منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
نرحب بضيوفنا الكرام اللهم اجعلنا واياكم من اهل الجنة
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
نرحب بضيوفنا الكرام اللهم اجعلنا واياكم من اهل الجنة
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة

منتدى علمي لنشر الدين وعلومه
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
((عن عبد الله بن عمر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: بلغوا عني ولو آية, ومن كذب علي متعمداً, فليتبوأ مقعده من النار))
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )

 

 شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:32 am

فالسنة تفسر القرآن(1) وتبينه (2).....................................................................

(1) تفسر القرآن يعني: توضح المعنى المراد منه: كما في تفسير قوله تعالىSadلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: من الآية26)؛ حيث فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجه الله عز وجل[152]

وكما في فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (َأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )(لأنفال: من الآية60)، فقال: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"[153]

(2) يعني تبين المجمل منه؛ حيث إن في القرآن آيات مجملة، لكن السنة بينتها ووضحتها؛ مثل : قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ َ )(البقرة: من الآية43)أمر الله بإقامتها، وبينت السنة كيفيتها.

وقوله سبحانه Sadأَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ )(الإسراء: من الآية78)

(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )؛ يعني : من دلوك الشمس إلى غسق الليل؛ أي : غاية ظلمته، وهو نصفه؛ لأن أشد ما يكون في ظلمة الليل نصفه.

فظاهر الآية أن هذا وقت واحد، ولكن السنة فصلت هذا المجمل: فللظهر: من دلوك الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله.

وللعصر: من ذلك إلى اصفرار الشمس في الاختيار، ثم إلى غروبها في الضرورة.

وللمغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.

وللعشاء : من مغيب الشفق الأحمر إلى مصف الليل، وليس هناك وقت ضرورة للعشاء، ولهذا لو طهرت الحائض في منتصف الليل الأخير؛ لم يجب عليها صلاة العشاء ولا صلاة المغرب؛ لأن صلاة العشاء تنتهي بانتصاف الليل، ولم يأت في السنة دليل على أن وقت صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.

وللفجر : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

ولهذا قال في نفس الآية : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، ثم فصل وقت الفجر فقال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ )(الإسراء: من الآية78) ؛ لأن وقت الفجر بينه وبين الأوقات الأخرى فاصل من قبله ومن بعده؛ فنصف الليل الثاني قبله، ونصف النهار الأول بعده. هذا من بيان السنة حيث بينت الأوقات.

كذلك : ( وَآتُوا الزَّكَاةَ )؛ بينت السنة الأنصبة والأموال الزكوية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:33 am

وتدل عليه (1) وتعبر عنه (2) ........................................................................

(1) هذه كلمة تعم التفسير والتبيين والتعبير؛ فالسنة تفسر القرآن وتبين القرآن.

(2) يعني : تأتي بمعان جديدة أو بأحكام ليست في القرآن، وهذا كثير؛ فإن كثيراً من الأحكام الشرعية استقلت بها السنة، ولم يأت به القرآن.

لكن دل على أن لها حكم ما جاء في القرآن مثل قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ )(النساء: من الآية80)، وقوله : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(الحشر: من الآية7)، وقوله: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب: من الآية36).

أما الحكم المعين؛ فالسنة استقلت بأحكام كثيرة عن القرآن، ومن ذلك ما سيأتينا في أول حديث ذكره المؤلف في هذا الفصل: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.."[154] ،فإن هذا ليس في القرآن.

إذاَ ؛ السنة مقامها مع القرآن على هذه الأنواع الأربعة: تفسير مشكل، وتبيين مجمل، ودلالة عليه، وتعبير عنه.



* * *

"ما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول؛ وجب الإيمان بها كذلك" (1) ...................................................................................................

(1) هذه قاعدة مهمة ساقها المؤلف رحمه الله:

· قوله : "وما" : هذه شرطية . وفعل الشرط : " وصف" . "وجب الإيمان بها": هذا جواب الشرط.

فما وصف الرسول به ربه، وكذلك ما سمة به ربه؛ لأن هناك أسماء مما سمى به الرسول ربه لم تكن موجودة في القرآن؛ مثل (الشافي)؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك"[155]

· "الرب" : لم يأت في القرآن بدون إضافة لكن في السنة قال الرسول صلى الله عليه وسلم " أما الركوع فعظموا فيه الرب"[156]

وقال في السواك:" مطهرة للفم مرضاة للرب"[157]

وظاهر كلام المؤلف أنه يشترط لقبولها شرطان:

الأول: أن تكون الأحاديث صحيحة.

الثاني: أن يكون أهل المعرفة يعني بالأحاديث تلقوها بالقبول، ولكن ليس هذا هو المراد، بل مراد الشيخ- رحمه الله- أن الأحاديث الصحاح تلقاها أهل المعرفة بالقبول فتكون الصفة هذه صفى كاشفة لا صفة مقيدة.

· فقوله: " التي تلقاها": هذا بيان لحال الأحاديث الصحيحة أي أن أهل المعرفة تلقوها بالقبول لأنه من المستحيل أن تكون الأحاديث صحيحة، ثم يرفضها أه المعرفة، بل سيقبلونها.

صحيح أن هناك أحاديث ظاهرها الصحة، ولكن قد تكون معلولة بعلة؛ كانقلاب على الراوي ونحوه، وهذه لا تعد من الأحاديث الصحيحة.

قال:" وجب الإيمان بها": لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ )(النساء: من الآية136)، وقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(النساء: من الآية59)، وقوله تعالى (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (65) (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ) (القصص:66،65) ..والنصوص في هذا كثيرة معلومة.

واعلم أن موقف أهل الأهواء والبدع تجاه الأحاديث المخالفة لأهوائهم يدور على أمرين: إما التكذيب، وإما التحريف.

فإن كان يمكنهم تكذيبه؛ كذبوه؛ كقولهم في القاعدة الباطلة: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة!!

وقد رد ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة وأبطلها بأدلة كثيرة في آخر " مختصر الصواعق".

وإن كان لا يمكنهم تكذيبه؛ حرفوه؛ كما حرفوا نصوص القرآن.

أما أهل السنة؛ فقبلوا كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية والأمور العملية؛ لقيام الدليل على وجب قبول ذلك.

· وقوله :" كذلك" ؛ يعني : كما يجب الإيمان بما في القرآن؛ من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف، لا تمثيل.

مثل قوله صلى الله عليه وسلم :" ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول : من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"(1) متفق عليه[158]..................

فصل

في أحاديث الصفات

(1) هذا الحديث في إثبات نزول الله إلى سماء الدنيا:

وهذا الحديث قال بعض أهل العلم : إنه من الأحاديث المتواترة، واتفقوا على أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة عند أهل العلم بالسنة.

· قوله :" ينزل ربنا إلى السماء الدنيا": نزوله تعالى حقيقي؛ لأنه كما مر علينا من قبل: أن كل شيء كان الضمير يعود فيه إلى الله؛ فهو ينسب إليه حقيقة.

فعلينا أن نؤمن به ونصدق ونقول: ينزل ربنا على السماء الدنيا، وهي أقرب السماوات إلى الأرض، والسماوات سبع، وإنما ينزل عز وجل في هذا الوقت من الليل للقرب من عباده جل وعلا؛ كما يقرب منهم عشية عرفة؛ حيث يباهي بالواقفين الملائكة[159]

· وقوله :" كل ليلة" يشمل جميع ليالي العام.

· " حين يبقى ثلث الليل الآخر" والليل يبتدئ من غروب الشمس اتفاقاً لكن حصل الخلاف في انتهائه هل يكون بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس والظاهر أن الليل الشرعي ينتهي بطلوع الفجر والليل الفلكي ينتهي بطلوع الشمس.

· وقوله" فيقول: من يدعوني": "من" : استفهام للتشويق؛ كقوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الصف: من الآية10).

· و "يدعوني" أي: يقول : يا رب!

· وقوله:"فأستجيب له": بالنصب؛ لأنها جواب الطلب.

· "من يسألني": يقول: أسألك الجنة، أو نحو ذلك.

· "من يستغفرني" فيقول: اللهم اغفر لي، أو : أستغفر اللهم!

· "فأغفر له": والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.

بهذا يتبين لك إنسان قرأ هذا الحديث أن المراد بالنزول هنا نزول الله نفسه، ولا نحتاج أن نقول : بذاته؛ ما دام الفعل أضيف إليه؛ فهو له، لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته؛ لأنهم لجاءوا إلى ذلك، واضطروا إليه؛ لأن هناك من حرفوا الحديث وقالوا: الذي ينزل أمر الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل رحمة الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل ملكٌ من ملائكة الله!

وهذا باطل؛ فإن نزول أمر الله دائماً وأبداً، ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل؛ قال الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)(السجدة: من الآية5)، وقال : ( يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)(هود: من الآية123).

وأما قولهم : تنزل رحمة الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر! فسبحان الله! الرحمة لا تنزل إلا في هذا الوقت ! قال الله تعالى : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ )(النحل: من الآية53)؛ كل النعم من الله ، وهي من آثار رحمته، وهي تترى كل وقت !!‍‍

ثم نقول: أي فائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء الدنيا؟‍

ثم نقول لمن قال : إنه ملك من ملائكته: هل من المعقول أن الملك من ملائكة الله يقول: من يدعوني فأستجب له... إلخ؟‍

فتبين بهذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث.

ووالله ؛ ليسوا أعلم بالله من رسول الله، وليسوا أنصح لعباد الله من رسول الله، وليسوا أفصح في قولهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

يقولون: كيف تقولون كيف تقولون: إن الله ينزل؟‍ إذا نزل؛ أين العلو؟‍ وإذا نزل؛ أين الاستواء على العرش؟‍ إذا نزل ؛ فالنزول حركة وانتقال‍‍ إذا نزل؛ فالنزول حادث، والحوادث لا تقوم إلا بحادث.

فنقول : هذا جدال بالباطل، وليس بمانع من القول بحقيقة النزول.

هل أنتم أعلم بما يستحقه الله عز وجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟‍

فأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما قالوا هذه الاحتمالات أبداً؛ قالوا: سمعنا وآمنا وقبلنا وصدقنا.

وأنتم إيها الخالفون المخالفون تأتون الآن وتجادلون بالباطل وتقولون : كيف؟‍ وكيف؟‍

نحن نقول: ينزل ، ولا نتكلم عن استوائه على العرش؛ هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟‍

أما العلو ؛ فنقول : ينزل، لكنه عال عز وجل على خلقه؛ لأنه ليس معنى النزول أن السماء تقله، وأن السماوات الأخرى تظله؛ إذ إنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته.

فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه حقيقة، وليس كمثله شيء.

أما الاستواء على العرش فهو فعل، ليس من صفات الذات، وليس لن حق- فيما أرى- أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه يخلو، وقول بأنه لا يخلو، وقول بالتوقف.

وشيخ الإسلام رحمه الله في " الرسالة العرشية" يقول : إنه لا يخلو منه العرش؛ لأن أدلة استوائه على العرش محكمة، والحديث هذا محكم، والله عز وجل لا تقاس صفاته بصفات الخلق؛ فيجب علينا أن نبقي نصوص الاستواء على إحكامها، ونص النزول على إحكامه، ونقول : هو مستو على عرشه، نازل إلى السماء الدنيا، والله أعلم بكيفية ذلك، وعقولنا أقصر وأدنى وأحقر من أن تحيط بالله عز وجل.

القول الثاني: التوقف؛ يقولون: لا نقول : يخلو، ولا : لا يخلو.

والثالث: أنه يخلو منه العرش.

وأورد المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض إشكالاً؛ قالوا: كيف ينزل في ثلث الليل؟‍ وثلث الليل إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية؛ ذهب إلى أوربا وما قاربها؟‍‍ أفيكون نازلاً دائماً؟‍

فنقول: آمن أولاً بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين، وإذا آمنت؛ ليس عليك شيء وراء ذلك، لا تقل : كيف ؟‍ وكيف؟‍ بل قل: إذا كان ثلث الليل في السعودية؛ فالله نازل، وإذا كان في أمريكا ثلث الليل؛ يكون نزول الله أيضاً، وإذا طلع الفجر؛ انتهى وقت النزول في كل مكان بحسبه.

إذاً ؛ موقفنا أن نقول: إنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل، ويقول:" من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له"؟‍

من فوائد هذا الحديث:

أولاً: إثبات العلو لله من قوله:" ينزل"

ثانياً: إثبات الأفعال الاختيارية التي هي الصفات الفعلية من قوله: " ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر".

ثالثاً : إثبات القول لله من قوله :"يقول".

رابعأً: إثبات الكرم لله عز وجل من قوله:" من يدعوني...من يسألني... من يستغفرني...".

وفيه من الناحية المسلكية:

أنه ينبغي للإنسان أن يغتنم هذا الجزء من الليل، فيسأل الله عز وجل ويدعوه ويستغفره، ما دام الرب سبحانه يقول:" من يدعوني... من يستغفرني..." و(من) : للتشويق؛ فينبغي لنا أن نستغل هذه الفرصة؛ لأنه ليس لك من العمر إلا ما أمضيته في طاعة الله، وستمر بك الأيام ؛ فإذا نزل بك الموت؛ فكأنك ولد تلك الساعة، وكل ما مضى ليس بشيء[160]

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم :" لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته..." الحديث (1) متفق عليه.......

(1)هذا الحديث في إثبات الفرح" لله أشدُ فرحاً بتوبة عبده..."[161]

· "لله": اللام هذه لام الابتداء."الله " مبتدأ.

· "أشد" :خبر المبتدأ.

· " فرحاً": تمييز.

· قال المؤلف:" الحديث"؛ أي: أكمل الحديث.

والحديث أن هذا الرجل كان معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فضلت عنه، فذهب يطلبها ، فلم يجدها ، فأيئس من الحياة ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت؛ فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، ولا أحد يستطيع أن يقدر هذا الفرح؛ إلا من وقع فيه، فأمسك بخطام الناقة، وقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح؛ لم يملك كيف يتصرف في الكلام‍ ‍‍‍!!

فالله عز وجل أفرح بتوبته عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وليس الله عز وجل بمحتاج إلى توبتنا ، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا ، لكن لكرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه.

في هذا الحديث إثبات الفرح لله عز وجل؛ فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي وأشد فرح، ولكنه ليس كفرح المخلوقين.

الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء، لكن بالنسبة لله عز وجل لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا؛ نقول: هو فرح يليق به عز وجل؛ مثل بقية الصفات؛ كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا؛ فله صفات لا تماثل صفاتنا؛ لان الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.

فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم بالخلق به، محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام.

ونحن على خطر إذا قلنا : المراد بالفرح الثواب؛ لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه : إثابته التائب، أو : إرادة الثواب؛ فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق، أو : إرادة الثواب.

ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة؛ مثلما أن المراد بالله عز وجل: نفسه حقيقة، ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبداً.

ويستفاد من هذا الحديث مع إثبات الفرح لله عز وجل : كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة، هارب من الله ، ثم وقف ورجع إلى الله ، يفرح الله به هذا الفرح العظيم.

ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كما فعلنا ذنباً؛ تبنا إلى الله.

قال الله تعالى ف يوصف المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة)؛ أي فاحشة؛ مثل الزنى، واللواط، ونكاح ذوات المحارم... قال الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) (النساء:22)، (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الاسراء:32)، وقال لوط لقومه: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ )(لأعراف: 80) .

إذاً؛ (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّه)؛ ذكروا الله تعالى في نفوسهم ؛ ذكروا عظمته، وذكروا عقابه، وذكروا ثوابه للتائبين؛( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) ؛ فعلوا ما فعلوا؛ لكنهم ذكروا الله تعالى في نفوسهم، واستغفروا لذنوبهم، فغفر لهم، والدليل : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ )(آل عمران: من الآية135) .

فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك انك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:34 am

وللتوبة شروط خمسة:

الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ بأن لا يحملك على التوبة مراءاة الناس ، أو نيل الجاه عندهم، أو ما أشبه ذلك من مقاصد الدنيا.

الثاني: الندم على المعصية.

الثالث: الإقلاع عنها، ومن الإقلاع إذا كان التوبة في حق من حقوق الآدميين : أن ترد الحق إلى صاحبه.

الرابع:العزم على أن لا تعود في المستقبل.

الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وينقطع قبول التوبة بالنسبة لعموم الناس بطلوع الشمس من مغربها، وبالنسبة لكل واحد بحضور أجله.

قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (النساء:18).

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زمن التوبة ينقطع إذا طلعت الشمس من مغربها [162] ، والناس يؤمنون حينئذ، ولكن؛ ( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً )(الأنعام: من الآية158).

هذه خمسة شروط؛ إذا تمت؛ صحت التوبة.

· ولكن ؛ هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذنوب؟!

فيه خلاف ، ولكن الصحيح أنه ليس بشرط، وأنها تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن هذا التائب لا يصدق عليه وصف التائبين المطلق؛ فيقال : تاب توبة مقيدة، لا مطلقة.

· فلو كان أحد يشرب الخمر ويأكل الربا، فتاب من شرب الخمر؛ صحت توبته من الخمر، وبقي إثمه في أكل الربا، ولا ينال منزلة التائبين على الإطلاق؛ لأنه مصر على بعض المعاصي.

· رجل تمت الشروط في حقه، وعاد إلى الذنب مرة أخرى؛ فلا تنتقض توبته الأولى؛ لأنه عزم على أن لا يعود، ولكن سولت له نفسه، فعاد؛ إنما يجب عليه أن يتوب مرة ثانية، وهكذا ؛ كلما أذنب يتوب، وفضل الله واسع.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم:" يضحك الله إلى رجلين يقتل إحداهما الآخر كلاهما يدخل الجنة" متفق عليه (1)...........................................................

(1) هذا الحديث في إثبات الضحك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" يضحك الله إلى رجلين ؛ يقتل إحداهما الآخر؛ كلاهما يدخل الجنة"[163].

وفي بعض النسخ:" يدخلان" ، وهي صحيحة ؛ لأن ( كلا) يجوز في خبرها – سواء كان فعلاً أو اسماً – مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر يصف فرسين:

كلاهما حين جد الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

الحديث يخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يضحك إلى رجلين؛ عند ملاقاتهما يقتل أحدهما الآخر؛ كلاهما يدخل الجنة بعد ذلك، فتزول تلك العداوة؛ لأن إحداهما كان مسلماً ، والآخر كان كافراً، فتله الكافر، فيكون هذا المسلم شهيداً، فيدخل الجنة، ثم من الله على هذا الكافر، فأسلم ، ثم قتل شهيداً، أو مات بدون قتل؛ فإنه يدخل الجنة، فيكون هذا القاتل والمقتول كلاهما يدخل الجنة، فيضحك الله إليهما.

ففي هذا إثبات الضحك لله عز وجل، وهو ضحك حقيقة، لكنه لا يماثل ضحك المخلوقين؛ ضحك يليق بجلاله وعظمته، ولا يمكن أن نمثله، لأننا لا يجوز أن نقول : إن لله فماً أو أسناناً أو ما أشبه ذلك ، لكن نثبت الضحك لله على وجه يليق به سبحانه وتعالى.

· فإذا قال قائل: يلزم من إثبات الضحك أن يكون الله مماثلاً للمخلوق.

فالجواب: لا يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوق؛ لأن الذي قال " يضحك": هو الذي أنزل عليه قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11).

ومن جهة أخرى؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم في مثل هذا إلا عن وحي؛ لأنه من أمور الغيب، ليس من الأمور الاجتهادية التي قد يجتهد فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يقره الله على ذلك أو لا يقره، ولكنه من الأمور الغيبية التي يتلقاها الرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق الوحي.

· لو قال قائل: المراد بالضحك الرضى؛ لأن الإنسان إذا رضي عن الشيء؛ سر به وضحك، والمراد بالرضى الثواب أو إرادة الثواب؛ كما قال ذلك أهل التعطيل.

فالجواب أن نقول: هذا تحريق للكلم عن مواضعه؛ فما الذي أدراكم أن المراد بالرضى الثواب؟!

فأنتم الآن قلتم على الله ما لا تعلمون من وجهين:

الوجه الأول: صرفتم النص عن ظاهره بلا علم.

الوجه الثاني: أثبتم له معنى خلاف الظاهر بلا علم.

ثم نقول لهم : الإرادة؛ إذا قلتم : إنها ثابتة لله عز وجل ؛ فإنه تنتقض قاعدتكم ؛ لأن للإنسان إرادة؛ كما قال تعالى : (َ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة)(آل عمران: من الآية152) ، فللإنسان إرادة، بل للجدار إرادة؛ كما قال تعالى : ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ)(الكهف: من الآية77)؛ فأنتم إما أن تنفوا الإرادة عن الله عز وجل كما نفيتم ما نفيتم من الصفات، وإما أن تثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وإن كان للمخلوق نظيره في الأسم لا في الحقيقة.

والفائدة المسلكية من هذا الحديث:

هو أننا إذا علمنا أن الله عز وجل يضحك؛ فإننا نرجو منه كل خير. ولهذا قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! أو يضحك ربنا؟ قال : "نعم" قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً[164]

إذا علمنا ذلك ؛ انفتح لن الأمل في كل خير ؛ لأن هناك فرقاً بين إنسان عبوس لا يكاد يُرى ضاحكاً، وبين إنسان يضحك.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم البشر كثير التبسم عليه الصلاة والسلام.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم :" عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره؛ ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك ؛ يعلم أن فرجكم قريب" (1) حديث حسن..............................................................

(1)هذا الحديث [165] في إثبات العجب وصفات أخرى.

· العجب : هو استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين:

السبب الأول: خفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجب منه؛ بحيث يأتيه بغتة بدون توقع، وهذا مستحيل على الله تعالى ؛ لأن الله بكل شيء عليم ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

والثاني: أن يكون السبب فيه خروج هذا الشيء عن نظائره وعما ينبغي أن يكون عليه بدون قصور من المتعجب؛ بحيث يعمل عملاً مستغرباً لا ينبغي أن يقع من مثله.

وهذا ثابت لله عز وجل ؛ لأنه ليس عن نقص من المتعجب، ولكنه عجب بالنظر إلى حال المتعجب منه.

قوله:" عجب ربنا من قنوط عباده": القنوط: أشد اليأس.

يعجب الرب عز وجل من دخول اليأس الشديد على قلوب العباد.

" وقرب غيره": الواو بمعنى (مع) ؛ يعني : مع قرب غيره.

و(الغير) أسم جمع غيرة؛ كطير : أسم جمع طيرة، وهي اسم بمعنى التغيير، يغير الحال إلى حال أخرى بكلمة واحدة، وهي : كن .فيكون.

وقوله: ينظر إليكم أزلين" أي : ينظر الله إلينا بعينه.

" أزلين قنطين": الأزل: الواقع في الشدة: و"قنطين": جمع قانط، والقانط اليائس من الفرج وزوال الشدة.

فذكر النبي صلى الله عليه وسلم حال الإنسان وحال قلبه؛ حاله أنه واقع في شدة، وقلبه قانط يائس مستبعد للفرج.

"فيظل يضحك" : يظل يضحك من هذه الحال العجيبة الغريبة؛ كيف تقنط من رحمة أرحك الراحمين الذي يقول للشيء: كن . فيكون؟!

" يعلم أن فرجكم قريب"؛ أي : زوال شدتكم قريب.

في هذا الحديث عدة صفات:

-أولاً: العجب ؛ لقوله :" عجب ربنا من قنوط عباده".

وقد دل على هذا الصفة القرآن الكريم ؛ قال الله تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ)(الصافات:12)على قراءة ضم التاء.

ثانياً: وفيه أيضاً بيان قدرة الله عز وجل؛ لقوله :" وقرب غيره"، وأنه عز وجل تام القدرة، إذا أراد غير الحال من حال إلى ضدها في وقت قريب.

ثالثاً: وفيه أيضاً من إثبات النظر؛ لقوله:" ينظر إليكم".

رابعأً: وفيه إثبات الضحك؛ لقوله :" فيظل يضحك".

خامساً: وكذلك العلم ؛ " يعلم أن فرجكم قريب".

سادساً: والرحمة، لأن الفرج من الله دليل على رحمة الله بعبادة.

وكل هذه الصفات التي دل عليها الحديث يجب علينا أن نثبتها لله عز وجل حقاً على حقيقتها ، ولا نتأول فيها .

والفائدة المسلكية في هذا : أن الإنسان إذا علم ذلك من الله سبحانه وتعالى ؛ حذر من هذا الأمر، وهو القنوط من رحمة الله ، ولهذا كان القنوط من رحمة الله من الكبائر:

قال الله تعالى : (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56)

وقال تعالىSad وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف: 88).

فالقنوط من رحمة الله ، واستبعاد الرحمة: من كبائر الذنوب، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه؛ إن دعاه أحسن الظن به بأنه سيجيبه، وإن تعبد له بمقتضى شرعه؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يقبل منه، وإن وقعت به شدة؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا"[166]

بل قد قال الله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (5) (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5،6) ، ولن يغلب عسر يسرين؛ كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا تزال جهنم يُلقى فيها ، وهي تقول: هل من مزيد ؛ حتى يضع رب العزة فيها رجله( وفي رواية : عليها قدمه) فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول : قط قط" (1) متفق عليه ..............

(1)هذا الحديث [167]في إثبات الرجل أو القدم:

*قوله:" لا تزال جهنم يلقى فيها": هذا يوم القيامة؛ يعني : يلقى فيها الناس والحجارة؛ لأن الله تعالى يقول: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )(البقرة: من الآية24)، وقد يقال: يلقى فيها لاناس فقط، وأن الحجارة لم تزل موجودة فيها، والعلم عند الله.

*" يلقى فيها" : في هذا دليل على أن أهلها- والعياذ بالله- يلقون فيها إلقاء لا يدخلون مكرمين، بل يدعون إلى نار جهنم دعاً؛ ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)(الملك: من الآيةCool .

*قوله:" لا وهي تقول: هل من مزيد؟" : (هل) للطلب؛ يعني: زيدوا. وأبعد النجعة من قال: إن الاستفهام هنا للنفي، والمعنى على زعمه: لا مزيد على ما في، والدليل على بطلان هذا التأويل:

*قوله:" حتى يضع رب العزة فيها رجله" وفي رواية :" عليها قدمه": لأن هذا يدل على أنها تطلب زيادة، وإلا لما وضع الله عليها رجله حتى ينزوي بعضها إلى بعض؛ فكأنها تطلب بشوق إلى من يلقى فيها زيادة على ما فيها.

*قوله:" حتى يضع رب العزة": عبرَ برب العزة؛ لأن المقام مقام عزة وغلبة وقهر.

وهنا (رب) ؛ بمعنى : صاحب، وليست بمعنى خالق؛ لأن العزة صفة من صفات الله، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.

*وقوله:" فيها رجله" ، وفي رواية :" عليها قدمه": (في) و (على) : معناهما واحد هنا، والطاهر أن (في) بمعنى (على)؛ كقوله: ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ )(طـه: من الآية71)؛ أي : عليها.

أما الرجل والقدم؛ فمعناهما واحد، وسميت رجل الإنسان قدماً؛ لأنها تتقدم في المشي؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يمشي برجله إلا إذا قدمها.

*قوله :" فينزوي بعضها إلى بعض"؛ يعني : ينضم بعضها على بعض من عظمة قدم الباري عز وجل.

*قوله: " وتقول : قط قط"؛ بمعنى : حسبي حسبي؛ يعني : لا أريد أحداً.

في هذا الحديث من الصفات:

أولاً: إثبات القول من الجماد؛ لقوله:" وهي تقول" ،وكذلك : " فتقول : قط قط" ، وهو دليل على قدرة الله الذي أنطق كل شيء.

ثانياً: التحذير من النار ؛ لقوله:" لا تزال جهنم يلقى فيها ، وهي تقول: هل من مزيد؟"

ثالثاً: إثبات فضل الله عز وجل؛ فإن الله تعالى تكفل للنار بأن يملأها كما قال : ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(هود: من الآية119)؛ فإذا دخلها أهلها ، وبقي فيها فضل، وقالت : هل من مزيد؟ وضع الله عليها رجله، فانزوى بعضها إلى بعض، وامتلأت بهذا الانزواء.

وهذا من فضل الله عز وجل؛ وإلا فإن الله قادر على أن يخلق أقواماً ويكمل ملأها بهم، ولكنه عز وجل لا يعذب أحداً بغير ذنب؛ بخلاف الجنة، فيبقى فيها فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فيخلق الله أقواماً يوم القيامة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته.

رابعاً:أن لله تعالى رجلاً وقدماً حقيقية ، لا تماثل أرجل المخلوقين ويسمي أه السنة هذه الصفة: الصفة الذاتية الخبرية؛ لأنها لم تعلم إلا بالخبر، ولأن مسماها أبعاض لنا وأجزاء ، لكن لا نقول بالنسبة لله: إنها أبعاض وأجزاء ؛ لأن هذا ممتنع على الله عز وجل.

وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك ، فقالوا:" يضع عليها رجله"يعني : طائفة من عباده مستحقين للدخول ، والرجل تأتي بمعنى الطائفة؛ كما في حديث أيوب عليه الصلاة والسلام[168] أرسل الله إليه رجل جرد من ذهب؛ يعني : طائفة من جراد.

وهذا تحريف باطل؛ لأن قوله :" عليها": يمنع ذلك.

وأيضاً ؛ لا يمكن أن يضيف الله عز وجل أهل النار إلى نفسه؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف.

وقالوا في القدم: قدم ؛ بمعنى : مقدم ؛ أي: يضع الله تعالى عليها مقدمه؛ أي: من يقدمهم إلى النار.

