجه الأخر‏.‏

فلو قلت‏:‏ ما أنا قلت هذا ولا قاله أحد من الناس‏.‏

وما أنا ضربت زيداً ولا ضربه أحد سواي كان خلفاً من القول وكان في التناقض بمنزلة أن تقول‏:‏ لست الضارب زيداً أمس‏.‏

فتثبت أنه قد ضرب ثم تقول من بعده‏:‏ ما ضربه أحد من الناس ولست القائل ذلك‏.‏

فتثبت أنه قد قيل ثم تجيء فتقول‏:‏ وما قاله أحد من الناس‏.‏

والثاني من الأمرين أنك تقول‏:‏ ما ضربت إلا زيداً فيكون كلاماً مستقيماً ولو قلت‏:‏ ما أنا ضربت إلا زيداً كان لغواً من القول وذلك لأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربت زيداً‏.‏

وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته فهما يتدافعان فاعرفه‏.‏

ويجيء لك هذا الفرق على وجهه‏.‏

في تقديم المفعول وتأخيره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما ضربت زيداً فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات وتركته مبهماً محتملاً‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما زيداً ضربت فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضرباً وقع منك على إنسان وظن أن ذلك الإنسان زيد فنفيت أن يكون إياه‏.‏

فلك أن تقول في الوجه الأول‏:‏ ما ضربت زيداً ولا أحداً من وليس لك في الوجه الثاني فلو قلت‏:‏ ما زيداً ضربت ولا أحداً من الناس كان على مامضى في الفاعل‏.‏

ومما ينبغي أن تعلمه أنه يصح لك أن تقول‏:‏ ما ضربت زيداً ولكني أكرمته فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو ضده ولا يصح أن تقول‏:‏ ما زيداً ضربت ولكني أكرمته أنك لم تردد أن تقول‏:‏ لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا ولكن ذاك‏.‏

فالواجب إذاً أن تقول‏:‏ ما زيداً ضربت ولكن عمراً‏.‏

وحكم الجار مجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما أمرتك بهذا كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما بهذا أمرتك كنت قد أمرته بشيء غيره‏.‏

التقديم والتأخير في الخبر المثبت

واعلم أن هذا الذي بان لك في الاستفهام والنفي من المعنى في التقديم قائم مثله خبر المثبت‏.‏

فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدث عنه بفعل فقدمت ذكره ثم الفعل عليه فقلت‏:‏ زيد قد فعل وأنا فعلت وأنت فعلت اقتضى ذلك أن يكون القصد فاعل‏.‏

إلا أن المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما جلي لا يشكل وهو أن يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له وتزعم أنه فاعله دون آخر أو دون كل أحد‏.‏

ومثال ذلك أن تقول‏:‏ أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعت في بابه تريد أن تدعي الانفراد بذلك والاستبداد به وتزيل الاشتباه فيه وترد على من زعم ذلك كان من غيرك أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت‏.‏

ومن البين في ذلك قولهم المثل‏:‏ أتعلمني بضب أنا حرشته‏.‏

والقسم الثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل وتمنعه من الشك فأنت لذلك تبدأ بذكره وتوقعه أولاً ومن قبل أن تذكر الفعل في نفسه لكي تباعده بذلك في الشبهة وتمنعه من الإنكار أو من أن يظن بك الغلط أو التزيد ومثاله قولك‏:‏ هو يعطي الجزيل وهو يحب الثناء لا تريد أن تزعم أنه ليس هاهنا من يعطي الجزيل ويحب الثناء غيره ولا أن تعرض بانسان وتحطه عنه وتجعله لايعطي كما يعطي ولا يرغب كما يرغب‏.‏

ولكنك تريد أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل وحب الثناء دأبه‏.‏

وأن تمكن ذلك في نفسه‏.‏

ومثاله في الشعر من الطويل‏:‏ لم يرد أن يدعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها وينص عليهم فيها حتى كأنه يعرض بقوم آخرين فينفي أن يكونوا أصحابها هذا محال‏!‏ وإنما أراد أن يصفهم بأنهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل وأنهم يقتعدون الجياد منها وأن ذلك دأبهم من غير أن يعرض لنفيه عن غيرهم إلا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم ويعلم بدياً قصده إليهم بما في نفسه من الصفة ليمنعه بذلك من الشك ومن توهم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليهم وعلى ذلك قول الآخر من الطويل‏:‏ هم يضربون الكبش يبرق بيضه على وجهه من الدماء سبائب لم يرد أن يدعي لهم الانفراد ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم‏.‏

ولكن أراد الذي ذكرت لك من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث ليحقق الأمر ويؤكده ومن البين فيه قول عروة بن أذينة من الهزج‏:‏ سليمى أزمعت بينا فأين تقولها أينا وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة ويجعلها من من جماعة ولم يزمع البين منهم أحد سواها‏.‏

هذا محال ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده‏.‏

فأوقع ذكرها في سمع الذي كلم ابتداء ومن أول الأمر ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث فيكون ذلك هما يلبسان المجد أحسن لبسة شحيحان ما اسطاعاعليه كلاهما لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصفة عليهما ولكن نبه لهما قبل الحديث عنهما‏.‏

وأبين من الجميع قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ‏"‏‏.‏

وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدث عنه يفيد التنبيه له قد ذكره صاحب كتاب في المفعول إذا قدم فرفع بالابتداء وبني الفعل الناصب كان له عليه وعدي إلى ضميره فشغل به كقولنا في ضربت عبد الله‏:‏ عبد الله ضربته‏.‏

فقال‏:‏ وإنما قلت عبد الله فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدث عنه بالفعل آكد لإثبات ذلك الفعل له وأن يكون قوله‏:‏ هما يلبسان المجد أبلغ فى جعلهما يلبسانه من أن يقول‏:‏ يلبسان المجد‏.‏

فإن ذلك من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرى من العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه‏.‏

وإذا كان كذلك فإذا قلت‏:‏ عبدالله فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه‏.‏

فإذا جئت بالحديث فقلت مثلاً‏:‏ قام أو قلت‏:‏ خرج أو قلت‏:‏ قدم فقد علم ما جئت به وقد وطأت له وقدمت الإعلام فيه فدخل على القلب دخول المأنوس به وقبله قبول المتهيء له المطمئن إليه وذلك لا محالة أشد لثبوته وأنفى للشبهة وأمنع للشك وأدخل في وجملة الأمر أنه ليس إعلامك الشيء بغتة مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والإحكام ومن هاهنا قالوا‏:‏ إن الشيء إذا أضمر ثم فسر كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدم إضمار ويدل على صحة ما قالوه أنا نعلم ضرورة في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ‏"‏ فخامة وشرفاً وروعة لا نجد منها شيئاً في قولنا‏:‏ فإن الأبصار لا تعمى‏.‏

وكذلك السبيل أبداً في كل كلام كان فيه ضمير قصة‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنه لا يفلح الكافرون ‏"‏ يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين ما لو قيل‏:‏ إن الكافرين لا يفلحون لم يفد ذلك ولم يكن ذلك كذلك إلا لأنك تعلمه إياه من بعد تقدمة وتنبيه أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطد ثم بين ولوح ثم صرح‏.‏

ولا يخفى مكان المزية فيما طريقه هذا الطريق‏.‏

ويشهد لما قلنا من أن تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه له أنا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر نحو أن يقول الرجل‏:‏ ليس لي علم بالذي تقول فتقول له‏:‏ أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل إلى خصمي‏.‏

وكقول الناس‏:‏ هو يعلم ذاك وإن أنكر وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه‏.‏

وكقوله له تعالى‏:‏ ‏"‏ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ‏"‏ فهذا من أبين شيء وذاك أن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب وإذا لم يعترف بأنه كاذب كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنه كاذب أو يجيء فيما اعترض فيه شك نحو أن يقول الرجل‏:‏ كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك فيقول‏:‏ أنا أعلم ولكني أداريه أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ‏"‏‏.‏

وذلك أن قولهم‏:‏ آمنا دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به فالموضع موضع تكذيب‏.‏

أو فيما القياس في مثله أن لا يكون كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ‏"‏ وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة‏.‏

وكذلك في كل شيء كان خبراً على خلاف العادة وعما يستغرب من الأمر نحو أن نقول‏:‏ ألا تعجب من فلان يدعي العظيم وهو يعيا باليسير ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء‏.‏

ومما يحسن ذلك فيه ويكثر الوعد والضمان كقول الرجل‏:‏ أنا أعطيك أنا أكفيك أنا أقوم بهذا الأمر‏.‏

وذلك أن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد وفي الوفاء به فهو من أحوج شيء إلى التأكيد‏.‏

وكذلك يكثر في المدح كقولك‏:‏ أنت تعطي الجزيل أنت تقري في المحل أنت تجود حين لا يجود أحد‏.‏

وكما قال من الكامل‏:‏ ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري وكقول الآخر من الرمل‏:‏ وذلك أن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويباعدهم من الشبهة وكذلك المفتخر‏.‏

ويزيدك بياناً أنه إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه ولكن يؤتى به غير مبني على اسم‏.‏

فإذا أخبرت بالخروج مثلاً عن رجل من عاداته أن يخرج في كل غداة قلت‏:‏ قد خرج‏.‏

ولم تحتج إلى أن تقوول هو قد خرج ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه‏.‏

وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نية الركوب والمضي إلى موضع ولم يكن شك وتردد أنه يركب أو لا يركب كان خبرك فيه أن تقول‏:‏ قد ركب ولا تقول‏:‏ هو قد ركب‏.‏

فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام ووضعته بعد واو الحال حسن حينئذ‏.‏

وذلك قولك‏:‏ جئته وهو قد ركب‏.‏

وذاك أن الحكم يتغير إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع ويصير الأمر بمعرض الشك‏.‏

وذاك أنه إنما يقول هذا من ظن أنه يصادفه في منزله وأن يصل إليه من قبل أن يركب‏.‏

فإن قلت فإنك قد تقول‏:‏ جئته وقد ركب بهذا المعنى ومع هذا الشك‏.‏

فإن الشك لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول‏.‏

أفلا ترى أنك إذا استبطأت إنساناً فقلت‏:‏ أتانا والشمس قد طلعت كان ذلك أبلغ في استبطائك له من تقول‏:‏ أتانا وقد طلعت الشمس وعكس هذا أنك إذا قلت‏:‏ أتى والشمس لم تطلع كان أقوى في وصفك به بالعجلة والمجيء قبل الوقت الذي ظن أنه يجيء فيه من أن تقول‏:‏ أتى ولم تطلع الشمس بعد‏.‏

هذ وهو كلام لا يكاد يجيء إلا نابياً وإنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله من الكامل‏:‏ قد أغتدي والطير لم تكلم فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال مضارعاً لم يصلح إلا مبنياً على اسم كقولك‏:‏ رأيته وهو يكتب ودخلت عليه وهو يملي الحديث‏.‏

وكقوله من الطويل‏:‏ تمززتها والديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا ليس يصلح شيء من ذلك إلا على ما تراه لو قلت‏:‏ رأيته ويكتب ودخلت عليه ويملي الحديث وتمززتها ويدعو الديك صباحه‏.‏

لم يكن شيئاً‏.‏

ومما هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ‏"‏ ‏"‏ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ‏"‏ فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم فقيل‏:‏ إن وليي الله الذي نزل الكتاب ويتولى الصالحين واكتتبها فتملى عليه وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فيوزعون لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى والمعنى قد واعلم أن هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفي ما اقتضاه في المثبت فإذا قلت‏:‏ أنت لا تحسن هذا كان أشد لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول‏:‏ لا تحسن هذا‏.‏

ويكون الكلام في الأول مع من هو أشد إعجاباً بنفسه وأعرض دعوى في أنه يحسن حتى إنك لو أتيت بأنت فيما بعد تحسن فقلت‏:‏ لا تحسن أنت لم يكن له تلك القوة‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين هم بربهم لا يشركون ‏"‏ يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم ما لو قيل‏:‏ والذين لا يشركون بربهم أو بربهم لا يشركون لم يفد ذلك وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ‏"‏ و ‏"‏ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ‏"‏‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:44 am

تقديم مثل وغير

ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم مثل وغير في نحو قوله منا السريع‏:‏ مثلك يثني المزن عن صوبه ويسترد الدمع عن غربه وقول الناس‏:‏ مثلك رعى الحق والحرمة‏.‏

وكقول الذي قال له الحجاج‏:‏ لأحملنك على الأدهم يريد القيد فقال على سبيل المغالطة‏:‏ ومثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب‏.‏

وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس‏.‏

وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر أو أن لا يفعل‏.‏

ومن أجل أن المعنى كذلك قال من السريع‏:‏ ولم أقل مثلك أعني به سواك يافرداً بلا مشبه وكذلك حكم غير إذا سلك هذا المسلك فقيل‏:‏ غيري يفعل ذاك على معنى أني أفعله لا أفعله لا أن يومىء بغير إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل كما قال من البسيط‏:‏ غيري بأكثر هذا الناس ينخدع وذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد كان هناك فيستنقضه ويصفه بأنه مضعوف يغر ويخدع بل لم يرد إلا أن يقول‏:‏ إني لست ممن ينخدع ويغتر‏.‏

وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله من الوافر‏:‏ وغيري يأكل المعروف سحتاً وتشحب عنده بيض الأيادي أن يعرض مثلاً بشاعر سواه فيزعم أن الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاه كان من ذلك الشاعر لا منه هذا محال بل ليس إلا أنه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم‏.‏

واستعمال مثل وغير على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع وهو جار في عادة كل قوم‏.‏

فأنت الآن إذا تصفحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدمان أبداً على الفعل إذا نحي بهما هذا النحو الذي ذكرت لك وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما‏.‏

أفلا ترى أنك لو قلت‏:‏ يثني المزن عن صوبه مثلك ورعى الحق والحرمة مثلك ويحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير وينخدع غيري بأكثر هذا الناس ويأكل غيري المعروف سحتاً رأيت كلاماً مقلوباً عن جهته ومغيراً عن صورته ورأيت اللفظ قد نبا عن معناه رأيت الطبع يأبى أن يرضاه وأعلم أن معك دستوراً لك فيه إن تأملت غنى عن كل ما سواه وهو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى في الخبر‏.‏

وذاك أن الاستفهام استخبار والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك‏.‏

فإذا كان كذلك كان محالاً أن يفترق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره في الاستفهام فيكون المعنى إذا قلت‏:‏ أزيد قام‏.‏

غيره إذا قلت‏:‏ أقام زيد ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر ويكون قولك‏:‏ زيد قام وقام زيد سواء ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعمله أمراً لا سبيل فيه إلى جواب وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه‏.‏

وجملة الأمر أن المعنى في إدخالك حرف الاستفهام على الجملة من الكلام هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة ومؤداها على إثبات أو نفي‏.‏

فإذا قلت‏:‏ أزيد منطلق فأنت تطلب أن يقول لك‏:‏ نعم هو منطلق‏.‏

أو يقول‏:‏ لا ما هو منطلق‏.‏

وإذا كان ذلك كذلك كان محالاً أن لا تكون الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخباراً عن المعنى على وجه لا تكون هي إذا نزعت منها الهمزة إخباراً به على ذلك الوجه فاعرفه‏.‏

كلام في النكرة إذا قدمت على الفعل

أو قدم الفعل عليها إذا قلت‏:‏ أجاءك رجل فأنت تريد أن تسأله‏:‏ هل كان مجيء من أحد من الرجال إليه فإن قذمت الاسم فقلت‏:‏ أرجل جاءك فأنت تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة‏.‏

ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت‏.‏

ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت‏:‏ أزيد جاءك أم عمرو ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل والسؤال عن الفاعل يكون إما عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث‏.‏

وإذا كان كذلك كان محالاً أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين‏.‏

والنكرة لا تدل على عين شيء فيسأل بها عنه‏.‏

فإن قلت‏:‏ أرجل طويل جاءك أم قصير كان السؤال عن أن الجائي من جنس طوال الرجال أم قصارهم فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت‏:‏ أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه كان السؤال عن المعطي أكان ممن عرفه قبل أم كان إنساناً لم تتقدم منه معرفة‏.‏

وإذا قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام فابن الخبر عليه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ رجل جاءني لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت‏.‏

فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول‏:‏ جاءني رجل فتقدم الفعل‏.‏

وكذلك إن قلت‏:‏ رجل جاءني لم يستقم حتى يكون السامع قد ظن أنه قد أتاك قصير أو نزلته من ظن ذلك‏.‏

وقولهم‏:‏ شر أهر ذا ناب إنما قدم فيه شر لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير فجرى مجرى أن تقول‏:‏ رجل جاءني تريد أنه رجل لا امرأة‏.‏

وقول العلماء إنه إنما يصلح لأنه بمعنى‏:‏ ما أهر ذا ناب إلا شر بيان لذلك‏.‏

ألا ترى أنك لا تقول‏:‏ ما أتاني إلا رجل إلا حيث يتوهم السامع أنه قد أتتك إمرأة‏.‏

ذاك لأن الخبر بنقض النفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء وينفى عما عداه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد ونفيته كل من عداه وإنما يتصور قصر الفعل على معلوم‏.‏

ومتى لم يرد بالنكرة الجنس لم يقف منها السامع على معلوم حتى يزعم أني أقصر له الفعل عليه وأخبره أنه كان منه دون غيره‏.‏

وأعلم أنا لم نرد بما قلناه من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم شر أهر ذا ناب لأنه أريد به الجنس أن معنى شر والشر سواء وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبين أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير‏.‏

كما أنا إذا قلنا في قولهم‏:‏ أرجل أتاك أم امرأة أن السؤال عن الجنس لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال‏:‏ الرجل أم المرأة أتاك ولكنا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي‏:‏ أهو من جنس الرجال أم جنس النساء فالنكرة إذاً على أصلها من كونها لواحد من الجنس‏.‏

إلا أن القصد منك لم يقع إلى كونه واحداً وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال‏.‏

وعكس هذا أنك إذا قلت‏:‏ أرجل أتاك أم رجلان كان القصد منك إلى كونه واحداً دون كونه رجلاً فاعرف ذلك أصلاً‏.‏

وهو أنه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر فيصير الآخر بأن يدخل في القصد كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ‏.‏

وإذا اعتبرت ما قدمته من قول صاحب الكتاب‏:‏ أنك قلت‏:‏ عبد الله فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل وجدته يطابق هذا‏.‏

وذاك أن التنبيه لا يكون إلا على معلوم كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم‏.‏

فإذا بدأت بالنكرة فقلت‏:‏ رجل وأنت لا تقصد بها الجنس وأن تعلم السامع أن الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة كان محالاً أن تقول‏:‏ إني قدمته لأنبه المخاطب له لأنه يخرج بك إلى أن تقول‏:‏ إني أردت أن أنبه السامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل‏.‏

وذلك ما لا يشك في استحالته فاعرفه‏.‏

هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن‏.‏

وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر‏.‏

وأنا أكتب لك بديئاً أمثلة مما عرض فيه الحذف ثم أنبهك على صحة ما أشرت إليه وأقيم الحجة من ذلك عليه صاحب الكتاب من البسيط‏:‏ اعتاد قلبك من ليلى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل ربع قواء أذاع المعصرات به وكل حيران جار ماؤه خضل قال‏:‏ أراد ذاك ربع قواء أو هو ربع‏.‏

قال‏:‏ ومثله قول الآخر من البسيط‏:‏ هل تعرف اليوم رسم الداروالطللا كما عرفت بجفن الصيقل الخللا دار لمروة إذ أهلي وأهلهم بالكانسية نرعى اللهو والغزلا كأنه قال‏:‏ تلك دار‏.‏

قال شيخنا رحمه الله‏:‏ ولم يحمل البيت الأول على أن الربع بدل من الطلل لأن الربع أكثر من الطلل والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه‏.‏

فأما الشيء من أقل منه ففاسد لا يتصور‏.‏

وهذه طريقة مستمرة لهم إذ ذكروا الديار والمنازل كما يضمرون في المبتدأ فيرفعون فقد يضمرون الفعل فينصبون كبيت الكتاب أيضاً من البسيط‏:‏ أنشده بنصب ديار على إضمار فعل كأنه قال‏:‏ أذكر ديار مية‏.‏

ومن المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف يبدؤون بذكر الرجل ويقدمون بعض أمره ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاماً آخر‏.‏

وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله من مجزوء الكامل‏:‏ وعلمت أني يوم ذا ك منازل كعباً ونهدا قوم إذا لبسوا الحدي د تنمروا حلقاً وقدا وقوله من الوافر‏:‏ هم حلوا من الشرف المعلى ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا بناة مكارم وأساة كلم دماؤهم من الكلب الشفاء وقوله من الطويل‏:‏ رآني على ما بي عميلة فاشتكى إلى ماله حالي أسر كما جهر غلام رماه الله بالخير مقبلاً له سيمياء لا تشق على البصر وقوله من الطويل‏:‏ إذا ذكر آبنا العنبرية لم تضق ذراعي وألقى باسته من أفاخر حمالان‏:‏ خبر ثان وليس بصفة كما يكون لو قلت مثلاً‏:‏ رجلان حمالان‏.‏

ومما اعتيد فيه أن يجيء خبراً قد بني على مبتدأ محذوف قولهم بعد أن يذكرو الرجل‏:‏ فتى من صفته كذا وأغر من صفته كيت وكيت‏.‏

كقوله من الطويل‏:‏ ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ولا عرف إلا قد تولى وأدبرا فتى حنظلي ما تزال ركابه تجود بمعروف وتنكر منكرا وقوله من الطويل‏:‏ سأشكر عمراً إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت ومن ذلك قول جميل من البسيط‏:‏ وهل بثينة يا للناس قاضيتي ديني وفاعلة خيراً فأجزيها ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما قلبي عشية ترميني وأرميها هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ربا العظام بلا عيب يرى فيها من الأوانس مكسال مبتلة خود غذاها بلين العيش غاذيها وقوله من الكامل‏:‏ وتقول‏:‏ بت عندي فديتك ليلة أشكو إليك فإن ذاك يسير غراء مبسام كأن حديثها در تحدر نظمه منثور محطوطة المتنين مضمرة الحشا ريا الروادف خلقها ممكور وقول الأقيشر في ابن عم له موسر سأله فمنعه وقال‏:‏ كم أعطيك مالي وأنت تنفعه فيما لا يعنيك والله لا أعطيك‏.‏

فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم فشكاه إلى القوم وذمه فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول من الطويل‏:‏ سريع إلى ابن العم يلطم وجهه وليس إلى داعي الندى بسريع حريص على الدنيا مضيع لدينه وليس لما في بيته بمضيع فتأمل الآن هذه الأبيات كلها واستقرها واحداً واحداً وانظر إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها ثم قلبت النفس تجد وألطفت النظر فيما تحس به‏.‏

ثم تكلف أن ترد ما حذف الشاعر وأن تخرجه لفظك وتوقعه في سمعك فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت وأن رب حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد‏.‏

وإن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة وأدل دلالة فانظر قول عبد الله بن الزبير يذكر غريماً له قد ألح عليه من الطويل‏:‏ فدب دبيب البغل يألم ظهره وقال‏:‏ تعلم أنني غير فاعل تثاءب حتى قلت‏:‏ داسع نفسه وأخرج أنياباً له كالمعاول الأصل حتى قلت‏:‏ هو داسع نفسه‏.‏

أي حسبته من شدة التثاؤب ومما به من الجهد يقذف نفسه من جوفه ويخرجها من صدره كما يدسع البعير جرته‏.‏

ثم إنك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ وتباعده عن وهمك وتجتهد أن لا يدور في خلدك ولا يعرض لخاطرك‏.‏

وتراك كأنك تتوقاه توقي الشيء يكره مكانه والثقيل يخشى هجومه‏.‏

ومن لطيف الحذوف قول بكر بن النطاح من السريع‏:‏ العين تبدي الحب والبغضا وتظهر الإبرام والنقضا درة ما أنصفتني في الهوى ولارحمت الجسد المنضى غضبى ولا والله يا أهلها لا أطعم البارد أو ترضى يقول في جارية كان يحبها وسعي به إلى أهلها فمنعوها منه‏.‏

والمقصود قوله‏:‏ ‏"‏ غضبى ‏"‏ وذلك أن التقدير هي غضبى أو غضبى هي لا محالة ألا ترى أنك ترى النفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف وكيف تأنس إلى إضماره‏.‏

وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم من الكامل‏:‏ قالت سمية‏:‏ قد غوبت بأن رأت حقاً تناوب مالنا ووفودا غي لعمرك لا أزال أعوده ما دام مال عندنا موجودا المعنى‏:‏ ذاك غي لا أزال أعود إليه فدعي عنك لومي‏.‏

وإذ قد عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ فاعلم أن ذلك سبيله في كل شيء فما من اسم أو فعل تجلى قد حذف ثم أصيب به موضعه وحذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها إلا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النطق به‏.‏

وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ وهو حذف اسم إذ لا يكون المبتدأ اسماً فإني اتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصاً فإن الحاجة إليه أمس وهو نحن به أخص واللطائف كأنها فيه أكثر وما يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر‏.‏

وهاهنا أصل يجب ضبطه وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل‏.‏

وكما أنك إذا قلت‏:‏ ضرب زيد‏.‏

فأسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلاً له لا أن تفيد وجود الضرب في نفسه وعلى الإطلاق‏.‏

كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت‏:‏ ضرب زيد عمراً‏.‏

كان غرضك أن تفيد التباس الضر الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما‏.‏

إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتق منه بهما‏.‏

فعمل الرفع الفاعل ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه‏.‏

ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه‏.‏

بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول أو يتعرض لي ذلك بالعبارة فيه أن يقال‏:‏ كان ضرب أو وقع ضرب أو وجد ضرب‏.‏

وما شاكل ذلك ألفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء‏.‏

وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن أغراض الناس تختلص في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين‏.‏

فإذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدي كغير المتعد مثلاً في أنك لا ترى مفعولاً لا لفظاً ولا تقديراً‏.‏

ومثال ذلك قول الناس‏:‏ فلان يحل ويعقد ويأمر وينهى ويضر وينفع‏.‏

وكقولهم‏:‏ هو يعطي ويجزل ويقري ويضيف‏.‏

المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول حتى كأنك قلت‏:‏ صار إليه الحل والعقد وصار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي وضر ونفع وعلى هذا القياس‏.‏

وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ‏"‏ المعنى‏:‏ هل يستوي من له علم ومن لا علم له من غير أن يقصد النص على معلوم‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وأنه هو أغنى وأقنى ‏"‏ المعنى‏:‏ هو الذي منه الإحياء و الإماتة والإغناء والإقناء‏.‏

وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلاً للشيء وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه أو لا يكون منه‏.‏

فإن الفعل لا يعدى هناك لأن تعديته تنقص الغرض وتغير المعنى‏.‏

ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ هو يعطي الدنانير كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصاً دون غيرها وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه‏.‏

ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء‏.‏

إلا أنه لم يثبت إعطاء الدنانير فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع‏.‏

فهذا قسم من خلو الفعل عن المفعول وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النص عليه‏.‏

وقسم ثان وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم‏.‏

إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه وينقسم إلى جلي لا صنعة فيه وخفي تدخله الصنعة‏.‏

فمثال الجلي قولهم‏:‏ أصغيت إليه‏:‏ وهم يريدون أذني و‏:‏ أغضيت عليه‏:‏ والمعنى جفني‏.‏

وأما الخفي الذي تدخله الصنعة فيتفنن ويتنوع‏.‏

فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه إما لجري ذكر أو دليل حال‏.‏

إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى شيء أو تعرض فيه لمفعول‏.‏

ومثاله قول البحتري من الخفيف‏:‏ شجو حساده وغيظ عداه أن يرى مبصر ويسمع واع المعنى‏:‏ لا محالة أن يرى مبصر محاسنه وشممع واع أخباره وأوصافه‏.‏

ولكنك تعلم على ذلك أنه كأنه يسرق علم ذلك من نفسه وبدفع صورته عن وهمه ليحصل له معنى شريف وغرض خاص‏.‏

وذاك أنه يمدح خليفة وهو المعتز ويعرض بخليفة وهو المستعين‏.‏

فأراد أن يقول‏:‏ إن محاسن المعتز وفضائله والمحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتى يعلم أنه المستحق للخلافة‏.‏

والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينارعه مرتبتها فأنت ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيط من علمهم بأن هاهنا مبصراً يرى وسامعاً يعي حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يعي معها كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة فيجدوا بذلك سبيلاً إلى منازعة إياها‏.‏

وهذا نوع آخر منه وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس لغرض غير الذي مضى وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها وكما هي إليه‏.‏

ومثاله قول عمرو بن معدي كرب من الطويل‏:‏ فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت لا أجرت لما فعل متعد ومعلوم أنه لو عداه لما عداه إلا إلى ضمير المتكلم نحو ‏"‏ ولكن الرماح أجرتني ‏"‏ وأنه لا يتصور أن يكون هاهنا شي آخر يتعدى إليه لاستحالة أن يقول‏:‏ فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ثم يقول‏:‏ ولكن الرماح أجرت غيري‏.‏

إلأ أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك‏.‏

والسبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض وذلك أن الغرض هو أن تثبت أنه كان من الرماح إجراراً وحبس الألسن عن النطق وأن تصحح وجود ذلك‏.‏

ولو قال ‏"‏ أجرتني ‏"‏ جاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجراراً بل الذي عناه أن يبين أنها أجرته‏.‏

فقد يذكر الفعل كثيراً والغرض منه ذكر المفعول مثاله أنك تقول‏:‏ أضربت زيداً وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب‏.‏

وإنما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه‏.‏

فلما كان في تعدية أجرت ما يوهم ذلك وقف فلم يعد البتة ولم ينطق بالمفعول لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرماح وتصحيح أنه كان منها وتسلم بكليتها لذلك ومثله قول جرير من الوافر‏:‏ أمنيت المنى وخلبت حتى تركت ضمير قلبي مستهاما الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة وأن بقول لها‏:‏ أهكذا تصنعين وهذه حيلتك في فتنة الناس ومن بارع ذلك ونادره ما تجلى في هذه الأبيات روى المرزباني في كتاب الشعر بإسناد قال‏:‏ لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأهل الردة استبطأته الأنصار فقال‏:‏ إما كلفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس ولكني والله ما أوتى من مودة لكم ولا حسن رأي فيكم وكيف لا نحبكم‏!‏ فوالله ما وجدت مثلاً لنا ولكم إلا ما قال طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب من الطويل‏:‏ جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت هم خلطونا بالنفوس وألجؤوا إلى حجرات أدفأت وأظلت فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله‏:‏ لملت وألجؤوا وأدفأت وأظلت لأن الأصل‏:‏ لملتنا وألجؤونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا‏.‏

إلا أن الحال على ما ذكرت لك من أنه في حد المتناسي حتى كأن لا قصد إلى مفعول وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه كما يكون إذا قلت‏:‏ قد مل فلان تريد أن تقول‏:‏ قد دخله الملال‏.‏

من غير أن تخص شيئاً بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته و تقول‏:‏ هذا بيت يدفىء ويظل‏.‏

تريد أنه بهذه الصفة‏.‏

واعلم أن لك في قوله‏:‏ أجرت ولملت فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل وهي أن تقول‏:‏ كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقاً وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى لأنك إذا قلت‏:‏ ولكن الرماح أجرتني لم يكن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم‏.‏

ونظيره أنك تقول‏:‏ قد كان منك يؤلم تريد ما الشرط مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان‏.‏

ولو قلت‏:‏ ما يؤلمني لم يفد ذلك لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك‏.‏

وهكذا قوله‏:‏ ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت يتضمن أن من حكم مثله في كل أم أن تمل وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد‏.‏

وذلك أنه وإن قال أمنا فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها‏.‏

ولو قلت‏:‏ لملتنا لم يحتمل ذلك لأنه يجري مجرى أن تقول‏:‏ لو لقيت أمنا ذلك لدخلها ما يملها منا‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما يملها منا فقيدت لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ إلى حجرات أدفأت وأظلت لأن فيه معنى قولك‏:‏ حجرات من شأن مثلها أن تدفىء وتظل أي هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ وأظل‏.‏

ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول إذ لا تقول‏:‏ حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا‏.‏

هذا لغو من الكلام فاعرف هذه النكتة فإنك تجدها في كثير من هذا الفن مضمومة إلى المعنى الآخر‏.‏

الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التباسه بمفعوله‏.‏

وإن أردت أن تزداد تبييناً لهذا الأصل أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب فانظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم أمرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير‏.‏

فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ‏"‏ ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع إذ المعنى‏:‏ وجد عليه أمة من‏.‏

الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم وامرأتين تذودان غنمهما وقالتا‏:‏ لا نسقي غنمنا فسقى لهما غنمهما‏.‏

ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقاً‏.‏

وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا‏:‏ لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي‏.‏

فأما ما كان المسقي غنماً أم إبلاً أم غير ذلك فخارج عن الغرض وموهم خلافه‏.‏

وذاك أنه لو قيل‏:‏ وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود كما أنك إذا قلت‏:‏ ما لك تمنع أخاك كنت منكراً المنع لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة وأن الغرض لا يصح إلا على تركه‏.‏

ومما هو كأنه نوع آخر غير ما مضى قول البحتري من الطويل‏:‏ إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي قد علم أن المعنى‏:‏ إذا بعدت عني أبلتني وإن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ويوجب اطراحه‏.‏

وذاك لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه وكأنه كالطبيعة فيه‏.‏

وكذلك حال الشفاء مع القرب حتى كأنه قال‏:‏ أتدري ما بعادها هو الداء المضني وما قربها هو الشفاء والبرء من كل داء‏.‏

ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة إلا بحذف المفعول البتة فاعرفه‏.‏

وليس لنتائج هذا الحذف أعني حذف المفعول نهاية فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة وإلى لطائف لا تحصى‏.‏

وهذا نوع منه آخر‏:‏ اعلم أن هاهنا باباً من الإضمار والحذف يسمى الإضمار على على شريطة التفسير‏.‏

ذلك مثل قولهم‏:‏ أكرمني وأكرمت عبد الله‏.‏

أردت‏:‏ أكرمنى عبد الله وأكرمت عبد الله‏.‏

ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني‏.‏

فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر وشيء لا يعبأ به ويظن أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه وفيه إذا أنت طلبت الشيء من معدنه من دقيق الصنعة ومن جليل الفائدة ما لا تجده إلا في كلام الفحول‏.‏

فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري من الكامل‏:‏ لو شئت لم تفسد سماحة حاتم كرماً ولم تهدم مآثرخالد الأصل‏:‏ لا محالة لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها‏.‏

ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالته في الثاني عليه‏.‏

ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلا اللفظ‏.‏

فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت‏:‏ لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها صرت إلى كلام غث وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس‏.‏

وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له أبداً لطفاً ونبلاً لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك وأنت إذا قلت‏:‏ لو شئت علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء فهو يضع في نفسه أن هنا شيئاً تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون‏.‏

فإذا قلت‏:‏ لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء‏.‏

ومجيء المشيئة بعد لو وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ‏"‏ ‏"‏ ولو شاء لهداكم أجمعين ‏"‏‏.‏

والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت فالأصل‏:‏ لو شاء الله يجمعهم على الهدى لجمعهم و‏:‏ لو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم‏.‏

إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفاً‏.‏

وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول شاعر من الطويل‏:‏ ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فقياس هذا لو كان على حد‏:‏ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أن يقول‏:‏ لو شئت بكيت دماً ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصاً‏.‏

وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً‏.‏

فلما كان ذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع ويؤنسه به‏.‏

وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبداً متى كان مفعول المشيئة أمراً عظيماً أو بديعاً غريباً كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر‏.‏

يقول الرجل يخبر عن عزة نفسه‏:‏ لو شئت أن أرد على الأمير رددت ولو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيت‏.‏

فإذا لم يكن مما يكبره السامع فالحذف كقولك‏:‏ لو شئت خرجت ولو شئت قمت ولو شئت أنصفت ولو شئت لقلت‏.‏

وفي التنزيل‏:‏ ‏"‏ لو نشاء لقلنا مثل هذا ‏"‏ وكذا تقول‏:‏ لو شئت كنت كزيد قال من البسيط‏:‏ لو شئت كنت ككرز في عبادته أو كابن طارق حول البيت والحرم وكذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول‏:‏ إن شئت قلت وإن أردت دفعت‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإن يشأ الله يختم على قلبك ‏"‏ وقال عز اسمه‏:‏ ‏"‏ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ‏"‏‏.‏

ونظائر ذلك من الآي ترى الحذف فيها المستمر‏.‏

ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفة من الطويل‏:‏ وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت مخافة ملوي من القد محصد وقول حميد من الطويل‏:‏ إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة أو الزرق من تثليث أو بيلملما مطوقة ورقاء تسجع كلما دنا الصيف وانجاب الربيع فأنجما إذا شاء غادى صرمة أو غدا على عقائل سرب أو تقنص ربربا وقوله من الكامل‏:‏ لو شئت عدت بلاد نجد عودة فحللت بين عقيقه وزروده معلوم أنك لو قلت‏:‏ وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل‏:‏ أو قلت‏:‏ إذا شئت أن تغنيني بأجزاع بيشة غنتني وإذا شاء أن يغادي صرمة غادى ولو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها أذهبت الماء والرونق وخرجت إلى كلام غث ولفظ رث‏.‏

وأما قول الجوهري من الطويل‏:‏ فلم يبق مني الشوق غير تفكري فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا فقد نحا به نحو قوله‏:‏ ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته فأظهر مفعول شئت ولم يقل‏:‏ فلو شئت بكيت تفكراً لأجل أن له غرضاً لا يتم إلا بذكر المفعول وذلك أنه لم يرد أن يقول‏:‏ ولو شئت أن أبكي تفكراً بكيت كذلك‏.‏

ولكنه أراد أن يقول‏:‏ قد أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول حتى لو شئت بكاء فمريت شؤوني وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده ولخرج بدل الدمع التفكر‏.‏

فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدى إلى التفكر البتة والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكر‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك صار الثاني كأنه شيء غير الأول وجرى مجرى أن تقول‏:‏ لو شئت أن تعطي لما أعطيت درهمين‏.‏

في أن الثاني لا واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح‏:‏ أكرمت وأكرمني عبد الله ولكنه شبيه به في أنه إنما حذف الذي حذف من مفعول المشيئة والإرادة لأن الذي يأتي في جواب لو وأخواتها يدل عليه‏.‏

وإذا أردت ما هو صريح في ذلك ثم هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق وفائدة جليلة فانظر إلى بيت البحتري من الخفيف‏:‏ قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ دد والمجد والمكارم مثلا المعنى‏:‏ قد طلبنا لك مثلاً ثم حذف لأن ذكره في الثاني يدل عليه‏.‏

ثم إن للمجيء به كذلك من الحسن والمزية والروعة ما لا يخفى‏.‏

ولو أنه قال‏:‏ طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلاً فلم نجده لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئاً‏.‏

وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة هو نفي الوجود عن المثل‏.‏

فأما الطلب فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكد به أمره‏.‏

وإذا كان هذا كذلك فلو أنه قال‏:‏ قد طلبنا لك السؤدد والمجد والمكارم مثلاً فلم نجده لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل وأوقعه على ضميره‏.‏

ولن تبلغ الكناية مبلغ الصريح أبداً‏.‏

ويبين هذا كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وأنا أكتب لك الفصل حتى يستبين الذي هو المراد قال‏:‏ والسنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب‏.‏

ألا ترى أن قيس بن خارجة لما ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس وقال‏:‏ ما لي فيها أيها العشمتان قالا‏:‏ بل ما عندك قال عندي قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب‏.‏

آمر فيها‏.‏

بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع‏.‏

قالوا‏:‏ فخطب يوماً إلى النيل فما أعاد كلمة ولا معنى‏.‏

فقيل لأبي يعقوب‏:‏ هلا اكتفى بالأمر بالتواصل عن النهي عن التقاطع أوليس الأمر بالصلة هو النهي عن القطيعة قال‏:‏ أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإيضاح والتكشيف‏.‏

انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه فقد بصرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل كإيقاعه على ضميره‏.‏

وإذ قد عرفت هذا فإن هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري فيعمل الأول من الفعلين وذلك قوله من الوافر‏:‏ ولم أمدح لأرضيه بشعري لئيماً أن يكون أصاب مالا أعمل لم أمدح الذي هو الأول في صريح لفظ اللئيم وأرضى الذي هو الثاني في ضميره‏.‏

وذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحاً والمجيء به مكشوفاً ظاهراً هو الواجب من حيث كان أصل الغرض‏.‏

وكان الإرضاء تعليلاً له‏.‏

ولو أنه قال‏:‏ ولم أمدح لأرضي بشعري لئيماً لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل وأبانه فيما ليس بالأصل فاعرفه‏.‏

ولهذا الذي ذكرنا من أن للتصريح عملاً لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد‏.‏

الله الصمد ‏"‏ من الحسن والبهجة ومن الفخامة والنبل ما لا يخفى موضعه على بصير‏.‏

وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل‏:‏ وبالحق أنزلناه وبه نزل‏.‏

وقل هو الله أحد هو الصمد لعدمت الذي أنت واجده الآن ‏"‏‏.‏

تحليل شاهد متميز للحذف عند البحتري

قد بان الآن واتضح لمن نظر نظر المتثبت الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل والازدياد من الفضل ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها ويتغلغل إلى دقائقها ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر‏.‏

ولا يعدو الذي يقع في أول الخاطر أن الذي قلت في شأن الحذف وفي تفخيم أمره والتنويه بذكره وأن مأخذه مأخذ يشبه السحر ويبهر الفكر كالذي قلت‏:‏ وهذا فن آخر من معانيه عجيب وأنا ذاكره لك‏:‏ قال البحتري في قصيدته التي أولها من الطوي‏:‏ وهو يذكر محاماة الممدوح عليه وصيانته له ودفعه نوائب الزمان عنه‏:‏ وكم ذدت عني من تحامل حادث وسورة أيام حززن إلى العظم الأصل لا محالة‏:‏ حززن اللحم إلى العظم إلا أن في مجيئه به محذوفاً وإسقاطه له من النطق وتركه في الضمير مزية عجيبة وفائدة جليلة‏.‏

وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعاً يمنعه به من أن يتوهم في بدء الأمر شيئاً غير المراد ثم ينصرف إلى المراد‏.‏

ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله‏:‏ إلى العظم أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم‏.‏

فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ ليبرىء السامع من هذا الوهم ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم‏.‏

أفيكون دليل أوضح من هذا وأبين وأجلى في صحة ما ذكرت لك من أنك قد ترى ترك الذكر أفصح من الذكر والامتناع من أن يبرز اللفظ من الضمير أحسن للتصوير

فروق في الخبر

أول ما ينبغي أن يعلم منه أنه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه وخبر ليس بجزء من الجملة ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له‏.‏

فالأول خبر المبتدأ كمنطلق في قولك‏:‏ زيد منطلق‏.‏

والفعل كقولك‏:‏ خرج زيد‏.‏

فكل واحد من هذين جزء من الجملة وهو الأصل في الفائدة‏.‏

والثانى هو الحال كقولك‏:‏ جاءني زيد راكباً‏.‏

وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة من حيث إنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدأ وبالفعل للفاعل‏.‏

ألا تراك قد أثبت الركوب في قولك‏:‏ جاءني زيد راكباً لزيد إلا أن الفرق أنك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه ولم تجرد إثباتك للركوب ولم تباشره به بل ابتدأت فأثبت المجيء ثم وصلت به الركوب فالتبس به الإثبات على سبيل التبع للمجيء وبشرط أن يكون في صلته‏.‏

وأما في الخبر المطلق نحو‏:‏ زيد منطلق وخرج عمرو فإنك مثبت للمعنى إثباتاً جردته له وجعلته يباشره من غير واسطة ومن غير أن تتسبب بغيره إليه فاعرفه‏.‏

وإذ قد عرفت هذا الفرق فالذي يليه من فروق الخبر هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم وبينه إذا كان بالفعل وهو فرق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه‏.‏

وبيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء‏.‏

وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء‏.‏

فإذا قلت‏:‏ زيد منطلق‏.‏

فقد أثبت الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً‏.‏

بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك‏:‏ زيد طويل وعمرو قصير‏.‏

فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث بل توجبهما وتثبتهما فقط وتقضي بوجودهما على الإطلاق كذلك لا تتعرض في قولك‏:‏ زيد منطلق‏.‏

لأكثر من إثباته لزيد‏.‏

وأما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذلك فإذا قلت‏:‏ زيد ها هو ذا ينطلق‏.‏

فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً وجعلته يزاوله ويزجيه‏.‏

وإن شئت أن تحس الفرق بينهما من حيث يلطف فتأمل هذا البيت من البسيط‏:‏ لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا لكن يمر عليها وهو منطلق هذا هو الحسن اللائق بالمعنى‏.‏

ولو قلته بالفعل‏:‏ لكن يمر عليها وهو ينطلق لم يحسن‏.‏

وإذا أردت أن تعتبره بحيث لا يخفى أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه فانظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ‏"‏ فإن أحداً لا يشك في امتناع الفعل هاهنا وأن قولنا‏:‏ كلبهم يبسط ذراعيه لا يؤدي الغرض‏.‏

وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت‏.‏

ويقتضي الاسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً‏.‏

ولا فرق بين‏:‏ ‏"‏ وكلبهم باسط ‏"‏ وبين أن يقول‏:‏ وكلبهم واحد مثلاً في أنك لا تثبت مزاولة ولا تجعل الكلب يفعل شيئاً بل تثبت بصفة هو عليها‏.‏

فالغرض إذاً تأدية هيئة الكلب‏.‏

ومتى اعتبرت الحال في الصفات المشبهة وجدت الفرق ظاهراً بيناً ولم يعترضك الشك في أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ زيد طويل وعمرو قصير لم يصلح مكانه‏:‏ يطول ويقصر وإنما تقول‏:‏ يطول ويقصر إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبي ونحو ذلك مما يتجدد فيه الطول أو يحدث فيه القصر‏.‏

فأما وأنت تحدث عن هيئة ثابتة وعن شيء قد استقر طوله ولم يكن ثم تزايد وتجدد فلا يصلح فيه إلا الاسم‏.‏

وإذا ثبت الفرق بين الشيئين في مواضع كثيرة وظهر الأمر بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى أحدهما قد صلح في مكان الآخر وتعلم أن المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر كما هو العبرة في حمل الخفي على الجلي‏.‏

وينعكس لك هذا الحكم أعني أنك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه كذلك تجد الفعل يقع ثم لا يصلح الاسم مكانه ولا يؤدي ما كان يؤديه‏.‏

فمن البين في ذلك قول الأعشى من الطويل‏:‏ تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق معلوم أنه لو قيل‏:‏ إلى ضوء نار محرقة لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس‏.‏

ثم لا يكون ذاك النبو وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال‏.‏

وكذلك قوله من الكامل‏:‏ أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم وذاك لأن المعنى في بيت الأعشى على أن هناك موقداً يتجدد منه الإلهاب والإشعال حالاً فحالاً‏.‏

وإذا قيل‏:‏ محرقة كان المعنى أن هناك ناراً قد ثبتت لها وفيها هذه الصفة‏.‏

وجرى مجرى أن يقال‏:‏ إلى ضوء نار عظيمة في أنه لا يفيد فعلاً يفعل‏.‏

وكذلك الحال في قوله‏:‏ بعثوا إلي عريفهم يتوسم‏.‏

وذلك لأن المعنى‏:‏ على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك حالاً فحالاً وتصفح منه للوجوه واحداً بعد واحد‏.‏

ولو قيل‏:‏ بعثوا إلي عريفهم متوسماً لم يفد ذلك حق الإفادة‏.‏

ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ‏"‏ لو قيل‏:‏ هل من خالق غير الله رازق لكم لكان المعنى غير ما أريد‏.‏

ولا ينبغي أن يغرك أنا إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم كما نقول في‏:‏ زيد يقوم إنه في موضع زيد قائم فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيها استواء لا يكون من بعده افتراق فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً بل كان ينبغي أن يكونا جميعاً فعلين أو يكونا اسمين‏.‏

ومن فروق الإثبات أنك تقول‏:‏ زيد منطلق و زيد المنطلق والمنطلق زيد‏.‏

فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص وفائدة لا تكون في الباقي‏.‏

وأنا أفسر لك ذلك‏.‏

اعلم أنك إذا قلت‏:‏ زيد منطلق كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقاً كان لا من زيد ولا من عمرو‏.‏

فأنت تفيده ذلك ابتداء‏.‏

وإذا قلت‏:‏ زيد المنطلق كان كلامك مع من عرف أن انطلاقاً كان إما من زيد وإما من عمرو فأنت تعلمه أنه كان من زيد ودون غيره‏.‏

والنكتة‏:‏ أنك تثبت في الأول الذي هو قولك‏:‏ زيد منطلق فعلاً لم يعلم السامع من أصله أنه كان‏.‏

وتثبت في الثاني الذي هو زيد المنطلق فعلاً قد علم السامع أنه كان ولكنه لم يعلمه لزيد فأفدته ذلك‏.‏

فقد وافق الأول في المعنى الذي له كان الخبر خبراً وهو إثبات المعنى للشيء‏.‏

وليس يقدح في ذلك أنك كنت قد علمت أن انطلاقاً كان من أحد الرجلين لأنك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو كان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله‏.‏

وتمام التحقيق أن هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا في وقت كذا لغرض كذا فجوزت أن يكون ذلك كان من زيد‏.‏

فإذا قيل زيد المنطلق صار الذي كان معلوماً على جهة الجواز معلوماً على جهة الوجوب‏.‏

ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فصلاً بين الجزءين فقالوا‏:‏ زيد لمنطلق‏.‏

ومن الفرق بين المسألتين وهو ما تمس الحاجة إلى معرفته أنك إذا نكرت الخبر أن تأتي بمبتدأ ثان على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول‏.‏

وإذا عرفت لم يجز ذلك‏.‏

تفسير هذا أنك تقول‏:‏ زيد منطلق وعمرو‏.‏

تريد‏:‏ وعمرو منطلق أيضاً‏.‏

ولا تقول‏:‏ زيد المنطلق وعمرو‏.‏

ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقاً مخصوصاً قد كان من واحد فإذا أثبته لزيد لم يصح إثباته لعمرو‏.‏

ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين فإنه ينبغي أن يجمع بينهما في الخبر فتقول‏:‏ زيد وعمرو هما المنطلقان لا أن تفرق فتثبته أولاً لزيد ثم تجيء فتثبته لعمرو‏.‏

ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا‏:‏ هو القائل بيت كذا كقولك‏:‏ جرير هو القائل من الطويل‏:‏ وليس لسيفي في العظام بقية فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره فتقول‏:‏ جرير هو القائل هذا البيت وفلان حاولت محالاً لأنه قوله بعينه‏.‏

فلا يتصور أن يشرك جريراً فيه غيره‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة وذلك قولك‏:‏ زيد هو الجواد وعمرو هو الشجاع تريد أنه الكامل‏.‏

إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود والشجاعة لم توجد إلا فيه وذلك لأنك لم تعتد بما كان من غيره لقصوره عن أن يبلغ الكمال‏.‏

فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك‏.‏

فلو قلت‏:‏ زيد هو الجواد وعمرو كان خلفاً من القول‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه‏.‏

ولا يكون ذلك إلا إذا قيدت المعنى بشيء يخصصه ويجعله في حكم نوع برأسه وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت كقولك‏:‏ هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيراً‏.‏

وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدى ثم اشترطت له مفعولاً مخصوصاً كقول الأعشى من المتقارب‏:‏ هو الواهب المئة المصطفا ة إما مخاضاً وإما عشارا فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد نوعاً خاصاً من الوفاء‏.‏

وكذلك تجعل هبة المئة من الإبل نوعاً خاصاً من الوفاء وكذا الباقي‏.‏

ثم إنك تجعل كل هذا خبراً على معنى الاختصاص وأنه للمذكور دون من عداه ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى أنه لا يهب هذه هو الواهب المئة المصطفاة بمنزلتها في نحو‏:‏ ريد هو المنطلق من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص وليس الأمر كذلك لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص لا إلى هبة مخصوصة بعينها‏.‏

يدلك على ذلك أن المعنى على أنه يتكرر منه وعلى أنه يجعله يهب المئة مرة بعد أخرى‏.‏

وأما المعنى في قولك‏:‏ زيد هو المنطلق فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة لا إلى جنس من الانطلاق‏.‏

فالتكرر هناك غير متصور كيف وأنت تقول‏:‏ جرير هو القائل وليس لسيفي في العظام بقية تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه‏.‏

فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل وبين أن تقصد إلى فعل واحد متعين حاله في المعاني حال زيد في الرجال في أنه ذات بعينها‏.‏

والوجه الثالث أن لا تقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور لا كما كان في‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:46 am

فروق في الحال

لها فضل تعلق بالبلاغة اعلم أن أول فرق في الحال أنها تجيء مفرداً وجملة‏.‏

والقصد هاهنا إلى الجملة‏.‏

وأول ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع الواو وأخرى بغير الواو فمثال مجيئها الواو قولك‏:‏ أتاني وعليه ثوب ديباج ورأيته وعلى كتفه سيف ولقيت الأمير والجند حواليه وجاءني زيد وهو متقلد سيفه‏.‏

ومثال مجيئها بغير واو‏:‏ جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه وأتاني عمرو يقود فرسه‏.‏

وفي تمييز ما يقتضي الواو مما لا يقتضيه صعوبة‏.‏

والقول في ذلك أن الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر فالغالب عليها أن تجيء مع الواو كقولك‏:‏ جاءني زيد وعمرو أمامه وأتاني وسيفه على كتفه‏.‏

فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير في الحال لم يصلح بغير الواو البتة وذلك كقولك‏:‏ جاءني زيد وهو راكب ورأيت زيداً وهو جالس ودخلت عليه وهو يملي الحديث وانتهيت إلى الأمير وهو يعبىء الجيش‏.‏

فلو تركت الواو في شيء من ذلك لم يصلح‏.‏

فلو قلت‏:‏ جاءني زيد هو راكب ودخلت عليه هو يملي الحديت لم يكن كلاماً‏.‏

كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفاً ثم كان قد قدم على المبتدأ كقولنا‏:‏ عليه سيف وفي يده سوط كثر فيها أن تجيء بغير واو‏.‏

فمما جاء منه كذلك قول بشار من الطويل‏:‏ إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها خرجت مع البازي علي سواد يعني‏:‏ علي بقية من الليل‏.‏

وقول أمية من البسيط‏:‏ وقول الآخر من الطويل‏:‏ لقد صبرت للذل أعواد منبر تقوم عليها في يديك قضيب كل ذلك في موضع الحال وليس فيه واو كما ترى ولا هو محتمل لها إذا نظرت‏.‏

وقد يجيء ترك الواو فيما ليس الخبر فيه كذلك ولكنه لا يكثر‏.‏

فمن ذلك قولهم‏:‏ كلمته فوه إلى في ورجع عوده على بدئه في قول من رفع ومنه بيت الإصلاح من الكامل‏:‏ نصف النهار الماء غامره ورفيقه بالغيب لا يدري ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو علي في الإغفال من الطويل‏:‏ ولولا جنان الليل ما آب عامر إلى جعفر سرباله لم يمزق ومما ظاهره أنه منه قوله من البسيط‏:‏ إذا أتيت أبا مروان تسأله وجدته حاضراه‏:‏ الجود والكرم فقوله‏:‏ حاضراه الجود‏:‏ جملة من المبتدأ والخبر كما ترى وليس فيها واو والموضع موضع حال ألا تراك تقول‏:‏ أتيته فوجدته جالساً فيكون جالساً حالاً ذاك لأن وجدت في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدية إلى مفعولين ولكن المتعدية إلى مفعول واحد كقولك‏:‏ وجدت الضالة‏.‏

إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو حاضراه تأثيراً في معنى الغنى عن الواو وأنه لو قال‏:‏ وجدته الجود والكرم حاضراه لم يحسن حسنه الآن‏.‏

وكان السبب في حسنه مع التقديم أنه يقرب في المعنى من قولك‏:‏ وجدته حاضره الجود والكرم أو حاضراً عنده الجود والكرم‏.‏

وإن كانت الجملة من فعل وفاعل والفعل مضارع مثبت غير منفي لم يكد يجيء بالواو بل ترى الكلام على مجيئها عارية من الواو كقولك‏:‏ جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه‏.‏

وكقوله من البسيط‏:‏ وقد علوت قتود الرحل يسفعني يوم قديديمة الجوزاء مسموم وقوله من الخفيف‏:‏ ولقد أغتدي يدافع ركني أحوذي ذو ميعة إضريج وكذلك قولك‏:‏ جاءني زيد يسرع‏.‏

لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال وبين أن يكون لمن هو من سببه فإن ذلك كله يستمر على الغنى عن الواو‏.‏

وعليه التنزيل والكلام ومثاله في التنزيل قوله عز وجل ‏"‏ ولا تمنن تستكثر ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وسيجنبها الأتقى‏.‏

الذي يؤتي ماله يتزكى ‏"‏ وكقوله عز آسمه ‏"‏ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ‏"‏‏.‏

فأما قول ابن همام السلولي من المتقارب‏:‏ فللما خشيت أظافيره نجوت وأرهنهم مالكا في رواية من روى وأرهنهم وما شبهوه به من قولهم‏:‏ قمت وأصك وجهه‏.‏

فليست الواو فيها للحال وليس المعنى‏:‏ نجوت راهناً مالكاً وقمت صاكا وجهه ولكن أرهن وأصك حكاية حال مثل قوله من الكامل‏:‏ ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت‏:‏ لايعنيني فكما أن أمر هاهنا في معنى مررت كذلك يكون أرهن وأصك هناك في معنى رهنت وصككت‏.‏

ويبين ذلك أنك ترى الفاء تجيء مكان الواو في مثل هذا وذلك كنحو ما في الخبر في حديث عبد الله بن عتيك حين دخل على أبي رافع اليهودي حصنه قال‏:‏ فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أين هو من البيت‏.‏

فقلت‏:‏ أبا رافع‏.‏

فقال‏:‏ من هذا فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش‏.‏

فكما أن أضربه مضارع قد عطفه بالفاء على ماض لأنه في المعنى ماض كذلك يكون أرهنهم معطوفاً على الماضي قبله‏.‏

وكما لا يشك في أن المعنى في الخبر‏:‏ فأهويت فضربتك كذلك يكون المعنى في البيت نجوت ورهنت‏.‏

إلا أن الغرض في إخراجه على لفظ الحال أن يحكي الحال في أحد الخبرين ويدع الآخر على ظاهره كما كان في‏:‏ ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت‏.‏

إلا أن الماضي في هذا البيت مؤخر معطوف وفي بيت ابن همام وما ذكرناه معه مقدم معطوف عليه فاعرفه‏.‏

فإن دخل حرف نفي على المضارع تغير الحكم فجاء بالواو وبتركها كثيراً وذلك مثل قولهم‏:‏ كنت ولا أخشى بالذئب‏.‏

وقول مسكين الدارمي من الرمل‏:‏ أكسبته الورق البيض أباً ولقد كان ولا يدعى لأب وقول مالك بن رفيع وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير من الوافر‏:‏ أتاني مصعب وبنو أبيه فأين أحيد عنهم لا أحيد أقادوا من دمي وتوعدوني وكنت وما ينهنهني الوعيد كان في هذا كله تامة والجملة الداخل عليها الواو في موضع الحال ألا ترى أن المعنى وجدت غير خاش للذئب‏.‏

ولقد وجد غير مدعو لأب‏.‏

ووجدت غير منهنه بالوعيد وغير مبال به ولا معنى لجعلها ناقصة وجعل الواو مزيدة‏.‏

وليس مجيء الفعل المضارع حالاً على هذا الوجه بعزيز في الكلام‏.‏

ألا تراك تقول‏:‏ جعلت أمشي وما أدري أين أضع رجلي وجعل يقول ولا يدري وقال أبو الأسود‏:‏ يصيب وما يدري‏.‏

وهو شائع كثير‏.‏

فأما مجيء المضارع منفياً حالاً من غير الواو فيكثر ويحسن‏.‏

فمن ذلك قوله من الطويل‏:‏ مضوا لا يريدون الرواح وغالهم من الدهر أسباب جرين على قدر إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد فقوله‏:‏ لا ترى‏:‏ في موضع حال‏.‏

ومثله في اللطف والحسن قول أعشى همدان وصحب عتاب بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمده فقال من الوافر‏:‏ أتينا أصبهان فهزلتنا وكنا قبل ذلك في نعيم وكان سفاهة مني وجهلاً مسيري لا أسير إلى حميم قوله‏:‏ لا أسير إلى حميم‏.‏

حال من ضمير المتكلم الذي هو الياء في مسيري وهو فاعل في المعنى‏.‏

فكأنه قال‏:‏ وكان سفاهة مني وجهلاً أن سرت غير سائر إلى حميم وأن ذهبت غير متوجه إلى قريب‏.‏

وقال خالد بن يزيد بن معاوية من الكامل‏:‏ لو أن قوماً لارتفاع قبيلة دخلوا السماء دخلتها لا أحجب وهوكثير إلا أنه لا يهتدي إلى وضعه بالموضع المرضي إلا من كان صحيح الطبع‏.‏

ومما يجيء بالواو وغير الواو الماضي وهو لا يقع حالاً إلا مع قد مظهرة أو مقدرة‏.‏

أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع كقولك‏:‏ أتاني وقد جهده السير‏.‏

وأما بغير الواو فكقوله من البسيط‏:‏ متى أرى الصبح قد لاحت مخايله والليل قد مزقت عنه السرابيل فآبوا بالرماح مكسرات وأبنا بالسيوف قد انحنينا وقال آخر وهو لطيف جداً من الكامل‏:‏ يمشون قد كسروا الجفون إلى الوغى متبسمين وفيهم استبشار ومما يجيء بالواو في الأكثر الأشيع ثم يأتي في مواضع بغير الواو فيلطف مكانه ويدل على البلاغة الجملة قد دخلها وليس تقول‏:‏ أتاني وليس عليه ثوب ورأيته وليس معه غيره‏.‏

فهذا هو المعروف المستعمل‏.‏

ثم قد جاء بغير الواو فكان من الحسن على ما ترى وهو قول الأعرابي من الرجز‏:‏ لنا فتى وحبذا الأفتاء تعرفه الأرسان والدلاء إذا جرى في كفه الرشاء خلى القليب ليس فيه الماء ومما ينبغي أن يراعى في هذا الباب أنك ترى الجملة قد جاءت حالاً بغير واو ويحسن ذلك‏.‏

ثم تنظر فترى ذلك إنما حسن من أجل حرف دخل عليها مثاله قول الفرزدق من الطويل‏:‏ فقلت‏:‏ عسى أن تبصريني كأنما بني حوالي الأسود الحوارد قوله‏:‏ كأنما بني إلى آخره في موضع الحال من غير شبهة‏.‏

ولو أنك تركت كأن فقلت‏:‏ عسى أن تبصريني بني حوالي كالأسود‏.‏

رأيته لا يحسن حسنه الأول ورأيت الكلام يقتضي الواو كقولك‏:‏ وشبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالاً بعقب مفرد فلطف مكانها‏.‏

ولو أنك أردت أن تجعلها حالاً من غير أن يتقدمها ذلك المفرد لم يحسن‏.‏

مثال ذلك قول ابن الرومي من السريع‏:‏ والله يبقيك لنا سالماً برداك تبجيل وتعظيم فقوله‏:‏‏.‏

برداك تبجيل في موضع حال ثانية‏.‏

ولو أنك أسقطت سالماً من البيت قلت والله يبقيك برداك تبجيل‏.‏

لم يكن شيئاً‏.‏

وإذ قد رأيت الجمل الواقعة حالاً قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر فلا بد من أن يكون ذلك إنما كان من أجل علل توجبه وأسباب تقتضيه‏.‏

فمحال أن يكون هاهنا جملة لا تصح إلا مع الواو وأخرى لا تصلح فيها الواو وثالثة تصلح أن تجيء فيها بالواو وأن تدعها فلا تجيء بها‏.‏

ثم لا يكون لذلك سبب وعلة‏.‏

وفي الوقوف على العلة في ذلك إشكال وغموض‏.‏

ذاك لأن الطريق إليه غير مسلوك والجهة التي منها تعرف غير معروفة‏.‏

وأنا أكتب لك أصلاً في الخبر إذا عرفته انفتح لك وجه العلة في ذلك‏.‏

واعلم أن الخبر ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه وخبر ليس جزء من الجملة ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له‏.‏

فالأول خبر المبتدأ كمنطلق في قولك‏:‏ زيد منطلق‏.‏

والفعل كقولك‏:‏ خرج زيد‏.‏

وكل واحد من هذين جزء من الجملة وهو الأصل في الفائدة‏.‏

والثاني هو الحال كقولك‏:‏ جاءني زيد راكباً‏.‏

وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة من حيث إنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبته بالخبر للمبتدأ وبالفعل للفاعل‏.‏

ألا تراك قد أثبت الركوب في قولك‏:‏ جاءني زيد راكباً لزيد إلا أن الفرق أنك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه‏.‏

ولم تجرد إثباتك للركوب ولم تباشره به ابتداء بل بدأت فأثبت المجيء ثم وصلت به الركوب‏.‏

فالتبس به الإثبات على سبيل التبع لغيره وبشرط أن يكون في صلته‏.‏

وأما في الخبر المطلق نحو زيد منطلق وخرج عمرو فإنك أثبت المعنى إثباتاً جردته له وجعلته يباشره من غير واسطة ومن غير أن تتسبب بغيره إليه‏.‏

وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن كل جملة وقعت حالاً ثم امتنعت من الواو فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد‏.‏

وكل جملة جاءت حالاً ثم اقتضت الواو فذاك لأنك مستأنف بها خبراً وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات‏.‏

تفسير هذا أنك إذا قلت‏:‏ جاءني زيد يسرع‏.‏

كان بمنزلة قولك‏:‏ جاءني زيد مسرعاً‏.‏

في أنك تثبت مجيئاً فيه إسراع وتصل أحد المعنيين بالآخر وتجعل الكلام خبراً واحداً وتريد أن تقول‏:‏ جاءني كذلك وجاءني بهذه الهيئة‏.‏

وهكذا قوله‏:‏ كأنه قال‏:‏ وقد علوت قتود الرحل بارزاً للشمس ضاحياً‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ متى أرى الصبح قد لاحت مخايله لأنه في معنى‏:‏ متى أرى الصبح بادياً لائحاً بيناً متجلياً وعلى هذا القياس أبداً‏.‏

وإذا قلت‏:‏ جاءني وغلامه يسعى بين يديه ورأيت زيداً وسيفه على كتفه‏.‏

كان المعنى على أنك بدأت فأثبت المجيء والرؤية ثم استأنفت خبراً وابتدأت إثباتاً ثانياً لسعي الغلام بين يديه ولكون السيف على كتفه‏.‏

ولما كان المعنى على استئناف الإثبات احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى فجيء بالواو كما جيء بها في قولك‏:‏ زيد منطلق وعمرو ذاهب‏.‏

والعلم حسن والجهل قبيح‏.‏

وتسميتنا لها واو الحال لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة‏.‏

ونظيرها في هذا الفاء في جواب الشرط نحو‏:‏ إن تأتني فأنت مكرم فإنها وإن لم تكن عاطفة فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شأنها أن ترتبط بنفسها فاعرف ذلك ونزل الجملة في نحو‏:‏ جاءني زيد يسرع وقد علوت قتود الرحل يسفعني يوم منزلة الجزاء الذي يستغني عن الفاء لأن من شأنه أن يرتبط بالشرط من غير رابط وهو قولك‏:‏ إن تعطني أشكرك‏.‏

ونزل الجملة في‏:‏ جاءني زيد وهو راكب منزلة الجزاء الذي ليس من شأنه أن يرتبط بنفسه ويحتاج إلى الفاء كالجملة في نحو‏:‏ إن تأتني فأنت مكرم قياساً سوياً فإن قلت‏:‏ لقد علمنا أن علة دخول الواو على الجملة أن تستأنف الإثبات ولا تصل المعنى الثاني بالأول في إثبات واحد ولا تنزل الجملة منزلة المفرد‏.‏

ولكن بقي أن تعلم لم كان بعض الجمل بأن يكون تقديرها تقدير المفرد في أن لا يستأنف بها الإثبات أولى من بعض وما الذي منع في قولك‏:‏ جاءني زيد وهو يسرع أو وهو مسرع أن يدخل الإسراع في صلة المجيء ويضامه في الإثبات كما كان ذلك حين قلت‏:‏ جاءني زيد يسرع‏.‏

فالجواب أن السبب في ذلك أن المعنى في قولك‏:‏ جاءني زيد وهو يسرع على استئناف إثبات للسرعة ولم يكن ذلك في‏:‏ جاءني زيد يسرع‏.‏

وذلك أنك إذا أعدت ذكر زيد فجئت بضميره المنفصل المرفوع كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحاً فتقول‏:‏ جاءني زيد وزيد يسرع‏.‏

في أنك لا تجد سبيلاً إلى أن تدخل يسرع في صلة المجيء وتضمه إليه في الإثبات‏.‏

وذلك أن إعادتك ذكر زيد لا تكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع وحتى تبتدىء إثباتاً للسرعة لأنك إن لم تفعل ذلك تركت المبتدأ الذي هو ضمير زيد أو اسمه الظاهر بمضيعة وجعلته لغواً في البين وجرى مجرى أن تقول‏:‏ جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه‏.‏

ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاماً ولم تبتدىء للسرعة إثباتاً وأن حال يسرعها هاهنا حاله إذا قلت‏:‏ جاءني زيد يسرع‏.‏

فجعلت السرعة له ولم تذكر عمراً وذلك محال‏.‏

فإن قلت‏:‏ إنما استحال في قولك‏:‏ جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه أن ترد يسرع إلى زيد وتنزله منزلة قولك‏:‏ جاءني زيد يسرع من حيث كان في يسرع ضمير لعمرو وتضمنه ضمير عمرو يمنع أن يكون لزيد وأن يقدر حالاً له‏.‏

وليس كذلك‏:‏ جاءني زيد يسرع لأن السرعة هناك لزيد لامحالة فكيف ساغ أن تقيس إحدى المسألتين على الأخرى قيل‏:‏ ليس المانع أن يكون يسرع في قولك‏:‏ جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه حالاً من زيد فعل لعمرو‏.‏

فإنك لو أخرت عمراً فرفعته بيسرع وأوليت يسرع زيداً فقلت‏:‏ جاءني يسرع عمرو أمامه‏.‏

وجدته قد صلح حالاً لزيد مع أنه فعل لعمر وإنما المانع ما عرفتك من أنك تدع عمراً بمضيعة وتجيء به مبتدأ لا تعطيه خبراً‏.‏

ومما يدل على فساد ذلك أنه يؤدي إلى أن يكون إيسرع قد اجتمع في موضعه النصب والرفع وذلك أن جعله حالاً زيد يقتضي أن يكون في موضع نصب وجعله خبراً عن عمرو المرفوع بالابتداء في يكون في موضع رفع‏.‏

وذلك بين التدافع‏.‏

ولا يجب هذا التدافع إذا أخرت عمراً فقلت جاءني زيد يسرع عمرو أمامه‏.‏

لأنك ترفعه بيسرع على أنه فاعل له‏.‏

وإذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعراباً فيبقى مفرغاً لأن يقدر فيه النصب على أنه حال من زيد وجرى مجرى أن تقول‏:‏ جاءني زيد مسرعاً عمرو أمامه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد ينبغي على هذا الأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالاً إلا مع الواو وقد ذكرت قبل أن ذلك قد جاء في مواضع من كلامهم فالجواب أن القياس والأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالاً إلا مع الواو‏.‏

وأما الذي جاء من ذلك فسبيله سبيل الشيء يخرج عن أصله وقياسه والظاهر فيه بضرب من التأويل ونوع من التشبيه‏.‏

فقولهم‏:‏ كلمته فوه إلى في إنما حسن بغير واو من أجل أن المعنى كلمته مشافهاً له‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ رجع عوده على بدئه إنما جاء الرفع فيه والابتداء من غير واو لأن المعنى‏:‏ رجع ذاهباً في طريقه الذي جاء فيه‏.‏

وأما قوله‏:‏ وجدته حاضراه‏:‏ الجود والكرم فلأن تقديم الخبر الذي هو حاضراه يجعله كأنه قال‏:‏ وجدته حاضراً عنده الجود والكرم‏.‏

وليس الحمل على المعنى وتنزيل الشيء منزلة غيره بعزيز في كلامهم وقد قالوا‏:‏ زيد اضربه‏.‏

فأجازوا أن يكون مثال الأمر في موضع الخبر لأن المعنى على النصب نحو‏:‏ اضرب زيداً ووضعوا الجملة من المبتدأ والخبر موضع الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أدعوتموهم أم أنتم صامتون ‏"‏ لأن الأصل في المعادلة أن تكون الثانية كالأولى نحو أدعوتموهم أم صمتم‏.‏

ويدل على أن ليس مجيء الجملة من المبتدأ والخبر حالاً بغير الواو أصلاً قلته وأنه لا يجيء إلا في الشيء بعد الشيء‏.‏

هذا ويجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنما جاء على إرادة الواو كما جاء الماضي على إرادة قد‏.‏

واعلم أن الوجه فيما كان مثل قول بشار‏:‏ أن يؤخذ فيه بمذهب أبي الحسن الأخفش فيرفع سواد بالظرف دون الابتداء ويجري الظرف هاهنا مجراه إذا جرت الجملة صفة على النكرة نحو‏:‏ مررت برجل معه صقر صائداً به غداً‏.‏

وذلك أن صاحب الكتاب يوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع صقر بما في معه من الفعل‏.‏

فلذلك يجوز أن يجري الحال مجرى الصفة فيرفع الظاهر بالظرف إذا هو جاء حالاً فيكون ارتفاع سواد بما في علي من معنى الفعل لا بالابتداء‏.‏

ثم ينبغي أن يقدر هاهنا خصوصاً أن الظرف في تقدير اسم فاعل لا فعل أعني أن يكون المعنى خرجت كائناً علي سواد أو باقياً علي سواد ولا يقدر يكون سواد علي ويبقى علي سواد اللهم إلا أن تقدر فيه فعلاً ماضياً مع قد كقولك‏:‏ خرجت مع البازي قد بقي علي سواد‏.‏

والأول أظهر‏.‏

وإذا تأملت الكلام وجدت الظرف وقد وقع مواقع لا يستقيم فيها إلا أن يقدر تقدير اسم فاعل‏.‏

ولذلك قال أبو بكر بن السراج في قولنا‏:‏ زيد في الدار إنك مخير بين أن تقدر فيه فعلاً فتقول‏:‏ استقر في الدار وبين أن تقدر اسم فاعل فتقول‏:‏ مستقر في الدار‏.‏

وإذا عاد الأمر إلى هذا كان الحال في ترك الواو ظاهرة وكان سواد في قوله‏:‏ خرجت مع البازي علي سواد بمنزلة قضاء الله في قوله من الطويل‏:‏ سأغسل عني العار بالسيف جالباً علي قضاء الله ماكان جالبا في كونه اسماً ظاهراً قد ارتفع باسم فاعل قد اعتمد على ذي حال فعمل عمل الفعل‏.‏

ويدلك على أن التقدير فيه ما ذكرت وأنه من أجل ذلك حسن أنك تقول‏:‏ جاءني زيد والسيف على كتفه وخرج والتاج عليه‏.‏

فتجده لا يحسن إلا بالواو وتعلم أنك لو قلت‏:‏ جاءني زيد السيف على كتفه وخرج التاج عليه‏.‏

كان كلاماً نافراً لا يكاد يقع في الاستعمال وذلك لأنه بمنزلة قولك‏:‏ جاءني وهو متقلد سيفه وخرج وهو لابس التاج‏.‏

في أن المعنى على أنك استأنفت كلاماً وابتدأت إثباتاً وأنك لم ترد‏.‏

جاءني كذلك‏.‏

ولكن جاءني وهو كذلك فاعرفه‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:49 am

الفصل والوصل

بسم الله الرحمن الرحيم الفصل والوصل اعلم أن العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد أخرى من أسرار البلاغة ومما لا يتأتى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص وإلا قوم طبعوا على البلاغة وأوتوا فناً من المعرفة في فوق الكلام هم بها أفراد‏.‏

وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حداً للبلاغة فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال‏:‏ معرفة الفصل من الوصل‏.‏

ذاك لغموضه ودقة مسلكه وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة

واعلم أن سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها ونتعرف حالها‏.‏

ومعلوم أن فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول‏.‏

وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له شريك له في ذلك‏.‏

وإذا كان هذا أصله في المفرد فإن الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين‏:‏ أحدهما أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب‏.‏

وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد إذ لا يكون للجملة موضغ من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد‏.‏

وإذا كانت الجملة الأولى واقعة موقع المفرد كان عطف الثانية عليها جارياً مجرى عطف المفرد وكانت وجه الحاجة إلى الواو ظاهراً والإشراك بها في الحكم موجوداً‏.‏

فإذا قلت‏:‏ مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح‏.‏

كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى وذلك الحكم كونها في موضع جر بأنها صفة للنكرة‏.‏

ونظائر ذلك تكثر والأمر في يسهل‏.‏

والذي يشكل أمره هو الضرب الثاني وذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى كقولك‏:‏ زيد قائم وعمرو قاعد والعلم حسن والجهل قبيح‏.‏

سبيل لنا إلى أن ندعي أن الواو أشركت الثانية في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجوه وإذا كان كذلك فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف والمغزى منه‏.‏

ولم لم يستو الحال بين أن تعطف وبين أن تدع العطف فتقول‏:‏ زيد قائم عمرو قاعد بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى والثانية فيه‏.‏

واعلم أنه إنما يعرض الإشكال في الواو دون غيرها من حروف العطف وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني مثل أن الفاء توجب الترتيب من غير تراخ وثم توجبه مع تراخ و أو تردد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه فإذا عطفت بواحد منها الجملة على الجملة ظهرت الفائدة‏.‏

فإذا قلت‏:‏ أعطاني فشكرت ظهر بالفاء أن الشكر كان معقباً على العطاء ومسبباً عنه‏.‏

وإذا قلت‏:‏ خرجت ثم خرج زيد‏.‏

أفادت ثم أن خروجه كان بعد خروجك وأن مهلة وقعت بينهما‏.‏

وإذا قلت‏:‏ يعطيك أو يكسوك‏.‏

دلت أو على أنه يفعل واحداً منهما لا بعينه‏.‏

وليس للواو معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأول‏.‏

فإذا قلت‏:‏ جاءني زيد وعمرو‏.‏

لم تفد بالواو شيئاً أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبته لزيد والجمع بينه وبينه ولا يتصور إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه‏.‏

وإذا كان ذلك كذلك ولم يكن معنا في قولنا‏:‏ زيد قائم وعمرو قاعد معنى تزعم أن الواو أشركت بين هاتين الجملتين في ثبت إشكال المسألة‏.‏

ثم إن الذي يوجبه النظر والتأمل أن يقال في ذلك‏:‏ إنا وإن كنا إذا قلنا‏:‏ زيد قائم وعمرو قاعد فإنا لا نرى هاهنا حكماً نزعم أن الواو جاءت للجمع بين الجملتين فيه فإنا نرى أمراً آخر نحصل معه على معنى الجمع وذلك أنا لا نقول‏:‏ زيد قائم وعمرو قاعد حتى يكون عمرو بسبب من زيد وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين وبحيث إذا عرف السامع حال الأول عناه أن يعرف حال الثاني‏.‏

يدلك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئاً ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر بذكره ويتصل حديثه بحديثه لم يستقم‏.‏

فلو قلت‏:‏ خرجت اليوم من داري‏.‏

ثم قلت‏:‏ وأحسن الذي يقول بيت كذا‏.‏

قلت ما يضحك منه‏.‏

ومن هاهنا عابوا أبا تمام في قوله من الكامل‏:‏ لا والذي هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك‏.‏

واعلم أنه كما يجب أن يكون المحدث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدث عنه في الأخرى كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر في الأول‏.‏

فلو قلت‏:‏ زيد طويل القامة وعمرو شاعر‏.‏

كان خلفاً لأنه لا مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشعر وإنما الواجب أن يقال‏:‏ زيد كاتب وعمرو شاعر وزيد طويل القامة وعمرو قصير‏.‏

وجملة الأمر أنها لا تجيء حتى يكون المعنى في هذه الجملة لفقاً للمعنى في الأخرى ومضافاً له مثل أن زيداً وعمراً إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة كانت الحال التي يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الأخر من غير شك‏.‏

وكذا السبيل أبداً والمعاني في ذلك كالأشخاص‏.‏

فإنما قلت مثلاً‏:‏ العلم حسن والجهل قبيح‏.‏

لأن كون العلم حسناً مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحاً‏.‏

واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحداً كقولنا‏:‏ هو يقول ويفعل ويضر وينفع ويسيء ويحسن ويأمر وينهى ويحل ويعقد ويأخذ ويعطي ويبيع ويشتري ويأكل ويشرب وأشباه ذلك ازداد معنى الجمع في الواو قوة وظهوراً وكان الأمر حينئذ صريحاً‏.‏

وذلك أنك إذا قلت‏:‏ هو يضر وينفع‏.‏

كنت قد أفدت بالواو أنك أوجبت له الفعلين جميعاً وجعلته يفعلهما معاً‏.‏

ولو قلت‏:‏ يضر ينفع من غير واو لم يجب ذلك بل قد يجوز أن يكون قولك‏:‏ ينفع رجوعاً عن قولك يضر وإبطالاً له‏.‏

وإذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصلة ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصور تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر وذلك في مثل قولك‏:‏ العجب من أني أحسنت وأسأت ويكفيك ما قلت وسمعت وأيحسن تنهى عن شيء وتأتي مثله وذلك أنه لا يشبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين حكم فعل واحد‏.‏

ومن البين في ذلك قوله‏:‏ لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا المعنى‏:‏ لا تطمعوا أن تروا إكرامنا وقد وجد مع إهانتكم وجامعها في الحصول ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام من الطويل‏:‏ لهان علينا أن نقول وتفعلا ونذكر بعض الفصل منك وتفضلا وأعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به وكالتأكيد الذي يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد كذلك يكون في الجمل ما تتصل من ذات نفسها بالتي قبلها وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها وهي كل جملة كانت مؤكدة للتي قبلها ومبينة لها‏.‏

وكانت إذا حصلت لم تكن شيئاً سواها كما لا تكون الصفة غير الموصوف والتأكيد غير المؤكد‏.‏

فإذا قلت‏:‏ جاءني زيد الظريف وجاءني القوم كلهم لم يكن ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه ‏"‏ قوله ‏"‏ لا ريب فيه ‏"‏ بيان وتوكيد وتحقيق لقوله‏:‏ ‏"‏ ذلك الكتاب ‏"‏ وزيادة تثبيت له وبمنزلة أن تقول‏:‏ هو ذلك الكتاب هو ذلك الكتاب فتعيده مرة ثانية لتثبته‏.‏

وليس تثبيت الخبر غير الخبر ولا شيء يتميز به عنه فيحتاج إلى ضام يضمه إليه وعاطف يعطفه عليه‏.‏

ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏.‏

ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ‏"‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يؤمنون ‏"‏ تأكيذ لقوله ‏"‏ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ‏"‏ تأكيد ثان أبلغ من الأول لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر كان في غاية الجهل وكان مطبوعاً على قلبه لا محالة‏.‏

وكذلك قوله عز وجل ‏"‏ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله ‏"‏ إنما قال‏:‏ ‏"‏ يخادعون ‏"‏ ولم يقل‏:‏ ويخادعون لأن هذه المخادعة ليست شيئاً غير قولهم‏:‏ آمنا من غير أن يكونوا مؤمنين‏.‏

فهو إذاً كلام أكد به كلام آخر هو في معناه وليس شيئاً سواه وهكذا قوله عز وجل ‏"‏ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ‏"‏‏.‏

وذلك لأن معنى قولهم‏:‏ ‏"‏ إنا معكم لم أنا لم نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم نترك اليهودية وقولهم‏:‏ ‏"‏ إنما نحن مستهزئون ‏"‏ خبر بهذا المعنى بعينه لأنه لا فرق بين أن يقولوا‏:‏ إنا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلا استهزاء‏.‏

وبين أن يقولوا‏:‏ إنا لم نخرج من دينكم وإنا معكم‏.‏

بل هما في حكم الشيء الواحد‏.‏

فصار كأنهم قالوا‏:‏ إنا معكم لم نفارقكم‏.‏

فكما لا يكون إنا لم نفارقكم أنا شيئاً غير أنا معكم كذلك لا يكون إنما نحن مستهزئون غيره فاعرفه‏.‏

ومن الواضح البين في هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً ‏"‏ لم يأت معطوفاً نحو وكأن في أذنيه وقراً لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع إلا أن الثاني أبلغ وآكد في الذي اريد‏.‏

وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعاً أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه ويكون لها تأثير فيه وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل‏.‏

ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك من حيث كان من لا يصح منه السمع وإن أراد ذلك أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة من الذي يصح منه السمع إلا أنه لا يسمع إما اتفاقاً وإما قصداً إلى أن لا يسمع فاعرفه وأحسن تدبره‏.‏

ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ‏"‏ وذلك أن قوله‏:‏ ‏"‏ إن هذا إلا ملك كريم ‏"‏ مشابك لقوله‏:‏ ‏"‏ ما هذا بشراً ‏"‏ ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه‏:‏ وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد ووجه هو فيه شبيه بالصفة‏.‏

فأحد وجهي كونه شبيهاً بالتأكيد هو أنه إذا كان ملكاً لم يكن بشراً وإذا كان كذلك كان إثبات كونه ملكاً تحقيقاً لا محالة وتأكيداً لنفي أن يكون بشراً‏.‏

والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل‏:‏ ما هذا بشراً وما هذا بآدمي والحال حال تعظيم وتعجب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك وأن يكنى به ذلك حتى إنه يكون مفهوم اللفظ‏.‏

وإذا كان مفهوماً من اللفظ قبل أن يذكر كان ذكره إذا ذكر تأكيداً لا محالة لأن حد التأكيد أن تحقق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك‏.‏

أفلا ترى أنه إنما كان كلهم في قولك‏:‏ جاءني القوم كلهم تأكيداً من حيث كان الذي فهم منه وهو الشمول قد فهم بديئاً من ظاهر لفظ القوم‏.‏

ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ القوم ولا كان هو من موجبه لم يكن كل تأكيداً ولكان الشمول مستفاداً من كل ابتداء‏.‏

وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة فهو أنه إذا نفي أن يكون بشراً فقد أثبت جنس سواه إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر ثم لا يدخل في جنس آخر وإذا كان الأمر كذلك كان إثباته ملكاً تبييناً وتعييناً لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول‏:‏ فإن لم يكن بشراً فما هو وما جنسه كما أنك إذا قلت‏:‏ مررت بزيد الظريف كان الظريف تبييناً وتعييناً للذي أردت من بين من له هذا الاسم وكنت قد أغنيت المخاطب ومما جاء فيه الإثبات بإن وإلا على هذا الحد قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ‏"‏‏.‏

فلا ترى أن الإثبات في الآيتين جميعاً تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي‏.‏

فإثبات ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأوحي إليه ذكراً وقرآناً تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علم الشعر‏.‏

وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحياً من الله تعالى تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى‏.‏

وأعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول إنه فيه خفي غامض ودقيق صعب وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب‏.‏

وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف‏:‏ إن الكلام قد استؤنف وقطع عما قبله لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك‏.‏

ولقد غفلوا غفلة شديدة‏.‏

ومما هو أصل في هذا الباب أنك ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ‏"‏ الظاهر كما لا لايخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله‏:‏ ‏"‏ إنما نحن مستهزئون ‏"‏ وذلك أنه ليس بأجنبي منه بل هو نظير ما جاء معطوفاً من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يخادعون الله وهو خادعهم ‏"‏ وقوله ‏"‏ ومكروا ومكر الله ‏"‏‏.‏

وما أشبه ذلك مما يرد فيه العجز على الصدر‏.‏

ثم إنك تجده قد جاء غيرمعطوف وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف وهو أن قوله‏:‏ ‏"‏ إنما نحن مستهزئون ‏"‏ حكاية عنهم أنهم قالوا وليس بخبر من الله تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ‏"‏ خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم‏.‏

وإذا كان كذلك كان العطف ممتنعاً لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى معطوفاً على ما هو حكاية عنهم‏.‏

ولا يجاب ذلك أن يخرج من كونه خبراً من الله تعالى إلى كونه حكاية عنهم وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون وأن الله تعالى يعاقبهم عليه‏.‏

وليس كذلك الحال في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يخادعون الله وهو خادعهم ‏"‏‏.‏

‏"‏ ومكروا ومكر الله ‏"‏ لأن الأول من الكلامين فيهما كالثاني في أنه خبر من الله تعالى وليس بحكاية‏.‏

وهذا هو العلة في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون‏.‏

إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ‏"‏‏.‏

إنما جاء ‏"‏ إنهم هم المفسدون ‏"‏ مستأنفاً مفتتحاً بألا لأنه خبر من الله تعالى بأنهم كذلك‏.‏

والذي قبله من قوله ‏"‏ إنما نحن مصلحون ‏"‏ حكاية عنهم‏.‏

فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدمت ذكره من الدخول في الحكاية ولصار خبراً من اليهود ووصفاً منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون‏.‏

ولصار كأنه قيل‏:‏ قالوا إنما نحن مصلحون وقالوا إنهم هم المفسدون‏.‏

وذلك ما لا يشك في فساده‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ‏"‏‏.‏

ولو عطف ‏"‏ إنهم هم السفهاء ‏"‏ على ما قبله لكان يكون قد أدخل في الحكاية ولصار حديثاً منهم عن أنفسهم بأنهم هم السفهاء من بعد أن زعموا أنهم إنما تركوا أن يؤمنوا لئلا يكونوا من السفهاء على أن في هذا أمراً آخر وهو أن قوله‏:‏ ‏"‏ أنؤمن ‏"‏ استفهام ولا يعطف الخبر على الاستفهام فإن قلت‏:‏ هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ‏"‏ على ‏"‏ قالوا ‏"‏ من قوله‏:‏ ‏"‏ قالوا إنا معكم ‏"‏ لا على ما بعده وكذلك كان يفعل في ‏"‏ إنهم هم المفسدون ‏"‏ ‏"‏ وإنهم هم السفهاء ‏"‏‏.‏

وكان يكون نظير قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ‏"‏‏.‏

وذلك أن قوله‏:‏ ‏"‏ ولو أنزلنا ملكاً ‏"‏ معطوف من غير شك على ‏"‏ قالوا ‏"‏ دون ما بعده قيل إن حكم المعطوف على ‏"‏ قالوا ‏"‏ فيما نحن فيه مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت وذلك أن ‏"‏ قالوا ‏"‏ هاهنا جواب شرط‏.‏

فلو عطف قوله‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ‏"‏ عليه للزم إدخاله في حكمه من كونه جواباً وذلك لا يصح‏.‏

وذاك أنه متى عطف على جواب الشرط شيء بالواو كان ذلك على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكونا شيئين يتصور وجود كل واحد منهما دون الآخر ومثاله قولك‏:‏ إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون المعطوف شيئاً لا يكون حتى يكون المعطوف عليه‏.‏

ويكون الشرط لذلك سبباً فيه بوساطة كونه سبباً للأول ومثاله قولك‏:‏ إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنتة وخرجت فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان وقد صار الرجوع سبباً في الخروج من أجل كونه سبباً في الاستئذان‏.‏

فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين نحو‏:‏ إذا رجع الأمير استأذنت وإذا استأذنت خرجت‏.‏

وإذ قد عرفت ذلك فإنه لو عطف قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ‏"‏ على ‏"‏ قالوا ‏"‏ كما زعمت كان الذي يتصور فيه أن يكون من هذا الضرب الثاني وأن يكون المعنى ‏"‏ وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ‏"‏‏.‏

فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ومدهم في طغيانهم يعمهون‏.‏

وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم فليس هو بمستقيم وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إياه في قولهم إنا آمنا لا على أنهم حدثوا عن أنفسهم بأنهم مستهزئون والعطف على ‏"‏ قالوا ‏"‏ يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء لا عليه نفسه‏.‏

ويبين ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء وفعلهم له لا على حديثهم عن أنفسهم بإنا مستهزئون أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم‏:‏ ‏"‏ إنما نحن مستهزئون ‏"‏‏:‏ وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام وأن يسلموا من شرهم وأن يوهموهم أنهم منهم وإن لم يكونوا كذلك لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان لا في القول‏:‏ إنا استهزأنا من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونية‏.‏

هذا وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف وهو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا‏:‏ كيت وكيت تحرك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم وما يصنع بهم وأتنزل بهم النقمة عاجلاً أم لا تنزل ويمهلون وتوقع في أنفسهم التمني لأن يتبيين لهم ذلك‏.‏

وإذا كان كذلك كان هذا الكلام الذي هو قوله‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ‏"‏ في معنى ما صدر جواباً عن هذا المقدر وقوعه في أنفس السامعين‏.‏

وإذا كان مصدره كذلك كان حقه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف ليكون في صورته إذا قيل‏:‏ فإن سألتم قيل لكم‏:‏ ‏"‏ الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالاً منزلته إذا صرح بذلك السؤال كثيراً‏.‏

فمن لطيف ذلك قوله من الكامل‏:‏ زعم العواذل أنني في غمرة صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي لما حكى عن العواذل أنهم قالوا‏:‏ هو في غمرة‏.‏

وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأله فيقول‏:‏ فما قولك في ذلك وما جوابك عنه أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له وصار كأنه قال‏:‏ أقول صدقوا أنا كما قالوا ولكن لا مطمع لهم في فلاحي‏.‏

ولو قال‏:‏ زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا لكان يكون لم يصح في نفسه أنه مسؤول وأن كلامه كلام مجيب‏.‏

ومثله قول الآخر في الحماسة من الكامل‏:‏ زعم العواذل أن ناقة جندب بجنوب خبت عريت وأجمت كذب العواذل لو رأين مناخنا بالقادسية قلن‏:‏ لج وذلت وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب تأكيداً بأن وضع الظاهر موضع المضمر فقال‏:‏ كذب العواذل ولم يقل‏:‏ كذبن‏.‏

وذلك أنه لما أعاد ذكر العواذل ظاهراً كا ذلك أبين وأقوى لكونه كلاماً مستأنفاً من حيث وضعه وضعاً لا يحتاج فيه إلى ما قبله وأتى فيه مأتى ما ليس قبله كلام‏.‏

ومما هو على ذلك قول الآخر من الوافر‏:‏ زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف وذلك أن قوله‏:‏ لهم إلف تكذيب لدعواهم أنهم من قريش‏.‏

فهو إذاً بمنزلة أن يقول‏:‏ كذبتم لهم إلف وليس لكم ذلك‏.‏

ولو قال‏:‏ زعمتم أن إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف لصار بمنزلة أن يقول‏:‏ زعمتم أن إخوتكم قريش وكذبتم في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعاً على أنه جواب سائل يقول له‏:‏ فماذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم فاعرفه‏.‏

واعلم أنه لو أظهر كذبتم لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله‏:‏ لهم إلف عليه بالفاء فيقول‏:‏ كذبتم فلهم إلف وليس لكم ذلك‏.‏

أما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتة لأنه يصير حينئذ معطوفاً بالفاء على قوله‏:‏ زعمتم أن إخوتكم قريش وذلك يخرج إلى المحال من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله‏:‏ لهم إلف‏.‏

على أن هذا الزعم كان منهم كما أنك إذا قلت‏:‏ كذبتم فلهم إلف كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا فاعرف ذلك‏.‏

ومن اللطيف في الاستئناف على معنى جعل الكلام جواباً في التقدير قول اليزيدي من السريع‏:‏ ملكته حبلي ولكنه ألقاه من زهد على غاربي وقال‏:‏ إني في الهوى كاذب انتقم الله من الكاذب استأنف قوله‏:‏ انتقم الله من الكاذب لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلاً قال له‏:‏ فما تقول فيما اتهمك به من أنك كاذب فقال‏:‏ أقول‏:‏ انتقم الله من الكاذب‏.‏

ومن النادر أيضاً في ذلك قول الآخر من الخفيف‏:‏ قال لي‏:‏ كيف أنت قلت‏:‏ عليل سهر دائم وحزن طويل لما كان في العادة إذا قيل للرجل‏:‏ كيف أنت فقال‏:‏ عليل أن يسأل ثانياً فيقال‏:‏ ما بك وما علتك قدر كأنه قد قيل له ذلك فأتى بقوله‏:‏ سهر دائم جواباً عن هذا السؤال المفهوم من ومن الحسن البين في ذلك قول المتنبي من الوافر‏:‏ وماعفت الرياح له محلا عفاه من حدا بهم وساقا لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح وأن تكون التي فعلت ذلك وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل‏:‏ لم يفعله فلان أن يقال فمن فعله قدر كأن قائلاً قال‏:‏ قد زعصت أن الرياح لم تعف له محلاً فما عفاه إذاً فقال مجيباً له‏:‏ عفاه من حدا بهم وساقا‏.‏

ومثله قول الوليد بن يزيد من الهزج‏:‏ عرفت المنزل الخالي عفا من بعد أحوال عفاه كل حنان عسوف الوبل هطال لما قال‏:‏ عفا من بعد أحوال قدر كأنه قيل له‏:‏ فما عفاه فقال‏:‏ عفاه كل حنان‏.‏

واعلم أن السؤال إذا كان ظاهراً مذكوراً في مثل هذا كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب ويقتصر على الاسم وحده‏.‏

فأما مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل‏.‏

تفسير هذا أنه يجوز لك إذا قيل‏:‏ إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه أن تقول‏:‏ من حدا بهم وساقا ولا تقول‏:‏ عفاه من حدا‏.‏

كما تقول في جواب من يقول‏:‏ من فعل هذا زيد‏.‏

ولا يجب أن تقول‏:‏ فعله زيد‏.‏

وأما إذا لم يكن السؤال مذكوراً كالذي عليه البيت فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل‏.‏

فلو قلت مثلا‏:‏ وما عفت الرياح له محلاً من حدا بهم وساقا تزعم أنك أردت عفاه من حدا بهم ثم تركت ذكر الفعل أحلت لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكوراً لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن إلى العلم به سبيل فاعرف ذلك‏.‏

واعلم أن الذى تراه في التنزيل من لفظ قال مفصولاً غير معطوف هذا هو التقدير فيه والله أعلم‏.‏

أعني مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين‏.‏

إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون‏.‏

فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين‏.‏

فقربه إليهم قال ألا تأكلون‏.‏

فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف ‏"‏ جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السؤال‏.‏

فلما كان في العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم‏:‏ دخل قوم على فلان فقالوا كذا أن يقولوا‏:‏ فما قال هو ويقول المجيب‏:‏ قال كذا أخرج الكلام ذلك المخرج لأن الناس خوطبوا بما يتعارفونه وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ قال ألا تأكلون ‏"‏ وذلك أن قوله‏:‏ ‏"‏ فجاء بعجل سمين فقربه إليهم ‏"‏ يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول فكأنه قيل والله أعلم‏:‏ فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم فأتى قوله‏:‏ ‏"‏ قال ألا تأكلون ‏"‏ جواباً عن ذلك‏.‏

وكذا ‏"‏ قالوا لا تخف ‏"‏ لأن قوله‏:‏ ‏"‏ فأوجس منهم خيفة ‏"‏ يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره‏.‏

فكأنه قيل‏:‏ فما قالوا حين رأوه وقد تغير ودخلته الخيفة فقيل‏:‏ ‏"‏ قالوا لا تخف ‏"‏ وذلك والله أعلم المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته كالذي يجيء في قصة فرعون عليه اللعنة وفي رد موسى عليه السلام كقوله‏:‏ ‏"‏ قال فرعون وما رب العالمين‏.‏

قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين‏.‏

قال لمن حوله ألا تستمعون‏.‏

قال ربكم ورب أبائكم الأولين‏.‏

قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‏.‏

قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‏.‏

قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين‏.‏

قال أو لو جئتك بشيء مبين‏.‏

قال فأت به إن كنت من الصادقين ‏"‏ جاء ذلك كله والله أعلم على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين فلما كان السامع إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال‏:‏ ‏"‏ وما رب العالمين ‏"‏ وقع في نفسه أن يقول‏:‏ فما قال موسى له أتى قوله‏:‏ ‏"‏ قال رب السماوات والأرض ‏"‏ مأتى الجواب مبتدأ مفصولاً غير معطوف‏.‏

وهكذا التقدير والتفسير أبداً في كل ما جاء فيه لفظ قال هذا المجيء‏.‏

وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشد وضوحاً‏.‏

فمما هو في غاية الوضوح قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قال فما خطبكم أيها المرسلون‏.‏

قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ‏"‏ وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب وعلى أن ينزل السامعون كأنهم قالوا‏:‏ فما قال له الملائكة فقيل‏:‏ ‏"‏ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ‏"‏‏.‏

وكذلك قوله عز وجل في سورة يس‏:‏ ‏"‏ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون‏.‏

إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون‏.‏

قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون‏.‏

وما علينا إلا البلاغ المبين‏.‏

قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم‏.‏

قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون‏.‏

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين‏.‏

اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ‏"‏ التقدير الذي قدرناه من معنى السؤال والجواب بين في ذلك كله ونسأل الله التوفيق للصواب والعصمة من الزلل‏.‏

الفصل والوصل الأصول العامة لوصل الجمل

وفصلها وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها فاعلم أنا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب‏.‏

جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد‏.‏

فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه‏.‏

وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أنه يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه فيكون حقها العطف‏.‏

وجملة ليست في شيء من الحالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء فلا يكون إياه ولا مشاركاً له في معنى بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به‏.‏

ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأساً‏.‏

وحق هذا ترك العطف البتة فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال الى الغاية والعطف لما هو واسطة بين الأمرين وكان له حال بين حالين فاعرفه‏.‏

مسائل دقيقة في عطف الجمل

هذا فن من القول خاص دقيق‏.‏

اعلم أن مما يقل نظر الناس فيه من أمر العطف أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان‏.‏

مثال ذلك قول المتنبي من الوافر‏:‏ تولوا بغتة فكأن بيناً تهيبني ففاجأني اغتيالا فكان مسير عيسهم ذميلاً وسير الدمع إثرهم انهمالا قوله‏:‏ فكان مسير عيسهم معطوف على تولوا بغتة دون ما يليه من قوله ففاجأني لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى من حيث إنه يدخل في معنى كأن وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة ويكون متوهماً كما كان تهيب البين كذلك وهذا أصل كبير‏.‏

والسبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيراً وبين المعطوف عليها الأولى ترتبط في معناها بتلك الأولى كالذي ترى أن قوله‏:‏ فكأن بيناً تهيبني مرتبط بقوله‏:‏ تولوا بغتة وذلك أن الثانية مسبب والأولى سبب ألا ترى المعنى تولوا بغتة فتوهمت أن بيناً تهيبني ولا شك أن هذا التوهم كان بسبب أن كان التولي بغتة وإذا كان كذلك كانت مع الأولى كالشيء الواحد وكان منزلتها منها منزلة المفعول والظرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل مما لا يمكن إفراده على الجملة وأن يعتد كلاماً على حدته‏.‏

وهاهنا شيء آخر دقيق‏.‏

وهو أنك إذا نظرت إلى قوله‏:‏ فكان مسير عيسهم ذميلاً وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطاً آخره بأوله ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة وعلى الوجه الذي توهم من أجله أن البين تهيبه مستدعياً بكاءه وموجباً أن ينهمل دمعه‏.‏

فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع وأن يوفق بينهما وكذلك الحكم في الأول فنحن وإن قلنا إن العطف على تولوا بغتة فإنا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعاً عما بعده بل العطف عليه مضموماً إليه ما بعده إلى آخره‏.‏

وإنما أردنا بقولنا‏:‏ إن العطف عليه أن نعلمك أنه الأصل والقاعدة وأن نصرفك عن أن تطرحه وتجعل العطف على ما يلي هذا الذي تعطفه فتزعم أن قوله‏:‏ فكان مسير عيسهم معطوف على فاجأني فتقع في الخطأ كالذي أريناك‏.‏

فأمر العطف إذاً موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضاً على بعض ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك‏.‏

وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلاً يعتبر به‏.‏

وذلك أنك ترى متى شئت جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى ثم جعلنا بمجموعهما شرطاً ومثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ‏"‏ الشرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد ولا في واحدة دون الأخرى لأنا إن قلنا إنه في كل واحدة منهما على الانفراد جعلناهما شرطين وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين وليس معنا إلا جزاء واحد‏.‏

وإن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط وذلك ما لا يخفى فساده‏.‏

ثم إنا نعلم من طريق المعنى أن الجزاء الذي هو احتمال البهتان والإثم المبين أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين‏.‏

فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد ولا لرمي البريء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق بل لرمي الإنسان البريء بخطيئة أو إثم كان من الرامي‏.‏

وكذلك الحكم أبداً فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ‏"‏ لم يعلق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد بل بها مقروناً إليها أن يدركه الموت عليها‏.‏

واعلم أن سبيل الجملتين في هذا وجعلهما بمجموعهما بمنزلة الجملة الواحدة سبيل الجزءين تعقد منهما الجملة ثم يجعل المجموع خبراً أو صفة أو حالاً كقول‏:‏ زيد قام غلامه وزيد أبوه كريم ومررت برجل أبوه كريم وجاءني زيد يعدو به فرسه‏.‏

فكما يكون الخبر والصفة والحال لا محالة في مجموع الجزءين لا في أحدهما كذلك يكون الشرط في مجموع الجملتين لا في إحداهما‏.‏