وهذا باطل أيضاً؛ فإن أهل النار لا يقدمهم الباري عز وجل، ولكنهم (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً)(الطور:13) ، ويلقون فيها إلقاء؛ فهؤلاء المحرفون فروا من شيء ووقعوا في شر منه؛ فروا من تنزيه الله عن القدم والرجل، لكنهم وقعوا في السفه ومجانبة الحكمة في أفعال الله عز وجل.

والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدماً، وإن شئنا ؛ قلنا : رجلاً؛ على سبيل الحقيقة؛ مع عدم المماثلة، ولا نكيف الرجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن لله تعالى رجلاً أو قدماً، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم ، وقد قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33).

والفائدة المسلكية من هذا الحديث : هو الحذر الشديد من عمل أهل النار؛ خشية أن يلقى الإنسان فيها كما يلقى غيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم :" يقول الله تعالى : يا آدم! فيقول : لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار....(1) متفق عليه

(1)هذا الحديث[169] : في إثبات الكلام والصوت:

* يخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه يقول: يا آدم "! وهذا يوم القيامة، فيجب آدم: لبيك وسعديك".

* " لبيك ، بمعنى: إجابة مع إجابة، وهو مثنى لفظاً ، ومعناه: الجمع، ولهذا يعرب على أنه ملحق بالمثنى.

* " وسعديك"؛ يعني: إسعاداً بعد إسعاد؛ فأنا ألبي قولك وأسألك أن نسعدني وتعينني.

* قال :" فينادي"؛ أي : الله ؛ فالفاعل هو الله عز وجل.

* وقوله : " بصوت":هذا من باب التأكيد؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع؛ فهو كقوله تعالى ( وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )(الأنعام: من الآية38)؛ فالطائر الذي يطير؛ إنما يطير بجناحيه، وهذا من باب التأكيد.

* وقوله:" إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار": ولم يقل: إني آمرك! وهذا من باب الكبرياء والعظمة؛ حيث كنى عن نفسه تعالى بكنية الغائب: فقال:" إن الله يأمرك"؛ كما يقول الملك لجنوده: إن الملك يأمركم بكذا وكذا؛ تفاخراً وتعاظماً ، والله سبحانه هو المتكبر وهو العظيم.

وجاء في القرآن مثل هذا: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )[النساء: 58]، ولم يقل: إني آمركم.

* وقوله: "أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار"؛ أي: مبعوثاً.

* والحديث الآخر؛ قال: "يارب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون[170]

قوله صلى الله عليه وسلم : "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان" (1).....................

(1) هذا الحديث[171] في إثبات الكلام أيضاً:

* قوله: "ما": نافية.

* قوله: "من أحد": مبتدأ؛ دخلت عليه (من) الزائدة للتوكيد؛ يعني: ما منكم من أحد.

* قوله: "إلا سيكلمه ربه"؛ يعني: هذه حاله؛ سيكلمه الله عز وجل؛ "ليس بينه وبينه ترجمان"، وذلك يوم القيامة.

* والترجمان: هو الذي يكون واسطة بين متكلمين مختلفين في اللغة، ينقل إلى أحدهما كلام الآخر باللغة التي يفهمها.

ويشترط في المترجم أربعة شروط: الأمانة، وأن يكون عالماً باللغة التي يترجم منها، وباللغة التي يترجم إليها، وبالموضوع الذي يترجمه.

* وفي هذا الحديث من صفات الله: الكلام، وأنه بصوت مسموع مفهوم.

"الفوائد المسلكية في الحديث الأول: "يقول الله: يا آدم!": فيه بيان أن الإنسان إذا علم بذلك، فإنه يحذر ويخاف أن يكون من التسع مائة والتسعة والتسعين.

وفي الحديث الثاني: يخاف الإنسان من ذلك الكلام الذي يجري بينه وبين ربه عز وجل أن يفتضح بين يدي الله إذا كلمه تعالى بذنوبه فيقلع عن الذنوب، ويخاف من الله عز وجل.

* * *

و قوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: "ربنا الله الذي في السماء؛ تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء؛ اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ"(1) حديث حسن رواه أبو داود وغيره..................................................

(1) هذا الحديث [172]: في إثبات العلو لله وصفات أخرى:

* قوله: "في رقية المريض": من باب إضافة المصدر إلى المفعول؛ يعني: في الرقية إذا قرأ على المريض.

* قوله: "ربنا الله الذي في السماء": تقدم الكلام على قوله: "في السماء" في الآيات.

* وقوله: "تقدس اسمك"؛ أي: طهر، والاسم هنا مفرد، لكنه مضاف، فيشمل كل الأسماء؛ أي: تقدست أسماؤك من كل نقص.

* "أمرك في السماء والأرض": أمر الله نافذ في السماء والأرض؛ كما قال تعالى: )يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض)[السجدة: 5]، وقالSad أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )[الأعراف: 54].

* وقوله: "كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض": الكاف هنا للتعليل، والمراد بها التوسل؛ توسل إلى الله تعالى بجعل رحمته في السماء أن يجعلها في الأرض.

فإن قلت: أليس رحمة الله في الأرض أيضاً؟‍

قلنا: هو يقرأ على المريض، والمريض يحتاج إلى رحمة خاصة يزول بها مرضه.

* وقوله: "اغفر لنا حوبنا وخطايانا": الغفر: ستر الذنب والتجاوز عنه. والحوب: كبائر الإثم. والخطايا: صغائره. هذا إذا جمع بينهما، أما إذا افترقا؛ فهما بمعنى واحد؛ يعني: اغفر لنا كبائر الإثم وصغائره ؛ لأن في المغفرة زوال المكروب وحصول المطلوب، ولأن الذنوب قد تحول بين الإنسان وبين توفيقه؛ فلا يوفق ولا يجاب دعاؤه.

* قوله: "أنت رب الطيبين": هذه ربوبية خاصة، وأما الربوبية العامة؛ فهو رب كل شيء، والربوبية قد تكون خاصة وعامة.

واستمع إلى قول السحرة الذين آمنواSmileقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (121) )رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) الأعراف: 121-122]؛ حيث عموا ثم خصوا.

واستمع إلى قوله تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) [النمل: 91]؛ ف (رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ): خاص، ]( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) عام.

* والطيبون: هم المؤمنون؛ فكل مؤمن؛ فهو طيب، وهذا من باب التوسل بهذه الربوبية الخاصة، إلى أن يستجيب الله الدعاء ويشفي المريض.

* قوله: "أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع" هذا الدعاء وما سبقه من باب التوسل.

* "أنزل رحمة من رحمتك": الرحمة نوعان:

- رحمة هي صفة الله؛ فهذه غير مخلوقة وغير بائنة من الله عز وجل؛ مثل قوله تعالى: )وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة) [الكهف: 58]، ولا يطلب نزولها.

- ورحمة مخلوقة، لكنها أثر من آثار رحمة الله؛ فأطلق عليها الرحمة؛ مثل قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"[173].

* كذلك الشفاء؛ فالله شاف، ومنه الشفاء؛ فوصفه الشفاء، وهو فعل من أفعاله، وهو بهذا المعنى صفة من صفاته، وأما باعتبار تعديه إلى المريض؛ فهو مخلوق من مخلوقاته؛ فإن الشفاء زوال المرض.

* قوله: "فيبرأ": بفتح الهمزة منصوباً؛ لأنه جواب الدعاء: أنزل رحمة؛ فيبرأ. أما إذا قرئ بالضم مرفوعاً؛ فإنه مستأنف، ولا يتبع الحديث، بل يوقف عند قوله: "الوجع"، وتكون "فيبرأ": جملة خبرية تفيد أن الإنسان إذا قرأ بهذه الرقية؛ فإن المريض يبرأ، ولكن الوجه الأول أحسن بالنصب.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(1) حديث صحيح..................

(1) هذا الحديث [174] في إثبات العلو أيضاً:

* قوله: "ألا تأمنوني": فيها إشكال لغوي، وهو حذف نون الفعل بدون ناصب ولا جازم!!

والجواب عن هذا: إنه إذا اتصلت نون الوقاية بفعل من الأفعال الخمسة؛ جاز حذف نون الرفع.

* "ألا تأمنوني" أي: إلا تعتبروني أميناً.

* "وأنا أمين من في السماء": والذي في السماء هو الله عز وجل، وهو أمينه عليه الصلاة والسلام على وحيه، وهو سيد الأمناء عليه الصلاة والسلام، والرسول والذي ينزل عليه جبريل هو أيضاً أمين: )إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) )ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)( مطاع ثم أمين).

* وهذا الحديث له سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ذهيبة بعث بها علي من اليمن بين أربعة نفر، فقال له رجل: نحن أحق بهذا من هؤلاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء".

* "ألا": للعرض؛ كأنه يقول: ائمنوني؛ فإني أمين من في السماء!

ويحتمل أن تكون الهمزة لاستفهام الإنكار، و(لا): نافية.

* والشاهد قوله: "من في السماء"، ونقول فيها ما قلناه فيما سبق في الآيات.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "والعرش فوق الماء، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه"(1) حديث حسن رواه أبو داود وغيره..........................

(1) هذا الحديث[175] في إثبات العلو أيضاً:

* لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المسافات التي بين السماوات؛ قال: "والعرش فوق الماء".

ويشهد لهذا قوله تعالى: ) وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) [هود: 7].

* قال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه": هو فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه شيء من أحوالنا وأعمالنا، بل قد قال الله تعالى: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ )[ق:16] يعني: الشيء الذي في ضميرك يعلمه الله؛ مع أنه ما بان لأحد.

* وقوله: "وهو يعلم ما أنتم عليه": يفيد إحاطة علم الله بكل ما نحن عليه.

الفائدة المسلكية في هذا الحديث:

إذا آمنا بهذا الحديث؛ فإننا نستفيد منه فائدة مسلكية، وهي تعظيم الله عز وجل، وأنه في العلو، وأنه يعلم ما نحن عليه، فنقوم بطاعته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "من أنا؟" قالت أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة"(1) رواه مسلم...............................................

(1) هذا الحديث[176]: في إثبات العلو أيضاً:

* قوله: "أين الله؟": (أين): يستفهم بها عن المكان.

* "قالت: في السماء"؛ يعني: على السماء، أو: في العلو؛ على حسب الاحتمالين السابقين.

قال "من أنا؟ قال: أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة".

وعند أهل التعطيل هي بقولها: "في السماء": إذا أرادت أنه في العلو؛ هي كافرة!! لأنهم يرون أن من أثبت أن الله في جهة؛ فهو كافر؛ إذ يقولون: إن الجهات خالية منه.

واستفهام النبي صلى الله عليه وسلم: ب(أين) يدل على أن لله مكاناً.

ولكن يجب أن نعلم أن الله تعالى لا تحيط به الأمكنة؛ لأنه أكبر من كل شيء، وأن ما فوق الكون عدم، ما ثم إلا الله؛ فهو فوق كل شيء.

* وفي قوله: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة": دليل على أن عتق الكافر ليس بمشروع، ولهذا لا يجزئ عتقه في الكفارات؛ لأن بقاء الكافر عندك رقيقاً؛ فيه نوع حماية وسلطة وإمرة وتقريب من الإسلام؛ فإذا أعتقته؛ تحرر؛ وإذا تحرر؛ فيخشى منه أن يرجع إلى بلاد الكفر؛ لأن أصل الرق هو الكفر، ويبقى معيناً للكافرين على المؤمنين.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت"(1) حديث حسن............

(1) هذا الحديث[177]: في إثبات المعية:

* أفاد الحديث معية الله عز وجل، وقد سبق في الآيات أن معية الله لا تستلزم أن يكون في الأرض، بل يمتنع غاية الامتناع أن يكون في الأرض، لأن العلو من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها أبداً، بل هي لازمة له سبحانه وتعالى.

وسبق أيضاً أنها قسمان.

* وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفضل الإيمان أن تعلم": يدل على أن الإيمان يتفاضل؛ لأنك أذا علمت أن الله معك حيثما كنت؛ خفت منه عز وجل وعظمته.

لو كنت في حجرة مظلمة ليس فيها أحد؛ فاعلم أن الله معك، لا في الحجرة؛ لكنه سبحانه وتعالى معك؛ لإحاطته بك علماً وقدرة وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:37 am

107 لما رواه البخاري / كتاب الزكاة / باب لا يقبل الله صدقة من غلول "، ومسلم / كتاب الزكاة / باب قبول الصدقة من الكسب الطيب

108 تقدم تخريجه رقم (51)

109 رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب " لما خلقت بيدي" ومسلم / كتاب الزكاة/ باب الحث على النفقة.

110 رواه مسلم / كتاب البر / باب تحريم الظلم

111رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم / كتاب

112 رواه مسلم / كتاب الإمارة/ باب فضيلة الإمام العادل..

113رواه البخاري كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى :" وجوه يؤمئذ ناظرة"، ومسلم / كتاب الإيمان/ باب معرفة طريق الرؤية

114 رواه مسلك / كتاب الفتن/ باب ذكر الدجال.

115رواه البخاري / كتاب الشروط/ باب الشروط في الجهاد

[116] رواه البخاري/ كتاب مناقب الأنصار/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين ، ومسلم / كتاب الجهاد/ باب ما لقي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.

117 رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم " آمين"، ومسلم / كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذي المشركين.

118 رواه البخاري/ كتاب الجهاد/ باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم / كتاب الإيمان/ باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال

119 رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى : " ولتصنع على عيني"، ومسلم / كتاب الإيمان/ باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال

120 تقدم تخريجه في الحديث السابق.

121 ذكره ابن القيم في كتاب " الصواعق" (256) وقال الألباني في " الضعيفة" (1024) : ضعيف جداً

122تقدم تخريجه رقم 49

123 تفسير بن كثير ج 4 سورة العلق

124رواه البخاري/ كتاب التفسير ( سورة النور) ، ومسلم / كتاب التوبة/ باب قصة الإفك

125رواه البخاري/ كتاب التفسير / باب قوله تعالى :" وتقول هل من مزيد" ، ومسلم/ كتاب الجنة/ باب النار يدخلها الجبارون

126أخرجه الخطيب البغدادي في ال" الجامع" (2/ 69) والسيوطي في الجامع الصغير (2/ 92) وسئل شيخنا العلامة الجليل/ محمد العثيمين – حفظه الله تعالى – عن هذا الحديث فقال:" هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعّفه ، ولكن تلقى العلماء له بالقبول – ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن ذلك له أصلاً..." انتهى من كتاب (العلم) ص 127.

127 رواه البخاري / كتاب بدء الخلق / باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم / كتاب النكاح / باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع.

128 رواه البخاري/ كتاب الرقاق/ باب التواضع

129 رواه البخاري/كتاب الجهاد/ باب التسبيح إذا هبط وادياً

130 رواه مسلم / كتاب صلاة المسافرين/ باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

131 رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 244) واللاكائي في " شرح السنة" _659) والطبراني في " الكبير" (9/228) وقال الهيثمي في " المجمع" (1/86) " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح"

132 رواه البخاري / كتاب المغازي/ باب بعث علي وخالد إلى اليمن ، ومسلم كتاب الزكاة / باب صفة الخوارج

133رواه مسلم/ كتاب الحج / باب حجة النبي صلي الله عليه وسلم

134 رواه مسلم / كتاب المساجد / باب تحريم الكلام في الصلاة

135 رواه مسلم / كتاب الحج/ باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره

136 رواه مسلم / كتاب الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة

137 أخرجه أبو نعيم (6/124) ، والهيثمي في " المجمع " (1/60)

138تقدم تخريجه رقم 90

139رواه البخاري / كتاب فضائل الصحابة/ باب مناقب المهاجرين، ومسلم / كتاب فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر الصديق

140 تقدم تخريجه رقم 10

141 هو محمد بن نوح المضروب العجلي أحمد المشهورين بالسنة ، اثنى عليه الامام أحمد ابن حنبل وامتحن مسالة خلق القرآن وأخرج من بغداد ومات في طريق خروجه سنة 218هـ . انظر تذكرة الحفاظ 3-826، وسير اعلام النبلاء 15-34.

142 اخرجه ابن ماجه / كتاب الفتن/ باب ذهبا القرآن والعلم.

143 البخاري/ كتاب الحج / قوله تعالى :" جعل الله الكعبة البيت الحرام..." ، ومسلم / كتاب الفتن / باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل....".

144 رواه البخاري/ كتاب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر ، ومسلم / كتاب الحج / باب أحد جبل يجبنا ونحبه

145 رواه البخاري كتاب التفسير/ باب " فاما من أعطى واتقي"، ومسلم / كتاب القدر/ باب كيفية الخلق الآدمي

146 رواه مسلم / كتاب الايمان / باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم

147 رواه الأمام احمد (5/ 352) ، والترمذي( 2543) ، والبغوي في " شرح السنة" (15/ 222).

148 رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها

149 تقدم تخريجه رقم 104

150 رواه البخاري/ كتاب الأنبياء (3456) ومسلم / كتاب العمل / باب اتباع سنن اليهود والنصارى (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

151رواه الإمام أحمد (4/132) وأبو داود (4605) والترمذي (25\663) ، وابن ماجه (13).



152 تقدم تخريجه رقم 46



153 رواه مسلم / كتاب الإمارة/ باب فضل الرمي والحث عليه



154 تقدم تخريجه رقم 46

155 رواه البخاري / كتاب الطب/ باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم / كتاب السلام

156 رواه مسلم / كتاب الصلاة/ باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.

157 رواه البخاري / كتاب الصوم / باب سواك الرطب واليابس للصائم معلقاً مجزوماً

158 تقدم تخريجه رقم 46

159 انظر:" صحيح مسلم " كتاب الحج / باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة

160 انظر : فتاوى مهمة حول حديث النزول ج 1 ص 203 من هذا المجموع.

161 رواه البخاري / كتاب الدعوات / باب التوبة (11/102) ومسلم / كتاب التوبة/ باب الحض على التوبة

162 رواه البخاري / كتاب التفسير (4636) ، ومسلم / كتاب الايمان / باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

163 رواه البخاري / كتاب الجهاد / باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل ومسلم / كتاب الأمارة

164 أخرجه الإمام أحمد ج 4 ص 11-12

165 أخرجه ابن كثير في تفسيره ، ج1، ص 220

166 رواه الأمام احمد (1/307) ، والترمذي (2518) وقال : حديث حسن صحيح.

167 رواه البخاري/ كتاب التوحيد (7384) ومسلم/ كتاب الجنة/ وصفة نعيمها

168 رواه البخاري/ كتاب الأنبياء / باب قوله تعالى ( وأيوب إذ نادي ربه ....)

169 رواه البخاري / كتاب التوحيد / باب قوله تعالي ( ولا تنفع شفاعة عنده إلا لمن اذن له) / كتاب الإيمان / قوله تعالى ( يقول الله لادم اخرج بعده النار).

170 رواه البخاري/ كتاب الرقاق/ باب قوله تعالى ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم) ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب قول " يقول لآدم اخرج بعث النار".

171 رواه البخاري/ كتاب الرقاق/ باب من نوقش الحساب عذب ، ومسلم / كتاب الزكاة (2016)

172أخرجه الأمام أحمد ج6 ص 20، وابو داود (3892)

173سبق تخريجه رقم 125

174 رواه البخاري / كتاب المغازي / باب بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن ، ومسلم / كتاب الزكاة

175 اخرجه الأمام احمد ج1 ص 206 ، وابو داود / كتاب السنة / باب في الجهمية

176 سبق تخريجه رقم 39

177 سبق تخريجه رقم 137
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:39 am



وقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه، ولا عن يمينه ،فإن الله قبل وجهه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه" (1) متفق عليه............

(1) هذا الحديث [178]في إثبات كون الله قبل وجه المصلى:

*" قبل وجهه" يعني : أمامه.

قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة:115).

*" يمينه": ورد فيه حديث:" فإن عن يمينه ملكاً"[179] ، ولأن اليمين أفضل من الشمال، فيكون اليسار أولى بالبصاق ونحوه، ولهذا قال" ولكن عن يساره أو تحت قدمه".

فإن كان في المسجد؛ قال العلماء : فإنه يجعل البصاق في خرقه أو منديل أو ثوبه ، ويحك بعضه ببعض، حتى تزول صورة البصاق، وإذا كان الإنسان في المسجد عند الجدار، والجدار قصير عن يساره؛ فإنه يمكن أن يبصق عن يساره إذا لم يؤذ أحداً من المارة.

*يستفاد من هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى أمام وجه المصلي، ولكن يجب أن نعلم أن الذي قال: إنه أمام وجه المصلى؛ هو الذي قال إنه في السماء، ولا تناقض في كلامه هذا وهذا؛ إذ يمكن الجمع من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن الشرع جمع بينهما ، ولا يجمع بين متناقضين.

الوجه الثاني: أنه يمكن أن يكون الشيء عالياً، وهو قبل وجهك؛ فها هو الرجل يستقبل الشمس أول النهار، فتكون أمامه وهي في السماء؛ فإذا كان هذا ممكناً في المخلوق؛ ففي الخالق من باب أولى بلا شك.

الوجه الثالث: هب أن هذا ممتنع في المخلوق؛ فإنه لا يمتنع في الخالق؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته.

يستفاد من هذا الحديث من الناحية المسلكية وجوب الأدب مع الله عز وجل ويستفاد أنه متى آمن المصلي بذلك فإنه يحدث له خشوعاً وهيبة من الله عز وجل.

وقوله صلى الله عليه وسلم :" اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك م شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . أنت الأول ؛ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر؛ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء؛ اقض عني الدين، وأغنني من الفقر". رواه مسلم(1).........................................

(1)هذا الحديث[180] : في إثبات العلو وصفات أخرى:

*وهو حديث عظيم ، توسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بربوبيته في قوله:" اللهم رب السماوات السبع والأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء" ، وهذا من باب التعميم بعد التخصيص في قوله:" ورب كل شيء" وهذا التعميم بعد التخصيص؛ لئلا يتوهم واهم اختصاص الحكم بما خصص به. وانظر إلى قوله تعالى : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ )(النمل: من الآية91) حيث قال : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ؛ حتى لا يظن ظان أنه ليس رباً إلا لهذه البلدة.

*" فالق الحب والنوى": حب الزرع. و "النوى" : نوى العرس؛ فالأشجار التي تخرج: إما زروع أصلها النوى؛ فما للأشجار يسمى نوى، وما للزروع يسمى حباً ؛( فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)(الأنعام: من الآية95).

هذا الحب والنوى اليابس الذي لا ينمو ولا يزيد ، يفلقه الرب عز وجل؛ أي: يفتحه حتى تخرج منه الأشجار والزروع ، ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك؛ مهما بلغ الناس في القدرة؛ ما استطاعوا أن يفلقوا حبة واحدة أبداً! والنوى كذلك الذي كالحجر؛ لا ينمو، ولا يزيد ؛ يفلقه الله عز وجل، وينفرج، ثم تكون منه الغريسة التي تنمو، ولا أحد يستطيع ذلك ؛ إلا الذي فلقها سبحانه وتعالى.

ولما ذكر الآية الكونية العظيمة؛ ذكر الآيات الشرعية، وهي:

قوله:" منزل التوراة والإنجيل والقرآن" : وهذه أعظم كتب أنزلها الله عز وجل، وبدأها على الترتيب الزمني: التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا نص صريح على أن التوراة منزلة كما جاء في القرآن: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ )(المائدة: من الآية44) ، وقال في أول سورة آل عمران: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ) (3) (مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ )(آل عمران: 3-4).

قوله:" أعوذ بك من شر نفسي": أعتصم بالله من شر نفسي.

إذاً ؛ في نفسك شر؛ (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء)(يوسف: من الآية53)

لكن النفس نفسان:

1- نفس مطمئنة طيبة تأمر بالخير.

2- نفس شريرة أمارة بالسوء.

والنفس اللوامة؛ هل هي ثالثة، أو وصف للثنتين السابقتين؟!

فيه خلاف: بعضهم يقول: أنها نفس ثالثة. وبعضهم يقول : هي وصف للثنتين السابقتين؛ فالمطمئنة تلومك والأمارة بالسوء تلومك؛ فيكون قوله تعالى : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:2)؛ يشمل النفسين جميعاً.

فالمطمئنة تلومك على التقصير في الواجب؛ إذا أهملت واجباً؛ لامتك، وإذا فعلت محرماً ؛ لامتك.

والأمارة بالعكس ؛ إذا فعلت الخير؛ لامتك وتلومك إذا فوت ما تأمرك به من السوء.

إذاً؛ صارت اللوَّامة على القول الراجح وصفاً لنفسين معاً.

وقوله هنا:" أعوذ بك من شر نفسي": المراد بها النفس الأمارة بالسوء.

قوله:" ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها": الدابة : كل ما يدب على الأرض، حتى الذي يمشي على بطنه داخل في هذا الحديث؛ كقوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ )(النور: من الآية45) ، وقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا )(هود: من الآية6) .

وإن كانت الدابة تطلق في العرف على ذوات الأربع، فوفي عرف أخص تطلق على الحمار فقط، لكنها في مثل هذا الحديث يراد بها كل ما يدب على الأرض، وما يدب على الأرض فيه شرور، أما بعضه فشر محض بالنسبة لذاته، وأما بعضه ففيه خير وفيه شر، وحتى الذي فيه خير ؛ لا يسلم من الشر.

*قوله :" أنت آخذ بناصيتها " : مقدم الرأس، وإنما نص على الناصية؛ لأنه هو المقدم ، وهو الذي يمسك به لقيادة البعير وشبهه وقيل : خص ذلك؛ لأن المخ الذي فيه التصور والتلقي يكون في مقدمة الرأس ، والعلم عند الله.

*قوله:" أنت الأول؛ فليس قبلك شيء": هذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله :" الأول" والأول من أسماء الله.

وقد ذكرنا عند تفسير الآية أن أهل الفلسفة يسمون الله : القديم، وذكرنا أن القديم ليس من أسماء الله الحسنى، وأنه لا يجوز أن يسمى به، لكن يجوز أن يخبر به عنه، وباب الخبر أوسع من باب التسمية؛ لأن القديم ليس من الأسماء الحسنى، والقديم فيه نقص؛ لأن القدم قد يكون قدماً نسبياً ؛ ألم تر إلى قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّـس:39)، والعرجون القديم حادث، لكنه قديم بالنسبة لما بعده.

*قوله:" " وأنت الظاهر ؛ فليس فوقك شيء": الظاهر من الظهور، وهو العلو؛ كما قال تعالى : (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) (الكهف:97)؛( يَظْهَرُوهُ) ؛ أي : يعلو عليه.

وأما من قال : الظاهر بآياته؛ فهذا خطأ؛ لأنه لا أحد أعلم بتفسير كلام الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال:" الظاهر ؛ فليس فوقك شيء": بل هو فوق كل شيء سبحانه.

قوله:" وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء": المعنى : ليس دون الله شيء؛ لا أحد يدبر دون الله ، ولا أحد ينفرد بشيء دون الله، ولا أحد يخفى على الله ؛ كل شيء؛ فالله محيط به ، ولهذا قال:" ليس دونك شيء" يعني : لا يحول دونك شيء، ولا يمنع دونك شيء، ولا ينفع ذا الجد منك الجد... وهكذا.

قوله:" اقض عني الدين": الدين: ما يستحق على الإنسان من مال أو حق؛ اشتريت منك حاجة، ولم أنقدك الثمن؛ فهذا يسمى ديناً، وإن كان غير مؤجل.

قوله:" أغنني من الفقر": الفقر: خلو ذات اليد، ولا شك أن الفقر فيه إيلام للنفس ، والدين فيه ذل؛ والمدين ذليل للدائن، والفقير معوز ربما يجره الفقر إلى أمر محرم.

ألم يأتكم نبأ الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسل كل واحد منهم بصالح عمله، وكان لأحدهم ابنة عم أعجبته، وكان يراودها عن نفسه، ولكنها كان تأبى ذلك، فألمت به سنة من السنين، واحتاجت ، وجاءت إليه تطلب منه أن يعينها، فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسه ، من أجل ضرورتها ؛ وافقت على هذا، فما جلس منها مجلس الرجل من امرأته؛ قالت له: يا هذا! اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه! وأثرت هذه الكلمة في الرجل عندما كانت نابعة من القلب، فقام عنها. قال: فقمت عنها وهي أحب الناس إلي. لكن ذكرته هذه الموعظة الكريمة؛ فأقلع[181].

فانظر إلى الفقر ؛ فإن هذه المرأة أرادت أن تبيع عرضها بسبب الفقر.

إذاً ؛ قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" أغنني من الفقر"

: سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يغنيه من الفقر؛ لأن الفقر له آفات عظيمة.

*وفي هذا الحديث أسماء وصفات:

- فمن الأسماء: الأول، والآخر، والظاهر ، والباطن.

- ومن الصفات: الأولية والآخرية، وفيهما الإحاطة الزمانية.

والظاهرية والباطنية، وفيهما الإحاطة المكانية. ومنها : العلو، وعموم ربوبيته، وتمام قدرته. ومنها: كما رحمته وحكمته بإنزال الكتب؛ لتحكم بين الناس وتهديهم صراط الله.

*ومن غير الأسماء والصفات: التوسل إلى الله بصفات الله، والتحذير من شر النفوس، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضى الله دينه ويغنيه من الفقر، وبيان ضعف الحديث الذي فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن يحييه ربه مسكينا[182].

وفيه من الفوائد المسلكية : التحذير من شر النفس، وتعظيم شأن الدين، وأن يحرص على تلافي الدين بقدر الإمكان، ويقتصد في ماله طلباً وتصرفاً؛ لأنه إذا اقتصد في ذلك ؛ سلم غالباً من الفقر والدين.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً؛ إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"(1) متفق عليه......