وإذا علمت ذلك في الشرط فاحتذه في العطف فإنك تجده مثله سواء‏.‏

ومما لا يكون العطف فيه إلا على هذا الحد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين‏.‏

ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ‏"‏‏.‏

لو جريت على الظاهر فجعلت كل جملة معطوفة على ما يليها منع منه المعنى وذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله ‏"‏ وما كنت ثاوياً في أهل مدين ‏"‏ معطوفا على قوله ‏"‏ فتطاول عليهم العمر ‏"‏ وذلك يقتضي دخوله في معنى لكن ويصير كأنه قيل‏:‏ ولكنك ما كنت ثاوياً وذلك ما لا يخفى فساده وإذا كان ذلك بان منه أنه ينبغي أن يكون عطف مجموع ‏"‏ وما كنت ثاوياً في أهل مدين ‏"‏ إلى ‏"‏ مرسلين ‏"‏ على مجموع قوله ‏"‏ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر إلى قوله ‏"‏ العمر ‏"‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا قدرت أن يكون ‏"‏ وما كنت ثاوياً في أهل مدين ‏"‏ معطوفاً على ‏"‏ وما كنت من الشاهدين ‏"‏ دون أن تزعم أنه معطوف عليه مضموماً إليه ما بعده إلى قوله العمر قيل لأنا إن قدرنا ذلك وجب أن ينوى به التقديم على قوله‏:‏ ‏"‏ ولكنا أنشأنا قروناً ‏"‏ و يكون الترتيب‏:‏ ‏"‏ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر ولكنا كنا مرسلين وفي ذلك إزالة لكن عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه‏.‏

ذاك لأن سبيل لكن سبيل إلا فكما لا يجوز أن تقول‏:‏ جاءني القوم وخرج أصحابك إلا زيداً و عمراً بجعل إلا زيداً استثناء من جاءني القوم و إلا عمراً من خرج أصحابك‏.‏

كذلك لا يجوز أن تصنع مثل ذلك بلكن فتقول‏:‏ ما جاءني زيد وما خرج عمرو ولكن بكراً حاضر ولكن أخاك خارج‏:‏ فإذا لم يجز ذلك وكان تقديرك الذي زعمت يؤدي إليه وجب أن تحكم بامتناعه فاعرفه‏.‏

وهذا وإنما تجوز نية التأخير في شيء معناه يقتضي له ذلك التأخير مثل أن كون الاسم مفعولاً لا يقتضي له أن يكون بعد الفاعل فإذا قدم على الفاعل نوي به التأخير ومعنى لكن في الآية يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه فكيف يجوز أن ينوى بها التأخير عنه إلى موضع آخر‏.‏

أمر اللفظ والنظم

فيها فضل شحذ للبصيرة هذه فصول شتى في أمر اللفظ والنظم فيها فضل شحذ للبصيرة وزيادة كشف عما فيها من السريرة

البلاغة مرجعها العلم بمواضع المزايا والخصائص

البلاغة ليس مرجعها إلى العلم باللغة بل العلم بمواضع المزايا والخصائص وغلط الناس في هذا الباب كثير فمن ذلك أنك تجد كثيراً ممن يتكلم في شأن البلاغة إذا ذكر أن للعرب الفصل والمزية في حسن النظم والتأليف وأن لها في ذلك شأوا لا يبلغه الدخلاء في كلامهم والمولدون جعل يعلل ذلك بأن يقول‏:‏ لا غرو فإن اللغة لها بالطبع ولنا بالتكلف ولن يبلغ الدخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها وبدأ من أول خلقه بها‏.‏

وأشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللغة وهو خطأ عظيم منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر وتقصر قوى نظرتهم عنها ومعلومات ليس في منن أفكارهم خواطرهم أن تفضي بهم إليها وأن تطلعهم عليها‏.‏

وذلك محال فيما كان علما باللغة لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهل واعلم أنا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها وما ينبغي أن يصنع فيها‏.‏

فليس الفصل للعلم بأن الواو للجمع والفاء للتعقيب بغير تراخ وثم له بشرط التراخي‏.‏

و إنلك لذا وإذا لكذا‏.‏

ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت شعراً وألفت رسالة أن تحسن التخير وأن تعرف لكل من ذلك موضعه‏.‏

وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول فضلاً عن اعتقاده وهو أن المزية لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها لكان ينبغي أن لا تجب إلا بمثل الفرق بين الفاء وثم وإن وإذا وما أشبه ذلك مما يعثر عنه وضع لغوي‏.‏

فكانت لا تجب بالفصل وترك العطف بالحذف والتكرار والتقديم والتأخير وسائر ما هو هيئة يحدثها لك التأليف ويقتضيها الغرض الذي تؤم والمعنى الذي تقصد وكان ينبغي أن لا تجب المزية بما يبتدئه الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ لشيء لم يستعر له وأن لا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تعورفت في كلام العرب وكفى بذلك جهلاً‏.‏

ولم يكن هذا الاشتباه وهذا الغلط إلا لأنه ليس في جملة الخفايا والمشكلات أغرب مذهباً في الغموض ولا أعجب شأناً من هذه التي نحن بصددها ولا أكثر تفلتاً من الفهم وانسلالاً منها‏.‏

وأن الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها رموز لا يفهمها إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع ومن هو مهيأ لفهم تلك الإشارات‏.‏

حتى كأن تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم ولا يعرفها من ليس منهم‏.‏

وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن ولم يمارسه ولم يوفر عنايته عليه أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن‏:‏ ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة‏.‏

لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها وقوله وهو يذكر رواة الأخبار‏:‏ ورأيت عامتهم فقد طالت مشاهدتي لهم وهم لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق وقوله في بيت الحطيئة من الطويل‏:‏ متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد وما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلا من هو خير أهل الأرض‏.‏

على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه وطبعه ونحته وسبكه فيفهم منه شيئاً أو يقف للطابع والنظام والنحت والسبك والمخارج السهلة على معنى أو يحلى منه بشيء‏.‏

وكيف بأن يعرفه ولربما خفي على كثير من أهله‏.‏

واعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى‏:‏ يقول ما في اللفظ لولا المعنى وهل الكلام إلا بمعناه فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة أو أدباً واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر‏.‏

فإن مال إلى اللفظ شيئاً ورأى أن ينحله بعض الفضيلة لم يعرف غير الاستعارة ثم لا ينظر في حال تلك الاستعارة‏:‏ أحسنت بمجرد كونها استعارة أم من أجل فرق ووجه أم للأمرين لا يحفل بهذا وشبهه قد قنع بظواهر الأمور وبالجمل وبأن يكون كمن يجلب المتاع للبيع إنما همه أن يروج عنه‏.‏

يرى أنه إذا تكلم في الأخذ والسرقة وأحسن أن يقول‏:‏ أخذه من فلان وألم فيه بقول كذا فقد استكمل الفصل وبلغ أقصى ما يراد‏.‏

واعلم أنا وإن كنا إذا اتبعنا العرف والعادة وما يهجس في الضمير وما عليه العامة أرانا ذلك أن الصواب معهم وأن التعويل ينبغي أن يكون على المعنى وأنه الذي لا يسوغ القول بخلافه فإن الأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وإلى ما عليه المحصلون لأنا لم نرى متقدماً في علم البلاغة مبرزاً في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ويزري على القائل به ويغض منه‏.‏

فمن ذلك ما روي عن البحتري‏:‏ روي أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأله عن مسلم وأبي نواس أيهما أشعر فقال‏:‏ أبو نواس‏.‏

فقال‏:‏ إن أبا العباس ثعلباً يوافقك على هذا‏.‏

فقال‏:‏ ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله إنما يعلم ذلك من دفع في سلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته‏.‏

وعن بعضهم أنه قال‏:‏ رآني البحتري ومعي دفتر شعر فقال‏:‏ ما هذا فقلت شعر الشنفرى‏.‏

فقال‏:‏ وإلى أين تمضي‏.‏

فقلت‏:‏ إلى أبي العباس أقرؤه عليه‏.‏

فقال‏:‏ رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقداً للشعر ولا مميزاً للألفاظ ورأيته يستجيد شيئاً وينشده وما هو بأفضل الشعر‏.‏

فقلت له‏:‏ أما نقده وتمييزه فهذه صف أخرى ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه‏.‏

فما كان ينشد قال‏:‏ قول الحارث بن وعلة من الكامل‏:‏ قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللاً ولئن سطوت لأوهنن عظمي فقلت‏:‏ والله ما أنشد إلا أحسن شعر في أحسن معنى ولفظ‏.‏

فقال‏:‏ أين الشعر الذي فيه عروق الذهب‏.‏

فقلت‏:‏ مثل ماذا فقال‏:‏ مثل قول أبي ذؤاب من الكامل‏:‏ بأشدهم كلباً على أعدائه وأعزهم فقداً على الأصحاب وفي مثل هذا قال الشاعر من الطويل‏:‏ زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر وقال الآخر من الخفيف‏:‏ يا أبا جعفر تحكم في الش عر وما فيك آلة الحكام إن نقد الدينار إلا على الصي رف صعب فكيف نقد الكلام قد رأيناك لست تفرق فى الأش عار بين الأرواح والأجسام واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدباً وحكمة وكان غريباً نادراً فهو أشرف مما ليس كذلك بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص أن لا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته‏.‏

وأن لا ينظر فيها إلى جنس آخر وإن كان الأول بسبيل أو متصلاً به اتصال ما لا ينفك منه‏.‏

ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار‏.‏

فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن ينظر إلى الفضة الحاملة تلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفصل والمزية الكلام أن تنظر في مجرد معناه‏.‏

وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم بأن تكون فضة أجود أو فصه أنفس لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيث هو خاتم‏.‏

كذلك ينبغي إذا فضلنا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام وهذا قاطع فاعرفه‏.‏

واعلم أنك لست تنظر في كتاب صنف في شأن البلاغة وكلام جاء عن القدماء إلا وجدته يدل على فساد هذا المذهب‏.‏

ورأيتهم يتشددون في إنكاره وعيبه والعيب به وإذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ ويتشدد غاية التشدد‏.‏

وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعنى مشتركاً وسوى فيه بين الخاصة والعامة فقال‏:‏ ورأيت ناساً يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها‏.‏

ولم أر ذلك قط إلا في رواية غير بصير بجوهر ما يروي‏.‏

ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان كان‏.‏

وأنا سمعت أبا عمرو الشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة أن كلف رجلاً حتى أحضره قرطاساً ودواة حتى كتبهما‏.‏

قال الجاحظ‏:‏ وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أيضاً‏.‏

وهما قوله من السريع‏:‏ لا تحسبن الموت موت البلى وإنما الموت سؤال الرجال كلاهما موت ولكن ذا أشد من ذاك على كل حال ثم قال‏:‏ وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي‏.‏

وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك‏.‏

وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير‏.‏

فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني وأبى أن يجب لها فضل‏.‏

فقال‏:‏ وهي مطروحة في الطريق‏.‏

ثم قال‏:‏ وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه لا بمعناه وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه لم يستحق هذا الاسم بالحقيقة‏.‏

وأعاد طرفاً من هذا الحديث في البيان فقال‏:‏ ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعاراً من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذكر‏.‏

وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً لمكان أعراقهم من أولئك الآباء‏.‏

ثم قال‏:‏ ولولا أن أكون عياباً ثم للعلماء خاصة لصورت لك بعض ما سمعت من
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:51 am

وجوب تنكير بعض المفردات

واعلم أنه إذا كان بيناً في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه حتى يشكل وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب إلى فكر وروية فلا مزية وإنما تكون المزية ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجهاً آخر ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر ورأيت للذي جاء عليه حسناً وقبولاً يعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني‏.‏

ومثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجعلوا لله شركاء الجن ‏"‏ ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت لا تجد شيئاً منه إن أنت أخرت فقلت‏:‏ وجعلوا الجن شركاء لله وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل ولا تصير النفس به إلى حاصل والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة‏.‏

ومعنى جليلاً لا سبيل إليه مع التأخير‏.‏

بيانه أنا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن‏.‏

وإذا أخر فقيل‏:‏ جعلوا الجن شركاء لله لم يفد ذلك ولم يكن في شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى‏.‏

فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن شركاء مفعول أول لجعل و لله في موضع المفعول الثاني ويكون الجن على كلام ثاني على تقدير أنه كأنه قيل‏:‏ فمن جعلوا شركاء لله تعالى فقيل‏:‏ الجن وإذا كان التقدير في شركاء أنه مفعول أول و لله في موضع المفعول الثاني وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتخاذه من الجن لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان الذي تعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما في الدار كريم كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له‏.‏

وحكم الإنكار أبداً حكم النفي‏.‏

وإذا أخر فقيل‏:‏ وجعلوا الجن شركاء لله كان الجن مفعولاً أول والشركاء مفعولاً ثانياً وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصاً غير مطلق من حيث كان محالاً أن يجري خبراً على الجن ثم يكون عاماً فيهم وفي غيرهم إذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى الجن خصوصاً أن يكونوا شركاء دون غيرهم جل الله وتعالى عن أن يكون له شريك وشبية بحال‏.‏

فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدم الشركاء واعتبره فإنه ينبهك لكثير من الأمور ويدلك على عظم شأن النظم وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته كيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ إذ قد ترى أن ليس إلا تقديم وتأخير وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى ما إن حاولت مع تركه لم يحصل لك واحتجت إلى أن تستأنف له كلاماً نحو أن تقول‏:‏ وجعلوا الجن شركاء لله وما ينبغي أن يكون لله شريك من الجن ولا من غيرهم‏.‏

ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس ما تجده له الآن وقد عقل من هذا الكلام الواحد‏.‏

ومما ينظر إلى مثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ‏"‏‏.‏

إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسك وجدت لهذا التنكير وأن قيل على حياة ولم يقل على الحياة حسناً وروعة ولطف موقع لا يقادر قدره‏.‏

وتجدك تعدم ذلك مع التعريف وتخرج عن الأريحية والأنس إلى خلافهما‏.‏

والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها وذلك لا يحرص عليه إلا الحي‏.‏

فأما العادم للحياة فلا يصح منه الحرص على الحياة ولا على غيرها‏.‏

وإذا كان كذلك صار كأنه قيل‏:‏ ولتجدنهم أحرص الناس ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه حياة في الذي يستقبل‏.‏

فكما أنك لا تقول هاهنا أن يزدادوا إلى حياتهم الحياة بالتعريف وإنما تقول حياة إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق كقولنا‏:‏ كل أحد يحب الحياة ويكره الموت‏.‏

كذلك الحكم في الآية‏.‏

والذي ينبغي أن يراعى أن المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه إذا كان موجوداً حال وصفك له بالحرص عليه لم يتصور أن تجعله حريصاً عليه من أصله‏.‏

كيف ولا يحرص على الراهن ولا الماضي‏.‏

وإنما يكون الحرص على مالم يوجد بعد‏.‏

وشبيه بتنكير الحياة لا في هذه الآية تنكيرها في قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏‏.‏

وذلك أن السبب في حسن التنكير وأن لم يحسن التعريف أن ليس المعنى على الحياة نفسها ولكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل ارتدع بذلك عن القتل فسلم صاحبه صارت حياة هذا المهموم بقتله في مستأنف الوقت مستفادة بالقصاص وصار كأنه قد حبي في باقي عمره به أي بالقصاص‏.‏

وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته وجب التنكير وامتنع التعريف من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من أصلها وأن يكون القصاص قد كان سبباً في كونها في كافة الأوقات وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود ويبين ذلك أنك تقول‏:‏ لك في هذا غنى فتنكر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغنى به‏.‏

فإن قلت‏:‏ لك في الغنى كان الظاهر أنك جعلت غناه به‏.‏

وأمر آخر وهو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون هم وإرادة‏.‏

وليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلا وله عدو يهم بقتله ثم يردعه خوف القصاص‏.‏

وإذا لم يجب ذلك فمن لم يهم إنسان بقتله فكفي ذلك الهم لخوف القصاص فليس هو ممن حيي بالقصاص‏.‏

وإذا دخل الخصوص فقد وجب أن يقال حياة ولا يقال الحياة كما وجب أن يقال شفاء ولا يقال الشفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ‏"‏ حيث لم يكن شفاء للجميع‏.‏

واعلم أنه لا يتصور أن يكون الذي هم بالقتل فلم يقتل خوف القصاص داخلاً في الجملة وأن يكون القصاص أفاده حياة كما أفاد المقصود قتله‏.‏

وذلك أن هذه الحياة إنما هي لمن كان يقتل لولا القصاص وذلك محال في صفة القاصد للقتل‏.‏

فإنما يصح في وصفه ما هو كالضد لهذا وهو أن يقال إنه كان لا يخاف عليه القتل لولا القصاص‏.‏

وإذا كان هذا كذلك كان وجهاً ثالثاً من وجوب التنكير‏.‏

واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعاً من السامع ولا يجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومىء إليه من الحسن واللطف أصلاً وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحية تارة ويعرى منها أخرى‏.‏

وحتى إذا عجبته عجب وإذ نبهته لموضع المزية انتبه‏.‏

فأما من كانت الحالان والوجهان عنده أبداً على سواء وكان لا يفقه من أمر النظم إلا الصحة المطلقة وإلا إعراباً ظاهراً فما أقل ما يجدي الكلام معه‏.‏

فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر والذوق الذي يقيمه به والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره ومزاحفه من سالمه وما خرج من البحر مما لم يخرج منه في أنك لا تتصدى له ولا تتكلف تعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي معها يعرف والحاسة التي بها يجد‏.‏

فليكن قدحك في زند وار والحك في عود أنت تطمع منه في نار‏.‏

واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب فإن من الآفة أيضاً من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في قليل ما تعرف المزية فيه وكثيره وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم وهذا التنكير أو هذا العطف أو هذا الفصل حسن‏.‏

وأن له موقعاً من النفس وحظاً من القبول‏.‏

فأما أن تعلم لم كان كذلك وما السبب فمما لا سبيل إليه ولا مطمع في الاطلاع عليه فهو بتوانيه والكسل فيه في حكم من قال ذلك‏.‏

واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل‏.‏

وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه وإن قل فتجعله شاهداً فيما لم تعرف أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتأخذها عن الفهم والتفهم وتعودها الكسل والهوينى قال الجاحظ‏:‏ وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرة مرة‏.‏

فمن أضر ذلك قولهم‏:‏ لم يدع الأول للآخر شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلاً‏.‏

واعلم أن العلم إنما هو معدن فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألف وقر قد أخرجت من معدن تبر أن تطلب فيه وأن تأخذ ما تجد ولو كقدر تومة كذلك ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم ومن الله تعالى نسأل التوفيق‏.‏

فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم

اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل أنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه‏.‏

فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه‏.‏

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازاً على غير هذا السبيل وهو أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط وتكون الكلمة متروكة على ظاهرها ويكون معناها مقصوداً في نفسه ومراداً من غير تورية ولا تعريض‏.‏

والمثال فيه قولهم‏:‏ نهارك صائم وليلك قائم ونام ليلي وتجلى همي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما ربحت تجارتهم ‏"‏ وقول الفرزدق من الطويل‏:‏ سقتها خروق في المسامع لم تكن علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم أنت ترى مجازاً في هذا كله ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ولكن في أحكام أجريت عليها أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك‏:‏ نهارك صائم وليلك قائم في نفس صائم وقائم ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل‏.‏

وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظه ربحت نفسها ولكن في إسنادها إلى التجارة‏.‏

وهكذا الحكم في قوله سقتها خروق ليس التجوز في نفس سقتها ولكن في أن أسنده إلى الخروق‏.‏

أفلا تر أنك لا ترى شيئاً منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته فلم يرد بصائم غير الصوم ولا بقائم غير القيام ولاب ربحت غير الربح ولاب سقت غير السقي كما أريد ب سالت في قوله من الطويل‏:‏ وسالت بأعناق المطي الأباطح غير السيل‏.‏

واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة قائم لك مثله هاهنا‏.‏

فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله من الرجز‏:‏ فنام ليلي وتجلى همي كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز وقلت‏:‏ فنمت في ليلي وتجلى همي كما لم يكن الحال في قولك‏:‏ رأيت رجلاً كالأسد‏.‏

ومن ذا الذي يخفى عليه مكان العلو وموضع المزية وصورة الفرقان بين قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما ربحت تجارتهم ‏"‏ وبين أن يقال‏:‏ فما ربحوا في تجارتهم وإن أردت أن تزداد للأمر تبيناً فانظر إلى بيت الفرزدق من الكامل‏:‏ يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب تطير له السواعد أرعل وإلى رونقه ومائه وإلى ما عليه من الطلاوة‏.‏

ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة وقل‏:‏ نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل ثم اسبر حالك هل ترى مما كنت تراه شيئاً‏.‏

وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان‏.‏

وأن تجيء بالكلام مطبوعاً مصنوعاً وأن يضعه بعيد المرام قريباً من الأفهام‏.‏

ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول‏:‏ أتى بي الشوق إلى لقائك وسار بي الحنين إلى رؤيتك وأقدمني بلدك حق لي على إنسان وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها فليس هو كذلك أبداً بل يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق والكاتب البليغ وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها والنادرة تأنق بها‏.‏

وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ وذات الكلمة‏.‏

فكما أن من الاستعارة والتمثيل عامياً مثل‏:‏ رأيت أسداً ووردت بحراً وشاهدت بدراً وسل من رأيه سيفاً ماضياً‏.‏

وخاصياً لا يكمل له كل أحد مثل قوله‏:‏ وسالت بأعناق المطي الأباطح كذلك الأمر في هذا المجاز الحكمي‏.‏

واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة مثل أن تقول في ‏"‏ ربحت تجارتهم ‏"‏‏:‏ ربحوا في تجارتهم وفي يحمي نساءنا ضرب‏:‏ نحمي نساءنا بضرب فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء‏.‏

ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك‏:‏ أقدمني بلدك حق لي على إنسان‏:‏ فاعلاً سوى الحق وكذلك لا تستطيع في قوله من مجزوء الوافر‏:‏ وقوله من مجزوء الوافر يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا أن تزعم أن لصيرني فاعلاً قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك ربحت تجارتهم ويحمي نساءنا ضرب ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله يزيدك وجهه فاعلاً غير الوجه‏.‏

فالاعتبار إذاً بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجوداً في الكلام على حقيقته‏.‏

معنى ذلك أن القدوم في قولك‏:‏ أقدمني بلدك حق على إنسان موجود على الحقيقة وكذلك الصيرورة في قوله‏:‏ وصيرني هواك والزيادة في قوله يزيدك وجهه موجودتان على الحقيقة‏.‏

وإذا كان معنى اللفظ موجوداً على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه‏.‏

وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم‏.‏

فاعرف هذه الجملة وأحسن ضبطها حتى تكون على بصيرة من الأمر‏.‏

ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف من الوافر‏:‏ أبي عبر الفوارس يوم داج وعمي مالك وضع السهاما فلو صاحبتنا لرضيت عنا إذا لم تغبق المئة الغلاما يريد إذا كان العام عام جدب وجفت ضروع الإبل وانقطع الدر حتى إن جلب منها مئة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد‏.‏

فالفعل الذي هو غبق مستعمل في نفسه على حقيقته غير مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر‏.‏

فيكون قد دخله مجاز في نفسه‏.‏

وإنما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلاً لها‏.‏

وإسناد الفعل إلى الشيء حكم في الفعل وليس هو نفس مجنى الفعل فاعرفه‏.‏

واعلم أن من سبب اللطف في ذلك أنه ليس كل شيء يصلح لأن يتعاطى فيه المجاز الحكمي بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم‏.‏

وإن أردت مثالاً في ذلك فانظر إلى قوله من الطويل‏:‏ تناس طلاب العامرية إذ نأت بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر إذا ما أحسته الأفاعي تميزت شواة الأفاعي في مثلمة سمر تجوب له الظلماء عين كأنها زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر يصف جملاً ويريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها‏.‏

ولولاها لكانت الظلماء كالسد والحاجز الذي لا يجد شيئاً يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلاً‏.‏

فأنت الآن تعلم أنه لولا أنه قال‏:‏ تجوب له فعلق له بتجوب لما صلحت العين لأن يسند تجوب إليها ولكان لا تتبين جهة التجوز في جعل تجوب فعلاً للعين كما ينبغي‏.‏

وكذلك تعلم أنه لو قال مثلاً‏:‏ تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا ضرب عليه معناه وانقطع السلك من فتأمل هذا واعتبره‏.‏

فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهد لها وتقدم أو تؤخر ما يعلم به أنك مستعير ومشبه ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة‏.‏

ألا ترى إلى قوله من الطويل‏:‏ وصاعقة من نضله تنكفي بها على أرؤس الأقران خمس سحائب عنى بخمس السحائب أنامله ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة ولم يرمها إليك بغتة بل ذكر ما ينبىء عنها ويستدل به عليها فذكر أن هناك صاعقة وقال‏:‏ من نصله فبين آن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال‏:‏ على أرؤس الأقران ثم قال‏:‏ خمس فذكر الخمس التي هي عدد أنامل اليد فبان من مجموع هذه الأمور غرضه‏.‏

وأنشدوا لبعض العرب من الرجز‏:‏ فإن تعافوا العدل والإيمانا فإن في أيماننا نيرانا يريد أن في أيماننا سيوفاً نضربكم بها‏.‏

ولولا قوله أولاً‏:‏ فإن تعافوا العدل والإيمان وأن في ذلك دلالة على أن جوابه أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف ثم قوله فإن في أيماننا لما عقل مراده ولما جاز أن يستعير النيران للسيوف لأنه كان لا يعقل الذي يريد لأنا وإن كنا نقول‏:‏ في ناهضتهم والبارقات كأنها شعل على أيديهم تتلهب فإن هذا التشبيه لا يبلغ ما يعرف مع الإطلاق كمعرفتنا إذا قال‏:‏ رأيت أسداً أنه يريد الشجاعة‏.‏

وإذا قال‏:‏ لقيت شمساً وبدراً أنه يريد الحسن ولا يقوى تلك القوة فاعرفه‏.‏

ومما طريق المجاز فيه الحكم قول الخنساء من البسيط‏:‏ ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما فتكون قد تجوزت في نفس الكلمة وإنما تجوزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر ولغلبة ذاك عليها واتصاله بها وأنه لم يكن لها حال غيرهما كأنها قد تجسمت من الإقبال والإدبار‏.‏

وإنما كان يكون المجاز في نفس الكلمة لو أنها كانت قد استعارت الإقبال والإدبار لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللغة‏.‏

ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء‏.‏

واعلم أن ليس بالوجه أن يعد هذا على الإطلاق معد ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مثل قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ واسأل القرية ‏"‏ ومثل قول النابغة الجعدي من المتقارب‏:‏ وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب وقول الأعرابي من الوافر‏:‏ وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف ويقولون‏:‏ إنه في تقدير فإنما هي ذات إقبال وإدبار ذاك لأن المضاف المحذوف من نحو الآية والبيتين في سبيل ما يحذف من اللفظ ويراد في المعنى كمثل أن يحذف خبر المبتدأ أو المبتدأ إذا دل الدليل عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به‏.‏

وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء لأنا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا‏:‏ فإنما هي ذات إقبال وإدبار أفسدنا الشعر على أنفسنا وخرجنا إلى شيء مغسول وإلى كلام عامي مرذول‏.‏

وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلاً في بيت المتنبي من الوافر‏:‏ بدت قمراً ومالت خوط بان وفاحت عنبراً ورنت غزالا أنه في تقدير محذوف وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت‏:‏ بدت مثل قمر ومالت مثل خوط بان وفاحت مثل عنبر ورنت مثل غزال في أنا نخرج إلى الغثاثة وإلى شيء يعزل البلاغة عن سلطانها ويخفض من شأنها ويصد بأوجهنا عن محاسنها ويسد باب المعرفة بها وبلطائفها علينا‏.‏

فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالاً وإدباراً حتى كأنها قد تجسمت منهما لكان حقه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ الذات فيقال‏:‏ إنما هي ذات إقبال وإدبار‏.‏

فأما أن يكون الشعر الآن موضوعاً على إرادة ذلك وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتى يكون الحال فيه كالحال في‏:‏ حسبت بغام راحلتي عناقاً حين كان المعنى والقصد أن يقول‏:‏ حسبت بغام راحلتي بغام عناق‏.‏

مما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة نسابة للمعاني‏.‏

تهور بعض المفسرين

هذه مسألة قد كنت عملتها قديماً وقد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالاً بهذا الذي صار بنا القول إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ‏"‏ أي لمن كان أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه‏.‏

فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه‏.‏

كما جعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة بمنزلة من لا سمع له ولا بصر‏.‏

فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى من كان له عقل فإنه إنما يصح على أن يكون قد أراد الدلالة على الغرض على الجملة‏.‏

فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن القلب اسم للعقل كما يتوهمه أهل الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام فمحال باطل لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية وإلى تحريف الكلام عن صورته وإزالة المعنى عن جهته‏.‏

وذاك أن المراد به الحث على النظر والتقريع على تركه وذم من يخل به ويغفل عنه‏.‏

ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته وإلا بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكر كأنه ليس بذي قلب كما يجعل كأنه جماد وكأنه ميت لا يشعر ولا يحس‏.‏

وليس سبيل من فسر القلب هاهنا على العقل إلا سبيل من فسر عليه العين والسمع في قول الناس‏:‏ هذا بين لمن كانت له عين ولمن كان له سمع‏.‏

وفسر العمى والصمم والموت في صفة من يوصف بالجهالة على مجرد الجهل وأجرى جميع ذلك على الظاهر فاعرفه‏.‏

ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف‏.‏

وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل‏.‏

هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه وزند ضلالة قد قدحوا به‏.‏

ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق‏.‏

هذا فن من القول دقيق المسلم لطيف المأخذ وهو أنا نراهم كما يصنعون في نفس الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض‏.‏

كذلك يذهبون في إثبات الصفة هذا المذهب‏.‏

وإذا فعلوا ذلك بدت هناك محاسن تملأ الطرف ودقائق تعجز الوصف‏.‏

ورأيت هناك شعراً شاعراً وسحراً ساحراً وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق والخطيب المصقع‏.‏

وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرحاً بذكرها مكشوفاً عن وجهها ولكن مدلولاً بغيرها كان ذلك أفخم لشأنها وألطف لمكانها‏.‏

كذلك إثباتك الصفة للشيء تثبتها له إذا لم تلقه إلى السامع صريحاً وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرمز والإشارة كان له من الفضل والمزية ومن الحسن والرونق ما لا يقل قليله ولا يجهل موضع الفضيلة وتفسير هذه الجملة وشرحها أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه وإثبات معنى من المعاني الشريفة له فيدعون التصريح بذلك ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبس به‏.‏

ويتوصلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات لا من الجهة الظاهرة المعروفة بل من طريق يخفى ومسلك يدق‏.‏

ومثاله قول زياد الأعجم من الكامل‏:‏ إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج وبعده‏:‏ ياخير من صعد المنابر بالتقى بعد النبي المصطفى المتحرج لما أتيتك راجياً لنوالكم ألفيت باب نوالكم لم يرتج أراد كما لا يخفى أن يثبت هذه المعاني والأوصاف خلالاً للمدوح وضرائب فيه‏.‏

فترك أن يصرح فيقول‏:‏ إن السماحة والمروءة والندى مجموعة في ابن الحشرج أو مقصورة عليه أو مختصة به وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للذكورين بها‏.‏

وعدل إلى ما ترى من الكناية والتلويح فجعل كونها في القبة المضروبة عليه عبارة عن كرنها فيه وإشارة إليه‏.‏

فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة‏.‏

ولو أنه أسقط هذه الواسطة من البيت لما كان إلا كلاماً غفلاً وحديثاً ساذجاً‏.‏

فهذه الصنعة في طريق الإثبات هي نظير الصنعة في المعاني إذا جاءت كنايات عن معان أخر نحو قوله من الوافر‏:‏ وما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر ومما يقع في الاختيار لأجل أن أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة فكن عن ذلك بجبن الكلب وهزال الفصيل وترك أن يصرخ فيقول‏:‏ قد عرف أن جنابي مألوف وكلبي مؤدب لا يهر في وجوه من يغشاني من الأضياف وأني أنحر المتالي من إبلي وأدع فصالها هزلى‏.‏

كذلك إنما راقك بيت زياد لأنه كنى عن إثباته السماحة والمروءة والندى كائنة الممدوح بجعلها كائنة في القبة المضروبة عليه‏.‏

هذا وكما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصفة أن تجيء على صور مختلفة كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصفة أن تجيء على هذا الحد ثم يكون في ذلك ما يتناسب كما كان ذلك في الكناية الصفة نفسها‏.‏

تفسير هذا أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم يمدح به يزيد بن المهلب وهو في حبس الحجاج من المنسرح‏:‏ أصبح في قيدك السماحة وال مجد وفضل الصلاح والحسب فتراه نظيراً لبيت زياد وتعلم أن مكان القيد هاهنا هو مكان القبة هناك‏.‏

كما أنك تنظر إلى قوله‏:‏ جبان الكلب فتعلم أنه نظير لقوله من الطويل‏:‏ زجرت كلابي أن يهر عقورها من حيث لم يكن ذلك الجبن إلا لأن دام منه الزجر‏.‏

واستمر حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير والنبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعس دونها‏.‏

وتنظر إلى قوله‏:‏ مهزول الفصيل فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة‏.‏

لا أمتع العود بالفصال وتنظر إلى قول نصيب من المتقارب‏:‏ فبابك أسهل أبوابهم ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس بالزائري ن من الأم بالابنة الزائره فتعلم أنه من قول الآخر من الطويل‏:‏ يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً يكلمه من حبه وهو أعجم وأن بينهما قرابة شديدة ونسباً لاصقاً وأن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي زياد ويزيد‏.‏

ومما هو إثبات للصفة على طريق الكناية والتعريض قولهم‏:‏ المجد بين ثوبيه والكرم في برديه وذلك أن قائل هذا يتوصل إلى إثبات المجد والكرم للممدوح بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه كما توصل زياد إلى إثبات السماحة والمروءة والندى لابن الحشرج بأن جعلها في القبة التي هوجالس فيها‏.‏

ومن ذلك قوله من البسيط‏:‏ وحيثما يك أمر صالح فكن وما جاء في معناه من قوله من المتقارب‏:‏ يصير أبان قرين السما ح والمكرمات معاً حيث صارا وقول أبي نواس من الطويل‏:‏ كل ذلك توصل إلى إثبات الصفة في الممدوح بإئباتها في المكان الذي يكون فيه وإلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحفل‏.‏

وهكذا إن اعتبرت قول الشنفرى يصف امرأة بالعفة من الطويل‏:‏ يبيت بمنجاة من اللوم بيتها إذا ما بيوت بالملامة حلت وجدته يدخل في معنى بيت زياد وذلك أنه توصل إلى نفي اللوم عنها وإبعادها عنه بأن نفاه عن بيتها وباعد بينه وبينه‏.‏

وكان مذهبه في ذلك مذهب زياد في التوصل إلى جعل السماحة والمروءة والندى في ابن الحشرج بأن جعلها في القبة المضروبة عليه‏.‏

وإنما الفرق أن هذا ينفي وذاك يثبت‏.‏

وذلك فرق لا في موضع الجمع فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد‏.‏

ومما هو في حكم المناسب لبيت زياد وأمثاله التي ذكرت وإن كان قد اخرج في صورة أغرب وأبدع قول حسان رضي الله عنه من الطويل‏:‏ بنى المجد يتاً فاستقرت عماده علينا فأعيا الناس أن يتحولا وقول البحتري من الكامل‏:‏ أو مارأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثم لم يتحول ذاك لأن مدار الأمر على أنه جعل المجد والممدوح في مكان وجعله يكون حيث يكون‏.‏

واعلم أنه ليس كل ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب‏.‏

ظللنا نعود الجود من وعكك الذي وجدت وقلنا‏:‏ اعتل عضو من المجد وإن كان يكون القصد منه إثبات الجود والمجد للممدوح فإنه لا يصح أن يقال إنه نظير لبيت زياد كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس‏:‏ ولكن يصير الجود حيث يصير وغيره مما ذكرنا أنه نظير له كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله‏:‏ وكلبك أرأف بالزائرين مثلاً نظيراً لقوله‏:‏ مهزول الفصيل وإن كان الغرض منهما جميعاً الوصف بالقرى ضيافة وكانا جميعاً كنايتين عن معنى واحد لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها لأنه في عروض أن تتفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحاً بالشجاعة مثلاً أو الجود أو ما أشبه ذلك‏.‏

وقد يجتمع في البيت الواحد كنايتان المغزى منهما شيء واحد ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى‏.‏

مثال ذلك أنه لا يكون قوله‏:‏ جبان الكلب نظيراً لقوله‏:‏ مهزول الفصيل بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه وجنس على حدة‏.‏

وكذلك قول ابن هرمة من المنسرح‏:‏ لا امتع العوذ بالفصال ولا أبتاع إلا قريبة الأجل ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى وإن كان المكنى بهما عنه واحداً فاعرفه‏.‏

وليس لشعب هذا الأصل وفروعه وأمثلته وصوره وطرقه ومسالكه حد ونهاية‏.‏

ومن لطيف ذلك ونادره قول أبي تمام من الوافر‏:‏ أبين فما يزرن سوى كريم وحسبك أن يزرن أبا سعيد ومثله وإن لم يبلغ مبلغه قول الآخر من الوافر‏:‏ متى تخلو تميم من كريم ومسلمة بن عمرو من تميم وكذلك قول بعض العرب من المتقارب‏:‏ إذا الله لم يسق إلا الكرام فسقى وجوه بني حنبل وسقى ديارهم باكراً من الغيث في الزمن الممحل وفن منه غريب قول بعضهم في البرامكة من الطويل‏:‏ سألت الندى والجود‏:‏ مالي أراكما تبدلتما ذلاً بعز مؤيد وما بال ركن المجد أمسى مهدماً فقالا‏:‏ أصبنا بابن يحيى محمد فقلت‏:‏ فهلا متما عند موته فقد كنتما عبديه في كل مشهد فقالا‏:‏ أقمنا كي نعزى بفقده مسافة يوم ثم نتلوه في غد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:53 am

التوكيد وعلاماته

واعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أن هاهنا فروقاً خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر بل لا يدرون أنها هي ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل‏.‏

روي عن ابن الأنباري أنه قال‏:‏ ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له‏:‏ إني لأجد في كلام العرب حشواً‏:‏ فقال أبو العباس‏:‏ في أي موضع وجدت ذلك‏.‏

فقال‏:‏ أجد العرب يقولون‏:‏ عبد الله قائم‏.‏

ثم يقولون‏:‏ إن عبد الله قائم ثم يقولون‏:‏ إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد‏.‏

فقال أبو لعباس‏:‏ بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم‏:‏ عبد الله قائم إخبارعن قيامه وقولهم‏:‏ إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل‏.‏

وقولهم‏:‏ إن عبد الله لقائم جواث عن إنكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني‏.‏

قال‏:‏ فما أحار المتفلسف جواباً‏.‏

وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أومعترض فما ظنك بالعامة ومن هو في عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله‏.‏

واعلم أن هاهنا دقائق لو أن الكندي استقرأ وتصفح وتتبع مواقع إن ثم ألطف النظر وكثر التدبر لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل‏.‏

فأؤل ذلك وأعجبه ما قدمت لك بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير وما أنشدته معه من قول بعض العرب‏:‏ فغنها وهي لك الفداء إن غناء الإبل الحداء وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة وأدل على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل من أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتحد به‏.‏

حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً وكأن أحدهما قد سبك في الآخر‏.‏

هذه هي الصورة حتى إذا جئت إلى إن فأسقطتها رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه ورأيته لا يتصل به ولا يكون منه بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول‏:‏ بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير وغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء‏.‏

ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة ولا ترد عليك الذي كنت تجد بإن من المعنى‏.‏

وهذا الضرب كثير في التنزيل جداً من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ وقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ‏"‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏"‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ‏"‏ ومن أبين ذلك وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ‏"‏ وقد يتكرر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ‏"‏ وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء‏.‏

ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها وذلك في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إنه لا يفلح الكافرون ‏"‏‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ‏"‏‏.‏

وأجاز أبو الحسن فيها وجهاً آخر وهو أن يكون الضمير في إنها للأبصار أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير‏.‏

لحاجة في هذا الوجه أيضاً إلى إن قائمة كما كانت في الوجه الأول فإنه لا يقال‏:‏ هي تعمى الأبصار كما لا يقال‏:‏ هو من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع‏.‏

فإن قلت‏:‏ أوليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرى من العوامل في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ قيل‏:‏ وإن جاء هاهنا فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة من الشرط والجزاء بل تراه لا يجيء إلا بإن‏.‏

على أنهم قد أجازوا في ‏"‏ قل هو الله أحد ‏"‏ أن لا يكون الضمير للأمر‏.‏

ومن لطيف ما جاء في هذا الباب ونادره ما تجده في آخر هذه الأبيات التي أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيين من الطويل‏:‏ إذا طمع يوماً عراني قريته كتائب يأس كرها وطرادها أكد ثمادي والمياه كثيرة أعالج منها حفرها واكتدادها وأرضى بها من بحرآخر إنه هو الري أن ترضى النفوس ثمادها المقصود قوله‏:‏ إنه هو الري وذلك أن الهاء في إنه تحتمل أمرين‏:‏ أحدهما أن تكون ضمير الأمر ويكون قوله هو ضمير أن ترضى وقد أضمر قبل الذكر على شريطة التفسير‏.‏

الأصل‏:‏ أن الأمر أن ترضى النفوس ثمادها الري ثم أضمر قبل الذكر كما أضمرت الأبصار في ‏"‏ فإنها لا تعمى الأبصار ‏"‏ على مذهب أبي الحسن ثم أتى بالمضمر مصرحاً به في آخر الكلام فعلم بذلك أن الضمير السابق له وأنه المراد به‏.‏

والثاني أن تكون الهاء في إنه ضمير أن ترضى قبل الذكر ويكون هو فصلاً ويكون أصل الكلام‏:‏ إن أن ترضى النفوس ثمادها هو الري ثم أضمر على شريطة التفسير‏.‏

وأي الأمرين كان فإنه لا بد فيه من إن ولا سبيل إلى إسقاطها لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شيء شنيع وهو أن تقول‏:‏ وأرضى بها من بحر آخر وهو الري أن ترضى النفوس ثمادها‏.‏

هذا وفي إن هذه شيء آخر يوجب الحاجة إليها وهو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار‏.‏

ألا ترى أنك لو أسقطت إن والضميرين معاً واقتصرت على ذكر ما يبقى من الكلام لم تقله إلا بالفاء كقولك‏:‏ وأرضى بها من بحر آخر فالري أن ترضى النفوس ثمادها‏.‏

فلو أن الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع لما ظن الذي ظن‏.‏

هذا وإذا كان خلف الأحمر وهو القدوة ومن يؤخذ عنه ومن هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول والجاهليين فيخفى ذلك له‏.‏

ويجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتى يقع له أن ينتقد على بشار‏.‏

فلا غرو أن تدخل الشبهة في ذلك على الكندي‏.‏

ومما تصنعه إن في الكلام أنك تراها تهيىء النكرة وتصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ أعني أن تكون محدثاً عنها بحديث من بعدها‏.‏

ومثال ذلك قوله من مخلع البسيط‏:‏ إن شواء ونشوة وخبب البازل الأمون قد ترى حسنها وصحة المعنى معها ثم إنك إن جئت بها من غير إن فقلت‏:‏ شواء ونشوة وخبب البازل الأمون لم يكن كلاماً‏.‏

فإن كانت النكرة موصوفة وكانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها فإنك تراها مع إن أحسن وترى المعنى حينئذ أولى بالصحة وأمكن‏.‏

أفلا ترى إلى قوله من الخفيف‏:‏ ليس بخفي وإن كان يستقيم أن تقول‏:‏ دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح‏:‏ أن ليس الحالان على سواء‏.‏

وكذلك ليس يخفى أنك لو عمدت إلى قوله من مشطور المديد‏:‏ إن أمراً فادحاً عن جوابي شغلك فأسقطت منه إن لعدمت منه الحسن والطلاوة والتمكن الذي أنت واجده الآن ووجدت ضعفاً وفتوراً‏.‏

ومن تأثير إن في الجملة أنها تغني إذا كانت فيها عن الخبر في بعض الكلام‏.‏

ووضع صاحب الكتاب في ذلك باباً فقال‏:‏ هذا باب ما يحسن عليه السكوت في الأحرف الخمسة لإضمارك ما يكون مستقراً لها وموضعاً لو أضمرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر‏.‏

وذلك إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً أي‏:‏ إن لهم مالاً‏.‏

فالذي أضمرت هو لهم‏.‏

ويقول الرجل للرجل‏:‏ هل لكم أحد إن الناس ألب عليكم فيقول‏:‏ إن زيداً وإن عمراً أي لنا وقال من المنسرح‏:‏ إن محلا وإن مرتحلا وإن في السفر إن مضوا مهلا وتقول‏:‏ إن غيرها إبلا وشاء كأنه قال‏:‏ إن لنا أو عندنا غيرها‏.‏

قال‏:‏ وانتصب الإبل والشاء كانتصاب الفارس إذا قلت‏:‏ ما في الناس مثله فارساً‏.‏

وقال‏:‏ ومثل ذلك قوله من الرجز‏:‏ يا ليت أيام الصبا رواجعا قال‏:‏ فهذا كقولهم‏:‏ ألا ماء بارداً‏:‏ وكأنه قال‏:‏ ألا ماء لنا بارداً‏:‏ وكأنه قال‏:‏ يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجع‏.‏

فقد أراك في هذا كله أن الخبر محذوف‏.‏

وقد ترى حسن الكلام وصحته مع حذفه وترك النطق به‏.‏

ثم إنك إن عمدت إلى إن فأسقطتها وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر لا يحسن أولا يسوغ فلو قلت‏:‏ مال وعدد ومحل ومرتحل وغيرها إبلاً وشاء لم يكن شيئاً‏.‏

وذلك أن إن كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر وأنها حاضنته والمترجم عنه والمتكفل بشأنه‏.‏

واعلم أن الذي قلنا في إن من أنها تدخل على الجملة من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى الفاء لا يطرد في كل شيء وكل موضع بل يكون في موضع دون موضع وفي حال دون حال‏.‏

فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي الفاء‏.‏

وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن المتقين في مقام أمين‏.‏

في جنات وعيون ‏"‏ وذاك أن قبله ‏"‏ إن هذا ما كنتم به تمترون ‏"‏‏.‏

ومعلوم أنك لو قلت‏:‏ إن هذا ما كنتم به تمترون فالمتقون في جنات وعيون لم يكن كلاماً‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ‏"‏ لأنك لو قلت‏:‏ ‏"‏ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ‏"‏‏.‏

فالذين سبقت لهم منا الحسنى لم تجد لإدخالك الفاء فيه وجهاً‏.‏

وكذا قوله‏:‏ ‏"‏ إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ‏"‏ ‏"‏ الذين أمنوا ‏"‏ اسم إن وما بعده معطوف عليه وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ‏"‏ جملة في موضع الخبر‏.‏

ودخول الفاء فيها محال لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ‏.‏

ومثله سواء ‏"‏ إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ‏"‏ فإذا إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء الفاء إذا كان مصدرها مصدر الكلام يصحح به ما قبله ويحتج له ويبين وجه الفائدة فيه‏.‏

ألا ترى أن الغرض من قوله‏:‏ إن ذاك النجاح في التكبير جله أن يبين المعنى في قوله لصاحبيه بكرا وأن يحتبج لنفسه الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة فيه‏.‏

وكذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله‏:‏ ‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ بيان للمعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم ‏"‏ ولم أمروا بأن يتقوا وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إن صلاتك سكن ‏"‏ بيان للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة أي بالدعاء لهم‏.‏

ولهذا سبيل كل ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى الفاء‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

فأما الذي ذكر عن أبي العباس من جعله لها جواب سائل إذا كانت وحدها‏.‏

وجواب منكر إذا كان معها اللام‏.‏

فالذي يدل على أن لها أصلاً في الجواب أنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جواباً للقسم نحو‏:‏ والله إن زيداً منطلق‏.‏

وامتنعوا من أن يقولوا‏:‏ والله زيد منطلق‏.‏

ثم إنا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيناً في الكثير من مواقعها أنه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً‏.‏

إنا مكنا له في الأرض ‏"‏ وكقوله عز وجل في أول السورة‏:‏ ‏"‏ نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم ‏"‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ‏"‏ وقوله‏:‏ وقل إني أنا النذير المبين ‏"‏ وأشباه ذلك مما يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه‏.‏

وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ‏"‏ وذاك أنه يعلم أن المعنى‏:‏ فاتياه فإذا قال لكما ما شأنكما وما جاء بكما وما تقولان فقولا‏:‏ إنا رسول رب العالمين‏.‏

وكذا قوله‏:‏ ‏"‏ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ‏"‏ هذا سبيله‏.‏

ومن البين في ذلك قوله تعالى في قصة السحرة‏:‏ ‏"‏ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ‏"‏‏.‏

وذاك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله‏:‏ ‏"‏ أمنتم له قبل أن آذن لكم ‏"‏ فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية‏.‏

ثم إن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء هو الذي دون في الكتب من أنها للتأكيد‏.‏

وإذا كان قد ثبت ذلك فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه البتة ولا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنه كائن غير كائن وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن فأنت لا تحتاج هناك إلى إن وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظن في الخلاف وعقد قلب على نفي ماتثبت أو إثبات ما تنفي‏.‏

ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن وبشيء قد جرت عادة الناس بخلافه كقول أبي نواس من السريع‏:‏ إن غنى نفسك في الياس فقد ترى حسن موقعها وكيف قبول النفس لها وليس ذلك ألا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس ولا يدعون الرجاء والطمع ولا يعترف كل أحد ولا يسلم أن الغنى في اليأس‏.‏

فلما كان كذلك كان الموضع موضع إلى التأكيد فلذلك كان من حسنها ما ترى‏.‏

ومثله سواء قول محمد بن وهيب من الطويل‏:‏ أجارتنا إن التعفف بالياس وصبراً على استدرار دنيا بإبساس حريان أن لا يقذفا بمذلة كريماً وأن لا يحوجاه إلى الناس أجارتنا إن القداح كواذب وأكثر أسباب النجاح مع الياس هو كما لا يخفى كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال بل ينكره ويعتقد خلافه‏.‏

ومعلوم أنه لم يقله إلا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرض للناس وعلى الطلب‏.‏

ومن لطيف مواقعها أن يدعى على المخاطب ظن لم يظنه ولكن يراد التهكم به وأن يقال‏:‏ إن حالك والذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك‏.‏

ومثال ذلك قول الأول من السريع‏:‏ جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح يقول‏:‏ إن مجيئه هكذا مدلا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضاً دليل على إعجاب شديد وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد حتى كأن ليس مع أحد منا رمح يدفعه به وكأنا كلنا عزل‏.‏

وإذا كان كذلك وجب إذا قيل إنها جواب سائل أن يشترط فيه أن يكون للسائل ظن في المسؤول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلاً فيه فلا لأنه يؤدي أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل‏:‏ كيف زيد أن تقول‏:‏ صالح‏.‏

وإذا قال‏:‏ أين هو أن تقول‏:‏ في الدار‏.‏

وأن لا يصح حتى تقول‏:‏ إنه صالح وإنه في الدار وذلك ما لا يقوله أحد‏.‏

وأما جعلها إذا جمع بينها وبين اللام نحو‏:‏ إن عبد الله لقائم للكلام مع المنكر فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك إذا كان هناك من يدفعه وينكر صحته‏.‏

إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع فإنه يكون للإنكار أو يرى أن يكون من السامعين‏.‏

وجملة الأمر أنك لا تقول‏:‏ إنه لكذلك حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع فيه عن الإنكار‏.‏

واعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظن قد كان منك أيها المتكلم في الذي كان إنه لا يكون‏.‏

وذلك قولك للشيء‏:‏ هو بمرأى من المخاطب ومسمع إنه كان من الأمر ما ترى وكان مني إلى فلان إحسان ومعروف ثم إنه جعل جزائي ما رأيت‏.‏

فتجعلك كأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ الذي توهمت‏.‏

وعلى ذلك والله أعلم قوله تعالى حكاية عن أم مريم رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت ‏"‏ وكذلك قوله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام‏:‏ ‏"‏ قال رب إن قومي كذبون ‏"‏‏.‏

وليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق والأمور الخفية يدرك بالهوينا ونحن نقتصر الآن على ما ذكرنا ونأخذ في القول عليها إذا اتصلت بها ما‏.‏

مسائل إنما

قال الشيخ أبو علي في الشيرازيات‏:‏ يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ‏"‏‏:‏ إن المعنى‏:‏ ما حرم ربي الا الفواحش‏.‏

قال‏:‏ وأصبت ما يدل على صحة قولهم في هذا وهو قول الفرزدق من الطويل‏:‏ أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجباً أو منفياً‏.‏

فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم‏.‏

ألا ترى أنك لا تقول‏:‏ يدافع أنا ولا يقاتل أنا وإنما تقول‏:‏ أدافع وأقاتل‏.‏

ألا أن المعنى لما كان‏:‏ ما يدافع إلا أنا فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه إلا حملاً على المعنى‏.‏

وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما حرم عليكم الميتة والدم ‏"‏ النصب في الميتة هو القراءة ويجوز‏:‏ إنما حرم عليكم‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ والذي أختاره أن تكون ما هي التي تمنع إن من العمل ويكون المعنى‏:‏ ما حرم عليكم إلا الميتة لأن إنما تأتي إثباتاً لما يذكر بعدها ونفياً لما سواه وقول الشاعر‏:‏ وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي المعنى‏:‏ ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي‏.‏

انتهى كلام أبي علي‏.‏

اعلم أنهم وإن كانوا قد قالوا‏:‏ هذا الذي كتبته لك فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد‏.‏

وفرق بين أن يكون في الشيء معنى الشيء وبين أن يكون الشيء للشيء على الإطلاق‏.‏

يبين لك أنهما لا يكونان سواء أنه ليس كل كلام يصلح فيه ما وإلا يصلح فيه إنما ألا ترى أنها لا تصلح في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما من إله إلا الله ‏"‏ ولا في نحو قولنا‏:‏ ما أحد إلا وهو يقول ذاك‏.‏

إذ لو قلت‏:‏ إنما من إله الله وإنما أحد وهو يقول ذاك قلت ما لا يكون له معنى‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن سبب ذلك أن أحداً لا يقع إلا في النفي وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام وأن من المزيدة في ما من إله إلا الله كذلك لا تكون إلا في النفي‏.‏

قيل‏:‏ ففي هذا كفاية بأنه اعتراف بأن ليسا سواء لأنهما لو كانا سواء لكان ينبغي أن يكون في إنما من النفي مثل ما يكون في ما وإلا‏.‏

وكما وجدت إنما لا تصلح فيما ذكرنا تجد ما وإلا لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه إنما وذلك في مثل قولك‏:‏ إنما هو درهم لا دينار‏.‏

لو قلت ما هو إلا درهم لا دينار لم يكن شيئاً‏.‏

وإذ قد بان بهذه الجملة أنهم حين جعلوا إنما في معنى ما وإلا لم يعنوا أن المعنى فيهما واحد على الإطلاق وأن يسقطوا الفرق فإني أبين لك أمرها وما هو أصل في كل واحد منهما بعون الله وتوفيقه‏.‏

اعلم أن موضوع إنما على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل هذه المنزلة‏.‏

تفسير ذلك أنك تقول للرجل‏:‏ إنما هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به‏.‏

إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب‏.‏

ومثله قول الآخر من الخفيف‏:‏ إنما أنت والد والأب القا طع أحنى من واصل الأولاد لم يرد أن يعلم كافوراً أنه والد ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام ولكنه أراد أن يذكره بالأمر المعلوم لينبني عليه استدعاء ما يوجبه كونه بمنزلة الوالد‏.‏

ومثل ذلك قولهم‏:‏ إنما يعجل من يخشى الفوت‏.‏

وذلك أن من المعلوم الثابت في النفوس أن من لم يخش الفوت لم يعجل‏.‏

ومثاله من التنزيل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يستجيب الذين يسمعون ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما أنت منذر من يخشاها ‏"‏‏.‏

كل ذلك تذكير بأمر ثابت معلوم‏.‏

وذلك أن كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يسمع ويعقل ما يقال له ويدعى إليه‏.‏

وأن من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب‏.‏

وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذاراً ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله ويخشاه ويصدق بالبعث والساعة‏.‏

فأما الكافر الجاهل فالإنذار معه واحد‏.‏

فهذا مثال الخبر فيه خبر بأمر يعلمه المخاطب ولا ينكره بحال‏.‏

وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله من الخفيف‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنها ثابتة لهم وأنهم قد شهروا بها وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يدفعه أحد كما قال‏:‏ وتعذلني أفناء سعد عليهم وما قلت إلا بالذي علمت سعد لا أدعي لأبي العلاء فضيلة حتى يسلمها إليه عداه ومثله قولهم‏:‏ إنما هو أسد وإنما هو نار وإنما هو سيف صارم‏.‏

إذا أدخلوا إنما جعلوا في حكم الظاهر المعلوم الذي لا ينكر ولا يدفع ولا يخفى‏.‏

وأما الخبر بالنفي والإثبات نحو ما هذا إلا كذا وإن هو إلا كذا فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما هو إلا مصيب أو‏:‏ ما هو إلا مخطىء قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته‏.‏

وإذا رأيت شخصاً من بعيد فقلت‏:‏ ما هو إلا زيد لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه ليس بزيد وأنه إنسان آخر ويجد في الإنكار أن يكون زيداً‏.‏

وإذا كان الأمر ظاهراً كالذي مضى لم تقله كذلك فلا تقول للرجل ترققه على أخيه وتنبهه للذي يجب عليه من صلة الرحم ومن حسن التحاب‏:‏ ما هو إلا أخوك‏.‏

وكذلك لا يصلح في‏:‏ إنما أنت والد ما أنت إلا والد‏.‏

فأما نحو‏:‏ إنما مصعب شهاب فيصلح فيه أن تقول‏:‏ ما مصعب إلا شهاب‏.‏

لأنه ليس من المعلوم على الصحة وإنما ادعى الشاعر فيه أنه كذلك‏.‏

وإذا كان هذا هكذا جاز أن تقوله بالنفي والإثبات‏.‏

إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حد المبالغة من حيث لا تكون قد ادعيت فيه أنه معلوم وأنه بحيث لا ينكره منكر ولا يخالف فيه مخالف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ‏"‏‏.‏

إنما جاء والله أعلم بإن وإلا دون إنما فلم يقل‏:‏ إنما أنتم بشر مثلنا لأنهم جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشراً مثلهم وادعوا أمراً لا يجوز أن يكون لمن هو بشر‏.‏

ولما كان الأمر كذلك أخرج اللفظ مخرجه حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب ويدعي خلافه‏.‏

ثم جاء الجواب من الرسل الذي هو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ‏"‏ كذلك بإن وإلا دون إنما لأن من حكم من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلام الخصم على وجهه ويجيء به على هيئته ويحكيه كما هو‏.‏

فإذا قلت للرجل‏:‏ أنت من شأنك كيت وكيت‏.‏

قال‏:‏ نعم أنا من شأني كيت وكيت ولكن لا ضير علي ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم‏.‏

فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا‏:‏ إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم كما قلتم‏:‏ لسنا ننكر ذلك ولا نجهله ولكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون الله تعالى قد من علينا وأكرمنا بالرسالة‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إنما أنا بشر مثلكم ‏"‏‏.‏

فجاء بإنما لأنه ابتداء كلام قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه إياهم ويقوله معهم وليس هو جواباً لكلام سابق قد قيل فيه‏:‏ إن أنت إلا بشر مثلنا‏.‏

فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام ويراعى فيه حذوه كما كان ذلك في الآية الأولى‏.‏

وجملة الأمر أنك متى رأيت شيئاً هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي فذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه‏.‏

فمن ذلك قوله‏.‏

تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير ‏"‏ إنما جاء والله أعلم بالنفي والإثبات لأنه لما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما أنت بمسمع من في القبور ‏"‏‏.‏

وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الإباء ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم مع إصرارهم على كفرهم واستمرارهم على جهلهم وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم‏.‏

كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلى الله عليه وسلم حال من قد ظن أنه يملك ذلك ومن لا يعلم يقيناً أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر‏.‏

فأخرج اللفظ مخرجه إذ كان الخطاب مع من يشك فقيل‏:‏ ‏"‏ إن أنت إلا نذير ‏"‏ ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته‏:‏ إنك لا تستطيع أن تسمع الميت وأن تفهم الجماد وأن تحول الأعمى بصيراً وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج ولست تملك أكثر من ذلك لا تقول هاهنا‏.‏

فإنما الذي بيدك أن تبين وتحتج‏.‏

ذلك لأنك لم تقل له‏:‏ إنك لا تستطيع أن تسمع الميت حتى جعلته بمثابة من يظن أنه يملك وراء الاحتجاج والبيان شيئاً‏.‏

وهذ واضح فاعرفه‏.‏

ومثل هذا في أن الذي تقدم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه من كونه بإن وإلا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ‏"‏‏.‏

اعلم أنها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد عقل منه أنك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره‏.‏

فمعنى الكلام معها شبية لمعنى في قولك‏:‏ جاءني زيد لا عمرو إلا أن لها مزية وهي أنك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة وفي حال واحدة‏.‏

وليس كذلك الأمر في‏:‏ جاءني زيد لا عمرو‏.‏

فإنك تعقلهما في حالين‏.‏

ومزية ثانية وهي أنها تجعل الأمر ظاهراً في أن الجائي زيد ولا يكون هذا الظهور إذا جعلت الكلام بلا فقلت‏:‏ جاءني زيد لا عمرو‏.‏

ثم اعلم أن قولنا في لا العاطفة‏:‏ إنها تنفي عن الثاني ما وجب للأول ليس المراد به أنها تنفي عن الثاني أن يكون قد شارك الأول في الفعل بل إنها تنفي أن يكون فعل الذي قلت إنه كان من الأول قد كان من الثاني دون الأول‏.‏

ألا ترى أن ليس المعنى في قولك‏:‏ جاءني زيد لا عمرو أنه لم يكن من عمرو مجيء إليك مثل ما كان من زيد حتى كأنه عكس قولك‏:‏ جاءني زيد وعمرو‏.‏

بل المعنى أن الجائي هو زيد لا عمرو فهو كلام تقوله مع من يغلط في الفعل قد كان من هذا فيتوهم أنه كان من ذلك‏.‏

والنكتة أنه لا شبهة في أن ليس هاهنا جائيان وأنه ليس إلا جاء واحد وإنما الشبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو‏.‏

فأنت تحقق على المخاطب بقولك‏:‏ جاءني زيد لا عمرو أنه زيد وليس بعمرو‏.‏

ونكتة أخرى وهي أنك لا تقول‏:‏ جاءني زيد لا عمرو حتى يكون قد بلغ المخاطب أنه كان مجيء إليك من جاء‏.‏

إلا أنه ظن أنه كان من عمرو فأعلمته أنه لم يكن من عمرو ولكن من زيد‏.‏

وإذ قد عرفت هذه المعاني في الكلام بلا العاطفة فاعلم أنها بجملتها قائمة لك في الكلام بإنما فإذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد‏.‏

لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء مع زيد غيره ولكن أن تنفي أن يكون المجيء الذي قلت إنه كان منه كان من عمرو‏.‏

وكذلك تكون الشبهة مرتفعة في أن ليس هاهنا جائيان وأن ليس إلا جاء واحد‏.‏

وإنما تكون الشبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو‏.‏

فإذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد‏.‏

حتى يكون قد بلغ المخاطب أن قد جاءك جاء ولكنه ظن أنه عمرو مثلاً فأعلمته أنه زيد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإنه قد يصح أن تقول‏:‏ إنما جاءني من بين القوم زيد وحده وإنما أتاني من جملتهم عمرو فقط‏.‏

فإن ذلك شيء كالتكلف والكلام هو الأول‏.‏

ثم الاعتبار به إذا أطلق فلم يقيد بوحده وما في معناه‏.‏

ومعلوم أنك إذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد ولم تزد على ذلك أنه لا يسبق إلى القلب من المعنى إلا ما قدمنا شرحه من أنك أردت النص على زيد أنه الجائي وأن تبطل ظن المخاطب أن المجيء لم يكن منه ولكن كان من عمرو حسب ما يكون إذا قلت‏:‏ جاءني زيد لا عمرو فاعرفه‏.‏

وإذ قد عرفت هذه الجملة فإنا نذكر جملة من القول في ما وإلا وما يكون من حكمهما‏.‏

اعلم أنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد احتمل أمرين أحدهما‏:‏ أن تريد اختصاص زيد بالمجيء وأن تنفيه عمن عداه‏.‏

وأن يكون كلاماً تقوله لا لأن بالمخاطب حاجة إلى أن تعلم أن زيداً قد جاءك ولكن لأن به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره‏.‏

والثاني‏:‏ أن تريد الذي ذكرناه في إنما ويكون كلاماً تقوله ليعلم أن الجائي زيد لا غيره‏.‏

فمن ذلك قولك للرجل يدعي أنك قلت قولاً ثم قلت خلافه ما قلت اليوم إلا ما قلته أمس بعينه‏.‏

ويقول‏:‏ لم تر زيداً وإنما رأيت فلاناً‏.‏

فتقول‏:‏ بل لم أر إلا زيداً‏.‏

وعلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ‏"‏ لأنه ليس المعنى أني لم أزد على ما أمرتني به شيئاً ولكن المعنى أني لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم وقلت خلافه‏.‏

ومثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله من السريع‏:‏ قد علمت سلمى وجاراتها ما قطر الفارس إلا أنا المعنى‏:‏ أنا الذي قطر الفارس وليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطره وأنه لم يشركه فيه غيره‏.‏

وهاهنا كلام ينبغي أن تعلمه إلا أني أكتب لك من قبله مسألة لأن فيها عوناً عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ في تقديم اسم الله عز وجل معنى خلاف ما يكون لو أخر‏.‏

وإنما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في ما وإلا وحصلت الفرق بين أن تقول‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وبين قولك‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً‏.‏

والفرق بينهما أنك إذا قلت‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو فقدمت المنصوب كان الغرض بيان الضارب من هو والإخبار بأنه عمرو خاصة دون غيره‏.‏

وإذا قلت‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً فقدمت المرفوع كان الغرض بيان المضروب من هو والإخبار بأنه زيد خاصة دون غيره‏.‏

وإذ قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية‏.‏

وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أن الغرض أن يبين الخاشون من هم ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم‏.‏

ولو أخر ذكر اسم الله وقدم العلماء فقيل‏:‏ إنما يخشى العلماء الله لصار المعنى على ضد ما هو عليه الآن ولصار الغرض بيان المخشي من هو والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره‏.‏

ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية‏.‏

بل كان يكون المعنى أن غير العلماء يخشون الله تعالى أيضاً إلا أنهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره والعلماء لا يخشون غير الله تعالى‏.‏

وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا يخشون أحداً إلا الله ‏"‏ فليس هو الغرض في الآية ولا اللفظ بمحتمل له البتة‏.‏

ومن أجاز حملها عليه كان قد أبطل فائدة التقديم وسوى بين قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ وبين أن يقال‏:‏ إنما يخشى العلماء الله‏.‏

وإذا سوى بينهما لزمه أن يسوي بين قولنا‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وبين‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً‏.‏

وذلك ما لا شبهة في امتناعه‏.‏

فهذه هي المسألة‏.‏

وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بين أن الكلام بما وإلا قد يكون في معنى الكلام بإنما‏.‏

ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وما ضرب عمرو إلا زيداً أنه في الأول لبيان من الضارب‏.‏

وفي الثاني لبيان من المضروب وإن كان تكلفاً أن تحمله على نفي الشركة فتريد بما ضرب زيداً إلا عمرو أنه لم يضربه اثنان وبما ضرب عمرو إلا زيداً أنه لم يضرب اثنين‏.‏

ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا كتأخيره ولم يكن ما ضرب زيداً إلا عمرو وما ضرب عمرو إلا زيداً سواء في المعنى أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول ولا يقع فيهما جميعاً‏.‏

ثم إنه يقع في الذي يكون بعد إلا منهما دون الذي قبلها لاستحالة أن يحدث معنى الحرف في الكلمة قبل أن يجيء الحرف‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يفترق الحال بين أن تقدم المفعول على إلا فتقول‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو وبين أن تقدم الفاعل فتقول‏:‏ ما ضرب عمرو إلا زيداً‏.‏

لأنا إن زعمنا أن الحال لا يفترق جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه‏.‏

وذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى إلا في الاسم من قبل أن تجيء بها فاعرفه‏.‏

وإذ قد عرفت أن الاختصاص معنى إلا يقع في الذي تؤخره من الفاعل والمفعول فكذلك يقع مع إنما في المؤخر منهما دون المقدم‏.‏

فإذا قلت‏:‏ إنما ضرب زيداً عمرو كان الاختصاص في الضارب‏.‏

وإذا قلت‏:‏ إنما ضرب عمرو زيداً كان الاختصاص في المضروب‏.‏

وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع إلا كذلك لا يجوز مع إنما‏.‏

وإذا استبنت هذه الجملة عرفت منها أن الذي صنعه الفرزدق في قوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي شيء لو لم يصنعه لم يصح له المعنى‏.‏

ذاك لأن غرضه أن يخص المدافع لا المدافع عنه‏.‏

وأنه لا يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم كما يكون إذا قال‏:‏ وما أدافع إلا عن أحسابهم‏.‏

وليس ذلك معناه إنما معناه أن يزعم أن المدافع هو غيره فاعرف ذلك فإن الغلط كما أظن يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون‏:‏ إنه فصل الضمير للحمل على المعنى‏.‏

فيرى أنه لو لم يفصله لكان يكون معناه مثله الآن‏.‏

هذا ولا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة فيجعل مثلاً نظير قول الآخر من الهزج‏:‏ كأنا يوم قرى إن نما نقتل إيانا لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك من حيث إن أدافع ويدافع واحد في الوزن فاعرف هذا أيضاً‏.‏

وجملة الأمر أن الواجب أن يكون اللفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق وذلك لا يكون إلا بأن يقدم الأحساب على ضميره وهو لو قال‏:‏ وإنما أدافع عن أحسابهم استكن ضميره في الفعل فلم يتصور تقديم الأحساب عليه ولم يقع الأحساب إلا مؤخراً عن ضمير الفرزدق‏.‏