(1)هذا الحديث [183]: في إثبات قرب الله تعالى :

كان الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذا علوا نشزاً ؛ كبروا، وإذا نزلوا وادياً؛ سبحوا[184]؛ لأن الإنسان إذا ارتفع؛ قد يتعاظم في نفه، ويرى أنه مرتفع عظيم؛ فناسب أن يقول: الله أكبر! تذكيراً لنفسه بكبرياء الله عز وجل، وأما إذا نزل؛ فهذا سفول ونزول، فيقول: سبحان الله! تذكيراً لنفسه بتنزه الله عن اسفل. فكان الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:

" أيها الناس اربعوا على أنفسكم"؛ يعني : هونوا عليها.

" فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً"؛ لا تدعون أصم لا يسمع ، ولا غائباً لا يرى.

" إنما تدعون سميعاً"؛ يسمع ذكركم، " بصيرا"؛ يرى أفعالكم.

" إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته": عنق الراحلة للراكب قريب جداً؛ فالله تعالى أقرب من هذا إلى الإنسان، ومع هذا؛ فهو فوق سماواته على عرشه.

ولا منافاة بين القرب والعلو؛ لأن الشيء قد يكون بعيداً قريباً؛ هذا بالنسبة للمخلوق؛ فكيف بالخالق؟! فالرب عز وجل قريب مع علوه، أقرب إلى أحدنا من عنق راحلته.

هذا الحديث فيه فوائد:

- فيه شيء من الصفات السلبية: نفي كونه أصم أو غائباً؛ لكمال سمعه ولكمال بصره وعلمه وقربه.

- وفيه أيضاً انه ينبغي للإنسان إلا يشق على نفسه في العبادة؛ لأن الإنسان إذا شق على نفسه؛ تعبت النفس وملت، وربما يتأثر البدن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا"[185].

حتى إن الرسول صلى الله عليه وسمل أمر من نعس في صلاته أن ينام ويدع الصلاة؛ قال : " فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه"[186].

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقول القائل : لا يفطر ، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم[187] كذلك في القيام والنوم[188]

- وفيه ايضاً أن الله قريب، وقد دل عليه قوله تعالى : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186).

* ونستفيد من هذا الحديث من الناحية المسلكية:

- أنه لا ينبغي لنا أن نشق على أنفسنا بالعبادات، وأن يكون سيرنا إلى الله وسطاً؛ لا تفريط ولا إفراط.

- وفيه أيضاً: الحذر من الله ؛ لأنه سميع وقريب وبصير، فنبتعد عن مخالفته.

- وفيه أيضا من الناحية الحكمية: جواز تشبيه الغائب الحاضر للإيضاح؛ حيث قال:" إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".

- وفيه أيضاً انه ينبغي أن يراعي الإنسان في المعاني ما كان أقرب على الفهم ؛ لأن هؤلاء مسافرون، وكل منهم على راحلته، وإذا ضرب المثل بما هو قريب؛ فلا أحسن من هذا المثل الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام.

وقوله صلى الله عليه وسلم :" إنكم سترون ربكم كمـا ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ؛ فافعلوا (1)" متفق عليه....................................

(1) هذا الحديث [189]: في إثبات رؤية المؤمنين لربهم.

· قوله :" إنكم سترون ربكم ": السين للتحقيق، وتخلص الفعل المضارع إلى الاستقبال بعد أن كان صالحاً للحال والاستقبال؛ كما أن (لم) تخلصه للماضي، والخطاب للمؤمنين.

· قوله :" كما ترون القمر:" هذه رؤية بصرية؛ لأن رؤيتنا للقمر بصرية، وهنا شبه الرؤية بالرؤية؛ فتكون رؤية بصرية.

· قوله :" كما ترون" : (ما) هذه مصدرية، فيحول الفعل بعدها إلى مصدر، ويكون التقدير : كرؤيتكم القمر؛ فالتشبيه حينئذ للرؤية بالرؤية وليس للمرئي بالمرئي، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.

والنبي عليه الصلاة والسلام يقرب المعاني أحياناً بذكر الأمثلة الحسية الواقعية؛ كما سأله أبو رزين العقيلي لقيط بن عامر؛ قال : يا رسول الله ! أكلنا يرى ربه يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به" قال: بلى قال النبي صلى الله عليه وسلم :" فالله أعظم"[190]

وقوله :" مخلياً به"؛ يعني : خالياً به.

وكما ثبت به الحديث في " صحيح مسلم "[191] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :" إن الله يقول :قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذا قال : الحمد لله رب العالمين. قال: حمدني عبدي...." الخ.

وهذا يشمل كل مصل، ومن المعلوم أنه قد يتفق المصلون في هذه الآية جميعأً ، فيقول اله لكل واحد:" حمدني عبدي"، في آن واحد

قال :" كما ترون القمر ليلة البدر" أي: ليلة إبداره، وهي الليلة الرابعة عشرة والخامسة عشرة والثالثة عشرة أحياناً، والوسط الرابعة عشرة، كما قال ابن القيم : كالبدر ليل الست بعد ثمان.

*قوله:" لا تضامُون في رؤيته" ، وفي لفظ : لا تضامون" وفي لفظ:" لا تضارون":

- " لا تضامون": بضم التاء وتخفيف الميم ، أي : يلحقكم ضيم، والضيم الظلم، والمعنى: لا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية فيظلمه بمنعه إياه. لأن كل واحد يراه.

- " لا تضامون" : بتشديد الميم وفتح التاء وضمها : يعني : لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته؛ لأن الشيء إذا كان خفياً ؛ ينضم الواحد على صاحبه ليريه إياه.

- أما " لا تضارون" أو "لا تضارُون" فالمعنى: لا يلحقكم ضرر؛ لأن كل إنسان يراه سبحانه وتعالى وهو في غاية ما يكون من الطمأنينة والراحة.

- قوله :" فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غربوها ؛ فافعلوا": الصلاة قبل طلوع الشمس هي الفجر، وقبل غروبها هي العصر.



- والعصر أفضل من الفجر؛ لأنها الصلاة الوسطى التي خصها الله بالأمر بالمحافظة عليها بعد التعميم ، والفجر أفضل من العصر من وجه؛ لأنها الصلاة المشهودة؛ كما قال تعالى (ِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)(الاسراء: من الآية78) وجاء في الحديث الصحيح:" من صلى البردين ؛ دخل الجنة[192]، وهما الفجر والعصر.

إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به (1) فإن الفرقة (2) الناجية (3) أهل السنة والجماعة(4).............................................................................
*في هذا الحديث من صفات الله: إثبات أن الله يرى، وقد سبق شرح هذه الصفة عند ذكر الآيات الدالة عليها ، وهي أربعة آيات، والأحاديث في هذا متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبوتها قطعة، ودلالتها قطعية.

ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن من أنكر رؤية الله تعالى ؛ فهو كافر مرتد، وان الواجب على كل مؤمن أن يقر بذلك. قال: وإنما كفرناه؛ لأن الأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، ولا يمكن لأحد أن يقول : إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام :" إنكم سترون ربكم" إنه ليس قطعي الدلالة؛ إذ ليس هناك شيء أشد قطعاً من مثل هذا التركيب.

لو كان الحديث :" إنكم ترون ربكم": لربما تحتمل التأويل، وأنه عبر عن العلم اليقيني بالرؤية البصرية، ولكنه صرح بأنا نراه كما نرى القمر، وهو حسي.

وسبق لنا أن أهل التعطيل يؤولون هذه الأحاديث ويفسرون الرؤية برؤية العلم، وسبق بطلان قولهم.

(1)* قوله: " إلى أمثال هذه الأحاديث ..." إلخ؛ يعني : انظر إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه؛ فما كان مثلها ثبوتاً ودلالة؛ فحكمه حكمها.

(2) الفرقة "؛ أي: الطائفة.

(3) " الناجية" التي نجت في الدنيا من البدع، وفي الآخرة من النار.

(4) أي: الذين أخذوا بالسنة واجتمعوا عليها .

يؤمنون بذلك(1) كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز (2) من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل (3)...............................................................................................

(1) أي: بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسمل .

(2) لأن ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا أن نؤمن به كما يجب علينا أن نؤمن بما أخبر الله به في كتابه ؛ إلا أنه يختلف عن القرآن في الثبوت؛ فإن لنا نظرين بالنسبة لما جاءت به السنة:

النظر الأول: في ثبوته.

والنظر الثاني: في دلالته.

أما ما في القرآن؛ فلنا نظر واحد، وهو النظر في الدلالة.

وقد سبق لنا بيان الأدلة الدالة على وجوب قبول ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسمل .

(3) سبق شرح هذا.

* * *



بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم (1)..........................................
فصل

مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة

واتصافهم بالوسطية

(1) يعني: الأمم السابقة، وذلك من عدة أوجه:

- ففي حق الله تعالى: كانت اليهود تصف الله تعالى بالنقائص، فتلحقه بالمخلوق. وكانت النصارى تلحق المخلوق الناقص بالرب الكامل. أما هذه الأمة؛ فلم تصف الرب بالنقائص ولم تلحق المخلوق به.

- وفي حق الأنبياء ؛ كذبت اليهود عيسى بن مريم ، وكفرت به . وغلت النصارى فيه، حتى جعلته إلهاً. أما هذه الأمة؛ فأمنت به بدون غلو، وقالت: هو عبد الله ورسوله.

- وفي العبادات ؛ النصارى يدينون لله عز وجل بعدم الطهارة؛ بمعنى انهم لا يتطهرون من الخبث؛ يبول الواحد منهم، ويصيب البول ثيابه، ويقوم، ويصلي في الكنيسة!! واليهود بالعكس؛ إذا أصابتهم النجاسة؛ فإنهم يقرضونها من الثوب؛ فلا يطهرها الماء عندهم؛ حتى إنهم يبتعدون عن الحائض لا يؤاكلونها ولا يجتمعون بها. أما هذه الأمة؛ فهم وسط فيقولون: لا هذا ولا هذا؛ لا يُشق الثوب ، ولا يُصلى بالنجاسة، بل يغسل غسلاً حتى تزول النجاسة منه، ويصلى به، ولا يبتعدون عن الحائض؛ بل يؤاكلونها ويباشرها زوجها في غير الجماع.

- وكذلك أيضاً في باب المحرمات من المآكل والمشارب؛ النصارى استحلوا الخبائث وجميع المحرمات، واليهود حرم عليهم كل ذي ظفر؛ كما قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146) ، أما هذه الأمة ؛ فهم وسط؛ أحلت لهم الطيبات؛ وحرمت عليهم الخبائث.

- وفي القاص ؛ فرض على اليهود ، والتسامح عن القصاص فرض على النصارى، أما هذه الأمة؛ فهم وسط؛ أحلت لهم الطيبات؛ وحرمت عليهم الخبائث.

- و في القصاص؛ القصاص فرض على اليهود ، والتسامح عن القصاص فرض على النصارى، أما هذه الأمة؛ فهي مخيرة بين القصاص والدية والعفو مجاناً.

فكانت الأمة الإسلامية وسطاً بين الأمم بين الغلو والتقصير.

فأهل السنة والجماعة بين فرق الأمة كالأمة بين الديانات الأخرى؛ يعني : أنهم وسط.

ثم ذكر المؤلف – رحمه الله- اصولاً خمسة كان أهل السنة والجماعة فيها وسطاً بين فرق الأمة:
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة (1) .............
الأصل الأول: باب الأسماء والصفات

(1) هذان طرفان متطرفان: أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.

- فالجهمية: ينكرون صفات الله عز وجل، بل غلاتهم ينكرون الأسماء ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله اسماً ولا صفة؛ لأنك إذا أثبت له اسماً ؛ شبهته بالمسميات، أو صفة؛ شبهته بالموصوفات!! إذاً ؛ لا نثبت أسماً ولا صفة!! وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء؛ فهو من باب المجاز، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء!!

- والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء.

- والأشعرية يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات.

(1) كل هؤلاء يشملهم اسم التعطيل ، لكن بعضهم معطل تعطيلاً كاملاً ؛ كالجهمية، وبعضهم ، وبعضهم تعطيلاً نسبياً ؛ مثل المعتزلة والأشاعرة.

(2) وأما أهل التمثيل المشبهة؛ فيثبتون لله الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين.

فهؤلاء غلو في الإثبات، وأهل التعطيل غلو في التنزيه.

فهؤلاء قالوا: يجب عليك أن تثبت لله وجهاً، وهذا الوجه مثل وجه أحسن واحد من بني آدم قالوا: لأن الله خاطبنا بما نعقل ونفهم؛ قال : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27)، ولا نعقل ونفهم من الوجه إلا ما نشاهد، وأحسن ما نشاهد الإنسان.

فهو على زعمهم – والعياذ باله – على أحسن واحد من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول معقول!!

وأما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنأخذ بالحق في باب التنزيه؛ فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات؛ فلا نعطل؛ بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل؛ نحن نثبت ولكن بدون تمثيل، فنأخذ بالأدلة من هنا ومن هنا.

والخلاصة: هم وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين: طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم وطائفة غلت في الإثبات، وهم المثلة.

وأهل السنة والجماعة يقولون: لا تغلو في الإثبات ولا في النفي، ونثبت بدون تمثيل ؛ لقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:39 am

لأصل الثاني: أفعال العباد

وهم وسط في باب أفعال اله تعالى بين القدرية والجبرية (1)...........................................

(1) في باب القدر أنقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: آمنوا بقدر الله عز وجل وغلوا في إثباته، حنة سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إن الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار ولا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبراً عليه، بل إن بعضهم ادعى أن فعل العبد هو فعل الله ، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية.

القسم الثاني قالوا: إن العبد مستقل بفعله ، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم ، فقال إن الله لا يعلم فعل العبد إلا إذا فعله، أما قبل؛ فلا يعلم عنه شيئاً ، وهؤلاء هم القدرية، مجوس هذه الأمة.

فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.

والآخرون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.

والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إن القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا علاقة لها في فعل العبد؛ فهو الفاعل المطلق الاختيار.

القسم الثالث: أهل السنة والجماعة؛ قالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنقول: إن فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله ، ولا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاءوا أبداً ، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفعل الذي يضطر إليه والفعل الذي يختاره؛ فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم ، ومع ذلك ؛ فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه.

لكن سيبقى عندنا إشكال: كيف تكون خلقاً لله وهي فعل الإنسان؟!

الجواب: أن أفعال العبد صدرت بإرادة وقدرة، والذي خلق فيه الإرادة والقدرة هو الله عز وجل، لو شاء الله تعالى ؛ لسلبك القدرة؛ فلم تستطع، ولو أن أحداً قادراً لم يرد فعلاً ؛ فإنه بإرادته، اللهم إلا من أكره.

الأصل الثالث : الوعيد

وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم (1).....................................

(1) المرجئة: أسم فاعل من أرجَأ ؛ بمعنى: أخر، ومنه قوله تعالى (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهَُ) (لأعراف:111)، وفي قراءة: (أرجئه) ؛ أي: آخره وأخر أمره، وسموا مرجئه: إما من الرجاء؛ لتغليبهم أدلة الرجاء على أدلة الوعيد، وإما من الإرجاء؛ بمعنى التأخير ؛ لتأخيرهم الأعمال عن مسمى الإيمان.

ولهذا يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط.

ولهذا يقولون: إن فاعل الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر وقاطع الطريق لا يستحق دخول النار لا دخولاً مؤبداً ولا مؤقتاً؛ فلا يضر مع الإيمان معصية؛ مهما كانت صغيرة أم كبيرة؛ إذا لم تصل إلى حد الكفر.

وأما الوعيدية؛ فقابلوهم، وغلبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها، فإنه مخلد في النار بها : إن سرق؛ فهو من أهل النار خالداً مخلداً، وإن شرب الخمر؛ فهو في النار خالداً مخلداً… وهكذا.

والوعيدية يشمل طائفتين: المعتزلة، والخوارج. ولهذا قال المؤلف: " من القدرية وغيرهم" ؛ فيشمل المعتزلة- والمعتزلة قدرية؛ يرون أن الإنسان مستقل بعلمه، وهم وعيدية- ويشمل الخوارج.

فاتفقت الطائفتان على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبداً، وأن من شرب الخمر مرة؛ كمن عبد الصنم ألف سنة؛ كلهم مخلدون في النار؛ لكن يختلفون في الأسم؛ مما سيأتي إن شاء الله في الباب الثاني.

وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون: لا نغلب جانب الوعيد كما فعل المعتزلة والخوارج، ولا جانب الوعد كما فعل المرجئة، ونقول: فاعل الكبيرة مستحق للعذاب ، وإن عذب؛ لا يخلد في النار.

وسبب الخلاف بين الوعيدية وبين المرجئة: أن كل واحد منهما نظر إلى النصوص بعين عوراء؛ ينظر من جانب واحد.

هؤلاء نظروا نصوص الوعد، فأدخلوا الإنسان في الرجاء ، وقالوا نأخذ بها ، وندع ما سواها ،وحملوا نصوص الوعيد على الكفار.

- والوعيدية بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد، فأخذوا بها ، وغفلوا عن نصوص الوعد.

فلهذا اختل توازنهم لما نظروا من جانب واحد.

(3) وأهل السنة والجماعة أخذوا بهذا وهذا، وقالوا: نصوص الوعيد محكمة ؛ فنأخذ بها ، ونصوص الوعد محكمة؛ فنأخذ هبا ، فأخذوا من نصوص الوعد ما ردوا به على الوعيدية، ومن نصوص الوعيد ما ردوا به على المرجئة، وقالوا: فاعل الكبيرة مستحق لدخول النار؛ لئلا نهدر نصوص الوعيد؛ غير مخلد فيها لئلا نهدر نصوص الوعد.

فأخذوا بالدليلين ونظروا بالعينين.

الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين

وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية (1)

(1) هذا في باب الأسماء والدين، وهو غير باب الأحكام الذي هو الوعد والوعيد؛ ففاعل الكبيرة ماذا نسميه؟! مؤمن أم كافر؟!

(4) وأهل السنة وسط فيه بين طائفتين: الحرورية والمعتزلة من وجه، والمرجئة الجهمية من وجه:

- فالحرورية والمعتزلة أخرجوه من الإيمان، لكن الحرورية قالوا: إنه كافر يحل دمه وماله، ولهذ1 خرجوا على الأئمة، وكفروا بالناس.

- وأما المرجئة الجهمية، فخالفوا هؤلاء، وقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان!! يسرق ويزني ويشرب الخمر ويقتل النفس ويقطع الطريق ؛ ونقول له : أنت مؤمن كامل الإيمان!! كرجل فعل الواجبات والمستحبات وتجنب المحرمات!! أنت وهو في الإيمان واحد!!

فهؤلاء وأولئك على الضد في الاسم وفي الحكم.

وأما المعتزلة؛ فقالوا: فاعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين منزلتين؛ لا نتجاسر أن نقول: إنه كافر! وليس لنا أن نقول: إنه مؤمن؛ وهو يفعل الكبيرة؛ يزني ويسرق ويشرب الخمر! وقالوا: نحن أسعد الناس بالحق!

حقيقة أنهم إذا قالوا: إن هذا لا يتساوى مع مؤمن عابد؛ فقد صدقوا.

لكن كونهم يخرجونه من الإيمان ثم يحدثون منزلة بين منزلتين: بدعة ما جاءت لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، كل النصوص تدل على أنه لا يوجد منزلة بين منزلتين: كقوله تعالى( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(سـبأ: من الآية24).

وقوله: ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ )(يونس: من الآية32). وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن:2) وفي الحديث : "القرآن حدة لك أو عليك".

فأين المنزلة بين المنزلتين؟!

هم يقولون: في منزلة بين منزلتين!! وفي باب الوعيد ينفذون عليه الوعيد، فيوافقون الخوارج في أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أما في الدنيا؛ فقالوا: تجرى عليه أحكام الإسلام؛ لأنه هو الأصل ؛ فهو عندهم في الدنيا بمنزلة الفاسق العاصي.

فيا سبحان الله ! كيف نصلي عليه ، ونقول : اللهم افر له وهو مخلّد في النار؟!

فيجب عليهم أن يقولوا في أحكام الدنيا: إنه يتوقف فيه! لا نقول: مسلم ، ولا: كافر، ولا نعطيه أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفر!! إذا مات ؛ لا نصلي عليه ، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا يدفن مع المسلمين، ولا ندفنه مع الكفار ؛ إذاً ؛ نبحث له عن مقبرة بين مقبرتين !!

- وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطاً بين هذه الطوائف ؛ فقالوا: نسمي المؤمن الذي يفعل الكبيرة مؤمناً ناقص الإيمان، أو نقول : مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل ؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم.

ويترتَّب على هذا : أن الفاسق لا يجوز لنا أن نكرهه كرهاً مطلقاً، ولا أن نحبه حباً مطلقاً ، بل نحبه على ما معه من الإيمان، ونكرهه على ما معه من المعصية.



الأصل الخامس : في الصحابة رضي الله عنهم

‍وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج (1)..............................

(1)* "أصحاب" ": جمع صاحب، والصحب اسم جمع صاحب والصاحب : الملازم للشيء.

والصحابي : هو الذي اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك

وهذا خاص في الصحابة، وهو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن الإنسان يكون من أصحابه، وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة؛ لكن بشرط أن يكون مؤمناً به.

(5) وأهل السنة والجماعة وسط فيهم بين الرافضة والخوارج.

فالرافضة: هم الذين يسمون اليوم : شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ ورفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما! ولكنه رضي الله عنه قال لهم : نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه ، وتركوه! فسموا رافضة.

هؤلاء الروافض- والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول ، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبداً، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء : كن فيكون!!

وهم يقولون: إن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله ، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت ، ونفراً قليلاً ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت.

وقد قال صحاب كتاب"الفصل": " إن غلاتهم كفروا على بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليّاً أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم ؛ صار ظالماً كافراً".

- أما الخوارج ؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث أنهم كفروا علي بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام:" يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمِية"[193] ، وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم.

فالشيعة غلوا في آل البيت وأشياعهم، وبالغوا في ذلك ، حتى إن منهم من أدعىّ ألوهية علي، ومنهم من ادعى انه أحق بالنبوة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخوارج بالعكس.

أما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطاً بين الطائفتين؛ قالوا: نحن ننزل آل البيت منزلتهم، ونرى أن لهم حقين علينا: حق الإسلام والإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالوا : قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها الحق علينا، لكن من حقها علينا أن ننزلها منزلتها، وأن لا نغلو فيها . ويقولون في بقية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: لهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي، وأن نكون كما قال الله تعالى: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر: من الآية10)، ولا نعادي أحداً منهم أبداً؛ لا آل البيت، ولا غيرهم؛ فكل منهم نعطيه حقه؛ فصاروا وسطاً بين جفاة وغلاة.



فصل

وقد دخل ذكرناه من الإيمان بالله :الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علىّ على خلقه(1)...................

فصل

في المعية وبيان الجمع بينهما

وبين علو الله واستوائه على عرشه

(1) سبق أن مما يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته ومن ذلك الإيمان بعلو الله واستوائه على عرشه، والإيمان بمعيته، وفي هذا الفصل بين المؤلف رحمه الله الجمع بين العلو والمعية ؛ فقال :" وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليّ على خلقه".

هذه ثلاثة أدلة على علو الله تعالى : الكتاب، السنة؟، والإجماع.

ومر علينا دليل رابع وخامس، وهما : العقل ، والفطرة.

(6) "من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليّ على خلقه" تقدم لنا أن علو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات، وأن علو الذات دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، والعقل والفطرة وكذلك علو الصفة.

(7) فالكتاب مملوء من ذلك : تارة بالتصريح بالفوقية، وتارة بالتصريح بالعلو ، وتارة بالتصريح بأنه في السماء، وتارة بنزول الأشياء من عنده، وتارة بصعودها إليه، ونحو ذلك.

(Cool والسنة جاءت بالقول والفعل والإقرار، وسبق ذكر ذلك.

(9) أما الإجماع ؛ فقد أجمع السف على ذلك، وطريق العلم بإجماعهم عدم نقل ضد ما جاء في الكتاب والسنة؛ فإنهم كانوا يقرؤون القرآن وينقلون الأخبار ويعلمون معانيها، ولما لم ينقل عنهم ما يخالف ظاهرها؛ علم أنهم لا يعتقدون سواه، وأنهم مجمعون على ذلك. وهذا طريق حسن لإثبات إجماعهم، فاستمسك به ينفعك في مواطن كثيرة.

(10) وأما العقل؛ فمن وجهين:

الوجه الأول: أن العلو صفى كمال ، والله تعالى قد ثبت له كل صفات الكمال، فوجب إثبات العلو له سبحانه.

الوجه الثاني: إذا لم يكن عالياً؛ فإما أن يكون تحت أو مساوياً، وهذا صفة نقص؛ لأنه يستلزم أن تكون الأشياء فوقه أو مثله؛ فلزم ثبوت العلو له.

أما الفطرة؛ فلا أحد ينكرها؛ إلا من انحرفت فطرته؛ فكل إنسان يقول: يا الله ! يتجه قلبه إلى السماء، لا ينصرف عنه يمنة ولا يسرة، لأن الله تعالى في السماء.

* * *

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:40 am

وهو سبحانه معهم إينما كانوا؛ يعملُ ما هم عامِلونَ (1).................................................

(1)هذا من الإيمان بالله، وهو الإيمان بمعيته لخلقه.

*وقد سبق أن معية الله تنقسم إلى عامة وخاصة، وخاصة الخاصة.

- فالعامة: التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، ومثالها قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(الحديد: من الآية4).

- والخاصة: مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128).

- والتي أخص بها : مثل قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طـه:46)، وقوله عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: من الآية40).

وسبق أن هذه المعية حقيقية، وأن من مقتضى المعية العامة العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وغير ذلك، ومن مقتضى الخاصة النصر والتأييد.

كما جمع بين ذلك (1) في قوله: ( هو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في ................................

(1) قوله :"بين ذلك"؛ أي : بين العلو والمعية، ففي قولهSad ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) إثبات العلو، وفي قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)إثبات المعية، فجمع بينهما في آية واحدة، ولا منافاة بينهما كما سبق ويأتي.

ووجه الجمع من وجوه ثلاثة:

سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وليس معنى قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ) أنه مختلط بالخلق (1) فإن هذا لا توجبه اللغة (1) وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق (3)

الأول: أنه ذكر استواءه على العرش، ثم قال: ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ، وإذا جمع الله لنفسه بين وصفين؛ فإننا نعلم علم اليقين أنهما لا يتناقضان؛ لأنهما لو تناقضا؛ لاستحال اجتماعهما؛ إذ المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ فلا بد من وجود أحدهما وانتفاء الثاني، ولو كان هناك تناقض؛ لزم أن يكون أول الآية مكذباً لأخرها أو بالعكس.

الثاني: نه قد يجتمع العلو والمعية في المخلوقات ؛ كما سيذكره المؤلف في قول الناس: ما زلنا نسير والقمر معنا.

الثالث: لو فرض تعارضهما بالنسبة للمخلوق؛ لم يلزم ذلك بالنسبة للخالق؛ لأن الله ليس كمثله شيء.

(1) * قوله " ليس معنى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ ) ؛ أنه مُختلط بالخلق: لأن هذا المعنى نقص، وقد سبق أنه لو كان هذا هو المعنى؛ لزم أحد أمرين: إما تعدد الخالق، أو تجزؤه؛ مع ما في ذلك أيضاً من كون الأشياء تحيط به، وهو سبحانه محيط بالأشياء.

(2) * قوله :" فإن هذا لا توجبه اللغة"؛ يعني: وإذا كان اللغة لا توجبه؛ لم يتعين، وهذا أحد الوجوه الدالة على بطلان مذهب الحلولية من الجهمية وغيرهم؛ القائلين بأن الله مع خلقه مختلطاً بهم.

ولم يقل : لا تقتضيه اللغة؛ لأن اللغة قد تقتضيه ، وفرق بين كون اللغة تقتضي ذلك وبين كونها توجب ذلك.

فالمعية في اللغة قد تقتضي الاختلاط؛ مثل الماء واللبن؛ تقول: ماء مع لبن مخلوطاً.

(3)* قوله "وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق" وذلك لأن الإنسان مفطور على أن الخالق بائن من المخلوق ، ليس أحد إذا قال: يا الله! إلا ويعتقد أن الله تعالى بائن من خلقه، لا يعتقد أنه حالٌ في خلقه؛ فدعوى أنه مختلط بالخلق مخالف للشرع ومخالف للعقل ومخالف للفطرة.

بل (1) القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان (2)

(1)* "بل" للإضراب الانتقالي.

(2)* هذا مثل ضربه المؤلف رحمه اله تقريباً للمعنى وتحقيقاً لصحة كون الشيء مع الإنسان حقيقة مع تباعد ما بينهما، وذلك أن القمر من أصغر المخلوقات، وهو في السماء، ومع المسافر وغيره أينما كان.

فإذا كان هذا المخلوق، وهو من أصغر المخلوقات؛ نقول: إنه معنا، وهو فيا لسماء. ولا يعد ذلك تناقضاً، ولا يقتضي اختلاطاً ؛ فلماذا لا يصح أن نجري آيات المعية على ظاهرها، ونقول: هو معنا حقيقة ، وإن كان هو في السماء فوق كل شيء؟!

وكما قلنا سابقاً: لو فرض أن هذا ممتنع في الخلق؛ لكان في الخالق غير ممتنع، فالرب عز وجل هو في السماء حقيقة، وهو معنا حقيقة، ولا تناقض في ذلك، حتى وإن كامن بعيداً عز وجل في علوه؛ فإنه قريب في علوه.

وهذا الذي حققه شيخ الإسلام في كتبه، وقال: إنه لا حاجة إلى أن نؤول الآية على ظاهرها، لكن مع اعتقادنا بأن الله تعالى في المساء على عرشه؛ فهو معنا حقاً، وهو على عرشه حقاً؛ كما نقول: إنه ينزل إلى السماء الدنيا حقاً، وهو في العلو، ولا أحد من أهل السنة ينكر هذا أبداً ؛ كل أهل السنة يقولون: هو ينزل حقاً، متفقون على أنه في العلو؛ لأن صفات الخالق ليست مثل صفات المخلوق.

وقد عثرت على تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يبين هذا المعنى تماماً؛ إي أن المعية حق على حقيقتها، ولا تستلزم أن يكون مختلطاً بالخلق ، أو أنه في الأرض؛ قال جواباً على قول بعض السلف :" معهم بعلمه".

" إذا جاءت هذه الكلمة؛ فهي تفسير للمعية بالمقتضى، ليس تفسيراً لحقيقة الكلمة، والذي يحمل ويحدو على التفسير بهذا أن المنازع في هذا المبتدعة الذين يقولون: إنه مختلط بهم، فيأتي البعض من السلف بالمراد بالسياق، وهو أنه بكمال علمه، ولكن لا يريدون أن كلمة (مع) مدلولها بكل شيء عليم، بل اجتمعت معها في العلم ، وزادت المعية في المعنى، وهو كونه معهم؛ فتفسيرها بالمقتضى لا يدل على أن معناها باطل ، فالكل حق...".

إلى أن قال:" ولهذا ؛ شيخ الإسلام في عقيدته الأخرى المباركة المختصرة؛ بين أن قوله معهم حق على حقيقته؛

؛ فمن فسرها من السلف بالمقتضى؛ فلحاجة دعت إلى ذلك، وهو الرد على أهل الحلول بالجهمية الذين ينكرون العلو كما تقدم، والقرآن يفسر بالمطابقة وبالمفهوم وبالاستلزام والمقتضى وغير ذلك من الدلالات، وهؤلاء العلماء الذين روى عنهم التفسير بالمقتضى لا ينكرون المعية، بل هي عندهم كالشمس " أ هـ " من الفتاوى" ؛ تقريراً على الحموية. ( مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1/212).

(11) سؤال: هل يصح أن نقول : هو معنا بذاته؟

الجواب: هذا اللفظ يجب أن يبعد عنه؛ لأنه يوهم معنى فاسداً يحتج به من يقول بالحلول، ولا حاجة إليه، لأن الأصل أن كل شيء أضافه الله إلى نسفه؛ فهو له نفسه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَجَاءَ رَبُّكَ ) هل يحتاج أن نقول: جاء بذاته؟! وإلى قوله صلى الله عليه وسلم :" ينزل إلى السماء الدنيا" [194]، وهل يحتاج أن نقول: ينزل بذاته؟ّ إننا لا نحتاج إلى ذلك؛ اللهم إلا في مجادلة من يدعى أنه جاء أمره أو ينزل أمره؛ لرد تحريفه.

وهو سبحانه فوق العرش (1) رقيب على خلقه (2)* مهيمن عليهم (3) مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته (4).

وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا: حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف" ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله : "في السماء" أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان (5)..............................................................................
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:41 am

1) يقول رحمه الله :" وهو سبحانه فوق عرشه": مع أنه مع الخلق، لكنه فوق عرشه.

(2) يعني: مراقباً حافظاً لأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم.

(3) أي: حاكم مسيطر على عباده؛ فله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن! فيكون.

(4) يعني بذلك ما تضمنه معنى الربوبية من ملك وسلطان وتدبير وغير ذلك؛ فإن معاني الربوبية كثيرة؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر ، وهذه تحمل معاني كثيرة جداً.

(5) هذه الجملة تأكيد لما سبق، وإنما كرر معنى ما سبق لأهمية الموضوع؛ فبين رحمه الله أن ما ذكره الله من كونه فوق العرش حق على حقيقته، وكذلك ما ذكره من كونه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف ، يني: لا يحتاج أن نصرف معنى الفوقية إلى فوقية القدر كما ادعاه أه التحريف والتعطيل، بل هي فوقية ذات وقدر، كما لا يحتاج أن نصرف معنى المعية عن ظاهرها ، بل نقول: هي حق على ظاهرها، ومن فسرها بغير حقيقتها ؛ فهو محرف ؛ لكن ما ورد من تفسيرها بلازمها ومقتضاها، وارد عن السلف لحاجة دعت إلى ذلك، وهو لا ينافي الحقيقة؛ لأن اللازم الحق حق.

(12) ثم استدرك المؤلف رحمه الله، فقال:" ولكن يصان عن الظنون الكاذبة" مثل أن يظن أن ظاهر قوله: ( فِي السَّمَاءِ )(الملك:17) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان".

(13) الظنون الكاذبة هي الأوهام التي ليس لها أساس من الصحة؛ فيجب أن يصان عنها كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .

(14) مثال ذلك أن يظن أن ظاهر قوله: (فِي السَّمَاء)ِ ؛ أن السماء تُقله؛ أي: تحمله كما يحمل سقف البيت من كان على ظهره" أو تظله"؛ يعني : تكون فوقه؛ كالسقف على الإنسان.

(15) إذا ظن الإنسان هذا؛ فهو كاذب، يجب صون الأدلة الدالة على أن الله في السماء عن ذلك.

(16) قال المؤلف :" وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان".

تنبيه:

قد يقول قائل: كان على المؤلف أن يقول: ومثل أن يظن أن ظاهر قوله: ( وَهُوَ مَعَكُم) أنه مختلط بالخلق؛ لأن هذا الظن كاذب أيضاً.

وجوابه أن نقول : إن المؤلف رحمه الله ذكر ذلك سابقاً في قوله: وليس معنى قوله ( وَهُوَ مَعَكُم )؛ "أنه مختلط بالخلق".

(1) "الكرسي": كما يروى عن ابن عباس : موضع القدمين[195]

وسع كرسيه السماوات والأرض؛ يعني : أحاط بالسماوات والأرض؛ السماوات السبع والأرضين السبع.

فكيف يظنُ ظانُ أن السماء تظل الله أو تقله؟!

فإذا كان قد وسع كرسيه السماوات والأرض؛ فلا يظن أحد أبداً هذا الظن الكاذب، وهو أن السماء تقله أو تظلُه.

(2) * يمسكها أن تزولا عن أماكنهما، ولولا إمساك الله لهما؛ لاضطربتا ومادتا وزالتا، ولكن الله عز وجل بقدرته وقوته يمسك السماوات والأرض أن تزولا، بل قال تعالى: ( وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِه)(فاطر: من الآية41)، ما أمسكهما أحد من بعد الله أبداً.

لو تزول نجمة من النجوم؛ لا يستطيع أحد أن يمسكها؛ فكيف لو زالت السماوات والأرض؟! ما يمسكهما إلا الله الذي خلقهما، الذي يقول للشيء: كن! فيكون. سبحانه وتعالى ، بيده ملكوت السماوات والأرض.

قوله: ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه" السماء فوق الأرض ، ووالله؛ لولا إمساك الله لها؛ لوقعت على الأرض؛ لأنها أجرام عظيمة؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (الأنبياء:32)، وقال: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47)؛ فلولا أن الله يمسكها؛ لوقعت على الأرض، وإذا وقعت على الأرض؛ أتلفتها.

فالذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ هل يتصور متصور أن السماء تقلُّه أو تظلُّه؟!

لا أحد يتصور ذلك.

ومن آيَاتِه)(2) أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ )(2)......................................................

(1) يعني: من العلامات الدالة على كماله عز وجل من كل وجه.

(2) )ِ( أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ )(الروم: من الآية25): الكوني والشرعي؛ لأن أمره مبنى على الحكمة والرحمة والعدل والإحسان؛(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ)(المؤمنون: من الآية71) والأهواء فساد للسماوات والأرض، وهي مخالفة للأمر الشرعي.

إذاً فالسماوات والأرض تقوم بأمر الله الكوني والشرعي، ولو أن الحق اتبع أهواء الخلق؛ لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ولهذا قال العلماء في قوله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)(لأعراف: من الآية56) ، أي: " لا تفسدوا فيها بالمعاصي".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:42 am

فصل

في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك

لا ينافي علوه وفوقيته

فصل

وقد دخل في ذلك(2) الإيمان بالله بأنه قريب من خلقه مجيب (2)..................................

(1) يعني: فيما وصف به نفسه.

(2) الإيمان بأنه قريب في نفسه، ومجيب؛ يعني : لعباده.

ودليل ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186)

في هذه الآية ستة ضمائر تعود على الله ، وعلى هذا ؛ فيكون القرب قربه عز وجل، ولكن نقول في (قَرِيبٌ) كما قلنا في المعية؛ أنه لا يستلزم أن يكون في المكان الذي فيه الإنسان.

وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول:" إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" [196]ولا يلزم أن يكون الله عز وجل نفسه في الأرض بينه وبين عنق راحلته.

وإذا كان قول الرسول عليه الصلاة والسلام:" فإن الله قبل وجه المصلي"[197] : لا ستلزم أن يكون الله بينه وبين الجدار ، إن كان يصلي إلى الجدار، ولا بينه وبي الأرض إن كان ينظر إلى الأرض.

فكذلك لا يلزم من قربه أن يكون في الأرض؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جمع صفاته، وهو محيط بكل شيء.

واعلم أن من العلماء من قسم قرب الله تعالى إلى قسمين؛ كالمعية، وقال: القرب الذي مقتضاه الإحاطة قرب عام، والقرب الذي مقتضاه الإجابة والإثابة قرب خاص.

ومنهم يقول: إن القرب خاص فقط؛ مقتض لإجابة الداعي وإثابة العابد، ولا ينقسم.

- ويستدل هؤلاء بقوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم :" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" [198]وأنه لا يمكن أن يكون الله تعالى قريباً من الفجرة الكفرة.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.

- ولكن أورد على هذا القول قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16) ؛ فالمراد ب (الْأِنْسَانَ): كل إنسان ، ولهذا قال في آخر الآية: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (قّ:22)....) إلى أن قال (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (قّ:24) (ق: 22-24)؛ فهو شامل.

- وأورد عليه أيضاً قوله تعالى (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (83)(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (84)(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة:83-85) ثم قسم هؤلاء الذين بلغت أرواحهم الحلقوم إلى ثلاثة أقسام، ومنهم الكافر.

- وأجيب عن ذلك بأن قوله : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(قّ: من الآية16) ؛ يعني بملائكتنا، واستدل لذلك بقوله: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ)(قّ:17)

- فإن ( إِذْ ) ظرف متعلق ب(أَقْرَبُ )؛ يعني: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهذا يدل على أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته.

وكذلك قوله في المحتضر: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) المراد: قرب الملائكة، ولهذا قال (وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)(الواقعة 85)، وهذا يدل على أن هذا القريب موجود عندنا، لكن لا نبصره، وهذا يمتنع غاية الامتناع أن يكون المراد به الله عز وجل؛ لأن الله في السماء.

- وما ذهب إليه شيخ الإسلام ؛ فهو عندي أٌقرب، ولكنه ليس في القرب بذاك.

* * *

كما جمع بين ذلك(1) في قوله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالذكر:" أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"[199].

وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقبته؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علِي في ذُنُوِه، قريب في عُلُوِه (2).

(1) قوله:" كما جمع بين ذلك": المشار غليه القرب الإجابة.

(2) "نعوته" ؛ يعني: صفاته. وهو على مع أنه داني، قريب مع أنه عال، ولا تناقض في ذلك، وقد سبق بيان ذلك قريباً في الكلام على المعية.



فصل

في الإيمان بأن القرآن

كلام الله حقيقة

فصل

من الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن(1) كلام الله(2) منزل(3) غير مخلوق(4).........................

(1) وجه كون الإيمان بالقرآن على هذا الوجه من الإيمان بالله أن القرآن من كلام الله ، كلام الله صفة من صفاته، وأيضاً ؛ فإن الله وصف القران بأنه كلامه، وأنه منزل؛ فتصديق ذلك من الإيمان بالله.

(2) والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ )(التوبة: من الآية6).

(3) قول المؤلف :"منزل" أي من عند الله تعالى:

لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)

وقوله(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1)

(4) أي : ليس من مخلوقات الله التي خلقها .

والدليل على ذلك قوله تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)(لأعراف: من الآية54) . والقرآن من الأمر؛ لقوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا )(الشورى: من الآية52) ولأن الكلام صفة المتكلم، والمخلوق مفعول للخالق، بائن منه؛ كالمصنوع ؛ بائن من الصانع.

منه بدا (1) وإليه يعود (2) وأن الله تعالى تكلم به حقيقة (3)

(1) يعني : أن ابتداء تنزيله من الله ، لا من جبريل ولا غيره؛ فجبريل نازل به من عند الله تعالى (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (192)( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193)وقال (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ )(النحل: من الآية102)، وقال تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الزمر:1) .

(2) سبق الكلام عن معناها والدليل عليها في شرح الآيات عند البحث عن كلام الله.

(3) قوله : " وأن الله تكلم به حقيقة": بناء على الأصل؛ أن جميع الصفات حقيقية، وإذا كان كلام الله حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون مخلوقاً؛ لأنه صفته، وصفة الخالق غير مخلوقة؛ كما أن صفة المخلوق مخلوقة.

وقد قال الإمام أحمد :" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال : غير مخلوق؛ فهو مبتدع".

فنقول : اللفظ يطلق على معنيين : على المصدر الذي هو فعل الفاعل، وعلى الملفوظ به:

اما على المعنى الأول الذي هو المصدر؛ فلا شك أن ألفاظنا بالقرآن وغير القرآن مخلوقة.

لأننا إذا قلنا: إن اللفظ هو التلفظ؛ فهذا الصوت الخارج من حركة الفم واللسان والشفتين مخلوق.

فإذا أريد باللفظ التلفظ؛ فهو مخلوق ، سواء كان الملفوظ به قرآناً أو حديثاً أو كلاماً أحدثته من عندك.

- أما إذا قصد باللفظ الملفوظ به ؛ فهذا منه مخلوق، ومنه غير مخلوق. وعليه ؛ إذا قصد باللفظ الملفوظ به؛ فهذا منه مخلوق، منه غير مخلوق، وعليه؛ إذا كان الملفوظ به هو القرآن؛ فليس بمخلوق.

هذا تفصيل القول في هذا المسألة.

- لكن الإمام أحمد رحمه الله قال:" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي" قال ذلك لأحد احتمالين:

- إما أن هذا القول من شعار الجحهمية؛ كان الإمام أحمد يقول: إذا سمعت الرجل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فاعمل أنه جهمي.

- وإما أن يكون ذلك حين يريد القائل باللفظ الملفوظ به، وهذا أقرب؛ لأن الإمام أحمد فسه فسره؛ قال:" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ يريد بالقرآن ؛ فهو جهمي".

- وحينئذ يتضح معنى قوله:" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي" لأنه أرد الملفوظ به، ولا شك أن الذي يريد باللفظ هنا الملفوظ به جهمي.

- أما من قال : غير مخلوق؛ فالإمام أحمد يقول : مبتدع؛ لأن هذا ما عهد عن السلف، وما كانوا يقولون مثل هذا القول؛ يقولون: القرآن كلام الله ؛ فقط.

وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة (1)......................

(1) كرر المؤلف هذا ؛ لأن المقام مقام عظيم؛ فإن هذه المسألة حصل فيها على علماء المسلمين من المحن ما هو معلوم، وهلك فيها أمم كثيرة، ولكن حمى الله بالحق بالإمام أحمد وأشباهه، الذين أبوا أن يقولوا إلا أن القرآن غير مخلوق.

لا كلام غيره (1) ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه (2)....................

(1) قوله :" لا كلام غيره" : خلافاً لمن قال: إن القرآن من كلام جبريل؛ ألهمه الله إياه، أو من محمد ... أو ما أشبه ذلك .

فإن قلت: قول المؤلف هنا :" لا كلام غيره" معارض بقول الله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (40)( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) (الحاقة:40-41) (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (19) (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير:19-20) ، والأول محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني جبريل؟!

فالجواب عن ذلك نقول: لا يمكن أن نحمل الآيتين على أن الرسولين تكلما به حقيقة، وأنه صدر منهما؛ لأن كلاماً واحداً لا يمكن أن يصدر من متكلمين.

(2) قال :" لا يجوز إطلاق القول": ولم يقول : لا يجوز القول! يعني: لا يجوز ا، نقول: هذا القرآن عبارة عن كلام الله؛ إطلاقاً، ولا يجوز أن نقول أنه حكاية: هم الكلابية والذين قالوا: إنه عبارة: هم الأشعرية.

والكل اتفقوا على أن هذا القرآن الذي في المصحف ليس كلام الله ، بل هو إما حكاية أو عبارة، والفرق بينهما:

أن الحكاية المماثلة؛ تعني : كأن هذا المعنى الذي هو الكلام عندهم حُكي بمرآة؛ كما يحكي الصدى كلام المتكلم.

أما العبارة؛ فيعني بها أن المتكلم عبر عن كلامه النفسي بحروف وأصوات خلقت.

فلا يجوز أن نطلق أنه حكاية أو عبارة، لكن عند التفصيل ؛ قد يجوز أن نقول: إن القارئ الآن يعبر عن كلام الله أو يحكي كلام الله؛ لأن لفظه بالقرآن ليس هو كلام الله.

وهذا القول على هذا التقييد لا بأس به، لكن إطلاق أن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله لا يجوز.

وكان المؤلف رحمه الله دقيقاً في العبارة حيث قال:" لا يجوز إطلاق القول" ، بل لابد من التقييد والتعيين.

بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف؛ لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قالهُ مبتدئاً لا إلى من قالهُ مبلغاً مؤدياً (1)........................................

(1) يعني: مهما كتبه الناس في المصاحف أو حفظوه في صدورهم أو قرؤوه بألسنتهم؛ فإنه لا يخرج عن كونه كلام الله، ثم علل ذلك ، فقال: " فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً".

وهذا تعليل واضح؛ فالكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، أما إضافته إلى من قاله مبلغاً مؤدياً؛ فعلى سبيل التوسع؛ فلو قرأنا الآن مثلاً:

حُكم المحبةِ ثابتُ الأركــان ما للصدودِ بفسخِ ذاك يدانِ

فإن هذا البيت ينسب حقيقة إلى ابن القيم.

ولو قلت:

كلامُنـا لفظٌ مفيدٌ كاستـقـِم وأسمٌ وفعلٌ ثم حفٌ الكلم

فهذا ينسب حقيقة إلى ابن مالك.

إذاً ؛ الكلام يضاف حقيقة إلى القائل الأول.

فالقرآن كلام من تكلم به أولاً، وهو الله تعالى ، لا كلام من بلغه إلى غيره.

وهو كلام الله حروفه ومعانيه(1) ليس كلام الله الحروف دون المعاني(2) ولا المعاني دون الحروف (3).....

(1) قوله:" وهو كلامُ الله ؛ حُروفهُ ومعانيهِ".

هذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ قالوا: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه.

(2)قوله :" ليس كلامُ الله الحروفَ دونَ المعاني".

وهذا مذهب المعتزلة والجهمية؛ لأنهم يقولون: إن الكلام ليس معنىَ يقول بذات الله ، بل هو شيء من مخلوقاته؛ كالسماء والأرض والناقة والبيت وما أشبه ذلك ! فليس معنى قاماً في نفسه؛ فكلام الله حروف خلقها الله عز وجل، وسماها كلاماً له؛ كما خلق الناقة وسماها نقاة الله، وكما خلق البيت وسماها بيت الله.

ولهذا كان الكلام عند الجهمية والمعتزلة هو الحروف؛ لأن كلام الله عندهم عبارة عن حروف وأصوات خلقها الله عز وجل ونسبها إليه تشريفاً وتعظيماً.

(3) قوله:" ولا المعاني دُونَ الحُروفِ":

وهذا مذهب الكلابية والأشعرية؛ فكلام الله عندهم معنى في نفسه، ثم خلق أصواتاً وحروفاً تدل على هذا المعنى؛ إما عبارة أو حكاية.

واعلم أن ابن القيم رحمه الله ذكر أننا إذا أنكرنا أن الله يتكلم ؛ فقد أبطلنا الشرع والقدر:

- أما الشرع؛ فلأن الرسالات إنما جاءت بالوحي ، والوحي كلام مبلغ إلى المرسل إليه، فإذا نفينا الكلام؛ انتفى الوحي، وإذا انتفى الوحي؛ انتفى الشرع.

- أما القدر ؛ فلأن الخلق يقع بأمره؛ بقوله : كن! فيكون؛ كما قال تعالى : )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:43 am

فصل

في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة

ومواضع الرؤية



فصل

وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة(1)عياناً (2) بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب(3)..........................................

(1) * وجه كون الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة من الإيمان بالله ظاهر؛ لأن هذا مما أخبر الله به؛ فإذا آمنا به؛ فهو من الإيمان بالله.

ووجه كونه من الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب أخبرت بأن الله يُرى؛ فالتصديق بذلك تصديق بالكتب.

ووجه كونه من الإيمان بالملائكة؛ لأن نقل الوحي بواسطة الملائكة؛ فإن جبريل ينزل بالوحي من الله تعالى؛ فكان الإيمان بأن الله يُرى من الإيمان بالملائكة.[200]

وكذلك نقول: من الإيمان بالرسل ؛ لأن الرسل هم الذين بلغوا ذلك للخلق؛ فكان الإيمان بذلك من الإيمان بالرسل.

(2) بمعنى: معاينة. والمعانية هى: الرؤية بالعين.

(3)دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:" ترونه كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب".

والمراد بالرؤية : بالعين ؛ كما يدل عليه تشبيه الرؤية برؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب.

وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته (1) يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة (2)......

(1) سبق الكلام في ذلك [201]

(2) "عرصات" : جمع عرصة، وهو المكان الواسع الفسيح ، الذي ليس فيه بناء؛ لأن الأرض تُمد مدَّ الأديم؛ كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام [202]؛ يعني: مد الجلد.

· فالمؤمنون يرون الله في عرصات يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة؛ كما قال الله تعالى عن المكذبين بيوم الدين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15) (يَوْمَئِذٍَ) ، يعني يوم الدين؛ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6) ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.

، يعني يوم الدين؛ ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.

· أما في عرصات القيامة؛ فالناس في العرصات ثلاثة أجناس:

1. مؤمنون خُلص ظاهراً وباطناً.

2. وكافرون خُلص ظاهراً وباطناً.

3. ومؤمنون ظاهراً كافرون باطناً، وهم المنافقون.

- فأما المؤمنون؛ فيرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة.

- أما الكافرون ؛ فلا يرون ربهم مطلقاً، وقيل : يرونه؛ لكن رؤية غضب وعقوبة، ولكن ظاهر الأدلة يدل على أنهم لا يرون الله ؛ كما قال الله تعالى(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(المطففين:15) .

أما المنافقون؛ فإنهم يرون الله عز وجل في عرصات القيامة، ثم يحتجب عنهم ولا يرونه بعد ذلك.

ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى (1)..............................................

(1) يعني: يرون الله كما يشاء سبحانه وتعالى في كيفية رؤيتهم إياه، وكما يشاء الله في زمن رؤيتهم إياه ، وفي جميع الأحوال؛ يعني : على الوجه الذي يشاءه الله عز وجل في هذه الرؤية.

وحينئذ؛ فإن هذه الرؤية لا نعلم كيفيتها؛ بمعنى أن الإنسان لا يعلم كيف يرى ربه، ولكن معنى الرؤية معلوم أنهم يرون الله كما يرون القمر؛ لكن على أي كيفية؟ هذه لا نعلمها ، بل كما يشاء الله ، وقد سبق التفصيل في الرؤية.

* * *



فصل

في الإيمان باليوم الآخر

فصل

ومن الإيمان باليوم الآخر بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت (1).............

(1) شرع المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام عن اليوم الآخر وعقيدة أهل السنة والجماعة فيه، فقال

· فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت":

· حكم الإيمان باليوم الآخر فريضة واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة.

وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الإيمان به تعالى والإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر ؛ لا يمكن أن يؤمن بالله؛ إذ إن الذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ لن يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة في اليوم الآخر، وما يخافه من العذاب والعقوبة؛ فإذا كان لا يؤمن به؛ صار كمن حكى الله عنهم : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(الجاثـية: من الآية24).

*وسمى اليوم الآخر باليوم الآخر ؛ لأنه يوم لا يوم بعده؛ فهو آخر المراحل.

*والإنسان له خمس مراحل: مرحلة العدم ؟ ثم الحمل، ثم الدنيا، ثم البرزخ، ثم الآخرة.

- فأما مرحلة العدم فقد دلّ عليها قوله تعالى : (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (الانسان:1) ، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5) .

- وأما مرحة الحمل؛ فقال الله عنها: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ )(الزمر: من الآية6) .

- وأما مرحلة الدنيا؛ فقال الله عنها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78).

- وهذه المراحل هي التي عليها مدار السعادة والشقاء وهي دار الامتحان والابتلاء؛ كما قال تعالى(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2).

- وأما مرحة البرزخ ؛ فقال الله عنهاSadوَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون: من الآية100) .

- وأما مرحلة الآخرة؛ فهي غاية المراحل، ونهاية الراحل؛ قال الله تعالى بعد ذكر المراحل: )ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) (15) )ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)(16) (المؤمنون:15-16) .

- وقوله رحمه الله : "الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسمل مما يكون بعد الموت": كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر".

-وذلك لأن الإنسان إذا مات ؛ دخل في اليوم الآخر، ولهذا يقال من مات؛ قامت قيامته؛ فكل ما يكون بعد الموت؛ فإنه من اليوم الآخر.

- إذاً ؛ ما أقرب اليوم الآخر لنا؛ ليس بيننا وبينه إلا أن يموت الإنسان، ثم يدخل في اليوم الآخر الذي ليس فيه إلا الجزاء على العمل.

- ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه النقطة.

- فكر أيها الإنسان؛ تجد أنك على خطر؛ لأن الموت ليس له أجل معلوم عندنا؛ قد يخرج الإنسان من بيته ولا يرجع إليه، وقد يكون الإنسان على كرسي مكتبه ولا يقوم منه وقد ينام الإنسان على فراشه ولكنه يحمل من فراشه إلى سرير غسله، وهذا أمر يستوجب منا أن ننتهز فرصة العمر بالتوبة إلى الله عز وجل، وأن يكون الإنسان دائماً يستشعر بأنه تاب إلى الله وراجع ومنيب حتى يأتيه الأجل وهو على خير ما يرام.

- فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه (1).......................................................

- (1) الفتنة هنا: الاختبار، والمراد بفتنة القبر: سؤال الميت إذا دفن عن ربه ودينه ونبيه.

- والضمير في " يؤمنون" يعود على أهل السنة؛ أي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليها.

- أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ُ)(ابراهيم:27)

-؛ فإن هذا في فتنة القبر؛ كما ثبت في " الصحيحين "[203]وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم .

- وأما السنة؛ فقد تظافرت بأن الإنسان يفتن في قبره، وهي فتنة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم :" إنه قد أوحي إلي أنم تفتنون في قبوركم مثل ( أو : قريباً من ) فتنة الدجال[204].

وفتنة الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؛ كما في " صحيح مسلم" عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال"[205].

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، بل قال لأمته:" إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجة دونكم؛ وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفيه، والله خليفتي على كل مسلم"[206].

ومع ذلك ؛ فإن نبينا محمدً صلى الله عليه وسلم أعلمنا كيف نحاجه، وأعلمنا بأوصافه وميزاته حتى كأنا نشاهده رأي عين، وبهذه الأوصاف والميزات نستطيع أن نحاجه.

ولهذا نقول: إن فتنة الدجال أعظم فتنة، والرسول عليه الصلاة والسلام

قال: " أنكم تفتنون في قبوركم مثل- أو قريباً من – فتنة الدجال[207]

ما أعظمها من فتنة! لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه ؛ إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح.

هذا شروع في بيان كيفية فتنة الميت في قبره.

وكلمة " الناس" عامة، وظاهر كلام المؤلف أن كل أحد؛ حتى الأنبياء والصديقون والشهداء والمرابطون وغير المكلفين من الصغار والمجانين، وفي هذا تفصيل؛ فنقول:

أولاً: أما الأنبياء ؛ فلا تشملهم الفتنة، ولا يسألون، وذلك لوجهين:

الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهيد يوقي فتنة القبر، وقال:" كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة"؛ أخرجه النسائي[208].

الثاني: أن الأنبياء يسأل عنهم ؛ فيقال للميت: من نبيك؟ فهم مسؤول عنهم، وليسوا مسؤولين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم"[209] ، والخطاب للأمة المرسل إليهم ؛ فلا يكون الرسول داخلاً فيهم.

ثانياً: وأما الصديقون؛ فلا يسألون؛ لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء؛ فإذا كان الشهداء لا يسألون؛ فالصديقون من باب أولى ولأن الصديق على وصفه مصدق وصادق؛ فهو قد علم صدقه؛ فلا حاجة إلى اختباره، لأن الاختبار لمن يشك فيه؛ هل هو صادق أو كاذب، أما إذا كان صادقاً؛ فلا حاجة تدعو لسؤاله، وذله بعض العلماء إلى أنهم يسألون؛ لعموم الأدلة، والله أعلم.

ثالثاً: وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ؛ فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم:

قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ..........) (التوبة:111)

وقال: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة"[210]

وإذا كان المرابط ؛ إذا مات ؛ أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرض رقبته لعدو الله؛ إعلاءً لكلمة الله، وانتصاراً لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه.

رابعاً: وأما المرابطون؛ فإنهم لا يفتنون؛ ففي " صحيح مسلم"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامة، وإن مات؛ جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان" [211]

خامساً: الصغار والمجانين؛ هل يفتنون أو لا يفتنون؟

قال بعض العلماء إنهم يفتنون ؛ لدخولهم ف بالعموم، ولأنهم إذا سقط التكليف عنهم في حال الحياة؛ فإن حال الممات تخالف حال الحياة.

وقال بعض العلماء: إن المجانين والصغار لا يسألون؛ لأنهم غير مكلفين، وإذا كانوا غير مكلفين؛ فإنه لا حساب عليهم؛ إذ لا حساب إلا على من كان مكلفاً يعاقب على المعاصي، وهؤلاء لا يعاقبون، وليس لهم إلا الثواب؛ إن عملوا عملاً صالحاً يثابون عليه.

إذاً ؛ خرج من قول المؤلف:" فإن الناس" خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له؛ كالمجانين والصبيان.

تنبيه:

الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون خلص، ومنافقون ، وهذان القسمان يفتنون، والثالث كفار خلص؛ ففي فتنتهم خلاف، وقد رجح ابن القيم في كتاب " الروح" أنهم يفتنون.

وهل تسأل الأمم السابقة؟

ذهب بعض العلماء – وهو الصحيح- إلى أنهم يسألون؛ لأنه إذا كانت هذه الأمة – وهي أشرف الأمم – تسأل ؛ فمن دونها من باب أولى.

(1)* قوله: "في قبورهم" جمع قبر، وهي مدفن الأموات، والمراد ما هو أعم؛ فيشمل البرزخ؛ فيشمل البرزخ ، وهو ما بين موت الإنسان وقيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو اتلفته الرياح.

والظاهر أن الفتنة لا تكون إلا إذا انتهت الأحوال الدنيوية، وسلم إلى عالم الآخرة فإذا تأخر دفنه يوماً أو أكثر ؛ لم يكن السؤال حتى يدفن.

فيقال للرجل (1)....................................................................................

قوله:" فيقال للرجل" القائل ملكان يأتيان إلى الإنسان في قبره، ويجلسانه، ويسألانه، حتى إنه ليسمع قرع نعال المنصرفين عنه، وهما يسألانه، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه إذا دفن الميت؛ وقف عليه ، وقال:" استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الأن يسأل.[212]

· وورد في بعض الآثار أن اسمهما : منكر ونكير[213]

وأنكر بعض العلماء هذين الأسمين ؛ قال : كيف يسمى الملائكة وهم الذين وصفهم الله تعالى بأوصاف الثناء بهذين الأسمين المنكرين، وضعف الحديث الوارد في ذلك.

وذهب آخرون إلى أن الحديث حجة، وأن هذه التسمية ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، ولكنهما منكران من حيث إن المست لا يعرفهما، وليس له بهما علم سابق، وقد قال إبراهيم لأضيافه الملائكة (ٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(الذريات: من الآية25) أنه لا يعرفهم؛ فهذان منكر ونكير؛ لأنهما غير معروفين للميت.

ثم هذان الملكان هل هما ملكان جديدان، موكلان بأصحاب القبور أو هما الملكان الكاتبان عن اليمين وعن الشمال قعيد؟

- منهم من قال : إنهما الملكان اللذان يصحبان المرء؛ فإن لكل إنسان ملكين في الدنيا يكتبان أعماله، وفي القبر يسألانه هذه الأسئلة الثلاثة.

- ومنهم من قال : بل هما ملكان آخران، والله عز وجل يقول: ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر: من الآية31)، والملائكة خلق كثير ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم " أطت السماء ، وحق لها أن تئط ( والأطيط: صرير الرحل) ما من موضع شبر ( أو قال: أربع أصابع) ؛ إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد"[214]، والسماء واسعة الأرجاء، كما قال الله تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47) .

- فالمهم أنه لا غرابة أن ينشيء الله عز وجل لكل مدفون ملكين يرسلهما إليه والله على كل شيء قدير.

من ربك (1) ؟ وما دينك(2)؟ ومن نبيك (3)؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (4)...........................................................................

1. يعني: من ربك الذي خلقك وتعبده وتخصه بالعبادة ؟ لأجل أن تنتظم هذه الكلمة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

2. يعني : ما عملك الذي تدين به لله عز وجل، وتتقرب به إليه؟

3. يعني: من النبي الذي تؤمن به وتتبعه؟

4. أي: يجعلهم ثابتين لا يترددون ولا يتلعثمون في الجواب.

- والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24)

-وقوله: (َ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ) يحتمل أنها متعلقة ب (يثبت)؛ يعني : أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة. أنها متعلقة بالثابت؛ فتكون وصفاً للقول؛ يعني أن هذا القول ثابت في الدنيا وفي الآخرة.

- ولكن المعنى الأول أحسن وأقرب؛ لأن الله تعالى يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا)(لأنفال: من الآية45)، وقال الله عز وجل( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)(لأنفال: من الآية12) ، فهم يثبتون في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت.

- فيقول المؤمن ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبي(1) وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته (2)......................................................................

1- فيقول المؤمن : ربي الله عندما يقال له : من ربك ؟ ويقول إذا قيل له ما دينك؟ فيقول الإسلام ديني. ويقول كذلك : محمد صلى الله عليه وسلم نبيي. إذا قيل له : من نبيك.

وحينئذ يكون الجواب صواباً، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، والبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً على الجنة.

قوله " وأما المرتاب فيقول هاه هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته":

المرتاب : الشاك والمنافق وشبههما، فيقول: هاه ! هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ يعني: لم يلج الإيمان قلبه؛ وإنما كان يقول كما يقول الناس من غير أن يصل الإيمان إلى قلبه.

وتأمل قوله: هاه! هاه! كان شيئاً غاب عنه؛ يريد أن يتذكره، وهذا أشد في التحسر؛ أن يتخيل أنه يعرف هذا الجواب، ولكن يحال بينه وبينه ، ويقول هاه! هاه! ثم يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته

ولا يقول : ربي الله ! ولا : دينى الإسلام! ولا : نبيي محمد! لأنه في الدنيا مرتاب شاك!

هذا إذا سئل في قبله وصار أحوج ما يكون إلى الجواب الصواب؛ يعجز ويقول : لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.

إذاً ؛ إيمانه قول فقط!!

فيضرب (1) بمرزبة من حديد (2) فيصيح صيحة يسمعها كل شي (3) إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق(4)...............................................................................................

(1) يعني: الذي لم بجب ؛ سواء كان الكافر أو المنافق والضارب له الملكان اللذان يسألانه.

(2) المرزبة : هي مطرقة من حديد وقد ورد في بعض الروايات أنه لو اجتمع عليها أه منى؛ ما أقلوها.

(3) أي : صياحاً مسموعاً؛ يسمعه كل شيء، يكون حوله مما يسمع صوته، وليس كل شيء في أقطار الدنيا يسمعه، وأحياناً يتأثر به ما يسمعه؛ كما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأقبر للمشركين على بغلته ؛ فحادت به؛ حتى كادت تلقيه؛ لأنها سمعت أصواتهم يعذبون[215].



(4) قوله : " إلا الإنسان " يعني : أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة ؛ منها:

أولاً ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" لولا أ لا تدافنوا؛ لدعوت الله ان يسمعكم من عذاب القبر"[216]

ثانياً أن في إخفاء ذلك ستراً للميت.

ثالثاً: أن فيه عدم إزعاج لأهله، لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار.

رابعاً: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.

خامساً: أننا قد نهلك ؛ لأنها صيحة ليت هينة، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.

سادساً: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب ، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدون قطعاً؛ لكن إذا كان غائباً عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر؛ صار من باب الإيمان بالغيب .

تنبيه:

قول المؤلف رحمه الله :" فيصيح صيحة يسمعهما كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان ؛ لصعق"؛ إنما ورد قوله :" يسمعها كل شيء إلا الإنسان..." إلخ... في قول الجنازة إذا احتملها الرجال على أعناقهم ؛ كما قا النبي صلى الله عليه وسلم :" فإن كانت صالحة ؛ قالت: قدموني! وإن كانت غير صالحة؛ قالت يا ويلها ! أين يذهبون بها ؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعه ؛ لصعق[217]أما الصيحة في القبر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". أخرجه البخاري بهذا اللفظ [218]، والمراد بالثقلين : الإنس والجن.

ثم بعد هذه الفتة إما نعيم وإما عذاب(1)............................................................

(1) "ثم" هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي؛ لأن الإنسان يعذب أو ينعم فوراً ؛ كما سبق أنه إذا قال : لا أدري! يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب؛ يفتح له باب إلى الجنة، ويوسع له في قبره.

* وهذا النعيم أو العذاب؛ وهل هو على البدن أو على الروح أو يكون على البدن والروح جميعاً؟

نقول: المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها ؛ كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح تابعة له، وكما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر، وفي الآخرة بالعكس؛ ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه، والنعيم للروح والبدن تبع. لكن هذا لا يقع إلا نادراً؛ إنما الأصل أن العذاب على الروح والبدن تبع.

وقوله:" إما نعيم وإما عذاب" فيه إثبات النعيم والعذاب في القبر ، وقد دلّ على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين.

أما من كتاب الله ؛ فالثلاثة أصناف التى في آخر الواقعة ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه.

قال الله تعالى : (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (83)(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (84)(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (85)(فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (86)( تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (87)( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (88)(فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) (89)(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (90)( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (91)(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) (92)(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) (93)(وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (94)(الواقعة: 83-94).

وهذا أمر مشاهد يسمع المحتضر يرحب القادمين عليه من الملائكة، ويقول : مرحباً! وأحياناً يقول: مرحباً؛ أجلس هنا! كما ذكره ابن القيم في كتاب " الروح" وأحياناً يحس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب والعياذ بالله.

ومن أدلة القرآن قوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً )، وهذا قبل قيام الساعة؛ بدليل قوله ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(غافر : 46).

ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم)، وهم شاحون بأنفسهم ، لا يريدونها أ نتخرج؛ لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة؛ فتجد الروح تأبى الخروج، ولهذا قال : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )(الأنعام: من الآية93)" اليوم" "ال" للعهد الحضوري؛ كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(المائدة: من الآية3) ؛ يعني : اليوم الحاضر وكذلك (اليوم تجزون): (ال) للعهد الحضوري، والمراد به: يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم، وهذا يقتضي أنه يعذبون من حي أن تخرج أرواحهم ، وهذا يقتضي أنهم يعذبون من حين أن تخرج أرواحهم، وهذا هو عذاب القبر.

ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )(النحل: من الآية32)، وذلك في حال الوفاة.

ولهذا جاء في الحديث الصحيح : " يقال لنفس المؤمن : أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان"[219]فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة شهلة، وإن كان البدن قد يتألم، لكن الروح منقادة مستبشرة.

وأما السنة في عذاب القبر ونعيمه؛ فمتواترة، ومنها ما ثبت في " الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين؛ فقال:" إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير..." [220]الحديث.

وأما الإجماع ؛ فكل المسلمين يقولون في صلاتهم : أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ... ولو أن عذاب القبر غير ثابت؛ ما صح أن يتعوذوا بالله منه؛ إذ لا تعوذ من أمر ليس موجوداً، وهذا يدل على أنهم يؤمنون به.

فإن قال قائل: هل العذاب أو النعيم في القبر دائم أو ينقطع؟

فالجواب أن يقال:

- أما العذاب للكفار؛ فإنه دائم، ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم؛ لأنهم مستحقون لذلك ، ولأنه لو زال العذاب عنهم ؛ لكان هذا راحة لهم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك ؛ فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؛ فقوم نوح الذين أغرقوا ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها ، ويستمر عذابهم إلى يوم القيامة، وكذلك آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشيأً.

- وذكر بعض العلماء ا،ه يخفف عن الكفار ما بين النفختين، واستدلوا بقوله تعالى (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا )، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن قبورهم مرقد لهم ، وإن عذبوا فيها .

- أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليه بالعذاب؛ فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم ، وقد يطول وقد لا يطول؛ حسب الذنوب، وحسب عفو الله عز وجل.

والعذاب في القبر أهون من عذاب يوم القيامة؛ لأن العذاب في القبر ليس فيه نخزى وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار؛ لأن الأشهاد موجودون: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)

فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل تمزق أوصالاً ، وأكلته السباع، وذرته الرياح؛ فيكفي يكون عذابه؛ وكيف يكون سؤاله؟!

فالجواب: أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أم غيبي؛ فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله.

فانظر إلى الملائكة تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه؛ كما قال تعالى : )وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة:85) ومع ذلك لا نبصرهم.

وملك الموت يكلم الروح، ونحن لا نسمع.

وجبريل يتمثل أحياناً للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكلمه بالوحي في نفس المكان،ن والناس لا ينظرون ولا يسمعون.

فعالم الغيب لا يمكن ابداً ان يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عز وجل؛ فنفسك التب في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! كيف هي موزعة على البدن؟! وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها عند استيقاظك بأنها ترجع؟! ومن أين تدخل لجسمك؟!

فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم ، ولا يمكن فيه القياس إطلاقاً ؛ فالله عز وجل قادر على ان يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المساءلة والعذاب أو النعيم؛ لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.

فإن قال قائل: الميت يدفن في قبر ضيق؛ فكي يوسع له مد البصر؟!

فالجواب: أن عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فرض أن أحداً حفر حفرة مد البصر، ودفن فيه الميت، وأطبق عليه التراب؛ فالذي لا يعلم بهذه الحفرة؛ هل يراها أو لا يراها؟! لا شك انه لا يراها ؛ مع ان هذا في عالم الحس، ومع ذلك لا يرى هذه السعة، ولا يعلم بها ؛ إلا من شاهدها.

فإذا قال قائل: نحن نري الميت الكافر إذا حفرنا قبره بعد يوم أو يومين؛ نرى أضلاعه لم تختلف وتتداخل من الضيق؟!

فالجواب كما سبق: أن هذا من عالم الغيب، ومن الجائز ان تكون مختلفة؛ فإذا كشف عنها ؛ أعادها الله، ورد كل شيء إلى مكانه؛ امتحاناً للعباد؛ لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة؛ صار الإيمان بذلك إيمان شهادة.

فإن قال قائل كما قال الفلاسفة: نحن نضع الزئبق على الميت، وهو أسرع الأشياء تحركاً ومروقاً، وإذا جئنا بعد الغد؛ وحدنا الزئبق على ما هو عليه ، وأنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، والذي يجلس ؛ كيف يبقى عليه الزئبق؟!

فنقول أيضاً كما قلنا سابقاً: هذه من عالم الغيب ، وعلينا الإيمان والتصديق ، ومن الجائز أيضاً أن الله عز وجل يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس.

ونقول إيضاً : انظروا إلى الرجل في المنام؛ يرى أشياء لو كان على حسب رؤيته إياها ؛ ما بقى في فراشه على السرير، وأحياناً تكون رؤيا حق من الله عز وجل، فتقع كما كان يراها في منامه، ومع ذلك ؛ نحن نؤمن بهذا الشيء.

والإنسان إذا رأى ي منامه ما يكره؛ أصبح وهو متكدر ، وإذا رأى ما يسره؛ أصبح وهو مستبشر؛ كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة، ولا تقاس أمور الغيب بالمشاهد، ولا ترد النصوص الصحيحة؛ لاستبعادنا ما تدل عليه حسب المشاهد.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:44 am

فصل

في القيامة الكبرى

فصل

إلى أن تقوم القيامة الكبرى (1) فتعاد الأرواح إلى الأجساد (2)...........................................

(1) القيامة الكبرى هي التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين.

· وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله:" القيامة الكبرى" أن هناك قيامة صغرى ، وهي قيامة كل إنسان بعينه؛ فإن كل إنسان له قيامة؛ فمن مات؛ قامت قيامته.

· وسكت المؤلف رحمه الله عن أشراط الساعة؛ فلم يذكرها ؛ لأن المؤلف إنما يريد أن يتكلم عن اليوم الآخر، وما أشراط الساعة إلا مجرد علامات وإنذارات لقرب قيام الساعة؛ ليستعد لها من يستعد. وبعض أهل العلم الذي صنفوا في العقائد ذكروا اشراط الساعة هنا، والحقيقة أنه لا تعلق لها في الإيمان باليوم الأخر، وإن كان تهي من الأمور الغيبية التي أشار إليها في القرآن وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.

(2) الأمر الأول: مما يكون في القيامة.

ما أشار إليه المؤلف بقوله :" فتعاد الأرواح إلى الأجساد".

هذا أول الأمور : ويكون بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذه غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في السور، فيصعق من في السماوات والأرض؛ إلا من شاء الله؛ ثم ينفخ فيه مرة أخرى فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها ، وتحل فيها .

وفي قول المؤلف :" إلى الأجساد" : إشارة أن الأرواح لا تخرج من الصور؛ إلا بعد أن تتكامل الأجساد مخلوقة؛ فإذا كملت خلقتها ؛ نفخ في الصور، فأعيدت الأرواح إلى أجسادها.

وفي قوله" تعاد الأرواح إلى الأجساد" دليل على أن البعث إعادة وليس تجديداً، بل هو إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميماً؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها، وأما من زعم بأن الأجساد تخلق من جديد فإن هذا زعم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل:

- أما الكتاب ؛ فإن الله عز وجل يقول: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَن)(الروم: من الآية27)؛ أي: يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه.

وفي الحديث القدسي:" يقول الله تعالى : ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته"[221] فالكل على الله هين.

وقال تعالى : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ )(الأنبياء: من الآية104).

وقال تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) (15) (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (المؤمنون:15-16)

وقال تعالى : ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(78)( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس: ،78-79) .

وأما السنة ؛ فيهي كثيرة جداً في هذا ؛ حيث بين النبي صلى الله علي وسلم" أن الناس يحشرون فيها حفاة عراة غُرلاً"[222]؛ فالناس هم الذين يحشرون، وليس سواهم.

فالمهم ؛ أن البعث إعادة للأجساد السابقة.

فإذا قلت : ربما يؤكل الإنسان من قبل السباع، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الأكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله؛ فما الجواب على ذلك ؟

فالجواب: أن الأمر هين على الله ؛ يقول : كن! فيكون، ويتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدره الله عز وجل فوق ما نتصوره؛ فالله على كل شيء قدير.

وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه ، وعلى لسانه رسوله وأجمع عليها المسلمون (1)................

(1) هذه ثلاثة أنواع من الأدلة: كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.

فأما كتاب الله تعالى ؛ فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيامة، وذكرها الله عز وجل بأوصاف عظيمة، توجب الخوف والاستعداد لها :

فقال تعالىSadيَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:1، 2) .

وقال تعالى : (الْحَاقَّةُ) (1)( مَا الْحَاقَّةُ)(2)(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة:1، 3) .

وقال تعالى : (الْقَارِعَةُ)(1)(مَا الْقَارِعَةُ)(2)(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ)(3) (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)(4)(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة:1-5) .

والأوصاف لها في القرآن كثيرة؛ كلها مروعة مخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها ؛ فلن نعمل لها ؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به وحتى يذكر له أوصافه التي توجب العمل لهذا اليوم.

وأما السنة؛ فالأحاديث في ذكر القيامة كثيرة، بين الرسول عليه الصلاة والسلام بها ما يكون فيها ؛ كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الحوض والصراط والكتاب وغير ذلك مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما الإجماع- وهو النوع الثالث-؛ فقد أجمع المسلمون إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة، ولهذا كان من أنكره؛ فهو كافر؛ إلا إذا كان غريباً عن الإسلام وجاهلاً؛ فإنه يعرف ؛ فإن أصر على الإنكار بعد ذلك ؛ فهو كافر.

وهناك نوع رابع من الأدلة، وهو الكتب السماوية؛ حيث اتفقت على إثبات اليوم الآخر، ولهذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بذلك ، وحتى الآن يؤمنون به، ولهذا تسمعونهم يقولون: فلان المرحوم ، أو: رحمه الله ، أو : ما أشبه ذلك ؛ مما يدل على أنهم يؤمنون باليوم الآخر إلى يومنا هذا.

وثم نوع خامس، وهو العقل، ووجه ذلك أنه لو لم يكن هذا اليوم؛ لكان إيجاد الخلائق عبثاً والله عز وجل منزه عن العبث؛ فما الحكمة من قوم يخلقون ويؤمرون وينهون ويُلزمون بما يُلزمون به ويُندبون إلى ما يُندبون إليه ، ثم يموتون ، ولا حساب ، لا عقاب؟!

ولهذا قال الله تعالى : )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (115)( )فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115،116).

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ )(القصص: من الآية85).

كيف يُفرض القرآن ويُفرض العمل به، ثم لا يكون هناك معاد؛ نحاسب على ما نفذنا من هذا القرآن الذي فرض علينا؟!

فصارت أنواع الأدلة على ثبوت اليوم الآخر خمسة.

* * *

فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً (1)..............................................

(1) الأمر الثاني مما يكون في القيامة:

ما أشار غليه بقوله : "فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حُفاة عراة غُرلاً؟".

قوله :" من قبورهم : هذا بناء على الأغلب وإلا ؛ فقد يكون الإنسان غير مدفون.

قوله :" لرب العالمين؛ يعني : لأن الله عز وجل يناديهم

قال الله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) (قّ:41)( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (قّ:41،42)؛ فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لربهم عز وجل.

قال الله تبارك وتعالى: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (4) (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (5)(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:4-6).

قوله :" حُفاة عُراة غُرلاً": " حُفاة": ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ يعني: أنه ليس عليهم لباس للرجل.

" عراة": ليس عليهم لباس للجسد.

" غرلاً:" لم ينقص من خلقهم شيء، والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن؛ أي أن القلفة التي قطعت منه في الدنيا تعود يوم القيامة؛ لأن الله يقول (ِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ )(الانبياء: من الآية104)؛ فيعاد كاملاً؛ لم ينقص منه شيء؛ يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساً.

ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك ؛ قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال :" الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك "( وفي رواية : من أن ينظر بعضهم إلى بعض)[223].

فكل إنسان له شأن يغنيه: )يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (34)( وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (35)( وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (36)( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).

لا رجل ينظر إلى امرأة ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه؛ خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع؛ فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل، ولا الرجل إلى المرأة؛ الأمر أشد وأعظم.

ولكن؛ مع ذلك ؛ يكسون بعد هذا، وأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم [224].

* * *

وتدنو منهم الشمس (1)................................................................................

(1) الأمر الثالث مما يكون يوم القيامة:

ما أشار إليه بقوله:" وتدنو منهم الشمسُ

*" تدنو" : إي تقرب منهم الشمس، وتقرب منهم مقدار ميل.

وهذا الميل سواء كان المسافة أو ميل المكحلة؛ فإنها قريبة، وإذا كانت هذه حرارتها في الدنيا ، وبينها من البعد شيء عظيم؛ فكيف إذا كانت عن الرؤوس بمقدار ميل [225]؟!

قد يقول قائل: المعروف الآن أن الشمس لو تدنو بمقدار شعرة عن مستوى خطها ؛ لأحرقت الأرض؛ فكيف يمكن أن تكون في ذلك اليوم بهذا المقدار من البعد، ثم لا تحرق الخلق؟

فالجواب على ذلك : أن الناس يحشرون يوم القيامة؛ ليسوا على القوة التي هم عليها الآن ، بل هم أقوى وأعظم وأشد تحملاً.

لو أن الناس الآن وقفوا خمسين يوماً في شمس لا ظل ولا أكل ولا شرب؛ فلا يمكنهم ذلك ، بل يموتون! لكن يوم القيامة يبقون خمسين ألف سنة؛ لا أكل ولا شرب ولا ظل؛ إلا من أظله الله عز وجل، ومع ذلك ؛ يشاهدون أهوالاً عظيمة؛ فيتحملون.

واعتبر بأهل النار ؛ كيف يتحملون هذا التحمل العظيم؛( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا)(النساء: من الآية56).

وبأهل الجنة؛ ينظر الإنسان إلى ملكه مسيرة ألف عام إلى أقصاه ؛ كما ينظر إلى أدناه؛ كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم [226].

فإن قيل : هل أحد يسلم من الشمس؟

فالجواب: نعم هناك أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما أخبر بذل النبي صلى الله عليه وسلم:" إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا علي وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً؛ ففاضت عيناه" [227]

وهناك أيضاً أصناف أخرى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

وقوله: " لا ظل إلا ظله" ؛ يعني إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل.

ففي الدنيا؛ نحن نبي الظل لنا، لكن يوم القيامة؛ لا ظل إلا الظل الذي يخلقه سبحانه وتعالى ليستظل به من شاء من عباده.

* * *

ويلجمهم العرق (1).....................................................................................

(1)الأمر الرابع مما يكون يوم القيامة:

ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله" ويلجمهم العرق".

*" يلجمهم" ؛ أي يصل منهم إلى موضع اللجام من الفرس، وهو الفم، ولكن هذا غاية ما يصل إليه العرق، وإلا ؛ فبعضهم يصل العرق إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه، فهم مختلفون في هذا العرق، ويعرقون من شدة الحر؛ لأن المقام مقام زحام وشدة ودنو شمس؛ فيعرق الإنسان مما يحصل في ذلك اليوم؛ لكنهم على حسب أعمالهم.

فإن قلت: كيف يكون ذلك وهم في مكان واحد؟

فالجواب: إننا أصلنا قاعدة يجب الرجوع إليها ، وهي : إن الأمور الغيبية يجب علينا أن نؤمن بها ونصدق دون أن نقول : كيف؟! ولم؟! لأنه شيء وراء عقولنا، ولا يمكن أن ندركها أو نحيط بها.

أرابت لو أن رجلين دُفنا في قبر واحد: أحدهما مؤمن ، والثاني: كافر ؛ فإنه ينال المؤمن من النعيم ما يستحق، وينال الكافر من العذاب ما يستحق وهما في قبر واحد، وهكذا نقول في العرق يوم القيامة.

فإن قلت: هل تقول: إن الله سبحانه وتعالى يجمع من يلجمهم العرق في مكان ومن يصل إلى كعبيه في مكان، وإلى ركبتيه في مكان، وإلى حقويه في مكان؟

فالجواب: لا نجزم بهذا، والله أعلم ، بل نقول، من الجائز أن يكون الذي يصل العرق إلى كعبه إلى جانب الذي يلجمه العرق، والله على كل شيء قدير ، وهذا نظير النور الذي يكون للمؤمنين؛ يسعى بين أيديهم وبإيمانهم ، والكفار في ظلمة؛ فيوم القيامة يجب علينا أن نؤمن به وبما يكون فيه، أما كيف؟! ولم؟! فهذا ليس إلينا.

* * *

فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد (1)......................................................

(1)الأمر الخامس مما يكون يوم القيامة:

ما ذكره بقوله :" فتنصبُ الموازينُ فتوزن بها أعمالُ العبادِ"

*والمؤلف يقول :" الموازين": بالجمع، وقد وردت النصوص بالجمع والإفراد:

فمثال الجمع : قول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )(الأنبياء: من الآية47)وقال تعالى )وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:Cool )وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ) (لأعراف:8-9).

- وأما الإفراد ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم"[228]

-فقال :" في الميزان؛ فأفرد؛

فكيف نجمع بني الآيات القرآنية وبين هذا الحديث ؟!

فالجواب أن نقول:

إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث أنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة، أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام :" ثقيلتان في الميزان:؛ أي : في الوزن.

ولكن الذي يظهر – والله أعلم – أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ )(لأعراف: من الآيةCool

لكن يتوقف الإنسان : هل يكون ميزاناً واحداً لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت علي النصوص تختلف باعتبار أجرها ؟!

وقوله:" تنصب الموازين" : ظاهره أنها موازين حسية ، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف ، إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك ، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجح ومرجوح.

وخالف في ذلك جماعة:

فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له ؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها، ولكن المراد بالميزان : الميزان المعنوي الذي هو العدل.

ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ، ولأننا إذا قلنا : إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان، بل نعبر بالعدل ؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة (ميزان) ، ولهذا قال الله تعالى ()إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ )(النحل: من الآية90).

وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو، لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول إن الراجح هو الذي ينزل ، ويدل لذل حديث صاحب البطاقة[229]؛ فغن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح بأن الرجحان يكون بالنزول.

وقوله : "فتوزن بها أعمال العباد" كلام المؤلف رحمه الله صريح بأن الذي يوزن : العمل.

وهنا مبحثان:

المبحث الأول: كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل وليس جسماً فيوزن؟!

والجواب على ذلك : أن يقال : إن اله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً ، وليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل ، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار [230]، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت حيث يجعله الله تعالى جسماً يشاهد ويرى، كذلك الأعمال يجعلها الله عز وجل أجساماً توزن بهذا الميزان الحسي.

المبحث الثاني: صريح كلام المؤلف أن الذي يوزن العمل ؛ سواء كان خيراً أم شراً:

وهذا هو ظاهر القرآن ؛ كما قال الله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (الزلزلة:6) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:6-Cool فهذا واضح أن الذي يوزن العمل ؛ سواء كان خيراً أم شراً.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام:" كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" [231] ، وهذا ظاهر أيضاً ، بل صريح في أن الذي يوزن العمل ، والنصوص في هذا كثيرة.

لكن هناك نصوص قد يخالف ظاهرها هذا الحديث:

منها حديث صاحب البطاقة؛ رجل يؤتى به على رؤوس الخلائق، وتعرض عليه أعماله في سجلات تبلغ تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها يبلغ مد المبصر، فيقر به ، فيقال له : ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا ؛ يا رب ! فيقول الله : بلى ؛ إن لك عندنا حسنة. فيؤتى ببطاقة صغيرة، فيها : أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال : إنك لا تظلم قال: فتوضع السجلات في كفيه، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة..." الحديث [232] .

وظاهر هذا أن الذي يوزن صحائف الأعمال.

وهناك نصوص أخرى تدل على أن الذي يوزن العامل؛ مثل:

قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:105) ؛ ومع أنه قد ينازع في الاستدلال بهذه الآية ؛ فيقال : إن معنى قوله: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(الكهف: من الآية105)؛ يعني : قدراً.

ومثل ما ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مم تضحكون؟" قالوا: من دقة ساقية. قال : والذي نفسي بيده؛ لهما في الميزان أثقل من أحد"[233].

فصار ها هنا ثلاثة أشياء : العمل ، والعامل ، والصحائف.

فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه.

وقال بعض العلماء : الجمع بينها أن يقال : أن المراد بوزن العمل أن العمل يوزن وهو في الصحائف ، ويبقى وزن صاحب العمل فيكون لبعض الناس.

ولكن عند التأمل نحد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه.

وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمراً يخص الله به من يشاء من عباده[234].

( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1)...........................................................

(1) (فمن ) شرطية وجواب الشرط جملة: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

وأتت الجملة الجزائية جملة أسمية بصفة الحصر (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.

وجاءت باسم الإشارة الدال على البعد (فَأُولَئِكَ ) ، ولم يقل : فهم المفلحون: إشارة إلى علو مرتبتهم.

وجاءت بصفة الحصر في قوله (هم)، وهو ضمير فصل يفيد الحصر والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة.

والمفلح: هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه؛ فحصل له السلامة مما يكره، وحصل له ما يحب.

والمراد بثقل الموازين رجحان الحسنات على السيئات.

وقوله: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه إشكال من جهة العربية؛ فإنة(مَوَازِينُهُ) الضمير فيه مفرد، و(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه جمع.

وجوابه: أن (من) الشرطية صالحة للإفراد والجمع؛ فباعتبار اللفظ يعود الضمير إليها مفرداً، وباعتبار المعنى يعود الضمير إليها جمعاً.

وكما جاءت (من) فإنه يجوز أن تعيد الضمير إليها بالإفراد أو بالجمع ، وهذا كثير في القرآن، قل الله تعالى ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: من الآية11)؛ فتجد الأية الكريمة فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ.

* * *



(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(1) ) فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (2)............................

(1)الإشارة هنا للبعد؛ لا نحطاط مرتبتهم، لا لعلو مرتبتهم.

قوله : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : الكافر قد خسر نفسه وأهله وماله: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(الزمر: من الآية15)بينما المؤمن العامل للصالحات قد ربح نفسه وأهله وماله وانتفع به.

فهؤلاء الكفار خسروا أنفسهم ؛ لأنهم لم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئاً، بل ما استفادوا إلا الضرر، وخسروا أموالهم ، لأنهم لم ينتفعوا بها ، حتى ما أعطوه للخلق لينتفع به؛ فإنه لا ينفعهم؛ كما قال تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)(التوبة: من الآية54)، وخسروا أهليهم؛ لأنهم في النار؛ فصاحب النار لا يأنس بأهله، بل إنه مغلق عليه في تابوت، ولا يرى أ أحداً أشد منه عذاباً.

والمراد بخفة الموازين: رجحان السيئات على الحسنات، أو فقدان الحسنات أو فقدان الحسنات بالكلية، إن قلنا بأن الكفار توزن أعمالهم ؛ كما هو ظاهر هذه الآية الكريمة وأمثالها وهو أحد القولين لأهل العلم.

والقول الثاني : أن الكفار لا توزن أعمالهم؛ لقوله تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (103)(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (104)(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:103-105). والله أعلم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:46 am

تنشر الدواوين (1) وهي صحائف الأعمال (2).........................................................

(1) الأمر السادس مما يكون يوم القيامة:

وهو ما ذكره المؤلف بقوله :" وتنشرُ الدواوينُ"

*"وتنشر" أي : تفرق وتفتح لقارئها.

*و " الدواوين": جمع ديوان، وهو السجل الذي تكتب فيه الأعمال ، ومنه دواوين بيت المال، وما أشبه ذلك.

(2) يعني: التي كتبتها الملائكة الموكلون بأعمال بني آدم؛ قال الله تعالىSadكَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(9)(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ) (11)(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(الانفطار:9-12).

فيكتب هذا العمل ويكون لازما للإنسان في عنقه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ أخرج الله هذا الكتاب.

قال تعالى (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً) (الإسراء:13) (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء:13-14).

قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك.

والكتابة في صحائف الأعمال : أما للحسنات ، وأما للسيئات، والذي يكتب من الحسنات ما عمله الإنسان، وما نواه، وما هم به ؛ فهذه ثلاثة أشياء:

فأما ما عمله ؛ فظاهر أنه يكتب.

وأما ما نواه؛ فإنه يكتب له، لكن يكتب هل أجر النية فقط كاملاً؛ كما في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي كان له مال ينفقه في سبل الخير، فقال الرجل الفقير: لو أن عندي مالاً؛ لعملت فيه بعمل فلان؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم" فهو بنيته؛ فأجرهما سواء"[235]

ويدل على أنهما ليسا سواء في الأجر من حيث العمل: أن فقراء المهاجرين لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ! إن أهل الدثور سبقونا فقال لهم صلى الله عليه وسلم :" تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" فلما سمع الأغنياء بذلك ؛ فعلو مثله، فرجع الفقراء يشكون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم :" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[236] ولم يقل : إنكم أدركتم عملهم.

ولأن هذا هو العدل ؛ فرجل لم يعمل لا يكون كالذي عمل ، لكن يكون مثله في أجر النية فقط.

وأما الهم ؛ فنقسم إلى قسمين:

الأول: أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه منه، ثم يحال بينه وبين إكماله.

فهذا يكتب له الأجر كاملاً؛ لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) .

وهذه بشرى لطلبة العلم إذا نوى الإنسان إنه يطلب العلم وهو يريد أن ينفع الناس بعلمه ويذب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وينشر دين الله في الأرض، ثم لم يقدر له ذلك ؛ بأن مات مثلاً، وهو في طلبه ؛ فإنه يكتب له أجر ما نواه وسعى إليه.

بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب ؛ فإنه يكتب له أجره ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"[237]

القسم الثاني:: أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه ؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيته.

وأما السيئات؛ فإنه يكتب على الإنسان ما عمله ويكتب عليه ما أراده وسعى فيه ولكن عجز عنه، ويكتب عليه ما نواه وتمناه.

فالأول : واضح.

والثاني: يكتب عليه كاملاً ؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:" إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله ! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال:" لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه"[238] ومثله من هم أن يشرب الخمر، ولكن حصل له مانع ؛ فهذا يكتب عليه الوزر كاملاً؛ لأنه سعى فيه.

والثالث الذي نواه وتمناه يكتب عليه ، لكن بالنية، ومنه الحديث الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أعطاه الله مالاً فكان يتخبط فيه ، فقال رجل فقير: لو أن لي مالاً ؛ لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي عليه الصلاة والسلام:" فهو بنيته؛ فوزرهما سواء"[239]

ول هم بالسيئة، ولكن تركها؛ فهذا على ثلاث أقسام:

1- إن تركها عجزا ؛ فهو كالعامل إذا سعى فيها.

2- وإن تركها لله ؛ كان مأجوراً.

3- وإن تركها لأن نفسه عزفت عنها،أو لم تطرأ على باله؛ فهذا لا إثم عليه ولا أجر.

والله عز وجل يجزي بالحسنات أكثر من العمل، ولا يجزي بالسيئات إلا مثل العمل ؛ قال تعالى : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام:160)، وهذا من كرمه عز وحل ومن كون رحمته سبقت غضبه.

فآخذ كتابه بيمينه (1) وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره (1).......................................

(1)قوله: " فآخذ كتابه بيمينه": "آخذ" مبتدأ ، وخبره محذوف والتقدير : فمنهم آخذ.

وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل؛ أي أن الناس ينقسمون؛ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون، وهذا إشارة إلى أن لليمنى الإكرام ، ولكذلك يأخذ المؤمن كتابه بها، والكافر يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ كما قال المؤلف:" وآخذ كتابه بشماله".

(2)وقوله :" أو من وراء ظهره" "أو " للتنويع، وليست للشك.

فظاهر كلام المؤلف أن الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه: باليمين، وبالشمال، ومن وراء الظهر.

ولكن الظاهر أن هذا الاختلاف اختلاف صفات ؛ فالذي يأخذ كتابه من وراء ظهره هو الذي يأخذ كتابه بشماله؛ فيأخذ بالشمال، وتجعل يده من الخلف؛ فكونه يأخذه بالشمال؛ لأنه من أهل الشمال، وكونه من وراء ظهره ؛ لأنه لما استدبر كتاب الله ، وولي ظهره إياه في الدنيا ؛ صار من العدل أن يجعل كتاب أعماله يوم القيامة خلف ظهره؛ فعلى هذا ؛ تخلع اليد الشمال حتى تكون من الخلف. والله أعلم

كما قال سبحانه وتعالى(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَه(1)في عُنُقِهِ(2)نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كتاباً يلقاه منشوراً(3) اقرأ كتابك(4) كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً(5)………………………………………

(1)طائره) أي عمله؛ لأن الإنسان يتشاءم به أو يتفاءل به، ولأن الإنسان يطير به فيعلو أو يطير به فينزل.

(2) (في عنقه) ؛ أي : رقبته، وهذا أقوى ما يكون تعلقاً بالإنسان ؛ حيث يربط ي العنق؛ لأنه لا يمكن أن ينفصل آي إذا هلك الإنسان؛ فهذا يلزم عمله.

(3)وإذا كان يوم القيامة؛ كان الأمر كما قال الله تعالى (نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كتاباً يلقاه منشوراً)؛ أي مفتوحاً؛ لا يحتاج إلى تعب ولا إلى مشقة في فتحه.

(4)ويقال له (أقرأ كتابك) وانظر ما كتب عليك فيه.

(5)( كفي بنفسك اليوم عليك حسيباً): وهذا من تمام العدل والإنصاف: أن يوكل الحساب إلى الإنسان نفسه.

والإنسان العاقل لابد أن ينظر ماذا كتاب في هذا الكتاب الذي سوف يجده يوم القيامة مكتوباً.

ولكن، نحن أمامنا باب يمكن أن يقضي على كل السيئات، وهو التوبة، وإذا تاب العبد إلى الله مهما عظم ذنبه؛ فإن الله يتوب عليه، وحتى لو تكرر الذنب منه، وهو يتوب؛ فإن الله يتوب عليه ؛ فما دام الأمر بأيدينا الآن؛ فعلينا أن نحرص على أن يكتب في هذا الكتاب إلا العمل الصالح.

* * *

(1)الأمر السابع مما يكون يوم القيامة.

وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (ويحاسب الله الخلائق):

المحاسبة: إطلاع العباد على أعمالهم يوم القيامة.

وقد دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

- أما الكتاب؛ فقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)(فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) (الانشقاق:7-Cool، )وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً)(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً) (الانشقاق:11)(وَيَصْلَى سَعِيراً) (الانشقاق:10-12).

- أما السنة؛ فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعدة أحاديث أن الله تعالى يحاسب الخلائق.

- وأما الإجماع ؛ فإنه متفق عليه بين الأمة: أن الله تعالى يحاسب الخلائق.

- وأما العقل ؛ فواضح ؛ لأننا كلفنا بعمل فعلاً وتكراً وتصديقاً، والعقل والحكمة تقتضيان أن من كلف بعمل ؛ فإنه يحاسب عليه ويناقش فيه.

- وقول المؤلف :" الخلائق" جمع خليقة؛ يشمل كل مخلوق.

إلا أنه يستثني من ذلك من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ؛ كما ثبت ذلك في الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أمته ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون[240].

وقد روي الإمام أحمد بسند جيد : أن مع كل واحد سبعين ألفاً[241].

فتضرب سبعين ألفاً بسبعين ألفاً ويزاد سبعون ألفاً. وهؤلاء فتضرب سبعين ألفاً بسبعين ألفاً، ويزداد سبعون ألفاً؛ هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لا حساب ولا عذاب.

وقوله :" الخلائق" يشمل أيضاً الجن؛ لأنهم مكلفون ، ولهذا يدخل كافرهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال تعالى (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ )(لأعراف: من الآية38)، ويدخل مؤمنهم الجنة على قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح؛ كما يدل عليه قوله تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان(46) إلى قوله : (....لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن:46-56).

وهل تشمل المحاسبة البهائم؟

أما القصاص؛ فيشمل البهائم؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام" أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" [242]، وهذا قصاص ، لأنها لا تحاسب حساب تكليف وإلزام؛ لأن البهائم ليس لها ثواب ولا عقاب.

ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه (1) كما وصف ذلك في الكتاب والسنة (2) وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويخزون[243] بها (3)............................................................................

(1)قوله :" ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه":

وهذا صفة حساب المؤمن:

يخلو الله به عز وجل دون أن يطلع عليه أحد، ويقرره بذنوبه؛ أي : يقول له : عملت كذا، وعملت كذا... حتى يقر ويعترف، ثم يقول: " سترها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم[244]" .

ومع ذلك ؛ فإنه سبحانه وتعالى يضع عليك ستره؛ بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله عز وجل على المؤمن؛ فإن الإنسان إذا قررك بجناياتك أما الناس وإن سمح عنك؛ ففيه شيء من الفضيحة لكن إذا كان ذلك وحدك ؛ فإن ذلك ستر منه عليك.

(2) "ذلك" المشار إليه الحساب؛ يعنى: كما وصف الحساب في الكتاب والسنة، لأن هذا من الأمور الغيبية المتوقفة على الخبر المحض، فوجب الرجوع فيه إلى ما وصف في الكتاب والسنة.

(3)هكذا جاء معناه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ذكر حساب الله تعالى لعبده المؤمن، وأنه يخلو به، ويقرره بذنوبه. قال " وأما الكفار المنافقون ؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". متفق عليه[245]"

وفي "صحيح مسلم" [246]، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فيلقى العبد، لأي يلقى الله العبد إي المنافق، فيقول : يا فل، أي : يا فلان، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول : بلى ، قال : فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول، فيقول الله ، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول الله ، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول : يا رب آمنت بلك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول : ههنا إذن، قال : ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي ، فتنطق بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه.

تنبيه:

في قول المؤلف رحمه الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته... إلخ، إشارة إلى أن المراد بالمحاسبة المنفية عنهم هي محاسبة الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأما محاسبة التقرير والتقريع فثابتة كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فائدة:

أو ما يحاسب عليه العبد من الأعمال الصلاة، وأول ما يقضي فيه بين الناس الدماء؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والدماء اعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.

* * *

وفي عرصات القيامة: الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه اشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً(1)...

(1) الأمر الثامن مما يكون يوم القيامة:

وهو ما ذكره المؤلف بقوله :" وفي عرصات القيامة الحوضُ المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ".

العرصات : عرصة، هي المكان المتسع بين البنيان، والمراد به هنا مواقف القيامة.

والحوض في الأصل : مجمع الماء، والمراد به هنا : حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

والكلام على الحوض من عدة وجوه.

اولاً : هذا الحوض موجود الآن ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خطب ذات يوم ي أصحابه ، وقال :" وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن"[247].

وأيضاً ؛ ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال :" ومنبري على حوضي"[248].

وهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده؛ نه غيبي ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض.

ثانياً: هذا الحوض يصب فيه ميزابان من الكوثر، وهو النهر العظيم، الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ ينزلان إلى هذا الحوض[249].

ثالثاً: زمن الحوض قبل العبور على الصراط؛ لأن المقام يقتضي ذلك ؛ حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل عبور الصراط.

رابعاً: يرد هذا الحوض المؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، المتبعون لشريعته، وأما من استنكف واستكبر وعن اتباع الشريعة؛ فإنه يطرد منه.

خامساً : في كيفية مائه: فيقول المؤلف رحمه الله :" ماؤه أشد بياضاً من اللبن" هذا في اللون ، أما في الطعم ؛ فقال:" وأحلى من العسل"، وفي الرائحة أطيب من ريح المسك؛ كما ثبت به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم [250]

سادساً: في آنيته : يقول المؤلف :" آنيته عدد نجوم السماء".

هذا كما ورد في بعض ألفاظ الحديث، وفي بعضها :" آنيته كنجوم السماء"، وهذا اللفظ أشمل؛ لأنه يكون كالنجوم في العدد وفي الوصف بالنور واللمعان؛ فآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة.

سابعاً: آثار هذا الحوض : قال المؤلف :" من يشرب منه شربة؛ لا يظمأ بعدها أبداً": حتى على الصراط وبعده.

وهذه من حكمة الله عز وجل؛ لأن الذي يشرب من الشريعة في الدنيا لا يخسر أبداً كذلك.

ثامناً: مساحة هذا الحوض: يقول المؤلف :" طوله شهر وعرضه شهر": هذا إذاً يقتضي أن يكون مدوراً ؛ لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب ؛ إلا إذا كان مدوراً، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من سير الإبل المعتاد.

تاسعاً: يصب في الحوض ميزابان من الكوثر الذي أعطاه الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم .

عاشراً: هل للأنبياء الآخرين أحواضٌ؟

فالجواب: نعم ؛ فإنه جاء في حديث رواه الترمذي- وإن كان فيه مقال:" إن لكل نبي حوضاً "[251].

لكن هذا يؤيده المعنى، وهو أن الله عز وجل بحكمته وعدله كما جعل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حوضاً يرده المؤمنون من أمته؛ كذلك يجعل لكم نبي حوضاً ، حتى ينتفع المؤمنون بالأنبياء السابقين، لكن الحوض الأعظم هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم .

والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار (1)..............................

(1) الأمر التاسع مما يكون يوم القيامة: الصراط:

وقد ذكره المؤلف بقوله :" والصراطُ منصوبٌ على متنِ جهنم ، وهو الجسرُ الذي بين الجنة والنار".

- فمنهم من قال : طريق واسع يمر الناس على قدر أعمالهم ؛ لأن كلمة الصراط مدلولها اللغوي هو هذا؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه دحض ومزلة[252]، والدحض والمزلة لا يكونان إلى في طريق واسع، أما الضيق؛ فلا يكون دحضاً ومزلة.

- ومن العلماء من قال: بل هو صراط دقيق جداً؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم بلاغاً [253]، أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف.

*على هذا يرد سؤال : وهو كيف يمكن العبور على طريق كهذا؟

والجواب:أن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا؛ فالله تعالى على كل شيء قدير، ولا ندري ؛ كيف يعبرون؟! هل يجتمعون جميعاً في هذا الطريق أو واحد بعد واحد؟

وهذه المسألة لا يكاد الإنسان يجزم بأحد القولين؛ لأن لكيهما له وجهة قوية.

وقوله :" منصوب على متن جهنم"؛ يعني : على نفس النار.

يمر الناس عليه على قدر أعمالهم : فمنهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل ، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يزحف زحفاً (1)...............................................................

(1)قوله:" يمر الناس" : المراد ب " الناس" هنا : المؤمنون ؛ لأن الكفار قد ذهب بهم إلى النار .

فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم ؛ منهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق، ولمح البصر أسرع من البرق، ومنهم من يمر كالريح؛ أي : الهواء ، ولا شك أن الهواء سريع، لا سيما قبل أن يعرف الناس الطائرات، والهواء المعروف يصل أحياناً على مئة وأربعين ميلاً في الساعة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم ممن يمر كركاب الإبل ، هي دون الفرس الجواد بكثير، ومهم من يعدو عدواً، أي : يسرع، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ أي : يمشي على مقعدته، وكل منهم يريد العبور.

وهذا بغير اختيار الإنسان، ولو كان باختياره ؛ لكان يحب أن يكون بسرعة، ولكن السير على حسب سرعته في قبول الشريعة في هذه الدنيا، فمن كان سريعاً في قبول ما جاءت به الرسل ؛ كان سريعاً في عبور الصراط، ومن كان بطيئاً في ذلك ؛ كان بطيئاً في عبور الصراط؛ جزاء وفقاً، والجزاء من جنس العمل.

ومنهم من يخطف خطفاً(1) فيلقى في جهنم (2) فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم........

(1) وقوله :" ومنهم من يخطف"؛ أي: يؤخذ بسرعة، وذلك بالكلاليب التي على الجسر؛ تخطف الناس بأعمالهم (2) " فيلقى في جهنم" يفهم منه أن النار التي يلقى فيها لاعصاة هي النار التي يلقى فيها الكفار، ولكنها لا تكون بالعذاب كعذاب الكفار، بل قال بعض العلماء: إنها تكون برداً وسلاماً عليهم كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ولكن الظاهر خلاف ذلك، وأنها تكون حارة مؤلمة لكنها ليست كحرارتها بالنسبة للكافرين.

ثم إن أعضاء السجود لا تمسها النار؛ ما ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين"[254]، وهي الجبهة والأنف والكفان والركبتان وأطراف القدمين.

فمن مر على الصراط (1) دخل الجنة (1) فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار (2) فيقتص لبعضهم من بعض (3)...................................................................................

(1) قوله :" فمن مر على الصراط؛ دخل الجنة" ؛ أي : لأنه نجا.

(2) "القنطرة" هي الجسر ، لكنه جسر صغير ، والجسر في الأصل ممر على الماء من نهر ونحوه.

واختلف العلماء في هذه القنطرة؛ هل هي طرف الجسر الذي على متن جهنم أو هي جسر مستقل؟!

والصواب في هذا أ نقول : الله أعلم، وليس يعنينا شأنها، لكن الذي يعنينا أن الناس يوقفون عليها.

(3)قوله فيقتص لبعضهم من بعض": وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص؛ لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص.

فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار؛ لأجل تنقية ما في القلوب ، حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل؛ كما قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47)

فإذا هُذبوا ونُقوا ؛ أذن لهم في دخول الجنة (1) ، وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم (2)...............................................................

(1) هكذا رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [255].

إذا هذبوا مما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ونقوا منها ؛ فإنه يؤذن لهم في دخول الجنة؛ فإذا أذن لهم في الدخول ؛ فلا يجدون الباب مفتوحاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع إلى الله في أن يفتح لهم با بالجنة؛ كما سيأتي في أقسام الشفاعة إن شاء الله.

* * *

(2)الأمر العاشر مما يكون يوم القيامة: دخول الجنة:

وأشار إليه المؤلف بقوله :" وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم".

ودليله ما ثبت في " صحيح مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أول شفيع في الجنة"، وفي لفظ " أنا أول من يقعر باب الجنة[256]، وفي لفظ :" آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول : محمد . فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك"[257]

وقوله صلى الله عليه وسلم :" فاستفتح"؛ أي : أطلب فتح الباب.

وهذا من نعمة الله على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الشفاعة الأولى التي يشفعها في عرصات القيامة لإزالة الكروب والهموم والغموم، والشفاعة الثانية لنيل الأفراح والسرور؛ فيكون شافعاً للخلق عليه الصلاة والسلام في دفع ما يضرهم وجلب ما ينفعهم.

ولا دخول إلى الجنة إلا بعد شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ذلك ثبت في السنة كما سبق، واشار إليه الله عز وجل بقوله ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(الزمر: من الآية73)؛ فإنه لم يقل: حتى إذا جاءوها ؛ فتحت! وفيه إشارة إلى أن هناك شيئاً قبل الفتح، وهو الشفاعة . أما أهل النار؛ فقال فيهم: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(الزمر: من الآية71)؛ لأنهم يأتونها مهيأة فتبغتهم ؛ نعوذ بالله منها.

وأول ما يدخل الجنة من الأمم أمته (1)...............................................................

(1) هذا حق ثابت ؛ دليله ما ثبت في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة "[258]، وقال صلى الله عليه وسلم :" نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"[259].

وهذا يشمل كل مواقف القيامة وانظر:" حادي الأرواح" لابن القيم :

تتمة:

أبواب الجنة لم يذكرها المؤلف ، لكنها معروفة أنها ثمانية؛ قال الله تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(الزمر: من الآية73؛ وقال النبي صلى الله عليه وسمل فيمن توضأ وأسبغ والوضوء وتشهد:" إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية؛ يدخل من أيها شاء"[260]

وهذه الأبواب كانت ثمانية بحسب الأعمال ؛ لأن كل باب له عمال؛ فأهل الصلاة ينادون من باب الصلاة، وأهل الصدقة من باب الصدقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد، وأهل الصيام من باب الريان.

وقد يوفق الله عز وجل بعض الناس لأعمال صالحة شاملة؛ فيدعى من جميع الأبواب؛ كما في الصحيحين"[261] عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أنفق زوجين في سبيل الله ؛ نؤدي من أبواب الجنة: يا عبد الله ! هذا خير...." وذكر الحديث ، وفيه : فقال أبو بكر رضي الله عنه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال :" نعم، و أرجو أن تكون منهم".

فإن قلت: إذا كانت الأبواب بحسب الأعمال ؛ لزم أن يدعى كل أحد من كل تلك الأبواب إذا عمل بأعمالها ؛ فما هو الجواب ؟

فالجواب : أن يقال : يُدعى من الباب المعين من كان يكثر من العمل المخصص له؛ مثلاً : إذا كان هذا الرجل كثير الصلاة؛ فيدعى من باب الصلاة، كثير الصيام من باب الريان، وليس كل إنسان نحصل له الكثرة في كل عمل صالح؛ لأنك تجد في نفسك بعض الأعمال أكثر وأنشط من بعض، لكن قد يمن الله علي بعض الناس، فيكون نشيطاً قوياً في جميع الأعمال؛ كما سبق في قصة أبي بكر رضي الله عنه.



وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات (1)..................................................

(1)الأمر الحادي عشر مما يكون يوم القيامة: الشفاعة:

وقد ذكرها المؤلف بقوله: وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات".

" له" : الضمير يعود للنبي صلى الله عليه وسلم .

والشفاعات : جمع شفاعة، والشفاعة في اللغة: جعل الشيء شفعاً. وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، ومناسبتها للاشتقاق ظاهرة؛ لأنك إذا توسطت له؛ صرت معه شفعاً تشفعه.

والشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة.

فالشفاعة الباطلة: ما يتعلق به المشركون في أصنامهم؛ حيث يعبدون ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله ، كما قال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ )(يونس: من الآية18)، ويقولون ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )(الزمر: من الآية3).

لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع؛ كما قال تعالى : (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر:48).

والشفاعة الصحيحة ما جمعت شروطاً ثلاثة:

الأول: رضى الله عن الشافع.

الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم .

الثالث: إنه في الشفاعة.

والإذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له.

ودليل ذلك قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (لنجم:26) ، ولم يقل: عن الشافع ، ولا : المشفوع له؛ ليكون أشمل.

وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طـه:109).

وقال سبحانه ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الأنبياء: من الآية28).

فالآية تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية: تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شرطاً واحداً.

فللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات:

1- الشفاعة العظمى.

2- الشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة.

3- الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها ، وفيمن دخلها أن يخرج منها.

أما الشفاعة الأولى: فيشفع ف أهل الموقف حتى يقضى بينهم (1) بعد أن يتراجع الأنبياء : آدم ، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عن الشفاعة(2).......................................................

(1)قوله " حتى يقضى بينهم ": (حتى) هذه تعليلية ، وليست غائية؛ لأن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تنتهي قبل أن يقضى بين الناس ؛ فإنه إذا شفع؛ نزل الله عز وجل للقضاء بين عباده وقضى بينهم.

ونظيرها قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا )(المنافقون: من الآية7)؛ فإن قوله : : للتعليل ؛ أي: من أجل أن ينفضوا، وليست للغاية ؛ لأن المعني يفسد ذلك .

(1)أي : يردها كل واحد منهم إلى الآخر.

شرح

هذه الجملة ما رواه البخاري ومسلم [262]عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون فيم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد؛ يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس نم الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم! فيأتونه ، فيقولن له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته؛ نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى نوح! فيأتون نوحاً، فيقولون : يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً؛ اشفع لنا إلى ربك؛ إلا ترى إلى ا نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله ، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ اذهبوا إلى إبراهيم! فيأتون إبراهيم ، فيقولون: يا إبراهيم ! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض؛ اشفع لنا إلى ربك؛ إلا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات ؛ إذهبوا إلى موسى! فيأتون موسى ، فيقولون : يا موسى! أنت رسول اله ، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله ، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها؛ اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى، فيقولون : يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته إلي مريم وروح منه وكلمت الناس في النهد صبياً؛ أشفع لنا غلى ربك ؛ إلا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله ولم يذكر ذنباً، وكلهم يقول كما قال آدم: نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى محمد ! فيأتون محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق ، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال : يا محمد! ارفع رأسك؛ سل تعطه، واشفع تشفع…." وذكر تمام الحديث.

والكذبات الثلاث التي ذكرها إبراهيم عليه السلام فُسرت بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ قال لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ؛ اثنتين منهن في ذات الله : قوله :" إني سقيم"، وقوله:" بل فعله كبيرهم هذا" ، وذكر قوله عن امرأته سارة: إنها أختى.

وفي " صحيح مسلم " في حديث الشفاعة السابق أن الثالثة قوله في الكوكب (هذا ربي) ، ولم يذكر قصة سارة.

لكن قال بن حجر في "الفتح"[263]: " الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة"، وعلل ولذلك.

وإنما سمى إبراهيم عليه السلام هذه كذبات؛ تواضعاً منه؛ لأنها بحسب مراده صدق مطابق للواقع؛ فهي من باب التورية، والله أعلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:47 am

حتى تنتهي إليه (1)

(1) أي : إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبق في الحديث ما يكون بعد ذلك.

وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبداً إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم الشفاعات؛ لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم.

وهؤلاء الرسل الذي ذكروا في حديث الشفاعة كلهم من أولي العزم، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى.

أما في سورة الأحزاب ؛ ففي قوله تعالى Sadوَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (الأحزاب:7) .

وأما في سورة الشورى ؛ فقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)(الشورى: من الآية13).

تنبيه:

قوله: " الأنبياء ؛ آدم ونوح…" إلى آخره: جزم المؤلف رحمه الله بأن آدم نبي ن وهو كذلك ؛ لأن الله تعالى أوحى إليه بشرع أمره ونهاه.

وروى ابن حبان في " صحيحه" : أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل كان آدم نبياً؟ قال : " نعم".

فيكون آدم أول الأنبياء الموحى إليهم ، وأما أول الرسل ؛ فنوح ؛ كم هو صريح في حديث الشفاعة وظاهر القرآن في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ )(النساء: من الآية163)، وقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)(الحديد: من الآية26).

وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة (1)……………………………………

(1)وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض

، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عرصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيا ن أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذبوا ونُقوا ؛ إذن لهم في دخول الجنة.

ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب ، حتى يشفع النبي صلى الله علي وسلم لأهل الجنة أن يدخلوها، فيدخل كل إنسان من باب العمل الذي يكون أكثر اجتهاداً فيه من غيره، وإلا ؛ فإن المسلم قد يدعى من كل الأبواب.

وهو صريح فيما رواه مسلم [264] عن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما ؛ قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم ، فيقولون: يا أبانا ! استفتح لنا الجنة..." وذكر الحديث ، وفيه:" فيأتون محمداً، فيقوم فيؤذن له.." الحديث.

وهاتان الشفاعتان (1) خاصتان له (2)..................................................................

(1) يعني : الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في دخول الجنة.

(2) أي : للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولذلك يعتذر عنهما آدم وأولو العزم من الرسل .

وهناك أيضاً شفاعة ثالثة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب، وأبو طالب – كما في " الصحيحين"[265] وغيرهما- مات على الكفر. فأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة؛ وغيرهما ادرك الإسلام منهم أربعة؛ فبقي اثنان على الكفر وأسلم اثنان:

فالكافران هما:

أبو لهب: وقد أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إساة عظيمة وأنزل الله تعالى فيه وفي امرأته حمالة الحطب سورة كاملة في ذمهما ووعيدهما.

والثاني: أبو طالب ، وقد أحسن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إحساناً كبيراً مشهوراً ، وكان من حكمة الله عز وجل أن بقي على كفره؛ لأنه لو لا كفره؛ ما حصل هذا الدفاع عن الرسول عليه الصلاة ، بل كان يؤذي كما يؤذى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بجاهه العظيم عند قريش وبقائه على دينهم صاروا يعظمونه وصار للنبي علي الصلاة والسلام جانب من الحماية بذلك.

واللذان أسلما هما العباس وحمزة ، وهو افضل من العباس ، حتى لقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أسد الله ، وقتل شهيداً في أحد رضي الله عنه وأرضاه ، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء.

فأبو طالب أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشفع فيه ، مع أنه كافر، فيكون هذا مخصوصاً من قوله تعالى (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر:48) ، ولكنها شفاعة لم تخرجه من النار، بل كان في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" ولولا أنا ؛ لكان في الدرك الأسفل من النار"[266]، وليس هذا من أجل شخصية أبي طالب، لكن من أجل ما حصل من دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن أصحابه.

وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم ، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها (1)..................................

(1) قوله :" وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار" ؛ أي: من عصاة المؤمنين.

وهذه لها صورتان : يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ، وفيمن دخلها أن يخرج منها.

أما فيمن دخلها أن يخرج منها ؛ فالأحاديث ي هذا كثيرة جداً ، بل متواترة.

وأما فيمن استحقها أن لا يدخلها ؛ فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم؛ فإنه من لازم ذلك أن لا يدخل النار؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :" اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين...." الحديث[267].

*لكن هذه شفاعة في الدنيا؛ كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من رجل مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً؛ إلا شفعهم الله فيه [268].

*وهذه الشفاعة ينكرها من أهل البدع طائفتان؛ المعتزلة والخوارج لأن المعتزلة والخوارج مذهبهما في فاعل الكبيرة أنه مخلد في نار جهنم ، فيرون من زنى كمن أشرك بالله؛ لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله لأحد بالشفاعة له.

وقولهن مردود بما تواترت به الأحاديث في ذلك.

*قوله :" وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم "؛ فليشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها ، يعني : أنها ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسل م، بل تكون للنبيين ؛ حيث يشفعون في عصاة قومهم، وللصديقين يشفعون في عصاة اقاربهم وغيرهم من المؤمنين، وكذلك تكون لغيرهم من الصالحين، حتى يشفع الرجل في أهل ه وفي جيرانه وفيما أشبه ذلك .

ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة ، بل بفضله ورحمته (1)......................................

(1)يعني : أن الله تعالى يخرج من عصاة المؤمنين من شاء بغير شفاعة ، وهذا من نعمته؛ فإن رحمته سبقت غضبه، فيشفع الأنبياء والصالحون والملائكة وغيرهم، حتى لا يبقى إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج من النار من يخرج بدون شفاعة ، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أصحاب النار، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أن الله تعالى يقول : شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعلموا خيراً قط؛ قد عادوا حمماً........." الحديث[269]

· * *

(1)الأمر الثاني عشر مما يكون يوم القيامة:

وهو ما ذكره المؤلف بقوله :" ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا".

الجنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض يدخلها أهلها ، ولكن لا تمتلئ

وقد تكلف الله عز وجل للجنة وللنار لكل واحدة ملؤها:

-"فالنار لا تزال يلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد؟ فلا تمتلئ، فيضع الله عز وجل عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول : قط قط"[270]

- وأما الجنة؛ فينشئ لها أقواماً، فيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته:

- ثبت ذلك في " الصحيحين" [271]من حديث انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم وعلى آله وسلم، وهذا مقتضى قوله تعالى: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )(الأنعام: من الآية54)، وقول النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام يما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى :" إن رحمتي سقبت غضبي"[272]

ولهذا قال المؤلف :" فينشئ الله لها أقواماً ، فيدخلهم الجنة".

(1)الأصناف : الأنواع.

(2)سبق معنى الحساب.

(3)الثواب: جزاء الحسنات ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

(4)العقاب : جزاء السيئات، ومن جاء بالسيئة ؛ فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.

(5)الجنة : هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر؛(َلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) ؛ أي : لا تعلم حقيقته وكنهه.

والجنة موجودة الآن؛ لقوله تعالى : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، والأحاديث في هذا المعنى متواترة.

ولا تزال باقية أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: )وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108)، وقوله (خَالِدِينَ فِيهَا أبدا) ؛ في آيات متعددة.

والنار (1) وتفاصيل ذلك مذكور في الكتب المنزلة من السماء(2) والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء (3)......

(1)النار: هي الدار التي أعدها الله تعالى لأعدائه، وفيها من أنواع العذاب والعقاب ما لا يطيق.

وهي موجودة الآن ؛ لقوله تعالى : ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(آل عمران: من الآية131)، والأحاديث في هذا المعنى مستفيضة مشهورة.

وأهلها خالدون فيها أبداً؛ لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (الأحزاب:64-65)

وقد ذكر الله خلودهم أبداً في ثلاث آيات من القرآن ؛ هذه أحدها ، والثانية في آخر سورة النساء، والثالثة في سورة الجن، وهي ظاهرة في أن النار لا تزال باقية أبد الآبدين.

(2)يعني: مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى وغيرها من الكتب المنزلة؛ فقد ذكر فيها ذلك مبيناً مفصلاً لحاجة الناس، بل ضرورتهم إلى بيانه وتفصيله؛ إذ لا يمكنهم الاستقامة إلا بالإيمان باليوم الآخر الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل من خير وشر.

(3) اعلم أن العلم المأثور عن الأنبياء قسمان:

القسم الأول: قسم ثبت بالوحي، وهو ما ذكر في القرآن والسنة الصحيحة، وهذا لا شك في قبوله واعتقاد مدلوله.

القسم الثاني: قسم أتى عن طريق النقل غير الوحي، وهذا هو الذي دخل فيه الكذب والتحريف والتبديل والتغيير.

ولهذا لا بد من أن يكون الإنسان حذراً مما ينقل بهذه الطريقة عن الأنبياء السابقين، حتى قال الرسول صلى عليه الصلاة والسلام :" إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، قولوا : آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم [273]، لأنك إن صدقت؛ قد تصدق بباطل، وإن كذبته؛ قد تكذب بحق؛ فلا تصدق ولا تكذب؛ قل: إن كان هذا من عند الله ؛ فقد آمنت به.

وقد قسم العلماء ما أثر عمن سبق ثلاثة أقسام:

الأول: ما شهد شرعنا بصدقه.

الثاني: ما شهد شرعنا بكذبه.

والحكم في هذين واضح.

الثالث: ما لم يحكم بصدقه ولا كذبه.

فهذا مما يجب فيه التوقف؛ لا يصدق ولا يكذب.

وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي (1)...................

(1) العلم الموروث عن محمد صلوات الله وسلامه عليه سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عيه وسلم فيه من ذلك ما يشفي ويكفي.

فلا حاجة إلى أن نبحث عن مواعظ ترقق القلوب من غير الكتاب والسنة، بل نحن في غنى عن هذا كله؛ ففي العلم الموروث عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشفي ويكفي في كل أبواب العلم والإيمان.

ثم المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الوعظ والفضائل ترغيباً أو ترهيباً ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صحيح مقبول ، وضعيف ، وموضوع؛ فليس كله صحيحاً مقبولاً، ونحن في غنى عن الضعيف والموضوع.

- فالموضوع اتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز ذكره ونشره بين الناس؛ لا في باب الفضائل والترغيب والترهيب، ولا في غيره ؛ إلا من ذكره ليبين حاله.

- والضعيف اختلف فيه العلماء ، والذين قالوا بجواز نشره ونقله اشترطوا ثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن لا يكون الضعف شديداً

الشرط الثاني: أن يكون أصل العمل الذي رتب عليه الثواب أو العقاب ثاباً بدليل صحيح.

الشرط الثالث: أن لا يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسل مقاله، بل يكون متردداً غير جازم ، لكنه راج في باب الترغيب ، خائفٌ في باب الترهيب.

أما صيغة عرضه ؛ فلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يقول: روي عن رسول الله، أو ذكر عنه .... وما أشبه ذلك .

فإن كنت في عوام لا يفرقون بين ذكر وقيل وقال؛ فلا تأت به أبداً؛ لأن العامي يعتقد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله؛ فما قيل في المحراب؛ فهو عنده الصواب!

تنبيه:

هذا الباب – أي : باب اليوم الآخر وأشراط الساعة- ذكرت في أحاديث كثيرة فيها ضعف وفيها وضع، وأكثر ما تكون هذه في كتب الرقائق والمواعظ؛ فلذلك يجب التحرز منها، وأن نحذر العامة الذين يقع في أيديهم مثل هذه الكتب.

فمن ابتغاه وجده (1)............................................................................

قوله :" فمن ابتغاه" ؛ أي : طلبه:" وجده".

وهذا صحيح ؛ فالقرآن بين أيدينا ، وكتب الأحاديث بين أيدينا ، لكنها تحتاج إلى تنقيح وبيان الصحيح منها والضعيف، حتى يبني الناس ما يعتقدونه في هذا الباب على أساس سليم.

* * *









فصل

في الإيمان بالقدر

فصل

وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة (1) بالقدر (2)..............................................

(1) "الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة": سبق تعريفعها والكلام عنها في أول الكتاب

(2) القدر في اللغة؛ بمعنى: التقدير ؛ قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49)، وقال تعالى (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات:23) .

- أما القضاء؛ فهو في اللغة : الحكم.

ولهذا نقول : إن القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن تفرقا؛ على حد قول العلماء: هما كلمتان: إن اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا.

فإذا قيل : هذا قدر الله ؛ فهو شامل للقضاء، أما إذا ذكرا جميعاً؛ فلكل واحد مهما معنى.

- فالتقدير : هو ما قدره الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه.

- وأما القضاء؛ هو ما قضى به الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً.

- فإن قال قائل: متى ؟ قلنا : إن القضاء هو ما يقضيه الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وإن القدر سابق عليه إذا اجتمعا؛ فإن هذا يعارض قوله تعالى ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2)؛ فإن هذه الآية ظاهرها أن التقدير بعد الخلق؟

فالجواب على ذلك من أحد وجهين:

- إما أن نقول: إن هذا من باب الترتيب الذكري لا المعنوي، وإنما قدم الخلق على التقدير لتتناسب رؤوس الآيات.

- ألم تر إلى أن موسى أفضل من هارون ، لكن قدم هارون عليه في سورة طه في قوله تعالى عن السحرة: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طـه:70) ؛ لتتناسب رؤوس الآيات.

وهذا لا يدل على أن المتأخر في اللفظ متأخر في الرتبة.

- أو أن نقول : إن التقدير هنا بمعنى التسوية؛ إي خلقه على قدر معين؛ كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (الأعلى:2) ؛ فيكون التقدير بمعنى التسوية.

وهذا المعنى أقرب من الأول؛ لأنه يطابق تماماً لقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) ؛ فلا إشكال.

*والإيمان بالقدر واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل حين قال: ما الإيمان؟ قال:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره"[274]

وللإيمان بالقدر فوائد؛ منها:

أولاً: أنه من تمام الإيمان ، ولا يتم الإيمان إلا بذلك .

ثانياً: أنه من تمام الإيمان بالربوبية ؛ لأن قدر الله من أفعاله.

ثالثاً: رد الإنسان أموره إلى ربه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره؛ فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها، ويضيف السراء إلى الله ، ويعرف أنها من فضل الله عليه.

رابعاً: أن الإنسان يعرف قدر نفسه ، ولا يفخر إذا فعل الخير.

خامساً: هون المصائب على العبد؛ لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله ؛ هانت عليه المصيبة؛ كما قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )(التغابن: من الآية11)؛ قال علقمة رحمه الله :" هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم".

سادساً: إضافة النعم إلى مُسديها؛ لأنك إذا لم تؤمن بالقدر ؛ أضفت النعم إلى من باشر الإنعام، وهذا يوجد كثيراً في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء؛ فإذا أصابوا منهم ما يريدون؛ جعلوا الفضل إليهم، ونسوا فضل الخالق سبحانه.

صحيح أنه يجب على الإنسان أن يشكر الناس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:" من صنع إليكم معروفاً؛ فكافئوه"[275]

، ولكن يعلم أن الأصل كل الأصل هو فضل الله عز وجل جعله على يد هذا الرجل.

سابعاً: أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل ؛ لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث في تغيرات باهرة؛ عرف بهذا حكمة الله عز وجل؛ بخلاف من نسي القضاء والقدر؛ فإنه لا يستفيد هذه الفائدة.

خيره وشره (1).....................................................................................

(1) الخير: ما يلائم طبيعة الإنسان ؛ بحيث يحصل هل به خير أو ارتياح وسرور ، وكل ذلك من الله عز وجل.

- والشر في القدر : ما لا يلائم طبيعة الإنسان ؛ بحيث يحصل له به أذية أو ضرر.

· ولكن ؛ إن قيل : كيف يقال : إن في قدر الله شراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الشر ليس إليه"؟[276]

·فالجواب على ذلك أن يقال: الشر في القدر ليس باعتبار تقدير الله له، لكنه باعتبار المقدور له ؛ لأن لدينا قدراً هو التقدير ومقدوراً؛ كما أن هناك خلقاً ومخلوقاً وإرادة ومراداً؛ فباعتبار تقدير الله له ليس بشر؛ بل هو خير، حتى وإن كان لا يلائم الإنسان ويؤذيه ويضره، لكن باعتبار المقدور؛ فنقول: المقدور إما خير وإما شر؛ فالقدر خير وإما شر؛ فالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره.

ونضرب لهذا مثلاً في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا )(الروم: من الآية41).

ففي هذه الآية بين الله عز وجل ما حدث من الفساد وسببه والغاية منه؛ فالفساد شر وسببه عمل الإنسان السيئ، والغاية منه ) لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم: من الآية41).

فكون الفساد يظهر في البر والبحر فيه حكمة ؛ فهو نفسه شر، لكن لحكمة عظيمة، بها يكون تقديره خيراً.

كذلك المعاصي والكفر شر، هو من تقدير الله، لكن لحكمة عظيمة، لولا ذلك لبطلت الشرائع، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً.

* والإيمان بالقدر خيره وشره لا يتضمن الإيمان بكل مقدور، بل المقدور ينقسم إلى كوني وإلى شرعي:

- فالمقدور الكوني: إذا قدر الله عليك مكروهاً؛ فلا بد أن يقع؛ رضيت أم أبيت.

- والمقدور الشرعي قد يفعله الإنسان وقد لا يفعله، ولكن باعتبار المرضى به فيه تفصيل:

إن كان طاعة لله وجب الرضى به، وإن كان معصية؛ وجل سخطه وكراهته والقضاء عليه؛ كما قال الله عز وجل : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) .

وعلى هذا؛ يجب علينا الإيمان بالمقضي كله ؛ من حيث كونه قضاء لله عز وجل ، أما من حيث كونه مقضياً؛ فقد نرضى به وقد لا نرضى ؛ فلو وقع الكفر من شخص فلا نرضى بالكفر مه، لكن نرضى بكون الله أوقعه.

* * *


فصل

في درجات الإيمان بالقدر



فصل

والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين (1) فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون (2) بعلمه القديم (3)............................................................................

(1) * إنما قسم المؤلف هذا التقسيم من أجل الخلاف؛ لأن الخلاف في القدر ليس شاملاً لكل مراتبه، وباب القدر من أشكل أبواب العلم والدين على الإنسان ، وقد كان النزاع فيه من عهد الصحابة رضي الله عنهم ، ولكنه ليس مشكلاً لمن أراد الحق .

(2) قوله: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون": ولم يذكر المؤلف أن الله علم ما يفعله هو ؛ لأن هذه المسألة ليس فيها خلاف، إنما ذكر ما فيه الخلاف، وهو : هل الله يعلم ما الخلق عاملون أو لا يعلمه إلا بعد وقوعه منهم؟

ومذهب السلف والأئمة أن الله تعالى عالم بذلك.

(3) القديم في اصطلاحهم: هو الذي لا أول لابتدائه؛ أي أنه لم يزل فيما مضى من الأزمنة التي لا نهاية لها عالماً بما يعمله الخلق؛ بخلاف القديم في اللغة؛ فقد يراد به ما كان قديماً نسبياً؛ كما في قوله تعالى : ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(يّـس: من الآية39)، ومعلوم أن عرجون النخلة ليس بقديم أزلي، بل قديم بالنسبة لما بعده.

فالله تعلى موصوف بأنه عالم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الأزلي، الذي لا نهاية لأوله، عالم جل وعلا بأن هذا الإنسان سيعمل كذا في يوم كذا في مكان كذا بعلمه القديم الأولى؛ فيجب أن نؤمن بذلك:

ودليل ذلك من الكتاب والسنة والعقل:

أما الكتاب ؛ فما أكثر الآيات التي فيها العموم في علم الله ؛ مثل: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(النساء: من الآية32)، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً )(غافر: من الآية7)، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(الطلاق: من الآية12)... إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.

- أما في السنة فإن الرسول غليه الصلاة والسلام أخبر بان الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأقلام قد جفت وطويت الصحف... والأحاديث في هذا كثيرة.

- وأما العقل ؛ فإن من المعلوم بالعقل أن الله تعالى هو الخالق ، وأن ما سواه مخلوق، ولابد عقلاً أن يكون الخالق عالماً بمخلوقه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).

فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأولي.

الذي هو موصوف به أولاً وابداً (1)....................................................................

(1) قوله:" الذي هو موصوف به أولاً وأبداً" : ففي كونه موصوفاً به أولاً نفي للجهل ، وفي كونه موصوفاً به أبداً نفي النسيان.

ولهذا كان علم الله عز وجل غير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان؛

كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طـه:52) ، بخلاف علم المخلوق المسبوق بالجهل والملحوق بالنسيان.

إذاً ؛ يجب علينا أن نؤمن بأن الله عالم بما الخلق عاملون بعلم سابق موصوف به أولاً وأبداً.

علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال (1) ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق (2)..............................................................................................

(1) دليل ذلك ما ثبت في "الصحيحين"عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه..." وذكر أطوار الجنين، وفيه :" ثم يبعث الله ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد....." وذكر تمام الحديث [277].

فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.

فطاعتنا معلومة لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم؛ فإنه لله معلوم ، ولا يخفى عليه؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت، ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

وهذا هو الشيء الأول من الدرجة الأولى.

علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال (1) ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق (1).........................................................................................

(1) دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه...." وذكر أطوار الجنين ، وفيه :" ثم يبعث الله ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له : أكتب علمه ورزقه وأجله وشقي أو سعيد..." وذكر تمام الحديث [278].

فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.

فطاعتنا لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم ؛ فإنه لله معلوم، ولا يخفى عليه ؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

وهذا الشيء الأول من الدرجة الأولى.

(2) هذا الشيء الثاني من الدرجة الأولى، وهو أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.

· اللوح المحفوظ : لا نعرف ماهيته؛ من أي شيء؛ أمن خشب ، أم من حديد، أم من ذهب، أم من فضة، أم من زمرد؟ فالله أعلم بذلك؛ إنما نؤمن بأن هناك لوحاً كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق في أن نبحث وراء ذلك، لكن لو جاء في الكتاب والسنة ما يدلنا على شيء؛ فالواجب أن نعتقده.

· ووصف بكونه محفوظاً؛ لأنه محفوظ من أيدي الخلق؛ فلا يمكن أن يلحق أحد به شيئاً أبداً ثانياً : محفوظ من التغيير؛ فالله عز وجل لا يغير فيه شيئاً؛ لأنه كتبه عن علم منه؛ كما سيذكره المؤلف، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله:" إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً"، وإنما يحصل التغيير في الكتب التي بأيدي الملائكة.

· قوله " مقادير الخلق"؛ أي : مقادير المخلوقات كلها، وظاهر النصوص انه شمل ما يفعله الإنسان، وما يفعله البهائم، وأنه عام وشامل.

ولكن؛ هل هذه الكتابة إجمالية أو تفصيلية؟

قد نقول : إننا لا نجزم بأنها تفصيلية أو إجمالية.

فمثلاً : القرآن الكريم: هل هو مكتوب في اللوح المحفوظ بهذه الآيات والحروف أو أن المكتوب في اللوح ذكره وأنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيكون نوراً وهدىً للناس وما اشبه ذلك؟

ففيه احتمال : إن نظرنا على ظاهر النصوص؛ قلنا : إن ظاهرها أن القرآن كله مكتوب جملة وتفصيلاً ، وإن نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين نزوله؛ قلنا : إن الذي كتب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن ، ولا يلزم من كون ذكره في اللوح المحفوظ أن يكون قد كتب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:196) ؛ يعني : كتب الأولين، ومعلوم أن القرآن لم يوجد نصه في الكتب السابقة وإنما وجد ذكره، ويمكن أن نقول مثلها في قوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج:21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:21-22)؛ أي: ذكره في هذا اللوح.

فالمهم أن نؤمن بأن مقادير الخلق مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن هذا اللوح لا يتغير ما كتب فيه؛ لأن الله أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

فأول ما خلق الله القلم قال له : أكتب. قال : ما أكتب؟(1) ..............................................

(1) قوله :" فأول ما خلق الله القلم ؛ قال له : "أكتب": فأمره أن يكتب ؛ مع أن القلم جماد.

فكيف يوجه الخطاب على الجماد؟!

والجواب عن ذلك : أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه غليه الخطاب: قال الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11) ؛ فوجه الخطاب إليهما ، وذلك جوابهما، وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات.

وقال تعالى : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) فكانت كذلك.

وقال تعالى : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ )(سـبأ: من الآية10)؛ فكانت الجبال تؤوب معه.

* والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب؛ لأن الأمر مجمل، فقال :" ما أكتب؟" أي: أي شيء أكتب؟

قال (1) اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (2) فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاه لم يكن ليصيبه (3)......................................................................................................

(1) أي: الله.

(2) * اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة": فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة.

فانظر كيف علم القلم ماذا يكون إلى يوم القيامة، فكتبه؛ لأن الله أمر الله عز وجل لا يرد.

وقوله:" ما هو كائن إلى يوم القيامة": يشكل ما كان من فعل الله تعالى وما كان من أفعال الخلق.

(3) * إذا آمنت بهذه الجملة؛ اطمأننت : ما أصاب الإنسان ؛ لم يكن ليخطئه أبداً.

ومعنى " ما أصاب": يحتمل أن المعنى: ما قدر أن يصيبه؛ فإنه لن يخطئه، ويحتمل أن ما أصابه بالفعل لا يمكن أن يخطئه، حتى لو تمنى الإنسان ، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.

وما اخطاه لم يكن ليصيبه أي: ما قدر أن يخطئه فإنه لم يكن ليصيبه، أو المعنى: ما أخطاه بالفعل، لأنه معروف أنه غير صائب، ولو تمنى الإنسان ، وهم معنيان صحيحان لا يتنافيان.

جفت الأفلام (1) وطويت الصحف (2) ، كما (3) قال سبحانه وتعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ(4) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(5) إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ(6) إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(7)) .................................

(1) "الأقلام": هي أقلام القدر التي كتب الله بها المقادير ؛ جفت وانتهت.

(2) * وطويت الصحف،وهذا كناية عن أن الأمر انتهى.

وفي صحيح مسلم"[279] عن جابر رضي الله عنه ؛ قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم؛ قال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم؛ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل ؟ قال :"لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا ؛ فكل ميسر".

(3) "كما" الكاف في مثل هذا التعبير للتعليل.

(4) (الم تعلم) أيها المخاطب.

(5) (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ): وهذا عام؛ علم لما فيهما من أعيان وأوصاف وأعمال وأحوال.

(6) (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) وهو اللوح المحفوظ

(7) (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )أي : الكتابة على الله أمر يسير.

وقال (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْض)ِ (1)وَلا فِي أَنْفُسِكُم(2)ْ إِلَّا فِي كِتَاب(ٍ3) مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وهذا التقدير التابع لعمله سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق حسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له : اكتب ، رزقه، وعمله، وشقي أم سعيد ونحو ذلك(4)......................................................

(1)( فِي الْأَرْضِ) :كالجدب والزلازل والفيضانات وغيرها.

(2)( وَلا فِي أَنْفُسِكُم):كالمرض والأوبئة المهلكة وغير ذلك.

(3) (إِلَّا فِي كِتَابٍ): وهو اللوح المحفوظ.

(4)(نبرأها): أي من قبل أن نخلقها، والضمير في (نبرأها): يحتمل أن يعود على المصيبة، ويحتمل أن يعود على الأنفس، ويحتمل أن يعود على الأرض، والكل صحيح؛ فالمصيبة قد كتبت قبل أن يخلقها الله عز وجل، وقبل أن يخلق النفس المصابة، وقبل أن يخلق الأرض.



وفي " صحيح مسلم"[280]عن عبد الله بن عمرو؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.قال : وكان عرشه على الماء"

(5)قوله :" في مواضع"؛ مواضع غير اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق حسد الحنين قبل نفخ الروح فيه ؛ بعث إليه ملكاً ، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أم سعيد ونحو ذلك".

· فهذان موضعان: الأول: اللوح المحفوظ، وسبق دليل ذلك وتفصيل القول فيه.

والثاني: الكتابة العمرية التي تكون للجنين في بطن أمه، وسبق دليلها في حديث ابن مسعود رضي الله عنه [281].

والموضع الثالث: ما أشار إليه بقوله:" ونحو ذلك"، وهو التقدير الحولي الذي يكون في ليلة القدر؛ فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة؛ كما قال تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان4-5).

فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ومنكروه اليوم قليل(1) وأما الدرجة الثانية (2) فيهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه(3)...........................................

(1) * "هذا التقدير" ؛ يعني : العلم والكتابة، وينكره غلاة القدرية قديماً، ويقولون : إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها، وأنها لم تكتب ، ويقولون: إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها ، وأنها لم تكتب ويقولون: إن الأمر أنف؛ أي: مستأنف، لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة، وانروا المشيئة والخلق، وهذا بالنسبة لأفعال المخلوقين.

أما بالنسبة لأفعال الله ؛ فلا أحد ينكر أن الله عالم بها قبل وقوعها.

وهؤلاء الذين ينكرون علم الله بأفعال العبد حكمهم في الشرع أنهم كفار؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: من الآية282)، غيرها من الآيات، وخالفوا المعلوم بالضرورة من الدين.

(2) يعني: من درجات الإيمان بالقدر.

(3) يعني: أن تؤمن بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء، سواء كان مما يتعلق بفعله أو يتعلق بأفعال المخلوقين، وأن قدرته شاملة، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)(فاطر: من الآية44).

(4) وهذه الدرجة تتضمن شيئين؛ المشيئة و الخلق:

- أما المشيئة فيجب أن نؤمن بأن مشيئة الله تعالى نافذة ف يكل شيء، وأن قدرته شاملة لكل شيء من أفعاله وأفعال المخلوقين.

- وأما كونها شاملة لأفعاله ؛ فالأمر فيها ظاهر.

- وأما كونها شاملة لأفعال المخلوقين فلأن الخلق كلهم ملك لله تعالى ، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء.

- والدليل على هذا:

- قوله تعالى : ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)(الأنعام: من الآية149).

- وقوله سبحانه Sadوَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً )(هود: من الآية118).

- وقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)(البقرة: من الآية253).

- فهذه الآيات تدل على أن أفعال العباد متعلقة بمشيئة الله.

- وقال تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )(الإنسان: من الآية30).

- وهذه تدل على أن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله وتابعة لها.

لا يكون في ملكه ما لا يريد (1) وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات (2)......

(1)هذه العبارة تحتاج إلى تفصيل: لا يكون في ملكه ما لا يريد بالإرادة الكونية، أما بالإرادة الشرعية، فيكون في ملكه ما لا يريد.

وحينئذ ؛ نحتاج إلى أن نقسم الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية:

- فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ومثالها قول نوح عليه السلام لقومه: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ )(هود: من الآية34).

- والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، مثلها قوله تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ )(النساء: من الآية27).

- وتختلف الإرادتان في موجبهما وفي متعلقهما:

- ففي المتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع ، سواء أحبه أم كرهه، والإرادة الشرعية تتعلق فيما أحبه، سواء وقع أم لم يقع.

وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد.

وعلي هذا يكون قول المؤلف :" ولا يكون في ملكه ما لا يريد"؛ يعني به: الإرادة الكونية.

* فإن قال قائل : هل المعاصي مرادة لله؟

فالجواب: أما بالإرادة الشرعية؛ فليست مرادة له؛ لأنه لا يحبها، وأما بالإرادة الكونية؛ فهي مرادة له سبحانه؛ لأنها واقعة بمشيئته.

(2)كل شيء؛ فالله قادر عليه من الموجودات؛ فيعدمها أو يغيرها ومن المعدومات ؛ فيوجدها.

فالقدرة تتعلق في الموجود بإيجاده أو إعدامه أو تغييره، وفي المعدوم بإعدامه أو إيجاده.

فمثلاً ، كل موجود ؛ فالله قدر أن يعدمه، وقادر أن يغيره؛ أي: ينقله من حال إلى حال، وكل معدوم؛ فالله قدر على أن يوجده؛ مهما كان؛ كما قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: من الآية20).

· ذكر بعض العلماء استثناء من ذلك، وقال : إلا ذاته؛ فليس عليها بقادر! وزعم أن العقل يدل على ذلك.

فنقول : ماذا تريد بانه غير قادر على ذاته؟

- إن أردت أنه غير قادر على أن يعدم نفسه أو يلحقها نقصاً؛ فنحن نوافقك على أن الله لا يلحقه النقص أو العدم، لكننا لا نوافقك على أن هذا مما تتعلق به القدرة؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالشيء الممكن، أما لاشيء الواجب أو المستحيل ؛ فهذا لا تتعلق به القدرة أصلاً؛ لأن الواجب مستحيل العدم، والمستحيل مستحيل الوجود.

- وإن أردت بقولك: إنه غير قادر على ذاته: أنه غير قادر على أنه يفعل ما يشاء ؛ فلا يقدر أن يجيء أو نحوه! فهذا خطأ ، بل هو قادر على ذلك، وفاعل له، ولو قلنا : إنه ليس بقادر على مثل هذه الأفعال ؛ لكان ذلك من أكبر النقص الممتنع على الله سبحانه.

- وبهذا علم أن هذا الاستدراك من عموم القدرة في غير محله على كل تقدير.

- * وإنما نص المؤلف على هذا رداً على القدرية الذين قالوا: إن الله ليس بقادر على فعل العبد!! وإن العبد مستقل بعمله!

ولكن ما في الكتاب والسنة من شمول قدرة الله يرد عليهم.

فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه (1)..................................

هذ1 صحيح بلا شك ولهذا دليل أثري ودليل نظري:

- أما الدليل الأثري: فقد قال الله تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء)(الزمر: من الآية62).

وقال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور:36)

فلا يمكن أن يوجد شيء في السماء والأرض إلا الله خالقه وحده.

ولقد تحدى الله العابدين للأصنام تحدياً أمرنا أن نستمع له ، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً )، ومعلوم أن الذين يدعون من دون الله في القمة عندهم؛ لأنهم اتخذوا أرباباً ؛ فإذا عجز هؤلاء القمة عن أن يخلقوا ذباباً ، وهو أحس الأشياء وأهونها؛ فما فوقه من باب أولى، بل قال: )هُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه)(الحج: من الآية73) ؛ فيعجزون حتى عن مدافعة الذباب وأخذ حقهم منه.

فإن قيل: كيف يسلب هذه الأصنام شيئاً؟!

فالجواب: قال بعض العلماء : إن هذا على سبيل الفرض؛ يعني: على فرض أن يسلبهم الذباب شيئاً؛ لا يستنقذوه منه. وقال بعضهم : بل على سبيل الواقع؛ فيقع الذباب على هذه الأصنام ، ويمتص ما فيها من أطياب؛ فلا تستطيع الأصنام أن تخرج ما امتصه الذباب.

وإذا كانت عاجزة عن الدفع عن نفسها ، واستنقاذ حقها؛ فهي عن الدفع عن غيرها واستنقاذ حقه أعجز.

والمهم أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن لا خالق إلا الله ، فيجب الإيمان بعموم خلق الله عز وجل ، وأنه خالق كل شي، حتى أعمال العباد؛ لقوله تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء)(الرعد(16)، وعمل الإنسان من الشيء، وقال تعالى ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2) ... والآيات في هذا كثيرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:50 am

فصل

في درجات الإيمان بالقدر



فصل

والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين (1) فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون (2) بعلمه القديم (3)............................................................................

(1) * إنما قسم المؤلف هذا التقسيم من أجل الخلاف؛ لأن الخلاف في القدر ليس شاملاً لكل مراتبه، وباب القدر من أشكل أبواب العلم والدين على الإنسان ، وقد كان النزاع فيه من عهد الصحابة رضي الله عنهم ، ولكنه ليس مشكلاً لمن أراد الحق .

(2) قوله: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون": ولم يذكر المؤلف أن الله علم ما يفعله هو ؛ لأن هذه المسألة ليس فيها خلاف، إنما ذكر ما فيه الخلاف، وهو : هل الله يعلم ما الخلق عاملون أو لا يعلمه إلا بعد وقوعه منهم؟

ومذهب السلف والأئمة أن الله تعالى عالم بذلك.

(3) القديم في اصطلاحهم: هو الذي لا أول لابتدائه؛ أي أنه لم يزل فيما مضى من الأزمنة التي لا نهاية لها عالماً بما يعمله الخلق؛ بخلاف القديم في اللغة؛ فقد يراد به ما كان قديماً نسبياً؛ كما في قوله تعالى : ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(يّـس: من الآية39)، ومعلوم أن عرجون النخلة ليس بقديم أزلي، بل قديم بالنسبة لما بعده.

فالله تعلى موصوف بأنه عالم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الأزلي، الذي لا نهاية لأوله، عالم جل وعلا بأن هذا الإنسان سيعمل كذا في يوم كذا في مكان كذا بعلمه القديم الأولى؛ فيجب أن نؤمن بذلك:

ودليل ذلك من الكتاب والسنة والعقل:

أما الكتاب ؛ فما أكثر الآيات التي فيها العموم في علم الله ؛ مثل: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(النساء: من الآية32)، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً )(غافر: من الآية7)، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(الطلاق: من الآية12)... إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.

- أما في السنة فإن الرسول غليه الصلاة والسلام أخبر بان الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأقلام قد جفت وطويت الصحف... والأحاديث في هذا كثيرة.

- وأما العقل ؛ فإن من المعلوم بالعقل أن الله تعالى هو الخالق ، وأن ما سواه مخلوق، ولابد عقلاً أن يكون الخالق عالماً بمخلوقه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).

فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأولي.

الذي هو موصوف به أولاً وابداً (1)....................................................................

(1) قوله:" الذي هو موصوف به أولاً وأبداً" : ففي كونه موصوفاً به أولاً نفي للجهل ، وفي كونه موصوفاً به أبداً نفي النسيان.

ولهذا كان علم الله عز وجل غير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان؛

كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طـه:52) ، بخلاف علم المخلوق المسبوق بالجهل والملحوق بالنسيان.

إذاً ؛ يجب علينا أن نؤمن بأن الله عالم بما الخلق عاملون بعلم سابق موصوف به أولاً وأبداً.

علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال (1) ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق (2)..............................................................................................

(1) دليل ذلك ما ثبت في "الصحيحين"عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه..." وذكر أطوار الجنين، وفيه :" ثم يبعث الله ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد....." وذكر تمام الحديث [277].

فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.

فطاعتنا معلومة لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم؛ فإنه لله معلوم ، ولا يخفى عليه؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت، ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

وهذا هو الشيء الأول من الدرجة الأولى.

علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال (1) ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق (1).........................................................................................

(1) دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه...." وذكر أطوار الجنين ، وفيه :" ثم يبعث الله ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له : أكتب علمه ورزقه وأجله وشقي أو سعيد..." وذكر تمام الحديث [278].

فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.

فطاعتنا لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم ؛ فإنه لله معلوم، ولا يخفى عليه ؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

وهذا الشيء الأول من الدرجة الأولى.

(2) هذا الشيء الثاني من الدرجة الأولى، وهو أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.

· اللوح المحفوظ : لا نعرف ماهيته؛ من أي شيء؛ أمن خشب ، أم من حديد، أم من ذهب، أم من فضة، أم من زمرد؟ فالله أعلم بذلك؛ إنما نؤمن بأن هناك لوحاً كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق في أن نبحث وراء ذلك، لكن لو جاء في الكتاب والسنة ما يدلنا على شيء؛ فالواجب أن نعتقده.

· ووصف بكونه محفوظاً؛ لأنه محفوظ من أيدي الخلق؛ فلا يمكن أن يلحق أحد به شيئاً أبداً ثانياً : محفوظ من التغيير؛ فالله عز وجل لا يغير فيه شيئاً؛ لأنه كتبه عن علم منه؛ كما سيذكره المؤلف، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله:" إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً"، وإنما يحصل التغيير في الكتب التي بأيدي الملائكة.

· قوله " مقادير الخلق"؛ أي : مقادير المخلوقات كلها، وظاهر النصوص انه شمل ما يفعله الإنسان، وما يفعله البهائم، وأنه عام وشامل.

ولكن؛ هل هذه الكتابة إجمالية أو تفصيلية؟

قد نقول : إننا لا نجزم بأنها تفصيلية أو إجمالية.

فمثلاً : القرآن الكريم: هل هو مكتوب في اللوح المحفوظ بهذه الآيات والحروف أو أن المكتوب في اللوح ذكره وأنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيكون نوراً وهدىً للناس وما اشبه ذلك؟

ففيه احتمال : إن نظرنا على ظاهر النصوص؛ قلنا : إن ظاهرها أن القرآن كله مكتوب جملة وتفصيلاً ، وإن نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين نزوله؛ قلنا : إن الذي كتب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن ، ولا يلزم من كون ذكره في اللوح المحفوظ أن يكون قد كتب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:196) ؛ يعني : كتب الأولين، ومعلوم أن القرآن لم يوجد نصه في الكتب السابقة وإنما وجد ذكره، ويمكن أن نقول مثلها في قوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج:21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:21-22)؛ أي: ذكره في هذا اللوح.

فالمهم أن نؤمن بأن مقادير الخلق مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن هذا اللوح لا يتغير ما كتب فيه؛ لأن الله أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

فأول ما خلق الله القلم قال له : أكتب. قال : ما أكتب؟(1) ..............................................

(1) قوله :" فأول ما خلق الله القلم ؛ قال له : "أكتب": فأمره أن يكتب ؛ مع أن القلم جماد.

فكيف يوجه الخطاب على الجماد؟!

والجواب عن ذلك : أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه غليه الخطاب: قال الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11) ؛ فوجه الخطاب إليهما ، وذلك جوابهما، وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات.

وقال تعالى : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) فكانت كذلك.

وقال تعالى : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ )(سـبأ: من الآية10)؛ فكانت الجبال تؤوب معه.

* والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب؛ لأن الأمر مجمل، فقال :" ما أكتب؟" أي: أي شيء أكتب؟

قال (1) اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (2) فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاه لم يكن ليصيبه (3)......................................................................................................

(1) أي: الله.

(2) * اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة": فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة.

فانظر كيف علم القلم ماذا يكون إلى يوم القيامة، فكتبه؛ لأن الله أمر الله عز وجل لا يرد.

وقوله:" ما هو كائن إلى يوم القيامة": يشكل ما كان من فعل الله تعالى وما كان من أفعال الخلق.

(3) * إذا آمنت بهذه الجملة؛ اطمأننت : ما أصاب الإنسان ؛ لم يكن ليخطئه أبداً.

ومعنى " ما أصاب": يحتمل أن المعنى: ما قدر أن يصيبه؛ فإنه لن يخطئه، ويحتمل أن ما أصابه بالفعل لا يمكن أن يخطئه، حتى لو تمنى الإنسان ، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.

وما اخطاه لم يكن ليصيبه أي: ما قدر أن يخطئه فإنه لم يكن ليصيبه، أو المعنى: ما أخطاه بالفعل، لأنه معروف أنه غير صائب، ولو تمنى الإنسان ، وهم معنيان صحيحان لا يتنافيان.

جفت الأفلام (1) وطويت الصحف (2) ، كما (3) قال سبحانه وتعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ(4) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(5) إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ(6) إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(7)) .................................

(1) "الأقلام": هي أقلام القدر التي كتب الله بها المقادير ؛ جفت وانتهت.

(2) * وطويت الصحف،وهذا كناية عن أن الأمر انتهى.

وفي صحيح مسلم"[279] عن جابر رضي الله عنه ؛ قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم؛ قال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم؛ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل ؟ قال :"لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا ؛ فكل ميسر".

(3) "كما" الكاف في مثل هذا التعبير للتعليل.

(4) (الم تعلم) أيها المخاطب.

(5) (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ): وهذا عام؛ علم لما فيهما من أعيان وأوصاف وأعمال وأحوال.

(6) (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) وهو اللوح المحفوظ

(7) (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )أي : الكتابة على الله أمر يسير.

وقال (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْض)ِ (1)وَلا فِي أَنْفُسِكُم(2)ْ إِلَّا فِي كِتَاب(ٍ3) مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وهذا التقدير التابع لعمله سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق حسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له : اكتب ، رزقه، وعمله، وشقي أم سعيد ونحو ذلك(4)......................................................

(1)( فِي الْأَرْضِ) :كالجدب والزلازل والفيضانات وغيرها.

(2)( وَلا فِي أَنْفُسِكُم):كالمرض والأوبئة المهلكة وغير ذلك.

(3) (إِلَّا فِي كِتَابٍ): وهو اللوح المحفوظ.

(4)(نبرأها): أي من قبل أن نخلقها، والضمير في (نبرأها): يحتمل أن يعود على المصيبة، ويحتمل أن يعود على الأنفس، ويحتمل أن يعود على الأرض، والكل صحيح؛ فالمصيبة قد كتبت قبل أن يخلقها الله عز وجل، وقبل أن يخلق النفس المصابة، وقبل أن يخلق الأرض.



وفي " صحيح مسلم"[280]عن عبد الله بن عمرو؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.قال : وكان عرشه على الماء"

(5)قوله :" في مواضع"؛ مواضع غير اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق حسد الحنين قبل نفخ الروح فيه ؛ بعث إليه ملكاً ، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أم سعيد ونحو ذلك".

· فهذان موضعان: الأول: اللوح المحفوظ، وسبق دليل ذلك وتفصيل القول فيه.

والثاني: الكتابة العمرية التي تكون للجنين في بطن أمه، وسبق دليلها في حديث ابن مسعود رضي الله عنه [281].

والموضع الثالث: ما أشار إليه بقوله:" ونحو ذلك"، وهو التقدير الحولي الذي يكون في ليلة القدر؛ فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة؛ كما قال تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان4-5).

فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ومنكروه اليوم قليل(1) وأما الدرجة الثانية (2) فيهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه(3)...........................................

(1) * "هذا التقدير" ؛ يعني : العلم والكتابة، وينكره غلاة القدرية قديماً، ويقولون : إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها، وأنها لم تكتب ، ويقولون: إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها ، وأنها لم تكتب ويقولون: إن الأمر أنف؛ أي: مستأنف، لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة، وانروا المشيئة والخلق، وهذا بالنسبة لأفعال المخلوقين.

أما بالنسبة لأفعال الله ؛ فلا أحد ينكر أن الله عالم بها قبل وقوعها.

وهؤلاء الذين ينكرون علم الله بأفعال العبد حكمهم في الشرع أنهم كفار؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: من الآية282)، غيرها من الآيات، وخالفوا المعلوم بالضرورة من الدين.

(2) يعني: من درجات الإيمان بالقدر.

(3) يعني: أن تؤمن بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء، سواء كان مما يتعلق بفعله أو يتعلق بأفعال المخلوقين، وأن قدرته شاملة، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)(فاطر: من الآية44).

(4) وهذه الدرجة تتضمن شيئين؛ المشيئة و الخلق:

- أما المشيئة فيجب أن نؤمن بأن مشيئة الله تعالى نافذة ف يكل شيء، وأن قدرته شاملة لكل شيء من أفعاله وأفعال المخلوقين.

- وأما كونها شاملة لأفعاله ؛ فالأمر فيها ظاهر.

- وأما كونها شاملة لأفعال المخلوقين فلأن الخلق كلهم ملك لله تعالى ، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء.

- والدليل على هذا:

- قوله تعالى : ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)(الأنعام: من الآية149).

- وقوله سبحانه Sadوَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً )(هود: من الآية118).

- وقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)(البقرة: من الآية253).

- فهذه الآيات تدل على أن أفعال العباد متعلقة بمشيئة الله.

- وقال تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )(الإنسان: من الآية30).

- وهذه تدل على أن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله وتابعة لها.

لا يكون في ملكه ما لا يريد (1) وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات (2)......

(1)هذه العبارة تحتاج إلى تفصيل: لا يكون في ملكه ما لا يريد بالإرادة الكونية، أما بالإرادة الشرعية، فيكون في ملكه ما لا يريد.

وحينئذ ؛ نحتاج إلى أن نقسم الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية:

- فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ومثالها قول نوح عليه السلام لقومه: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ )(هود: من الآية34).

- والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، مثلها قوله تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ )(النساء: من الآية27).

- وتختلف الإرادتان في موجبهما وفي متعلقهما:

- ففي المتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع ، سواء أحبه أم كرهه، والإرادة الشرعية تتعلق فيما أحبه، سواء وقع أم لم يقع.

وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد.

وعلي هذا يكون قول المؤلف :" ولا يكون في ملكه ما لا يريد"؛ يعني به: الإرادة الكونية.

* فإن قال قائل : هل المعاصي مرادة لله؟

فالجواب: أما بالإرادة الشرعية؛ فليست مرادة له؛ لأنه لا يحبها، وأما بالإرادة الكونية؛ فهي مرادة له سبحانه؛ لأنها واقعة بمشيئته.

(2)كل شيء؛ فالله قادر عليه من الموجودات؛ فيعدمها أو يغيرها ومن المعدومات ؛ فيوجدها.

فالقدرة تتعلق في الموجود بإيجاده أو إعدامه أو تغييره، وفي المعدوم بإعدامه أو إيجاده.

فمثلاً ، كل موجود ؛ فالله قدر أن يعدمه، وقادر أن يغيره؛ أي: ينقله من حال إلى حال، وكل معدوم؛ فالله قدر على أن يوجده؛ مهما كان؛ كما قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: من الآية20).

· ذكر بعض العلماء استثناء من ذلك، وقال : إلا ذاته؛ فليس عليها بقادر! وزعم أن العقل يدل على ذلك.

فنقول : ماذا تريد بانه غير قادر على ذاته؟

- إن أردت أنه غير قادر على أن يعدم نفسه أو يلحقها نقصاً؛ فنحن نوافقك على أن الله لا يلحقه النقص أو العدم، لكننا لا نوافقك على أن هذا مما تتعلق به القدرة؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالشيء الممكن، أما لاشيء الواجب أو المستحيل ؛ فهذا لا تتعلق به القدرة أصلاً؛ لأن الواجب مستحيل العدم، والمستحيل مستحيل الوجود.

- وإن أردت بقولك: إنه غير قادر على ذاته: أنه غير قادر على أنه يفعل ما يشاء ؛ فلا يقدر أن يجيء أو نحوه! فهذا خطأ ، بل هو قادر على ذلك، وفاعل له، ولو قلنا : إنه ليس بقادر على مثل هذه الأفعال ؛ لكان ذلك من أكبر النقص الممتنع على الله سبحانه.

- وبهذا علم أن هذا الاستدراك من عموم القدرة في غير محله على كل تقدير.

- * وإنما نص المؤلف على هذا رداً على القدرية الذين قالوا: إن الله ليس بقادر على فعل العبد!! وإن العبد مستقل بعمله!

ولكن ما في الكتاب والسنة من شمول قدرة الله يرد عليهم.

فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه (1)..................................

هذ1 صحيح بلا شك ولهذا دليل أثري ودليل نظري:

- أما الدليل الأثري: فقد قال الله تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء)(الزمر: من الآية62).

وقال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور:36)

فلا يمكن أن يوجد شيء في السماء والأرض إلا الله خالقه وحده.

ولقد تحدى الله العابدين للأصنام تحدياً أمرنا أن نستمع له ، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً )، ومعلوم أن الذين يدعون من دون الله في القمة عندهم؛ لأنهم اتخذوا أرباباً ؛ فإذا عجز هؤلاء القمة عن أن يخلقوا ذباباً ، وهو أحس الأشياء وأهونها؛ فما فوقه من باب أولى، بل قال: )هُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه)(الحج: من الآية73) ؛ فيعجزون حتى عن مدافعة الذباب وأخذ حقهم منه.

فإن قيل: كيف يسلب هذه الأصنام شيئاً؟!

فالجواب: قال بعض العلماء : إن هذا على سبيل الفرض؛ يعني: على فرض أن يسلبهم الذباب شيئاً؛ لا يستنقذوه منه. وقال بعضهم : بل على سبيل الواقع؛ فيقع الذباب على هذه الأصنام ، ويمتص ما فيها من أطياب؛ فلا تستطيع الأصنام أن تخرج ما امتصه الذباب.

وإذا كانت عاجزة عن الدفع عن نفسها ، واستنقاذ حقها؛ فهي عن الدفع عن غيرها واستنقاذ حقه أعجز.

والمهم أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن لا خالق إلا الله ، فيجب الإيمان بعموم خلق الله عز وجل ، وأنه خالق كل شي، حتى أعمال العباد؛ لقوله تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء)(الرعد(16)، وعمل الإنسان من الشيء، وقال تعالى ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2) ... والآيات في هذا كثيرة.

وفيه آية خاصة في الموضوع، وهو خلق أفعال العباد.

فقال إبراهيم لقومه (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) .

ف (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: خلقكم وعملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى.

فإن قيل : إلا يحتمل أن تكون(ما) اسماً موصولاً، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟

فكيف يمكن أن نقول إن الآية دليلاً على خلق أفعال العباد على هذا التقدير أن (ما) موصولة؟

فالجواب: أنه إذا كان المعمول مخلوقاً لله ؛ لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقاً؛ لأن المعمول كان بعمل الإنسان ؛ فالإنسان هو الذي باشر العمل في المعمول ، فإذا كان المعمول مخلوقاً لله وهو فعل العبد؛ لزم أن يكون فعل العبد مخلوق ، فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين.

- وأما الدليل النظري على أن أفعال العبد مخلوقة لله؛ فتقريره أن نقول : إن فعل العبد ناشئ عن أمرين: عزيمة صادقة وقدرة تامة.

مثال ذلك: أردت أن اعمل عملاً من الأعمال ؛ فلا يوجد هذا العمل حتى يكون مسبوقاً بأمرين هما:

إحداهما : العزيمة الصادقة على فعله ؛ لأنك لو لم تعزم ما فعلته.

الثاني: القدرة التامة ؛ لأنك لو لم تقدر ؛ ما فعلته؛ فالذي خلق فيك هذه القدرة هو الله عز وجل، وهو الذي أودع فيك العزيمة، وخالق السبب التام خالق للمسبب.

ووجه ثان نظري: أن نقول: الفعل وصف الفاعل ، والوصف تابع للموصوف؛ فكما أن الإنسان بذاته مخلوق لله ؛ فأفعاله مخلوقة؛ لأن الصفة تابعة للموصوف.

فتبين بالدليل أن عمل الإنسان مخلوق لله، وداخل في عموم الخلق أثرياً ونظرياً، والدليل الأثري قسمان عام وخاص، والدليل النظري له وجهان.

لا خالق غيره (1)......................................................................................

(1)قوله :" لا خالق غيره":

* إن قلت : هذا الحصر يرد عليه أن هناك خلقاً غير الله ؛ فالمصور يعد نفسه خالقاً، بل جاء في الحديث[282] أنه خالق:" فغن المصورين يعذبون ؛ يقال لهم : أحيوا ما خلقتم"، وقال عز وجل: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(المؤمنون: من الآية14)؛ فهناك خالق، لكن الله تعالى هو أحسن الخالقين؛ فما الجواب عن قول المؤلف؟

الجواب: أن الخلق الذي ننسبه إلى الله عز وجل هو الإيجاد وتبديل الأعيان من عين لأخرى؛ فلا أحد يوجد إلا الله عز وجل، ولا أحد يبدل عيناً إلى عين؛ إلا الله عز وجل، وما قيل : إنه خلق؛ بالنسبة للمخلوق؛ فهو عبارة عن تحويل شيء من صفى إلى صفة؛ فالخشية مثلاً بدلاً من أن كانت في الشجرة تحول بالنجارة إلى باب؛ فتحويلها على باب يسمى خلقاً، لكنه ليس الخلق الذي يختص به الخالق، وهو الإيجاد من العدم، أو تبديل العين من عين إلى أخرى.

ولا رب سواه (1)......................................................................................

(1)أي: أن الله وحده هو الرب المدبر لجميع الأمور، وهذا حصر حقيقي.

ولكن ربما يرد عليه أنه جاء في الأحاديث إثبات الربوبية لغير الله :

ففي لقطة الإبل قال النبي صلى الله عليه وسلم :" دعها ؛ معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها "[283] وربها : صاحبها.

وجاء في بعض ألفاظ حديث جبريل ؛ يقول :" حتى تلد الأمة ربها "[284]

فما هو الجمع بين هذا وبين قول المؤلف :" لا رب سواه"

نقول : إن ربوبية الله عامة كاملة؛ كل شيء؛ فالله ربه ، لا يسأل عما يفعل في خلقه؛ لأن فعله كله رحمة وحكمة، ولهذا يقدر الله عز وجل الجدب والمرض والموت والجروح في الإنسان وفي الحيوان، ونقول هذا غية الكمال والحكمة. أما ربوبية الخلوق للمخلوق؛ فربوبية ناقصة قاصة ، لا تتجاوز محلها ، ولا يتصرف فيها الإنسان تصرفاً تاماً/ بل تصرفه مقيد: أما بالشرع ، وإما بالعرف.

ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته (1) وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين (2)............................................................................

(1)يعني: ومع عموم خلقه : ومع عموم خلقه وربوبيته لم يترك العباد هملاً، ولم يرفع عنهم الاختيار ، بل أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته.

وأمره بذلك أمر يمكن؛ فالمأمور مخلوق لله عز وجل ، وفعله مخلوق لله ، ومع ذلك ؛ يؤمر وينهى.

ول كان الإنسان مجبراً على عمله ؛ لكان أمره أمراً بغير ممكن، والله عز وجل يقول : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286)، وهذا يدل على أنهم قادرون على فعل الطاعة وعلى تجنب المعصية ، وأنهم غير مكرهين على ذلك.

(1)يعني أن الله عز وجل يحب المحسنين؛ لقوله تعالى : (ِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة: من الآية195)، والمتقين ، لقوله : (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(التوبة: من الآية7)والمقسطين؛ لقوله(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الحجرات: من الآية9).

فهو عز وجل يحب هؤلاء، ومع ذلك هو الذي قدر هلم هذا العمل الذي يحبه، فكان فعلهم محبوباً إلى الله مراداً له كوناً وشرعاً؛ فالمحسن قام بالواجب والمندوب، والمتقي قام بالواجب، والمقسط أتقى الجور في المعاملة.

( ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات (1) ولا يحب الكافرين (2) ولا يرضى عن القوم الفاسقين (3 )………………………….………………

(1) الدليل قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة:100)، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (7) (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة:7-Cool.

(2) قوله : " لا يحب" الله عز وجل " الكافرين".

والدليل قوله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)(آل عمران: من الآية32) .

مع أن الكفر واقع بمشيئته ، لكن لا يلزم من وقوعه بمشيئته ، أن يكون محبوباً له سبحانه وتعالى.

(3) الدليل قوله تعالى : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(التوبة: من الآية96).

والفاسق- وهو الخارج عن طاعة الله – قد يراد به الكافر، وقد يراد به العاصي.

- ففي قوله تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (18)(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (19)(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (السجدة:18-20) فالمراد بالفاسق الكافر.

وأما قوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)(الحجرات: من الآية6) ؛ فالمراد بالفاسق العاصي.

فالله عز وجل لا يرضى