وإذا تأخرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة‏.‏

فإن قلت‏:‏ إنه كان يمكنه أن يقول‏:‏ وإنما أدافع عن أحسابهم أنا فيقدم الاحساب على أنا‏.‏

قيل إنه إذا قال‏:‏ أدافع كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل وكان أنا الظاهر تأكيداً له أعني للمستكن‏.‏

والحكم يتعلق بالمؤكد دون التأكيد لأن التأكيد كالتكرير فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم ولا يكون تقديم الجار مع المجرور الذي هو قوله عن أحسابهم على الضمير الذي هو تأكيد تقديماً له على الفاعل لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل‏.‏

ولا يكون لك إذا قلت‏:‏ وإنما أدافع عن أحسابهم سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل لأن ذكر الفاعل هاهنا هو ذكر الفعل من حيث إن الفاعل مستكن في الفعل فكيف يتصور تقديم شيء عليه فاعرفه‏.‏

واعلم أنك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخرتهما جميعاً إلى ما بعد إلا فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي إلا منهما‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما ضرب إلا عمرو زيداً كان الاختصاص في الفاعل وكان المعنى أنك قلت‏:‏ إن الضارب عمرو لا غيره‏.‏

وإن قلت‏:‏ ما ضرب إلا زيداً عمرو كان الاختصاص في المفعول وكان المعنى أنك قلت‏:‏ إن المضروب زيد لا من سواه‏.‏

وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك‏.‏

تقول‏:‏ لم يكس إلا زيداً جبة‏.‏

فيكون المعنى أنه خص الجبة من أصناف الكسوة‏.‏

وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولي جار ومجرور كقول السيد الحميري من السريع‏:‏ لو خير المنبر فرسانه ما اختار إلا منكم فارسا الاختصاص في منكم دون فارساً‏.‏

ولو قلت‏:‏ ما اختار إلا فارساً منكم صار الاختصاص في فارساً‏.‏

واعلم أن الأمر في المبتدأ والخبر إن كانا بعد إنما على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول إذا أنت قدمت أحدهما على الآخر‏.‏

معنى ذلك أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدمه على المبتدأ كان الاختصاص فيه‏.‏

وإن قدمته على المبتدأ صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ‏.‏

تفسير هذا أنك تقول‏:‏ إنما هذا لك‏.‏

فيكون الاختصاص في لك بدلالة أنك تقول‏:‏ إنما هذا لك لا لغيرك‏.‏

وتقول‏:‏ إنما لك هذا‏.‏

فيكون الاختصاص في لك بدلالة أنك تقول‏:‏ إنما هذا لك لا لغيرك وتقول‏:‏ إنما لك هذا فيكون الاختصاص في هذا بدلالة أنك تقول‏:‏ إنما لك هذا لا ذاك‏:‏ والاختصاص يكون أبداً في الذي إذا جئت بلا العاطفة كان العطف عليه‏.‏

وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحاً فانظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ‏"‏ وقوله عز وعلا‏:‏ ‏"‏ إنما السبيل على الذين يستأذنونك ‏"‏‏.‏

فإنك ترى الأمر ظاهراً أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو البلاغ والحساب دون الخبر الذي هو عليك وعلينا وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو على الذين دون المبتدأ الذي هو السبيل‏.‏

واعلم أنه إذا كان الكلام بما وإلا كان الذي ذكرته من أن الاختصاص يكون في الخبر إن لم تقدمه وفي المبتدأ إن قدمت الخبر أوضح وأبين تقول‏:‏ ما زيد إلا قائم فيكون المعنى أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها بجعله صفة له‏.‏

وتقول‏:‏ ما قائم إلا زيد فيكون المعنى أنك اختصصت زيداً بكون موصوفاً بالقيام‏.‏

فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف وفي الثاني الموصوف على الصفة‏.‏

واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو ما زيد إلا قائم أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها ونفيت ما عدا القيام عنه‏.‏

فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام نحو أن يكون جالساً أو مضطجعاً أو متكئاً أو ما شاكل ذلك‏.‏

ولم نرد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل إذ لسنا ننفي عنه بقولنا‏:‏ ما هو إلا قائم أن يكون أسود أو أبيض أو طويلاً أو قصيراً أو عالماً أو جاهلاً‏.‏

كما إنا إذا قلنا‏:‏ ما قائم إلا زيد لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم سواه وإنما نعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك‏.‏

واعلم أن الأمر بين في قولنا‏:‏ ما زيد إلا قائم أن ليس المعنى على نفي الشركة ولكن على نفي أن لا يكون المذكور ويكون بدله شيء آخر‏.‏

ألا ترى أن ليس المعنى أنه ليس له مع القيام صفة أخرى بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام وأن ليس القيام منفياً عنه وكائناً مكانه فيه القعود أو الإضطجاع أو نحوهما‏.‏

فإن قلت‏:‏ فصورة المعنى إذا صورته إذا وضعت الكلام بإنما فقلت‏:‏ إنما هو قائم‏.‏

ونحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف بلا فتقول‏:‏ إنما هو قائم لا قاعد ولا نرى ذلك جائزاً مع ما وإلا إذ ليس من كلام الناس أن يقولوا‏:‏ ما زيد إلا قائم لا قاعد فإن ذلك إنما لم يجز من حيث إنك إذا قلت‏:‏ ما زيد إلا قائم فقد نفيت عنه كل صفة تنافي القيام‏.‏

وصرت كأنك قلت‏:‏ ليس هو بقاعد ولا مضطجع ولا متكىء‏.‏

وهكذا حتى لا تدع صفة يخرج بها من القيام‏.‏

فإذا قلت من بعد ذلك‏:‏ لا قاعد كنت قد نفيت بلا العاطفة شيئاً قد بدأت فنفيته وهي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت فأوجبته لا لأن تفيد بها النفي في شيء قد نفيته‏.‏

ومن ثم لم يجز أن تقول‏:‏ ما جاءني أحد لا زيد على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم أحد فتنفيه على الخصوص بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول‏:‏ ما جاءني أحد ولا زيد فتجيء بالواو من قبل لا حتى تخرج بذلك عن أن تكون عاطفة فاعرف ذلك‏.‏

وإذ قد عرفت فساد أن تقول‏:‏ ما زيد إلا قائم لا قاعد فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول‏:‏ ما جاءني إلا زيد لا عمرو وما ضربت إلا زيداً لا عمراً وما شاكل ذلك‏.‏

وذلك أنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ لا عمرو كنت قد طلبت أن تنفي بلا العاطفة شيئاً قد تقدمت فنفيته وذلك كما عرفتك خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإنك إذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد فقد نفيت فيه أيضاً أن يكون المجيء قد كان من غيره فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضاً أن تعطف بلا فتقول‏:‏ إنما جاءني زيد لا عمرو قيل‏:‏ إن الذي قلته من أنك إذا قلت‏:‏ إنما جاءني زيد فقد نفيت فيه أيضاً المجيء عن غيره غير مسلم لك على حقيقته وذلك أنه ليس معك إلا قولك‏:‏ جاءني زيد وهو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتة كما كان في قولك‏:‏ ما جاءني إلا زيد‏.‏

وإنما فيه أنك وضعت يدك على زيد فجعلته الجائي‏.‏

وذلك وإن أوجب انتفاء المجيء عن غيره فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شيء‏.‏

وإنما أوجبه من حيث كان المجيء الذي أخبرت به مجيئاً مخصوصاً إذا كان لزيد لم يكن لغيره‏.‏

والذي أبيناه أن تنفي بلا العاطفة عن ونظير هذا أنا نعقل من قولنا‏:‏ زيد هو الجائي‏.‏

أن هذا المجيء لم يكن من غيره ثم لا يمنع ذلك من أن تجيء فيه بلا العاطفة فتقول‏:‏ زيد هو الجائي لا عمرو‏.‏

لأنا لم نعقل عقلناه من انتفاء المجيء عن غيره بنفي أوقعناه على شيء ولكن بأنه لما كان المجيء المقصود مجيئاً واحداً كان النص على زيد بأنه فاعله وإثباته له نفياً له عن غيره ولكن من طريق المعقول لا من طريق أن كان في الكلام نفي كما كان ثم فاعرفه‏.‏

فإن قيل فإنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني إلا زيد‏.‏

ولم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر كان المجيء أيضاً مجيئاً واحداً‏.‏

قيل‏:‏ إنه وإن كان واحداً فإنك إنما تثبت أن زيداً الفاعل له بأن نفيت المجيء عن كل من سوى زيد كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر‏.‏

وإذا كان كذلك كان ما قلناه من أنك إن جئت بلا العاطفة فقلت‏:‏ جاءني إلا زيد لا عمرو كنت قد نفيت الفعل عن شيء قد نفيته عنه مرة صحيحاً ثابتاً كما قلنا فاعرفه‏.‏

واعلم أن حكم غير في جميع ما ذكرنا حكم إلا فإذا قلعت‏:‏ ما جاءني غير زيد احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر وأن تريد نفي أن لا يكون جاء وجاء مكانه واحد آخر‏.‏

ولا يصح أن تقول‏:‏ ما جاءني غير زيد لا عمرو‏.‏

كما لم يجز ما جاءني إلا زيد لا عمرو‏.‏

اعلم أن الذي ذكرناه من أنك تقول‏:‏ ما ضرب إلا عمرو زيداً‏.‏

فتوقع الفاعل والمفعول جميعاً بعد إلا ليس بأكثر الكلام وإنما الأكثر أن تقدم المفعول على إلا نحو ما ضرب زيداً إلا عمرو‏.‏

حتى إنهم ذهبوا فيه أعني في قولك‏:‏ ما ضرب إلا عمرو زيداً إلى أنه على كلامين وأن زيداً منصوب بفعل مضمر حتى كأن المتكلم بذلك أبهم في أول أمره فقال‏:‏ ما ضرب إلا عمرو‏.‏

ثم قيل له‏:‏ من ضرب فقال‏:‏ ضرب زيداً‏.‏

وهاهنا إذا تأملت معنى لطيف يوجب ذلك وهو أنك إذا قلت‏:‏ ما ضرب زيداً إلا عمرو كان غرضك أن تختص عمراً بضرب زيد لا بالضرب على الإطلاق‏.‏

وإذا كان كذلك وجب أن تعدي الفعل إلى المفعول من قبل أن تذكر عمراً الذي هو الفاعل لأن السامع لا يعقل عنك أنك اختصصته بالفعل معدى حتى تكون قد بدأت فعديته‏.‏

أعني‏:‏ لا يفهم عنك أنك أردت أن تختص عمراً بضرب زيد حتى تذكره له معى إلى زيد‏.‏

فأما إذا ذكرته غير معدى فقلت‏:‏ ما ضرب إلا عمرو‏.‏

فإن الذي يقع في نفسه أنك أردت أن تزعم أنه لم يكن من أحد غير عمرو ضرب وأنه ليس هاهنا مضروب إلا وضاربه عمرو فاعرفه أصلاً في شأن التقديم والتأخير‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 3:57 am

إنما وظن

إن قيل‏:‏ مضيت في كلامك كله على أن إنما للخبر لا يجهله المخاطب ولا يكون ذكرك له لأن تفيده إياه‏.‏

وإنا لنراها في كثير من الكلام‏.‏

والقصد بالخبر بعدها أن تعلم السامع أمراً قد غلط فيه بالحقيقة واحتاج إلى معرفته كمثل ما ذكرت في أول الفصل الثاني من قولك‏:‏ إنما جاءني زيد لا عمرو‏.‏

وتراها كذلك تدور في الكتب للكشف عن معان غير معلومة ودلالة المتعلم منها على ما لا يعلم‏.‏

قيل‏:‏ أما ما يجيء في الكلام من نحو‏:‏ إنما جاء زيد لا عمرو فإنه وإن كان يكون إعلاماً لأمر لا يعلمه السامع فإنه لا بد مع ذلك من أن يدعى هناك فضل انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر‏.‏

وقد قسمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت إنها تجيء للخبر لا يجهله السامع ولا ينكر صحته أو لما تنزل هذه المنزلة‏.‏

وأما ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه وشيء يدل عليه‏.‏

مثال ذلك أن صاحب الكتاب قال في باب كان‏:‏ إذا قلت‏:‏ كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك وإنما ينتظر الخبر‏.‏

فإذا قلت‏:‏ حليماً فقد أعلمته‏.‏

مثل ما علمت‏.‏

وإذا قلت‏:‏ كان حليماً فإنما ينتظر أن تعرفه صاحب الصفة‏.‏

وذاك أنه إذا كان معلوماً أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر ولا خبر من غير مبتدأ كان معلوماً أنك إذا قلت‏:‏ كان زيد‏.‏

فالمخاطب ينتظر الخبر‏.‏

وإذا قلت‏:‏ كان حليماً أنه ينتظر الاسم فلم يقع إذاً بعد إنما إلا شيء كان معلوماً للسامع من قبل أن ينتهي إليه‏.‏

ومما الأمر فيه بين قوله في باب ظننت‏:‏ وإنما تحكي بعد قلت ما كان كلاماً لا قولاً وذلك أنه معلوم أنك لا تحكي بعد قلت إذا كنت تنحو نحو المعنى إلا ما كان جملة مفيدة‏.‏

فلا تقول‏:‏ قال فلان‏:‏ زيد وتسكت اللهم إلا أن تريد أنه نطق بالاسم على هذه الهيئة كأنك تريد أنه ذكره مرفوعاً‏.‏

ومثل ذلك قولهم‏:‏ إنما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل عليه‏.‏

إلى أشباه ذلك مما لا يحصى‏.‏

فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع فلأن الدليل عليه حاضر منعه والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب‏.‏

واعلم أنه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق‏.‏

ومما يجب أن يعلم أنه إذا كان الفعل بعدها فعلاً لا يصح إلا من المذكور ولا يكون من غيره كالتذكر الذي يعلم أنه لا يكون إلا من أولي الألباب لم يحسن العطف بلا فيه كما يحسن فيما لا يختص بالمذكور ويصح من غيره‏.‏

تفسير هذا أنه لا يحسن أن تقول‏:‏ إنما يتذكر أولو الألباب لا الجهال‏.‏

كما يحسن أن تقول‏:‏ إنما يجيء زيد لا عمرو‏.‏

ثم إن النفي فيما يجيء فيه النفي يتقدم تارة ويتأخر أخرى‏.‏

فمثال التأخير ما تراه في قولك‏:‏ إنما يجيء زيد لا عمرو‏.‏

وكقول لبيد من الرمل‏:‏ إنما يجزي الفتى ليس الجمل ومثال التقديم قولك‏:‏ ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو‏.‏

وهذا مما أنت تعلم به مكان الفائدة فيها وذلك أنك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت‏:‏ ما جاءني زيد وجاءني عمرو لكان الكلام مع من ظن أنهما جاءاك جميعاً وأن المعنى الآن مع دخولها أن كلام مع من غلط في عين الجائي فظن أنه كان زيداً لا عمراً‏.‏

وأمر آخر وهو ليس ببعيد أن يظن الظان أنه ليس في انضمام ما إلى إن فائدة أكثر من أنها تبطل عملها حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها كافة‏.‏

ومكانها هاهنا يزيل هذا الظن ويبطله‏.‏

وذلك أنك ترى أنك لو قلت‏:‏ ما جاءني زيد وإن عمراً جاءني لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي عمرو لا زيد بل يكون دخول إن كالشيء الذي لا يحتاج إليه ووجدت المعنى ينبو عنه‏.‏

ثم اعلم أنك إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه نحو أنا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يتذكر أولو الألباب ‏"‏ أن يعلم السامعون ظاهر معناه ولكن أن يذم الكفار وأن ئقال‏:‏ إنهم من فرط العناد‏.‏

ومن غلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل‏.‏

وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكروا كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إنما أنت منذر من يخشاها ‏"‏ وقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ‏"‏ المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فهو كأنه ليس له أذن تسمع وقلب يعقل‏.‏

فالإنذار معه كلا إنذاز‏.‏

ومثال ذلك من الشعر قوله من مجزوء الرمل‏:‏ أنا لم أرزق محبتها إنما للعبد ما رزقا الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطمع من وصلها وييأس من أن يكون منها إسعاف‏.‏

ومن ذلك قوله من البسيط‏:‏ وإنما يعذر العشاق من عشقا يقول‏:‏ إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه وأنه ينبغي أن لا ينكر ذلك منه فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق‏.‏

ولو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره‏.‏

وقوله من الكامل‏:‏ ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنما يدعى الطبيب لساعة الأوصاب يقول في البيت الأول‏:‏ إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه‏.‏

ويقول في الثاني‏:‏ إنا قد وضعنا الشيء في موضعه وطلبنا الأمر من جهته حين استعنا بك فيما عرض من الحاجة وعولنا على فضلك‏.‏

كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب بالتعويل موضعه وطلب الشيء من معدنه‏.‏

ثم إن العجب في أن هذا التعريض الذي ذكرت لك لا يحصل من دون إنما فلو قلت‏:‏ يتذكر أولو الألباب لم يدل على ما دل عليه في الآية وإن كان الكلام لم يتغير في نفسه وليس إلا أنه ليس فيه إنما‏.‏

والسبب في ذلك أن هذا التعريض إنما وقع بأن كان من شأن إنما أن تضمن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات والتصريح بامتناع التذكر ممن لا يعقل‏.‏

وإذا اسقطت من الكلام فقيل‏:‏ يتذكر أولو الألباب كان مجرد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكرون‏.‏

ولم يكن فيه معنى نفي للتذكر عمن ليس منهم‏.‏

ومحال أن يقع تعرض لشيء ليس له في الكلام ذكر ولا فيه دليل عليه‏.‏

فالتعريض بمثل هذا أعني بأن يقول‏:‏ يتذكر أولو الألباب بإسقاط إنما يقع إذاً إن وقع بمدح إنسان بالتيقظ وبأنه فعل ما فعل وتنبه لما تنبه له لعقله ولحسن تمييزه كما يقال‏:‏ كذلك يفعل العاقل وهكذا يفعل كريم‏.‏

وهذا موضع فيه دقة وغموض وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنه ينبغي أن يتعرف سببه ويبحث عن حقيقة الأمر فيه‏.‏

ومما يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني إنما ما عرفتك أولاً من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيل فيه المتكلم أنه معلوم ويدعي أنه من الصحة بحيث يدفعه دافع كقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الله ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن من الطويل‏:‏ ألا أيها الناهي فزارة بعدما أجدت لغزو إنما أنت حالم ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود‏:‏ ‏"‏ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ‏"‏ دخلت إنما لتدل على أنهم حين ادعوا لأنفسهم أنهم مصلحون أظهروا أنهم يدعون من ذلك أمراً ظاهراً معلوماً‏.‏

وكذلك أكد الأمر في تكذيبهم والرد عليهم فجمع بين الاالذي هو للتنبيه وبين إن الذي هو للتأكيد فقال‏:‏ ‏"‏ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ‏"‏‏.‏

المحاكاة والنظم

أعلم أنه لا يصح تقدير الحكاية في النظم والترتيب بل لن تعدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف وذلك أن الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكي عنه ولا بد أن تكون حكايته فعلاً له وأن يكون بها عاملاً عملاً مثل عمل المحكي عنه نحو أن يصوغ إنسان خاتماً فيبدع فيه صنعة ويأتي في صناعته بخاصة تستغرب فيعمد واحد آخر فيعمل خاتماً على تلك الصورة والهيئة ويجيء بمثل صنعته فيه ويؤديها كما هي فيقال عند ذلك‏:‏ إنه قد حكى عمل فلان وصنعة فلان‏.‏

والنظم والترتيب في الكلام كما بينا عمل يعمله مؤلف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها‏.‏

وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخى فيها ترتيباً يحدث عنه ضرب من النقش والوشي‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فإنا إن تعدينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم والترتيب أدى ذلك إلى المحال وهو أن يكون المنشد شعر امرىء القيس قد عمل في المعاني وترتيبها واستخراج النتائج والفوائد مثل عمل امرىء القيس وأن يكون حاله إذا أنشد قوله من الطويل‏:‏ فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضة فيجيء بمثلها في ذهبه وفضته‏.‏

وذلك يخرج بمرتكب إن ارتكبه إلى أن يكون الراوي مستحقاً لأن يوصف بأنه استعار وشبه وأن يجعل كالشاعر في كل ما يكون به ناظماً فيقال إنه جعل هذا فاعلاً وذاك مفعولاً وهذا مبتدأ وذاك خبراً‏.‏

وجعل هذا حالاً وذاك صفة‏.‏

وأن يقال نفى كذا وأثبت كذا وأبدل كذا من كذا وأضاف كذا إلى كذا وعلى هذا السبيل كما يقال ذاك في الشاعر‏.‏

وإذا قيل ذاك لزم منه أن يقال فيه‏:‏ صدق وكذب كما يقال في المحكي عنه وكفى بهذا بعداً وإحالة‏.‏

ويجمع هذا كله أنه يلزم منه أن يقال إنه قال شعراً كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله‏:‏ إنه قد صاغ خاتماً‏.‏

وجملة الحديث أنا نعلم ضرورة أنه لا يتأتى لنا أن ننظم كلاماً من غير روية وفكر فإن كان راوي الشعر ومنشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته فينبغي أن لا يتأتى له رواية شعره إلا بروية وإلا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه الشاعر من أمر النظم وهذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشاك‏.‏

هذا وسبب دخول الشبهة على من دخلت عليه أنه لما رأى المعاني لا تتجلى للسامع إلا من الألفاظ وكان لا يوقف على الأمور التي بتوخيها يكون النظم إلا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتبة على الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس‏.‏

وجرت العادة بأن تكون المعاملة مع الألفاظ فيقال‏:‏ قد نظم ألفاظاً فأحسن نظمها وألف كلماً فأجاد تأليفها جعل الألفاظ الأصل في النظم وجعله يتوخى فيها أنفسها وترك أن يفكر في الذي بيناه من أن النظم هو توخي معاني النحو في معاني الكلم وأن توخيها في متون الألفاظ محال فلما جعل هذا في نفسه ونشب هذا الاعتقاد به خرج له من ذلك أن الحاكي إذا أدى ألفاظ الشعر على النسق الذي سمعها عليه كان قد حكى نظم الشاعر كما حكى لفظه وهذه شبهة قد ملكت قلوب الناس وعششت في صدورهم وتشربتها نفوسهم حتى إنك لترى كثيراً منهم وهو من حلولها عندهم محل العلم الضروري بحيث إن أومأت له إلى شيء مما ذكرناه اشمأز لك وسك سمعه دونك وأظهر التعجب منك وتلك جريرة ترك النظر وأخذ الشيء من غير معدنه‏.‏

ومن الله التوفيق‏.‏

ضرورة ترتيب الكلام ونسبته إلى صاحبه

اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم وأوضاع لغة ولكن من حيث توخي فيها النظم الذي بينا أنه عبارة عن توخي معاني النحو في معاني الكلم وذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص فهي تتناول الشيء من الجهة التي تختص منها بالمضاف إليه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ غلام زيد تناولت الإضافة للغلام من الجهة التي يختص منها بزيد وهو كونه مملوكاً وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختص منها الشعر بقائله‏.‏

وإذا نظرنا وجدناه يختص به من جهة توخيه في معاني الكلم التي ألفه منها ما توخاه من معاني النحو‏.‏

ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الإختصاص ورأينا حالها معها حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الديباج وحال الفضة والذهب مع من يصوغ منهما الحلي فكما لا يشتبه الأمر في أن الديباج لايختص بناسجه من حيث الإبريسم والحلي بصائغها من حيث الفضة والذهب ولكن من جهة العمل والصنعة كذلك ينبغي أن لا يشتبه أن الشعر لايختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة‏.‏

ويزداد تبيناً لذلك بأن ينظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت‏:‏ امرؤ القيس قائل هذا الشعر‏.‏

من أين جعلته قائلاً له من حيث نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه أم من حيث صنع في معانيها ما صنع وتوخى فيها ما توخى فإن زعمت أنك جعلته قائلاً له من حيث إنه نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه على النسق المخصوص فاجعل راوي الشعر قائلاً له فإنه ينطق بها ويخرجها من فيه على الهيئة والصورة التي نطق بها الشاعر وذلك ما لا سبيل لك إليه‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن الراوي وإن كان نطق بألفاظ الشعر على الهيئة والصورة التي نطق بها الشاعر فإنه لم يبتدىء فيها النسق والترتيب وإنما ذلك شيء ابتدأه الشاعر‏.‏

فلذلك جعلته القائل له دون الراوي‏.‏

قيل لك‏:‏ خبرنا عنك أترى أنه يتصور أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله من الطويل‏:‏ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هذا الترتيب من غير أن يتوخى في معانيها ما تعلم أن امرأ القيس توخاه من كون نبك جواباً للأمر وكون من معدية له إلى ذكرى وكون ذكرى مضافة إلى حبيب وكون منزل معطوفاً على حبيب أم ذلك محال فإن شككت في استحالته لم تكلم وإن قلت‏:‏ نعم هو محال‏.‏

قيل لك‏:‏ فإذا كان محالاً أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخى في معانيها معاني النحو كان قولك‏:‏ إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيباً قولاً بما لا يتحصل‏.‏

وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة إن لم يقدم فيه ما قدم ولم يؤخر ما أخر وبدىء بالذي ثني به أو ثني بالذي ثلث به لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصنعة‏.‏

وإذا كان كذلك فينبغي أن ينظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصنعة‏:‏ أفي الألفاظ يحصل له ذلك أم في معاني الألفاظ وليس في الإمكان أن يشك عاقل إذا نظر أن ليس ذلك في الألفاظ وإنما الذي يتصور أن يكون مقصوداً في الألفاظ هو الوزن وليس هو من كلامنا في شيء لأنا نحن فيما لا يكون الكلام إلا به وليس للوزن مدخل في ذلك‏.‏

ضرورة ربط اللفظ بالمعنى

واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت وقلت وشرحت في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث اللفظ لربما ظننت أني لم أصنع شيئاً وذاك أنك ترى الناس كأنه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده على التقليد البحت وعلى التوهم والتخيل‏.‏

وإطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى قد صار ذاك الدأب والديدن واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد‏.‏

وهذا الذي بيناه وأوضحناه كأنك ترى أبداً حجاباً بينهم وبين أن يعرفوه وكأنك تسمعهم منه شيئاً تلفظه أسماعهم وتنكره نفوسهم‏.‏

وحتى كأنه كلما كان الأمر أبين وكانوا عن العلم به أبعد وفي توهم خلافه أقعد وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم وتأشب لأ فيها ودخل بعروقه في نواحيها وصار كالنبات السوء الذي كلما قلعته عاد فنبت‏.‏

والذي له صاروا كذلك أنهم حين رأوهم يفردون اللفظ عن المعنى ويجعلون له حسناً على حدة ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا‏:‏ إن منه ماحسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناة ومنه ما حسن معناه دون لفظه ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى ظنوا أن للفظ من حيث هو لفظ حسناً ومزية ونبلاً وشرفاً وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة‏.‏

وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن لهم في ذلك رأياً وتدبيراً وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض وبين الصورة التي يخرج فيها فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى إلى اللفظ ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له كقولهم إنه حلي المعنى وإنه كالوشي عليه وإنه قد كسب المعنى دلا وشكلاً وإنه رشيق أنيق وإنه متمكن وإنه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصر إلى أشباه ذلك مما لا يشك أنه لا يكون وصفاً له من حيث هو لفظ وصدى صوت‏.‏

إلا أنهم كأنهم رأوا بسلاً حراماً أن يكون لهم في ذلك فكر وروية وأن يميزوا فيه قبيلاً من دبير‏.‏

ومما الصفة فيه للمعنى وإن جرى في ظاهر المعاملة على اللفظ إلا أنه يبعد عند الناس كل البعد أن يكون الأمر فيه كذلك وأن لا يكون من صفة اللفظ بالصحة والحقيقة وصفنا اللفظ بأنه مجاز‏.‏

وذاك أن العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين الحقيقة والمجاز‏:‏ الحقيقة أن يقر اللفظ على أصله في اللغة والمجاز أن يزال عن موضعه ويستعمل في غير ما وضع له فيقال‏:‏ أسد ويراد شجاع‏.‏

وبحر ويراد جواد‏.‏

وهو وإن كان شيئاً قد تحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصة فيه كالعامة فإن الأمر بعد فيه على خلافه‏.‏

وذاك أنا إذا حققنا لم نجد لفظ أسد قد استعمل على القطع والبت في غير ما وضع له‏.‏

ذاك لأنه يجعل في معنى شجاع على الإطلاق ولكن جعل الرجل بشجاعته أسداً فالتجوز في أن ادعيت للرجل أنه في معنى الأسد وأنه كأنه هو في قوة قلبه وشدة بطشه وفي أن الخوف لا يخامره والذعر لا يعرض له‏.‏

وهذا إن أنت حصلت تجوز منك في معنى اللفظ وإنما يكون اللفظ مزالاً بالحقيقة عن موضعه ومنقولاً عما وضع له أن لو كنت تجد عاقلاً يقول‏:‏ هو أسد وهو لا يضمر في نفسه تشبيهاً له بالأسد ولا يريد إلا ما يريده إذا قال شجاع وذلك ما لا يشك في بطلانه‏.‏

وليس العجب إلا أنهم لا يذكرون شيئاً من المجاز إلا قالوا‏:‏ إنه أبلغ من الحقيقة فليت شعري إن كان لفظ أسد قد نقل عما وضع له في اللغة وأزيل عنه وجعل يراد به شجاع هكذا غفلاً ساذجاً‏.‏

فمن أين يجب أن يكون قولنا‏:‏ أسد أبلغ من قولنا شجاع وهكذا الحكم في الاستعارة هي وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة اللفظ وكنا نقول‏:‏ هذه لفظة مستعارة وقد استعير له اسم الأسد إن مآل الأمر إلى أن القصد بها إلى المعنى‏.‏

يدلك على ذلك أنا نقول‏:‏ جعله أسداً وجعله بدراً وجعله بحراً‏.‏

فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى لم يكن لهذا الكلام وجه لأن جعل لا تصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء‏.‏

كقولنا‏:‏ جعلته أميراً وجعلته واحد دهره تريد‏:‏ أثبت له ذلك‏.‏

وحكم جعل إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير فكما لا تقول‏:‏ صيرته أميراً إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة كذلك لا يصح أن تقول‏:‏ جعلته أسداً إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد‏.‏

ولا يقال‏:‏ جعلته زيداً‏.‏

بمعنى سميته زيداً ولا يقال للرجل‏:‏ اجعل ابنك زيداً بمعنى سمه زيداً وولد لفلان ابن فجعله زيداً‏.‏

وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصل‏.‏

فأما قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ‏"‏ فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها وذاك أن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث واعتقدوا وجودها فيهم‏.‏

وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم البنات‏.‏

وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث أو لفظ البنات اسماً من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة‏.‏

هذا محال لا يقوله عاقل أما تسمع قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ‏"‏ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم فأي معنى لأن يقال‏:‏ أشهدوا خلقهم هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ولم يزيدوا على أن وضعوه اسماً لما استحقوا إلا اليسير من الذم ولما كان هذا القول منهم كفراً والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى‏.‏

وجملة الأمر أنه إن قيل‏:‏ إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط ومن قبيح التورط من الذهاب مع الظنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا الشأن ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب‏.‏

وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ‏"‏ ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن معجز ثم يصدون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله ويسلكون غير سبيله‏.‏

ولقد جنوا لو دروا ذاك عظيماً‏.‏

واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أن لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصر الغاية وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلف لما لا يحتاج إليه فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة يرى أنه يعرض للمسلم نفسه عند اعتراض الشك‏.‏

وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبه الكلم في ضم بعضها إلى بعض بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ورأى أن الذي ينسج الديباج ويعمل النقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه شيئاً غير أن يضم بعضه إلى بعض ويتخير للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى في ظنه أن حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض وفي تخير المواقع لها حال خيوط الإبريسم سواء ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضم فيها ضماً ولا الموقع موقعاً حتى يكون قد توخى فيها معاني النحو وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضاً من غير أن تتوخى فيها معاني النحو لم تكن صنعت شيئاً تدعى به مؤلفاً وتشبه معه بمن عمل نسجاً أو صنع على الجملة صنيعاً ولم يتصور أن تكون قد تخيرت لها المواقع‏.‏

وفساد هذا وشبيهه من الظن وإن كان معلوماً ظاهراً فإن هاهنا استدلالاً لطيفاً تكثر بسببه الفائدة وهو أنه يتصور أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه من غير أن يحول منه لفظاً عن موضعه أو يبدله بغيره أو يغير شيئاً من ظاهر أمره على حال‏.‏

مثال ذلك أنك إن قدرت في بيت أبي تمام من الطويل‏:‏ لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري الجنى اشتارته أيد عواسل أن لعاب الأفاعي مبتدأ ولعابه خبر كما يوهمه الظاهر أفسدت عليه كلامه وأبطلت الصورة التي أرادها فيه وذلك أن الغرض أن يشبه مدار قلمه بلعاب الأفاعي على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات وكذلك الغرض أن يشبه مداده بأري الجني على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقته عندها وأدخل السرور واللذة عليها‏.‏

وهذا المعنى إنما يكون إذا كان لعابه مبتدأ ولعاب الأفاعي خبراً‏.‏

فأما تقديرك أن يكون لعاب الأفاعي مبتدأ و لعابه خبراً فيبطل ذلك ويمنع منه البتة ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مراداً في مثل غرض أبي تمام وهو أن يكون أراد أن يشبه لعاب الأفاعي بالمداد ويشبه كذلك الأري به‏.‏

فلو كان حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم لكان ينبغي أن لا تتغير الصورة الحاصلة من نظم كلم حتى تزال عن مواضعها‏.‏

كما لا تتغير الصورة الحادثة عن ضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض حتى تزال الخيوط عن مواضعها‏.‏

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه سبيل قولهم‏:‏ عتابك السيف‏.‏

وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك تشبه شيئاً بشيء لجامع بينهما في وصف‏.‏

وليس المعنى في عتابك السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف ولكن على أن تزعم أنه يجعل السيف بدلاً من العتاب‏.‏

أفلا ترى أنه يصح أن تقول‏:‏ مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي ولا يصح أن تقول‏:‏ عتابك كالسيف‏.‏

اللهم إلا أن خرج إلى باب آخر وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام فتريد أنه قد عاتب عتاباً خشناً مظلماً‏.‏

ثم إنك إن قلت‏:‏ السيف عتابك خرجت به إلى معنى ثالث وهو أن تزعم أن عتابه‏.‏

قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغاً صار له السيف كأنه ليس بسيف‏.‏

واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه ظن لذلك أن المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها‏.‏

فإن هذا الذي بيناه يريه فساد هذا الظن‏.‏

وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعاً للألفاظ في ترتيبها لكان محالاً أن تتغير المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة‏.‏

واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبراً ثم يقدم الذي هو الخبر إلا أشكل الأمر عليك فيه فلم تعلم أن المقدم خبر حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر‏.‏

أنشد الشيخ أبو علي في التذكرة من الخفيف‏:‏ نم وإن لم أنم كراي كراكا ثم قال‏:‏ ينبغي أن يكون كراي خبراً مقدماً ويكون الأصل كراك كراي أي نم وإن لم أنم فنومك نومي‏.‏

كما تقول‏:‏ قم وإن جلست فقيامك قيامي‏.‏

هذا هو عرف الاستعمال في نحوه‏.‏

ثم قال‏:‏ وإذا كان كذلك فقد قدم الخبر وهو معرفة وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبراً‏.‏

قال‏:‏ فهو كبيت الحماسة من الطوبل‏:‏ بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فقدم خبر المبتدأ وهو معرفة‏.‏

وإنما دل على أنه ينوي التأخير المعنى ولولا ذلك لكانت المعرفة إذا قدمت هي المبتدأ لتقدمها فافهم ذلك‏.‏

هذا كله لفظه‏.‏

واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة من غير أن تغير من لفظه شيئاً أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر وهو الذي وسع مجال التأويل والتفسير حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير وهو على ذاك الطريق المزلة الذي ورط كثيراً من الناس في الهلكة‏.‏

وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم وينكشف معه عوار الجاهل به ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه‏.‏

ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصح إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر‏.‏

ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلاً بهذا العلم فيتسكع عند ذلك في العمى ويقع في الضلال‏.‏

مثال ذلك أن من نظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ‏"‏‏.‏

ثم لم يعلم أن ليس المعنى في ادعوا الدعاء ولكن الذكر بالاسم كقولك‏:‏ هو يدعى زيداً ويدعى الأمير‏.‏

وأن في الكلام محذوفاً وأن التقدير‏:‏ قل أدعوه الله أو ادعوه الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع في الشرك من حيث إنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره خرج ذلك به والعياذ بالله تعالى إلى إثبات مدعوين تعالى عن أن يكون له شريك‏.‏

وذلك من حيث كان محالاً أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شيء واحد فتعطف أحدهما على الآخر فتقول مثلاً‏:‏ ادع لي زيداً الأمير والأمير هو زيد‏.‏

وكذلك محال أن تقول‏:‏ أيا تدعو وليس هناك إلا مدعو واحد لأن من شأن أي أن تكون أبداً واحداً من اثنين أو جماعة ومن لم يكن له بد من الاضافة إما لفظاً وإما تقديراً‏.‏

وهناك باب واسع من المشكل فيه قراءة من قرأ ‏"‏ وقالت اليهود عزير ابن الله ‏"‏ بغير تنوين وذلك أحدهما أن يكون القارىء له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين ولم يحركه كقراءة من قرأ‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد الله الصمد ‏"‏ بترك التنوين من أحد‏:‏ وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ ‏"‏ ولا الليل سابق النهار ‏"‏ بالنصب فقيل له‏:‏ ماتريد فقال أريد سابق النهار‏.‏

قيل‏:‏ فهلا قلته‏.‏

فقال‏:‏ فلو قلته لكان أوزن‏.‏

وكما جاء في الشعر من قوله من المتقارب‏:‏ فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلاً إلى نظائر ذلك‏.‏

فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الآخرى سواء‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون الابن صفة ويكون التنوين قد سقط على حد سقوطه في قولنا‏:‏ جاءني زيد بن عمرو ويكون في الكلام محذوف‏.‏

ثم اختلفوا في المحذوف فمنهم من جعله مبتدأ فقدر وقالت اليهود هو عزير ابن الله ومنهم من جعله خبراً فقدر وقالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله معبودنا وفي هذا أمر عظيم‏.‏

وذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاماً أنت تريد أن تكذبه فيه فإن التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبراً دون ما كان صفة‏.‏

تفسير هذا أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال‏:‏ زيد بن عمرو سيد ثم كذبته فيه ولم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو ولكن أن يكون سيداً‏.‏

وكذلك إذا قال‏:‏ زيد الفقية قد قدم فقلت له‏:‏ كذبت أو غلطت لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيهاً ولكن أن يكون قد قدم‏.‏

هذا ما لا شبهة فيه وذلك أنك إذا كذبت قائلاً في كلام أو صدقته فإنما ينصرف التكذيب منك والتصديق إلى إثباته ونفيه‏.‏

والإثبات والنفي يتناولان الخبر دون الصفة يدلك على ذلك أنك تجد الصفة ثابتة في حال النفي كثبوتها في حال الإثبات‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما جاءني زيد الظريف كان الظرف ثابتاً لزيد كثبوته إذا قلت‏:‏ جاءني زيد الظريف‏.‏

وذلك ليس ثبوت الصفة للذي هي صفة له بالمتكلم وبإثباته لها فتنتفي بنفيه‏.‏

وإنما ثبوتها بنفسها وبتقرر الوجود فيها عند المخاطب مثله عند المتكلم لأنه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللبس على المخاطب‏.‏

تفسير ذلك أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف فإنك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظريف إذا كان فيمن يجيء إليك واحد آخر يسمى زيداً‏.‏

فأنت تخشى إن قلت‏:‏ جاءني زيد ولم تقل الظريف أن يلتبس على المخاطب فلا يدري‏:‏ أهذا عنيت أم ذاك وإذا كان الغرض من ذكر الصفة إزالة اللبس والتبيين كان محالاً أن تكون غير معلومة عند المخاطب وغير ثابتة‏.‏

لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشيء للمخاطب بوصف هولا يعلمه في ذلك الشيء وذلك ما لا غاية وراءه في الفساد‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك كان جعل الابن صفة في الآية مؤدياً إلى الأمر العظيم وهو إخراجه عن موضع النفي والإنكار إلى موضع الثبوت والاستقرار‏.‏

جل الله تعالى عن شبه المخلوقين وعن جميع ما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن هذه قراءة معروفة والقول بجواز الوصفية في الابن كذلك معروف ومدون في الكتب وذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلاً يدخل به الابن في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه قيل‏:‏ إن القراءة كما ذكرت معروفة والقول بجواز أن يكون الابن صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت‏.‏

ولكن الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق الخبر دون الصفة ليس بالشيء الذي يعترض فيه شك أو تتسلط عليه شبهة‏.‏

فليس يتجه أن يكون الابن صفة ثم يلحقه الإنكار مع ذلك إلا على تأويل غامض وهو أن يقال‏:‏ إن الغرض الدلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم ورسوخهم في هذا الشرك أنهم كانوا يذكرون عزيراً هذا الذكر‏.‏

كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم وغلوا في تعظيمه‏:‏ إني أراهم قد اعتقدوا أمراً عظيماً فهم يقولون أبداً زيد الأمير تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه إلا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه إذا أنت لم تقدر له خبراً معيناً ولكن تريد أنهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا‏.‏

ومما هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ‏"‏‏.‏

وذلك أنهم قد ذهبوا في رفع ثلاثة إلى أنها خبر مبتدأ محذوف وقالوا‏:‏ إن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وليس ذلك بمستقيم‏.‏

وذلك أنا إذا قلنا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ذلك والعياذ بالله شبه الإثبات أن هاهنا آلهة من حيث إنك إذا نفيت فإنما تنفي المستفاد من الخبر عن المبتدأ ولا تنفي معنى المبتدأ‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما زيد منطلقاً نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن زيد ولم تنف معنى زيد ولم توجب عدمه‏.‏

كان ذلك كذلك فإذا قلنا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كنا قد نفينا أن تكون عدة الآلهة ولم ننف أن تكون آلهة جل الله تعالى عن الشريك والنظير كما أنك إذا قلت‏:‏ أمراؤنا ثلاثة كنت قد نفيت أن تكون عدة الأمراء ثلاثة ولم تنف أن يكون لكم أمراء ما لا شبهة فيه‏.‏

وإذا أدى هذا التقدير إلى هذا الفساد وجب أن يعدل عنه إلى غيره‏.‏

والوجه والله أعلم أن تكون ثلاثة صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ ويكون التقدير‏:‏ ولا تقولوا لنا ثلاثة أو في الوجود آلهة ثلاثة ثم حذف الخبر الذي هو لنا أو في الوجود كما حذف من ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ و ‏"‏ ما من إله إلا الله ‏"‏ فبقي‏:‏ ولا تقولوا‏:‏ آلهة ثلاثة ثم حذف الموصوف الذي هو آلهة فبقي ولا تقولوا ثلاثة‏.‏

وليس في حذف ما قدرنا حذفه ما يتوقف في صحته أما حذف الخبر الذي قلنا إنه لنا أو في الوجود فمطرد في كل ما معناه التوحيد ونفي أن يكون مع الله تعالى عن ذلك إله‏.‏

وأما حذف الموصوف بالعدد فكذلك شائع‏.‏

وذلك أنه كما يسوغ أن تقول‏:‏ عندي ثلاثة وأنت تريد ثلاثة أثواب‏.‏

ثم تحذف لعلمك أن السامع يعلم ما تريد‏.‏

كذلك يسوغ أن تقول‏:‏ عندي ثلاثة وأنت تريد أثواب ثلاثة لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميزاً وبين أن تجعله موصوفاً بالعدد في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد‏.‏

ويبين ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره ثم لا تستطيع أن تقدره إلا موصوفاً وذلك في قولك عندي اثنان وعندي واحد يكون المحذوف هاهنا موصوفاً لا محالة نحو‏:‏ عندي رجلان اثنان وعندي درهم واحد‏.‏

ولا يكون مميزاً البتة من حيث كانوا قد رفضوا إضافة الواحد والاثنين إلى الجنس فتركوا أن يقولوا‏:‏ واحد رجال واثنان رجال على حذف رجال‏.‏

ولذلك كان قول الشاعر من الرجز‏:‏ ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل شاذاً‏.‏

هذا ولا يمتنع أن تجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف فتجعل التقدير‏:‏ ولا تقولوا ثلاثة آلهة ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى ويكون المعنى والله أعلم ولا تقولوا لنا أو في الوجود ثلاثة آلهة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدر‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة فذاك لأنا إذا جعلنا التقدير‏:‏ ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة كما نفيناه في ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ و ‏"‏ وما من إله إلا الله ‏"‏‏.‏

وإذا زعموا أن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة ولم ينفوا وجود الآلهة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر وذاك أنه يجوز إذا قلت‏:‏ ليس لنا أمراء ثلاثة أن يكون المعنى ليس لنا أمراء ثلاثة ولكن لنا أميران اثنان‏.‏

وإذا كان كذلك كان تقديرك وتقديرهم جميعاً خطأ‏.‏

قيل‏:‏ إن هاهنا أمراً قد غفلته وهو أن قولهم آلهتنا‏:‏ يوجب ثبوت آلهة جل الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

وقولنا‏:‏ ليس لنا آلهة لا يوجب ثبوت اثنين البتة‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن كان لا يوجبه فإنه لا بنفيه‏.‏

فقيل‏:‏ ينفيه ما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما الله إله واحد ‏"‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإنه كما ينفي الإلهين كذلك ينفي الآلهة‏.‏

وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديرهم صحيحاً كتقديرك‏.‏

قيل‏:‏ هو كما قلت‏:‏ ينفي الآلهة‏.‏

ولكنهم إذا زعموا أن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وكان ذلك والعياذ بالله من الشرك يقتضي إثبات آلهة كانوا قد دفعوا هذا النفي وخالفوه وأخرجوه إلى المناقضة‏.‏

فإذا كان كذلك كان محالاً أن يكون للصحة سبيل إلى ما قالوه وليس كذلك الحال فيما قدرناه لأنا لم نقدر شيئاً يقتضي إثبات إلهين تعالى الله حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما‏.‏

يبين لك ذلك أنه يصح لنا أن نتبع ما قدرناه نفي الاثنين ولا يصح لهم‏.‏

تفسير ذلك أنه يصح أن تقول‏:‏ ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان لأن ذلك يجري مجرى أن تقول‏:‏ ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان وهذا صحيح‏.‏

ولا يصح لهم أن يقولوا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا إلهان لأن ذلك يجري مجرى أن يقولوا‏:‏ ولا تقولوا آلهتنا إلهان وذلك فاسد فاعرفه وأحسن تأمله‏.‏

ثم إن هاهنا طريقاً آخر وهو أن تقدر‏:‏ ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة‏.‏

أي نعبدهما كما نعبد الله‏.‏

يبين ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ‏"‏ وقد استقر في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف وأن يجعلوهما شبيهين له قالوا‏:‏ هم ثلاثة‏.‏

كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه‏:‏ هما اثنان‏.‏

على هذا السبيل كأنهم يقولون‏:‏ هم يعدون معداً واحداً‏.‏

ويوجب لهم التساوي والتشارك في الصفة والرتبة وما شاكل ذلك‏.‏

واعلم أنه لا معنى لأن يقال‏:‏ إن القول حكاية‏.‏

وإنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة لأنه يجري مجرى أن تقول‏:‏ إن من دين الكفار أن يقولوا الآلهة ثلاثة‏.‏

وذلك لأن الخطاب في الآية للنصارى أنفسهم ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ‏"‏‏.‏

وإذا كان الخطاب للنصارى كان تقدير الحكاية محالاً فتقولوا إذاً في معنى لا تعتقدوا‏.‏

وإذا كان في معنى الاعتقاد لزم إذا قدر ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ما قلنا إنه يلزم من إثبات الآلهة وذلك لأن الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه‏.‏

فإذا قلت‏:‏ لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدة لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء‏.‏

هذا ما لا يشك فيه عاقل وإنما يكون النهي عن ذلك إذا قلت‏:‏ لا تعتقد أن هاهنا أمراء لأنك حينئذ تصير كأنك قلت‏:‏ لا تعتقد وجود أمراء‏.‏

هذا ولو كان الخطاب مع المؤمنين لكان تقدير الحكاية لا يصح أيضاً‏.‏

ذاك لأنه لا يجوز أن يقال‏:‏ إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت كيف وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ‏"‏‏.‏

ومن أين يصح النهي عن حكاية قول المبطل وفي ترك حكايته ترك له وكفر وامتناع من النفي عليه والإنكار لقوله والاحتجاج عليه وإقامة الدليل على بطلانه‏.‏

لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلا من بعد حكاية القول والإفصاح به فاعرفه‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 4:04 am

اللفظ والاستعارة

بسم الله الرحمن الرحيم اللفظ والاستعارة وشواهد تحليلية للمعنى اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي يسري في العروق ويفسد مزاج البدن وجب أن يتوخى دائباً فيهم ما يتوخاه الطبيب في الناقه من تعهده بما يزيد في منته ويبقيه على صحته ويؤمنه النكس في علته‏.‏

وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي‏.‏

فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساساً وبنوا على قاعدة فقالوا‏:‏ إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث‏.‏

وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة وأن يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث إن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض وأن يكون معناهما متغايراً وغير متغاير معاً‏.‏

ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم‏:‏ لفظ متمكن غير قلق ولا ناب به موضعه‏.‏

إلى سائر ما ذكرناه قبل فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف‏.‏

ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصة التي حدثت فيه ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال‏:‏ وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة وسط الطريق يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير‏.‏

وما يعنونه إذا قالوا‏:‏ إنه يأخذ الحديث فيشنفه ويقرطه ويأخذ المعنى خرزة فيرده جوهرة وعباءة فيجعله ديباجة ويأخذه عاطلاً فيجعله حالياً‏.‏

وليس كون هذا مرادهم بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه‏.‏

ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله وتولى الأمر غير البصير به أعضل الداء واشتد البلاء‏.‏

ولو لم يكن من الدليل على أنهم لم ينحلوا اللفظ الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلا واحد وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى وأنه حلي له لكان فيه الكفاية‏.‏

وذاك أن الألفاظ أدلة على المعاني وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه‏.‏

فأما أن يصير بالدليل على صفة لم يكن عليها فمما لا يقوم في عقل ولا يتصور في وهم‏.‏

ومما إذا تفكر فيه العاقل أطال التعجب من أمر الناس ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا الآخذ والسرقة‏:‏ إن من أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به‏.‏

وهو كلام مشهور متداول يقرؤه الصبيان في أول كتاب عبد الرحمن‏.‏

ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في اللفظ يفكر في ذلك فيقول‏:‏ من أين يتصور أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدل عليه ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده إن كان المراد باللفظ نطق اللسان ثم هب أنه يصح له أن يفعل ذلك فمن أين يجب إذا وضع لفظاً على معنى أن يصير أحق من صاحبه الذي أخذه منه إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئاً ولا يحدث فيه صفة ولا يكسبه فضيلة‏.‏

وإذا كان كذلك فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون اللفظ في قولهم‏:‏ فكساه لفظاً من عنده كان عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى فإن قالوا‏:‏ بلى يكون وهو أن يستعير للمعنى لفظاً قيل‏:‏ الشأن في أنهم قالوا‏:‏ إذا أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به‏.‏

والاستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ ولا ترون المستعير يصنع بالمعنى شيئاً وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه‏.‏

وإذا كان كذلك فمن أين ليت شعري يكون أحق به فاعرفه‏.‏

ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت أبي نخيلة‏.‏

وذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد الملك من الطويل‏:‏ أمسلم إني يابن كل خليفة ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرض شكرتك إن الشكر حبل من التقى وما كل من أوليته صالحاً يقضي وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً ولكن بعض الذكر أنبه من بعض فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال من الطويل‏:‏ لقد زدت أوضاحي امتداداً ولم أكن بهيماً ولا أرضى من الأرض مجهلا ولكن أياد صادفتني جسامها أغر فأوفت بي أغر محجلا وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن قال‏:‏ ومن الأمثال القديمة قولهم‏:‏ ‏"‏ حراً أخاف على جاني كمأة لا قراً ‏"‏ يضرب مثلاً للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم يخفه فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال من الكامل‏:‏ وقال لبيد من المنسرح‏:‏ أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد قال‏:‏ وأخذه البحتري فأحسن وطغى اقتداراً على العبارة واتساعاً في المعنى فقال من الكامل‏:‏ # لو أنني أوفي التجارب حقها فيما أرت لرجوت ما أخشاه وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب أيضاً‏.‏

أنشد لإبراهيم بن المهدي من السريع‏:‏ يامن لقلب صيغ من صخرة في جسد من لؤلؤ رطب جرحت خديه بلحظي فما برحت حتى اقتص من قلبي ثم قال‏:‏ قال علي بن هارون‏:‏ أخذه أحمد بن فنن معنى ولفظاً فقال من الكامل‏:‏ أدميت باللحظات وجنته فاقتص ناظره من القلب قال‏:‏ ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه قد صار أولى به‏.‏

ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى وشيئاً طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع فإنه على كل حال لم يقل في البحتري إنه أحسن فطغى اقتداراً على العبارة من أجل حروف أنني أوفي وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة من أجل حروف‏:‏ أدميت باللحظات وجنته واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبر عنه واحداً والعبارة اثنتين ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن فإنه ينبغي أن يكون السبب كونها أفصح وأحسن اللفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين‏.‏

فلما رأوا أنه إذا قيل في الكلمتين إن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت ولم يكن المعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل ولقد غلطوا فأفحشوا لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة معناها ولا يعرض لنظمه وتأليفه كمثل أن يقول في بيت الحطيئة من البسيط‏:‏ دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها واجلس فإنك أنت الآكل اللابس وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد وأن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى‏.‏

ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعاً شيئاً يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام ومستأنف عبارة وقائل شعر‏.‏

ذاك لأن بيت الحطيئة لم يكن كلاماً وشعراً من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجردة معراة من معاني النظم والتأليف بل منها متوخى فيها ما ترى من كون المكارم مفعولاً لدع وكون قوله‏:‏ لا ترحل لبغيتها جملة أكدت الجملة قبلها وكون اقعد معطوفاً بالواو على مجموع ما مضى وكون جملة أنت الطاعم الكاسي معطوفة بالفاء على اقعد‏.‏

فالذي يجيء فلا يغير شيئاً من هذا الذي به ن كلاماً وشعراً لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئاً البتة‏.‏

وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة‏.‏

كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وحروف كلاماً وشعراً من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه‏.‏

فإذاً ليسلمن يتصدى لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها إلا أن يسترك عقله ويستخف ويعد معد الذي حكي أنه قال‏:‏ إني قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان‏.‏

قال حسان من الكامل‏:‏ يغشون حتى ماتهر كلابهم لايسألون عن السواد المقبل يغشون حتى كما تهر كلابهم أبداً ولا يسلون من ذا المقبل فقيل‏:‏ هو بيت حسان ولكنك قد أفسدته‏!‏

واعلم أنه إنما أتي القوم من قلة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد وفي كلامهم في أخذ الشاعر من الشاعر وفي أن يقول الشاعران على الجملة في معنى واحد وفي الأشعار التي دونوها في هذا المعنى‏.‏

ولو أنهم كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب وتدبروا ما فيها حق التدبر لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم وكشف الغطاء عن أعينهم‏.‏

وقد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد‏.‏

وهو ينقسم قسمين‏:‏ قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجاً وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب‏.‏

وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصور‏.‏

وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلاً وفي الآخر مصوراً مصنوعاً ويكون ذلك إما لأن متأخراً قصر عن متقدم وإما لأن هدي متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي من السريع‏:‏ مع قول البحتري من الكامل‏:‏ ليل يصادفني ومرهفة الحشا ضدين أسهره لها وتنامه وقول البحتري من البسيط‏:‏ ولو ملكت زماعاً ظل يجذبني قوداً لكان ندى كفيك من عقلي مع قول المتنبي من الطويل‏:‏ وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا وقول المتنبي من الكامل‏:‏ إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ومن فوقها والبأس والكرم المحض مع قول البحتري من الكامل‏:‏ ظللنا نعود الجود من وعكك الذي وجدت وقلنا‏:‏ اعتل عضو من المجد وقول المتنبي من الكامل‏:‏ يعطيك مبتدئاً فإن أعجلته أعطاك معتذراً كمن قد أجرما مع قول أبي تمام من الكامل‏:‏ أخو عزمات فعله فعل محسن إلينا ولكن عذره عذر مذنب كريم متى استوهبت ما أنت راكب وقد لقحت حرب فإنك نازل مع قول البحتري من البسيط‏:‏ ماض على عزمه في الجود لو وهب ال شباب يوم لقاء البيض ما ندما وقول المتنبي من الخفيف‏:‏ والذي يشهد الوغى ساكن القل ب كأن القتال فيها ذمام مع قول البحتري من الطويل‏:‏ لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم على أن ذاك الزي زي محارب وقول أبي تمام من الكامل‏:‏ الصبح مشهور بغير دلائل من غيره ابتغيت ولا أعلام مع قول المتنبي من الوافر‏:‏ وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل وقول أبي تمام من الوافر‏:‏ وفي شرف الحديث دليل صدق لمختبر على الشرف القديم مع قول المتنبي من البسيط‏:‏ وقول البحتري من الكامل‏:‏ وأحب آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب مع قول المتنبي من الطويل‏:‏ وكل امرىء يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب وقول المتنبي من الطويل‏:‏ يقر له بالفضل من لا يوده ويقضي له بالسعد من لا ينجم مع قول البحتري من الكامل‏:‏ لا أدعي لأبي العلاء فضيلة حتى يسلمها إليه عداه وقول خالد الكاتب من المتقارب‏:‏ رقدت ولم ترث للساهر وليل المحب بلا آخر مع قول بشار من الطويل‏:‏ لخديك من كفيك في كل ليلة إلى أن ترى ضوء الصباح وساد تبيت تراعي الليل ترجو نفاده وليس لليل العاشقين نفاد وقول أبي تمام من الوافر‏:‏ وقول البحتري من الطويل‏:‏ تناذر أهل الشرق منه وقائعاً أطاع لها العاصون في بلد الغرب مع قول مسلم من البسيط‏:‏ لما نزلت على أدنى ديارهم ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد وقول محمد بن بشير من البسيط‏:‏ افرغ لحاجتنا مادمت مشغولاً فلو فرغت لكنت الدهر مبذولا مع قول أبي علي البصير من الطويل‏:‏ فقل لسعيد أسعد الله جده‏:‏ لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما تناط بك الآمال ما اتصل الشغل وقول البحتري من الكامل‏:‏ من غادة منعت وتمنع وصلها فلو أنها بذلت لنا لم تبذل مع قول ابن الرومي من مجزوء الكامل‏:‏ ومن البلية أنني علقت ممنوعاً منوعا وقول أبي تمام من الطويل‏:‏ مع قول البحتري من البسيط‏:‏ إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي‏:‏ كيف اعتذر وقول أبي تمام من البسيط‏:‏ قد يقدم العير من ذعر على الأسد مع قول البحتري من الطويل‏:‏ فجاء مجيء العير قادته حيرة إلى أهرت الشدقين تدمى أظافره وقول معن بن أوس من الطويل‏:‏ إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل مع قول العباس بن الأحنف من البسيط‏:‏ نقل الجبال الرواسي من أماكنها أخف من رد قلب حين ينصرف وقول أمية بن أبى الصلت من الطويل‏:‏ عطاؤك زين لامرىء إن أصبته بخير وما كل العطاء يزين‏!‏ مع قول أبي تمام من البسيط‏:‏ تدعى عطاياه وفراً وهي إن شهرت كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفاً وقول جرير من الطويل‏:‏ بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق مع قول أبي نواس من الطويل‏:‏ إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق وقول كثير من الطويل‏:‏ إذا ما أرادت خلة أن تزيلنا أبينا وقلنا‏:‏ الحاجبية أول مع قول أبي تمام من الكامل‏:‏ نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول وقول المتنبي من الطويل‏:‏ وعند من اليوم الوفاء لصاحب شبيب وأوفى من ترى أخوان مع قول أبي تمام من الطويل‏:‏ فلا تحسبا هنداً لها الغدر وحدها سجية نفسة كل غانية هند وقول البحتري من الطويل‏:‏ ولم أر في رنق الصرى لي مورداً فحاولت ورد النيل عند احتفاله قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا وقول المتنبي من المنسرح‏:‏ كأنما يولد الندى معهم لا صغر عاذر ولا هرم مع قول البحتري من الطويل‏:‏ عريقون في الإفضال يؤتنف الندى لناشئهم من حيث يؤتنف العمر وقول البحتري من الطويل‏:‏ فلا تغلين بالسيف كل غلائه ليمضي فإن الكف لا السيف تقطع مع قول المتنبي من الطويل‏:‏ إذا الهند سوت بين سيفي كريهة فسيفك في كف تزيل التساويا وقول البحتري من الكامل‏:‏ ساموك من حسد فأفضل منهم غير الجواد وجاد غير المفضل فبذلت فينا ما بذلت سماحة وتكرماً وبذلت ما لم يبذل مع قول أبي تمام من الطويل‏:‏ أرى الناس منهاج الندى بعدما عفت مهايعه المثلى ومحت لواحبه وقول المتنبي من البسيط‏:‏ بيضاء تطمع فيما تحت حلتها وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا مع قول البحتري من الكامل‏:‏ تبدو بعطفة مطمع حتى إذا شغل الخلي ثنت بصدفة مؤيس وقول المتنبي من الكامل‏:‏ إذكار مثلك ترك إذكاري له إذ لا تريد لما أريد مترجما مع قول أبي تمام من الخفيف‏:‏ وإذا المجد كان عوني على المر ء تقاضيته بترك التقاضي وقول أبي تمام من الكامل‏:‏ فنعمت من شمس إذا حجبت بدت من خدرها فكأنها لم تحجب مع قول قيس بن الخطيم من المنسرح‏:‏ قضى لها الله حين صورها ال خالق ألا يكنها سدف وقول المتنبي من الخفيف‏:‏ راميات بأسهم ريشها الهد ب تشق القلوب قبل الجلود رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز ظواهر جلدي وهو في القلب جارح وقول بعض شعراء الجاهلية ويعزى إلى لبيد من الكامل‏:‏ ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ليصحني فإذا السلامة داء مع قول أبي العتاهية من الرجز‏:‏ أسرع في نقص امرىء تمامه تدبر في إقبالها أيامه وقوله من مجزوء الكامل‏:‏ أقلل زيارتك الحبي ب تكون كالثوب استجده إن الصديق يمله أن لا يزال يراك عنده مع قول أبي تمام من الطويل‏:‏ وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد وقول الخريمي من الرمل‏:‏ زاد معروفك عندي عظماً أنه عندك محقور صغير تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور كبير مع قول المتنبي من المنسرح‏:‏ وقول البحتري من الوافر‏:‏ ألم تر للنوائب كيف تسمو إلى أهل النوافل والفضول مع قول المتنبي من البسيط‏:‏ أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن وقول المتنبي من الطويل‏:‏ تذلل لها واخضع على القرب والنوى فما عاشق من لا يذل ويخضع مع قول بعض المحدثين من مجزوء الرمل‏:‏ كن إذا أحببت عبداً للذي تهوى مطيعا لن تنال الوصل حتى تلزم النفس الخضوعا وقول مضرس بن ربعي من الطويل‏:‏ لعمرك إني بالخليل الذي له علي دلال واجب لمفجع وإني بالمولى الذي ليس نافعي ولا ضائري فقدانه لممتع مع قول المتنبي من الطويل‏:‏ أما تغلط الأيام في بأن أرى بغيضاً ثنائي أو حبيباً تقرب مظلومة القد في تشبيهه غصناً مظلومة الريق في تشبيهه ضربا مع قوله من الطويل‏:‏ إذانحن شبهناك بالبدر طالعاً بخسناك حظاً أنت أبهى وأجمل ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى لأنك أحمى للحريم وأبسل القسم الثاني‏:‏ ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويراً وأستاذية على الجملة فمن ذلك وهو من النادر قول لبيد من الرمل‏:‏ واكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل مع قول نافع بن لقيط من الكامل‏:‏ وإذا صدقت النفس لم تترك لها أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب وقول رجل من الخوارج أتي به الحجاج في جماعة من أصحاب قطري فقتلهم ومن عليه ليد كانت عنده وعاد إلى قطري فقال له قطري‏:‏ عاود قتال عدو الله الحجاج فأبى وقال من الكامل‏:‏ أأقاتل الحجاج عن سلطانه بيد تقر بأنها مولاته وتحدث الأقوام أن صنائعاً غرست لدي فحنظلت نخلاته مع قول أبي تمام من الطويل‏:‏ أسربل هجر القول من لو هجوته إذا لهجاني عنه معروفه عندي وقول النابغة من الطويل‏:‏ إذا ما غدا با لجيش حلق فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الصفان أول غالب مع قول أبي نواس من مجزوء الرمل‏:‏ وإذا مج القنا علقاً وتراءى الموت في صوره راح في ثنيي مفاضته أسد يدمى شبا ظفره تتأيا الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره المقصود البيت الأخير‏.‏

وحكى المرزباني قال‏:‏ حدثني عمرو الوراق‏:‏ رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها‏:‏ أيها المنتاب عن عفره فحسدته‏.‏

فلم بلغ إلى قوله‏:‏ قلت له‏:‏ ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول‏:‏ إذا ما غدا بالجيش‏:‏ البيتين فقال اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع‏.‏

وهذا الكلام من أبي نواس دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة‏.‏

ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئاً لكان قوله‏:‏ فما أسأت الاتباع‏:‏ محالاً‏.‏

لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ‏.‏

ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى وذلك أن هاهنا معنيين‏:‏ أحدهما أصل وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدواً كان الظفر له وكان هو الغالب‏.‏

والآخر فرع وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى‏.‏

وقد عمد النابغة إلى الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب فذكره صريحاً وكشف عن وجهه‏.‏

واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى‏.‏

وإنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى‏.‏

وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحاً فقال كما ترى‏:‏ ثقة بالشبع من جزره وعول في الأصل الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال‏:‏ من جزره‏.‏

وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له‏.‏

أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة أرجع إلى النسق‏.‏

ومن ذلك قول أبي العتاهية من الخفيف‏:‏ شيم فتحت من المدح ما قد كان مستغلقاً على المداح مع قول أبي تمام من الكامل‏:‏ نظمت له خرز المديح مواهب ينفثن في عقد اللسان المفحم وقول أبي وجزة من الوافر‏:‏ أتاك المجد من هنا وهنا وكنت له كمجتمع السيول مع قول منصور النمري من البسيط‏:‏ إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع وقول بشار من البسيط‏:‏ الشيب كره وكره أن يفارقني أعجب بشيء على البغضاء مودود مع قول البحتري من الوافر‏:‏ تعيب الغانيات علي شيبي ومن لي أن أمتع بالمعيب وقول أبي تمام من الوافر‏:‏ مع قول ابن الرومي من الطويل‏:‏ إمام يظل الأمس يعمل نحوه تلفت ملهوف ويشتاقه الغد لا تنظر إلى أنه قال‏:‏ يشتاقه الغد فأعاد لفظ أبي تمام ولكن النظر إلى قوله يعمل نحوه تلفت ملهوف‏.‏

وقول أبي تمام من الطويل‏:‏ لئن ذمت الأعداء سوء صباحها فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر مع قول المتنبي من المتقارب‏:‏ وأنبت منهم ربيع السباع فأثنت بإحسانك الشامل وقول أبي تمام من البسيط‏:‏ ورب نائي المغاني روحه أبداً لصيق روحي ودان ليس بالداني مع قول المتنبي من الوافر‏:‏ لنا ولأهله أبداً قلوب تلاقى في جسوم ما تلاقى وقول أبي هفان من الرمل‏:‏ أصبح الدهر مسيئاً كله ما له إلا ابن يحيى حسنه أزالت بك الأيام عتبي كأنما بنوها لها ذنب وأنت لها عذر وقول علي بن جبلة من الكامل‏:‏ وأرى الليالي ما طوت من قوتي ردته في عظتي وفي إفهامي مع قول ابن المعتز من المتقارب‏:‏ وما ينتقص من شباب الرجال يزد في نهاها وألبابها وقول بكر بن النطاح من الطويل‏:‏ لو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله مع قول المتنبي من المنسرح‏:‏ إنك من معشر إذا وهبوا ما دون أعمارهم فقد بخلوا وقول البحتري من الطويل‏:‏ ومن ذا يلوم البحر أن بات زاخراً يفيض وصوب المزن أن راح يهطل مع قول المتنبي من البسيط‏:‏ وما ثناك كلام الناس عن كرم ومن يسد طريق العارض الهطل وقول الكندي من الكامل‏:‏ إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها أو يطلبوا لا يدركوا بترات مع قول المتنبي من الطويل‏:‏ تفيت الليالي كل شيء أخذته وهن لما يأخذن منك غوارم وقول أبي تمام من الطويل‏:‏ إذا سيفه أضحى على الهام حاكماً غدا العفو منه وهو في السيف حاكم مع قول المتنبي من الكامل‏:‏ له من كريم الطبع في الحرب منتض ومن عادة الإحسان والصفح غامد فانطر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه فإنك ترى عياناً أن للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر‏.‏

وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا‏:‏ إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك أن الذي تعقل من هذا لا يخالف الذي تعقل من ذاك‏.‏

وأن المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأول وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه وأن حكم البيتين مثلاً حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد كالليث والأسد‏.‏

ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد ثم يفترقان بخواص ومزايا وصفات كالخاتم والخاتم والشنف والشنف والسوار والسوار وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد ثم يكون بينها الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل‏.‏

ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجي وبيت أبي تمام فلا يعلم أن صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا‏.‏

كيف والخارجي يقول‏:‏ واحتجت له فعلاته‏.‏

ويقول أبو تمام‏:‏ إذا لهجاني عنه معروفه عندي ومتى كان احتج وهجا واحداً في المعنى وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه فليس يتصور في نفس عاقل أن يكون قول البحتري‏:‏ وأحب آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب وقول المتنبي‏:‏ وكل مكان ينبت العز طيب سواء‏.‏

واعلم أن قولنا‏:‏ الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا‏.‏

فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك‏.‏

وكذلك كان الأمر في المصنوعات فكان تبين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك‏.‏

ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا‏:‏ للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك‏.‏

وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء‏.‏

ويكفيك قول الجاحظ‏:‏ وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير‏.‏

واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر وكان التالي من الشاعرين يجيئك به معاداً على وجهه لم يحدث فيه شيئاً ولم يغير له صفة لكان قول العلماء في شاعر‏:‏ إنه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد‏.‏

وفي أخر‏:‏ إنه أساء وقصر لغواً من القول من حيث كان محالاً أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئاً وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيراً للبيت ومناسباً له خطأ منهم لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه وأن يكون نظيراً لنفسه‏.‏

وأمر ثالث وهو أنهم يقولون في واحد‏:‏ إنه أخذ المعنى فظهر أخذه وفي آخر‏:‏ إنه أخذه فأخفى أخذه‏.‏

ولو كان المعنى يكون معاداً على صورته وهيئته وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئاً غير أن يبدل لفظاً مكان لفظ لكان الإخفاء فيه محالاً‏.‏

لأن اللفظ لا يخفي المعنى وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها‏.‏

مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن ذكر فيما حليت والحسن تأخذه تنتقي منه وتنتخب وبيت عبد الله بن مصعب من الوافر‏:‏ كأنك جئت محتكماً عليهم تخير في الأبوة ما تشاء وذكر أنهما معاً من بيت بشار من الطويل‏:‏ خلقت على مافي غير مخير هواي ولو خيرت كنت المهذبا والأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر‏.‏

ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد تناوله فأخفاه وقال من الوافر‏:‏ فلو صورت نفسك لم تزدها على مافيك من كرم الطباع ومن العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأملت قول أبي العتاهية من الكامل‏:‏ جزي البخيل علي صالحة عني لخفته على ظهري أعلى وأكرم عن يديه يدي فعلت ونزه قدره قدري ورزقت من جدواه عافية أن لايضيق بشكره صدري وغنيت خلواً من تفضله أحنو عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرىء وضعت عني يداه مؤونة الشكر فصرت عبداً للسوء فيك وما أحسن سوءاً قبلي إلى أحد ومما هو في غاية الندرة من هذا الباب ما صنعه الجاحظ بقول نصيب من الطويل‏:‏ ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب حين نثره فقال‏:‏ وكتب به إلى ابن الزيات‏:‏ نحن أعزك الله نسحر بالبيان ونموه بالقول‏.‏

والناس ينظرون إلى الحال ويقضون بالعيان‏.‏

فأثر في أمرنا أثراً ينطق إذا سكتنا فإن المدعي بغير بينة متعرض للتكذيب‏.‏

وهذه جملة من وصفهم للشعر وعمله وإدلالهم به‏:‏ أبو حية النمري من الكامل‏:‏ إن القصائد قد علمن بأنني صنع اللسان بهن لا أتنحل وإذا ابتدأت عروض نسج ريض جعلت تذل لما أريد وتسهل حتى تطاوعني ولو يرتاضها غيري لحاول صعبة لا تقبل تميم بن مقبل من الطويل‏:‏ إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى لها قائلاً بعدي أطب وأشعرا وأكثر بيتاً سائراً ضربت له حزون جبال الشعر حتى تيسرا عدي بن الرقاع من الكامل‏:‏ وقصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها كعب بن زهير من الطويل‏:‏ فمن للقوافي شانها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول يقومها حتى تلين متونها فيقصر عنها كل ما يتمثل بشار من الطويل‏:‏ عميث جنيناً والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاض ضياء العين للعلم رافداً لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا وشعر كنور الروض لاءمت بينه بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا وله من المنسرح‏:‏ زور ملوك عليه أبهة يغرف من شعره ومن خطبه لله ما راح في جوانحه من لؤلؤ لا ينام عن طلبه فإن أهلك فقد أبقيت بعدي قوافي تعجب المتمثلينا لذيذات المقاطع محكمات لو أن الشعر يلبس لارتدينا الفرزدق من الوافر‏:‏ بلغن الشمس حين تكون شرقاً ومسقط قرنها من حيث غابا بكل ثنية وبكل ثغر غرائبهن تنتسب انتسابا ابن ميادة من الطويل‏:‏ فجرنا ينابيع الكلام وبحره فأصبح فيه ذو الرواية يسبح وما الشعر إلا شعر قيس وخندف وشعر سواهم كلفة وتملح وقال عقال بن هشام القيني يرد عليه من الطويل‏:‏ ألا بلغا الرماح نقض مقالة بها خطل الرماح أو كان يمزح لئن كان في قيس وخندف ألسن طوال وشعر سائر ليس يقدح لقد خرق الحي اليمانون قبلهم بحور الكلام تستقى وهي طفح وهم علموا من بعدهم فتعلموا وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا كشفت قناع الشعر عن حر وجهه وطيرته عن وكره وهو واقع بغر يراها من يراها بسمعه ويدنو إليها ذو الحجا وهو شاسع يود وداداً أن أعضاء جسمه إذا أنشدت شوقاً إليها مسامع وله من الكامل‏:‏ حذاء تملأ كل أذن حكمة وبلاغة وتدر كل وريد كالدر والمرجان ألف نظمه بالشذر في عنق الفتاة الرود كشقيقة البرد المنمنم وشيه في أرض مهرة أو بلاد تزيد يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي بردائها في المحفل المشهود بشرى الغني أبي البنات تتابعت بشراؤه بالفارس المولود وله من الكامل‏:‏ جاءتك من نظم اللسان قلادة سمطان فيها اللؤلؤ المكنون أحذاكها صنع الضمير يمده جفر إذا نضب الكلام معين أخذ لفظ الصنع من قول أبي حية‏:‏ بأنني صنع اللسان بهن لا أتنحل ونقله إلى الضمير‏.‏

وقد ولأبي تمام من الطويل‏:‏ إليك أرحنا عازب الشعر بعدما تمهل في روض المعاني العجائب غرائب لاقت في فنائك أنسها من المجد فهي الآن غير غرائب ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت حياضك منه في السنين الذواهب ولكنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب البحتري من الطويل‏:‏ ألست الموالي فيك نظم قصائد هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناء كأن الروض منه منوراً ضحى وكأن الوشي منه منمنما وله من البسيط‏:‏ أحسن أبا حسن بالشعر إذ جعلت عليك أنجمه بالمدح تنتثر فقد أتتك القوافي غب فائدة كما تفتح غب الوابل الزهر وله من الطويل‏:‏ إليك القوافي نازعات قواصد يسير ضاحي وشيها وينمنم بمنقوشة نقش الدنانير ينتقى لها اللفظ مختاراً كما ينتقى التبر وله من الطويل‏:‏ أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي ولم يدر ما مقدار حلي ولا عقدي ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد يبيع ثمينات المكارم والمجد سوائر شعر جامع بدد العلى تعلقن من قبلي وأتعبن من بعدي يقدر فيها صانع متعمل لإحكامها تقدير داود في السرد وله من الكامل‏:‏ الله يسهر في مديحك ليله متململاً وتنام دون ثوابه يقظان ينتحل الكلام كأنه جيش لديه يريد أن يلقى به فأتى به كالسيف رقرق صيقل ما بين قائم سنخه وذبابه ومن نادر وصفه للبلاغة قوله من الخفيف‏:‏ في نظام من البلاغة ماشك ك امرؤ أنه نظام فريد وبديع كأنه الزهر الضا حك في رونق الربيع الجديد ومعان لو فصلتها القوافي هجنت شعر جرول ولبيد حزن مستعمل الكلام اختياراً وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدرك ن به غاية المراد البعيد كا لعذارى غدون في الحلل الصف ر إذا رحن في الخطوط السود الغرض من كتب هذه الأبيات الاستظهار حتى إن حمل حامل نفسه على الغرر والتقحم على غير بصيرة فزعم أن الإعجاز في مذاقة الحروف وفي سلامتها مما يثقل على اللسان علم بالنظر فيها فساد ظنه وقبح غلطه من حيث يرى عياناً أن ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال ولا صفاتهم صفات تصلح له على حال إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب تميم لحزون جبال الشعر لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان ولا كان تقويماعدي لشعره ولا تشبيهه نظره فيه بنظر المثقف في كعوب قناته لذلك وأنه محال أن يكون له جعل بشار نور العين قد غاض فصار إلى قبله وأن يكون اللؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه وأن ليس هو صوب العقول الذي إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب وأن ليس هو الدر والمرجان مؤلفاً بالشذر في العقد ولا الذي له كان البحتري مقدراً تقدير داود في السرد‏.‏

كيف وهذه كلها عبارات عما يدرك بالعقل ويستنبط بالفكر وليس الفكر الطريق إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل إنما الطريق إلى ذلك الحس‏.‏

ولولا أن البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد وأن الذين قد استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شيء يسمعونه‏.‏

حتى لو أن إنساناً قال‏:‏ باقلى حار يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم لأقبلوا بأوجههم عليه فألقوا أسماعهم إليه لكان اطراحه وترك الاشتغال به أصوب لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتة‏.‏

ذلك لأنه أول شيء يؤدي إلى أن يكون القرآن معجزاً لا بما به كان قرآناً وكلام الله عز وجل لأنه على كل حال إنما كان قرآناً وكلام الله عز وجل بالنظم الذي هو عليه‏.‏

ومعلوم أن ليس النظم من مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان في شيء‏.‏

ثم إنه اتفاق من العقلاء أن الوصف الذي به تناهى القرآن إلى حد عجز عنه المخلوقون هو الفصاحة والبلاغة وما رأينا عاقلاً جعل القرآن فصيحاً أو بليغاً بأن لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان لأنه لو كان يصح ذلك لكان يجب أن يكون السوقي الساقط من الكلام والسفساف الرديء من الشعر فصيحاً إذا خفت حروفه‏.‏

وأعجب من هذا أنه يلزم منه أنه لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كل ضمة وكسرة فتحة فقال‏:‏ الحمد لله بفتح الدال واللام والهاء وجرى على هذا في القرآن كله أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به بل كان ينبغي أن يزيد فيه لأن الفتحة كما لا يخفى أخف من كل واحدة من الضمة والكسرة‏.‏

فإن قال‏:‏ إن ذلك يحيل المعنى‏.‏

قيل له‏:‏ إذا كان المعنى والعلة في كونه معجزاً خفة اللفظ وسهولته فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزاً‏.‏

لأنه إذا كان معجز الوصف يخص لفظه دون معناه كان محالاً أن يخرج عن كونه معجزاً مع قيام ذلك الوصف فيه‏.‏

ودع هذا وهب أنه لا يلزم شيء منه‏.‏

فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه وقلة تمييز القائل به أن يقتضي إسقاط الكناية والاستعارة والتمثيل والمجاز والإيجاز جملة واطراح جميعها رأساً مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها والطلبة التي يتنازعها المحسنون والرهان الذي تجرب فيه الجياد والنضال الذي تعرف به الأيدي الشداد وهي التي نوه بذكرها البلغاء ورفع من أقدارها العلماء وصنفوا فيها الكتب ووكلوا بها الهمم وصرفوا إليها الخواطر حتى صار الكلام فيها نوعاً من العلم مفرداً وصناعة على حدة ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزية وخصوصاً الاستعارة والإيجاز‏.‏

فإنك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون وتراهم يذكرون من الاستعارة قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ واشتعل الرأس شيباً ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وأشربوا في قلوبهم العجل ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ‏"‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ فاصدع بما تؤمر ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ حتى تضع الحرب أوزارها ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فما ربحت تجارتهم ‏"‏ ومن الإيجاز قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا ينبئك مثل خبير ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فشرد بهم من خلفهم ‏"‏‏.‏

وتراهم على لسان واحد في أن المجاز والإيجاز من الأركان في أمر الإعجاز‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك عند كافة العلماء الذين تكلموا في المزايا التي للقرآن فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور فيزعم أن الوصف الذي كان له القرآن معجزاً هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان‏.‏

أيصح له القول بذلك إلا من بعد أن يدعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه والخطأ فيما أجمعوا عليه وإذا نظرنا وجدناه لا يصح له ذلك إلا بأن يقتحم هذه الجهالة‏.‏

اللهم إلا أن يخرج إلى الضحكة فيزعم مثلاً أن من شأن الاستعارة والإيجاز إذا دخلا الكلام أن يحدث بهما في حروفه خفة ويتجدد فيها سهولة ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق‏.‏

واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلاً فيما يوجب الفضيلة وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز‏.‏

وإنما الذي ننكره ونفيل رأي من يذهب إليه أن يجعله معجزاً به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات ثم إن العجب كل العجب ممن يجعل كل الفضيلة في شيء هو إذا انفرد لم يجب فضل البتة ولم يدخل في اعتداد بحال‏.‏

وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد حتى يكون قد ألف منها كلام‏.‏

ثم كان ذلك الكلام صحيحاً في نظمه والغرض الذي أريد به‏.‏

وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى ويؤلف منها كلاماً لم تر عاقلاً يعتد السهولة فيها فضيلة‏.‏

لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني‏.‏

فإذا عدمت الذي له تراد اختل أمرها فيه لم يعتد بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحداً‏.‏

ومن هاهنا رأيت العلماء يذمون من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضم لهما المعنى ويدخل الخلل عليه من أجلهما وعلى أن يتعسف في الاستعارة بسببهما ويركب الوعورة ويسلك المسالك المجهولة كالذي صنع أبو تمام في قوله من البسيط‏:‏ سيف الإمام الذي سمته هيبته لما تخرم أهل الأرض مخترما قرت بقران عين الدين وانتشرت بالأشترين عيون الشرك فاصطلما وقوله من الكامل‏:‏ ذهبت بمذهبه السماحة والتوت فيه الظنون أمذهب أم مذهب ويصنعه المتكلفون في الأسجاع وذلك أنه لا يتصور أن يجب بهما ومن حيث هما فضل ويقع بهما مع الخلو من المعنى اعتداد‏.‏

وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام‏:‏ أمذهب أم مذهب فاستضعفته وإلى تجنيس القائل من البسيط‏:‏ حتى نجا من خوفه وما نجا وقول المحدث من الخفيف‏:‏ ناظراه فيما جنى ناظراه أو دعاني أمت بما أودعاني فاستحسنته لم تشك بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللفظ ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول وقويت في الثاني‏.‏

وذلك أنك رأيت أبا تمام لم يزدك ب مذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت إلا متكلفة متمحلة‏.‏

ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك في الفائدة وقد أعطاها‏.‏

ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها‏.‏

ولهذه النكتة كان التجنيس وخصوصاً نمستوفى منه مثل‏:‏ نجا ونجا من حلي الشعر‏.‏

والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول‏.‏

ولم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما ولكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرد السهولة وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان‏.‏

وجملة الأمر أنا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطرح النظم والمحاسن التي هو السبب فيها في الاستعارة والكناية والتمثيل وضروب المجاز والإيجاز وصد بوجهه عن جميعها وجعل الفضل كله والمزية أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل كيف وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا‏.‏

واعلم أنه قد آن لنا أن نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض الأهم والذي كأنه هو الطلبة وكل ما عداه ذرائع إليه وهو المرام وما سواه أسباب للتسلق عليه‏.‏

وهو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزية على نظم وأن يعم أمر التفاضل فيه ويتناهى إلى الغايات البعيدة‏.‏

ونحن نسأل الله تعالى العون على ذلك والتوفيق له والهداية إليه‏.‏

أهمية السياق للمعنى

بسم الله الرحمن الرحيم أهمية السياق للمعنى ما أظن بك أيها القارىء لكتابنا إن كنت وفيته حقه من النظر وتدبرته حق التدبر إلا أنك قد علمت علماً أبى أن يكون للشك فيه نصيب وللتوقف نحوك مذهب أن ليس النظم شيئاً إلا توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم‏.‏

وأنك قد تبينت أنه إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل خرجت الكلم المنطوق ببعضها في أثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض وعن أن يتصور أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبة لها ومتعلقة بها وكائنة بسبب منها وأن حسن تصورك لذلك قد ثبت فيه قدمك وملأ من الثقة نفسك وباعدك من أن تحن إلى الذي كنت عليه وأن يجرك الإلف والاعتياد إليه وأنك جعلت ما قلناه نقشاً في صدرك وأثبته في سويداء قلبك وصادقت بينه وبين نفسك‏.‏

فإن كان الأمر كما ظنناه رجونا أن يصادف الذي نريد أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نية حسنة تقيك الملل ورغبة صادقة تدفع عنك السأم وأريحية يخف معها عليك تعب الفكر وكد النظر‏.‏

والله تعالى ولي توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله‏.‏

ونبدأ فنقول‏:‏ فإذا ثبت الآن أن لا شك ولا مرية في أن ليس النظئم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه ولم يعلم أنها معدنه ومعانه وموضعه ومكانه وأنه لا مستنبط له سواها وأن لا وجه لطلبه فيما عداها غار نفسه بالكاذب من الطمع ومسلم لها إلى الخدع وأنه إن أبى أن يكون فيها كان قد أبى أن يكون القرآن معجزاً بنظمه ولزمه أن يثبت شيئاً آخر يكون معجزاً به وأن يلحق بأصحاب الصرفة فيدفع الإعجاز من أصله‏.‏

وهذا تقرير لا يدفعه إلا معاند يعد الرجوع عن باطل قد اعتقد عجزاً والثبات عليه من بعد لزوم الحجة جلداً ومن وضع نفسه في هذه المنزلة كان قد باعدها من الإنسانية‏.‏

ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق‏.‏

وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا به‏.‏

اعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين‏.‏

والأصل والأول هو الخبر‏.‏

وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع‏.‏

ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه لأنه ينقسم إلى إثبات ونفي‏.‏

والإثبات يقتضي مثبتاً ومثبتاً له‏.‏

والنفي يقتضبي منفياً ومنفياً عنه‏.‏

فلو حاولت أن يتصور إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه حاولت ما لا يصح في عقل ولا يقع في وهم‏.‏

ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى شيء مظهر أو مقدر مضمر‏.‏

وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت تصوته سواء‏.‏

وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك فانظر إليك إذا قيل لك‏:‏ ما فعل زيد فقلت‏:‏ خرج‏.‏

هل يتصور أن يقع في خلدك من خرج معنى من دون أن تنوي فيه ضمير زيد‏.‏

وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلا مخرجاً نفسك إلى الهذيان وكذلك فانظر إذا قيل لك‏:‏ كيف زيد فقلت‏:‏ صالح هل يكون لقولك‏:‏ صالح أثر في نفسك من دون أن تريد هو صالح أم هل يعقل السامع منه شيئاً إن هو لم يعتقد ذلك‏.‏

فإنه مما لا يبقى معه لعاقل شك أن الخبر معنى لا يتصور إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتاً والآخر مثبتاً له أو يكون أحدهما منفياً والآخر منفياً عنه وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له ومنفي من دون منفي عنه‏.‏

ولما كان الأمر كذلك أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل‏.‏

واسم كقولنا‏:‏ خرج زيد أو اسم واسم كقولنا‏:‏ زيد منطلق‏.‏

فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل وبغير هذا الدليل‏.‏

وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمة و حكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة‏.‏

وإذ قد عرفت أنه لا يتصور الخبر إلا فيما بين شيئين‏:‏ مخبر به ومخبر عنه فينبغي أن يعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث‏.‏

وذلك أنه كما لا يتصور أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه‏.‏

كذلك لا يتصور أن يكون خبر حتى يكون له مخبر يصدر عنه ويحصل من جهته ويكون له نسبة إليه وتعود التبعة فيه عليه‏.‏

فيكون هو الموصوف بالصدق إن كان صدقاً وبالكذب إن كان كذباً‏.‏

أفلا ترى أن من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته ويكون هو المزجي لهما والمبرم والناقض فيهما ويكون بهما موافقاً ومخالفاً ومصيباً ومخطئاً ومحسناً ومسيئاً‏.‏

وجملة الأمر أن الخبر وجميع الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه ويراجع فيها عقله وتوصف بأنها مقاصد وأغراض وأعظمها شأناً الخبر فهو الذي يتصور بالصور الكثيرة وتقع فيه الصناعات العجيبة‏.‏

وفيه يكون في الأمر الأعم المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة كما شرحنا فيما تقدم ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

واعلم أنك إذا فتشت أصحاب اللفظ عما في نفوسهم وجدتهم قد توهموا في الخبر أنه صفة للفظ وأن المعنى في كونه إثباتاً أنه لفظ يدل على وجود المعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفياً أنه لفظ يدل على عدمه وانتفائه عن الشيء‏.‏

وهو شيء قد لزمهم وسرى في عروقهم وامتزج بطباعهم حتى صار الظن بأكثرهم أن القول لا ينجع فيهم‏.‏

والدليل على بطلان ما اعتقدوه أنه محال أن يكون اللفظ قد نصب دليلاً على شيء ثم لا يحصل منه لعلم بذلك الشيء إذ لا معنى لكون الشيء دليلاً إلا إفادته إيا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

المدخل إلى إعجاز القرآن Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل إلى إعجاز القرآن   المدخل إلى إعجاز القرآن Emptyالخميس مايو 01, 2014 4:05 am

نماذج تحليلية لأهمية النظم

بسم الله الرحمن الرحيم نماذج تحليلية لأهمية النظم اعلم أنك لن ترى عجباً أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم وذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن هاهنا نظماً أحسن من نظم‏.‏

ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم ذلك تسدر أعينهم وتضل عنهم أفهامهم‏.‏

وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئاً غير توخي معاني النحو وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني‏.‏

فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم لأنك تعالج مرضاً مزمناً‏.‏

وداء متمكتاً‏.‏

ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم‏.‏

وذلك أنهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصور أن يتفاضل الناس في العلم به ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع وفي كلام دون كلام وفي الأقل دون الأكثر وفي الواحد من الألف‏.‏

فإذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة وقالوا‏:‏ كيف يصير المعروف مجهولاً‏.‏

ومن أين يتصور أن يكون للشيء في كلام مزية عليه في كلام آخر بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة‏.‏

فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع ثم لا يقتضي فضلاً ولا يوجب مزية اتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏ من أن له حسناً ومزية وأن فيه بلاغة عجيبة وظنوه وهماً منا وتخيلاً‏.‏

ولسنا نستطيع في كشف الشبهة في هذا عنهم وتصوير الذي هو الحق عندهم ما استطعناه في نفس النظم لأنا ملكنا في ذلك أن نضطرهم إلى أن يعلموا صحة ما نقول وليس الأمر في هذا كذلك فليس الداء فيه بالهين ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً والسعي منجحاً لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها وتصور لهم شأنها أمور خفية ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتحدث له علماً بها حتى يكون مهيأ لإدراكها وتكون فيه طبيعة قابلة لها ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة وممن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء وممن إذا أنشدته قوله من السريع‏:‏ لي منك ماللناس كلهم نظر وتسليم على الطرق وقول البحتري من الكامل‏:‏ وسأستقل لك الدموع صبابة ولو أن دجلة لي عليك دموع وقوله من الطويل‏:‏ رأت مكنات الشيب فابتسمت لها وقالت نجوم لو طلعن بأسعد وقول أبي نواس من البسيط‏:‏ ركب تساقوا على الأكوار بينهم كأس الكرى فانتشى المسقي والساقي وقوله من الكامل‏:‏ ياصاحبي عصيت مصطبحا وغدوت لللذات مطرحا فتزودا مني محادثة حذرالعصا لم يبق لي مرحا وقول إسماعيل بن يسار من السريع‏:‏ وحتى إذا الصبح بدا ضوؤه وغابت الجوزاء والمرزم خرجت والوطء خفي كما ينساب من مكمنه الأرقم أنق لها وأخذته أريحية عندها وعرف لطف موقع الحذف والتنكير في قوله‏:‏ نظر وتسليم على الطرق وما في قول البحتري‏:‏ لي عليك دموع من شبه السحر وان ذلك من أجل تقديم لي على عليك ثم تنكير الدموع‏.‏

وعرف كذلك شرف قوله‏:‏ وقالت نجوم لوطلعن بأسعد وعلو طبقته ودقة صنيعته‏.‏

والبلاء والداء العياء أن هذا الإحساس قليل في الناس حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله أو رسالة يكتبها الموقع الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن‏.‏

فأما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه‏.‏

فلست تملك إذاً من أمرك شيئاً حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته ورى وقلب إذا أريته رأى‏.‏

فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه ولا يهتدي للذي تهديه فأنت رام معه في غير مرمى ومعن نفسك في غير جدوى‏.‏

وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا فوق له كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآية التي بها يفهم‏.‏

إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه أوتيها وأنه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء فجعل يقول القول لو علم لاستحيا منه‏.‏

فأما الذين يحس بالنقص من نفسه ويعلم أنه قد علم علماً قد أوتيه من سواه فأنت منه في راحة وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره وأن يتكلف ما ليس بأهل به‏.‏

وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة وقوانين مضبوطة قد اشترك الناس في العلم بها واتفقوا على أن البناء عليها إذا أخطأ فيه المخطىء ثم أعجب برأيه لم يستطع رده عن هواه وصرفه عن الرأي الذي رآه إلا بعد الجهد وإلا بعد أن يكون حصيفاً عاقلاً ثبتاً إذا نبه انتبه وإذا قيل‏:‏ إن عليك بقية من النظر وقف وأصغى وخشي أن يكون غر فاحتاط باستماع ما يقال له وأنف من أن يلج من غير بينة ويتطيل بغير حجة‏.‏

وكان هذا وصفه يعز ويقل فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن وأصلك الذي تردهم إليه وتعول في محاجتهم عليه استشهاد القرائح وسبر النفوس وفليها وما يعرض من الأريحية عندما تسمع‏.‏

وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم ويكشف الغطاء عن أعين ويصرف إليك أوجههم‏.‏

وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي ويفتي ويقضي وعندهم أنهم ممن صفت قريحته وصح فوقه وتمت أداته‏.‏

فإذا قلت لهم‏:‏ إنكم قد أتيتم من أنفسكم ردوا عليك مثله وقالوا‏:‏ لا بل قرائحنا أصح ونظرنا أصدق وحسنا أذكى‏.‏

وإنما الآفة فيكم لأنكم خيلتم إلى نفسكم أموراً حاصل لها وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلاً على من غير أن يكون ذلك الفضل معقولاً‏.‏

فتبقى في أيديهم حسيراً لا تملك غير التعجب فليس الكلام إذا بمغن عنك ولا القول بنافع ولا الحجة مسموعة حتى تجد من فيه لك على نفسه‏.‏

ومن أتى عليك أبى ذاك طبعه فرده إليك وفتح سمعه لك ورفع الحجاب بينك وبينه وأخذ به إلى حيث أنت وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت‏.‏

فاستبدل بالنفار أنساً وأراك من بعد الإباء قبولاً‏.‏

ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية والأمور الغامضة الدقيقة أعجب طريقاً في الخفاء من هذا‏.‏

وإنك لتتعب في الشيء نفسك وتكد فيه فكرك وتجهد فيه كل جهدك‏.‏

حتى إذا قلت‏:‏ قد قتلته علماً وأحكمته فهماً كنت الذي لا يزال يتراءى لك فيه شبهة ويعرض فيه شك كما قال أبو نواس من الطويل‏:‏ أتت صور الأشياء بيني وبينه فظني كلا ظن وعلمي كلاعلم وإنك لتنظر في البيت دهراً طويلاً وتفسره ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمه‏.‏

ثم يبدو لك فيه أمر خفي لم تكن قد علمته مثال ذلك بيت المتنبي من الكامل‏:‏ عجباً له حفظ العنان بأنمل ماحفظها الأشياء من عاداتها مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئاً ولا يقع لنا أن فيه خطأ ثم بان بأخرة أنه قد أخطأ‏.‏

وذلك أنه كان ينبغي أن يقول‏:‏ ما حفظ الأشياء من عاداتها فيضيف المصدر إلى المفعول فلا يذكر الفاعل ذاك لأن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة وأنه يزعم أنه لا يكون منها أصلاً وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله‏:‏ ما حفظها الأشياء يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظاً‏.‏

ونظير هذا أنك تقول‏:‏ ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي ولا تقول‏:‏ ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي‏.‏

وكذلك تقول‏:‏ ليس ذم الناس من شأني ولا تقول‏:‏ ليس ذمي الناس من شأني‏.‏

لأن ذلك يوجب إثبات الذم ووجوده منك‏.‏

ولا يصح قياس المصدر في هذا على الفعل أعني لا ينبغي أن يظن أنه كما يجوز أن يقال‏:‏ ما من عادتها أن تحفظ الأشياء كذلك ينبغي أن يجوز‏:‏ ما من عادتها حفظها الأشياء‏.‏

ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي وجوده وأنه قد كان منه‏.‏

يبين ذلك أنك تقول‏:‏ أمرت زيداً بأن يخرج غداً ولا تقول‏:‏ أمرته بخروجه غداً‏.‏

ومما فيه خطأ هو في الخفاء قوله من البسيط‏:‏ ولا تشك إلى خلق فتشمته شكوى الجريح إلى الغربان والرخم وذلك أنك إذا قلت‏:‏ لا تضجر ضجر زيداً كنت قد جعلت زيداً يضجر ضرباً من الضجر مثل أن تجعله يفرط فيه أو يسرع إليه‏.‏

هذا هو موجب العرف‏.‏

ثم إن لم تعتب خصوص وصف فلا أقل من أن تجعل الضجر على الجملة من عادته وأن تجعله قد كان منه‏.‏

وإذا كان كذلك اقتضى قوله‏:‏ شكوى الجريح إلى الغربان والرخم أن يكون هاهنا جريح قد عرف من حاله أن يكون له شكوى إلى الغربان والرخم وذلك محال‏.‏

وإنما العبارة الصحيحة في هذا أن يقال‏:‏ لا تشك إلى خلق فإنك إن فعلت كان مثل ذلك مثل أن تصور في وهمك أن بعيراً دبراً كشف عن جرحه ثم شكاه إلى الغربان والرخم‏.‏

ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأول في الشيء تأويلاً وقضى فيه بأمر فتعتقده اتباعاً ولا ترتاب أنه على ما قضى وتأؤل‏.‏

وتبقى على ذلك الاعتقاد الزمان الطويل‏:‏ ثم يلوح لك ما ومثال ذلك أن أبا القاسم الآمدي ذكر بيت البحتري من البسيط‏:‏ فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق وحاك ما حاك من وشي وديباج ثم قال‏:‏ صوغ الغيث وحوكه للنبات ليس باستعارة بل هو حقيقة‏.‏

ولذلك لا يقال‏:‏ هو صائغ ولا كأنه صائغ‏.‏

وكذلك لا يقال‏:‏ هو حائك وكأنه حائك‏.‏

قال‏:‏ على أن لفظ حائك في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه أبو تمام في قوله من الطويل‏:‏ إذا الغيث غادى نسجه خلت أنه خلت حقب حرس له وهو حائك قال‏:‏ وهذا قبيح جداً‏.‏

والذي قاله البحتري‏:‏ فحاك ما حاك حسن مستعمل‏.‏

والسبب في هذا الذي قاله إنه ذهب إلى أن غرض أبي تمام أن يقصد بخلت إلى الحوك وأنه أراد أن يقول‏:‏ خلت الغيث حائكاً وذلك سهو منه لأنه لم يقصد بخلت إلى ذلك‏.‏

وإنما قصد أن يقول‏:‏ إنه يظهر في غداة يوم من حوك الغيث ونسجه بالذي ترى العيون من بدائع الأنوار وغرائب الأزهار ما يتوهم منه أن الغيث كان في فعل ذلك وفي نسجه وحوكه حقباً من الدهر‏.‏

فالحيلولة واقعة على كون زمان الحوك حقباً لا على كون ما فعله الغيث حوكاً فاعرفه‏.‏

ومما يدخل في ذلك ما حكي عن الصاحب من أنه قال‏:‏ كان الاستاذ أبو الفضل يختار من شعر ابن الرومي وينقط عليه قال‏:‏ فدفع إلي القصيدة التي أولها من الطويل‏:‏ وقال‏:‏ تأملها‏.‏

فتأملتها فكان قد ترك خير بيت فيها وهو‏:‏ بجهل كجهل السيف والسيف منتضى وحلم كحلم السيف والسيف مغمد فقلت‏:‏ لم ترك الأستاذ هذا البيت فقال‏:‏ لعل القلم تجاوزه‏.‏

قال‏:‏ ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شراً من تركه قال‏:‏ إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات‏.‏

قال الصاحب‏:‏ لو لم يعد أربع مرات فقال‏:‏ بجهل كجهل السيف وهو منتضى وحلم كحلم السيف وهو مغمد لفسدالبيت‏.‏

والأمر كما قال الصاحب‏.‏

والسبب في ذلك أنك إذا حدثت عن اسم مضاف ثم أردت أن تذكر المضاف إليه فإن البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر ولا تضمره‏.‏

وتفسير هذا أن الذي هو الحسن الجميل أن تقول‏:‏ جاءني غلام زيد وزيد ويقبح أن تقول‏:‏ جاءني غلام زيد وهو‏.‏

ومن الشاهد في ذلك قول دعبل من البسيط‏:‏ أضياف عمران في خصب وفي سعة وفي حباء غير ممنوع وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً عمرو لبطنته والضيف للجوع وقول الآخر من الطويل‏:‏ وقول المتنبي من الطويل‏:‏ بمن نضرب الأمثال أم من نقيسه إليك وأهل الدهر دونك والدهر ليس بخفي على من له فوق أنه لو أتى موضع الظاهر في ذلك كله بالضمير فقيل‏:‏ وضيف عمرو وهو يسهران معاً وربما أمر مذاق العود وهو أخضر وأهل الدهر دونك وهو لعدم حسن ومزية لا خفاء بأمرهما‏.‏

ليس لأن الشعر ينكسر ولكن تنكره النفس‏.‏

وقد يرى في بادىء الرأي أن ذلك من أجل اللبس وأنك إذا قلت‏:‏ جاءني غلام زيد وهو كان الذي يقع في نفس السامع أن الضمير للغلام وأنك على أن تجيء له بخبر إلا أنه لا يستمر من حيث إنا نقول‏:‏ جاءني غلمان زيد وهو فتجد الاستنكار ونبو النفس مع أن لا لبس مثل الذى وجدناه‏.‏

وإذا كان كذلك وجب أن يكون السبب غير ذلك‏.‏

والذي يوجبه التأمل أن يرد إلى الأصل الذي ذكره الجاحظ من أن سائلاً سأل عن قول قيس بن خارجة عندي قرى كل نازل ورضى كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب آمر فيها بالتواصل وانهى فيها عن التقاطع‏.‏

فقال‏:‏ أليس الأمر بالضلة هو النهي عن التقاطع قال‏:‏ فقال أبو يعقوب‏:‏ أما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف وذكرت هناك أن لهذا الذي ذكر من أن للتصريح عملاً لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ قل هو الله أحد الله الصمد ‏"‏ عمل لولاها لم يكن‏.‏

وإذا كان هذا ثابتاً معلوماً فهو حكم مسألتنا‏.‏

ومن البين الجلي في هذا المعنى وهو كبيت ابن الرومي سواء لأنه تشبيه مثله بيت الحماسة من الهزج‏:‏ شددنا شدة الليث غدا والليث غضبان ومن الباب قول النابغة من الرجز‏:‏ نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار وأن له موقعاً في النفس وباعثاً للأريحية لا يكون إذا قيل‏:‏ نفس عصام سودته شيء منه البتة‏.‏

تم الكتاب في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمس مئة غفر الله لكاتبه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات برحمته إنه أرحم الراحمين وخير الغافرين‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
 
المدخل إلى إعجاز القرآن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» طرق ووسائل لتدبر القرآن الكريم
» كان خلقه القرآن صلِّ الله عليه وسلم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة :: القران وعلومه-
انتقل الى: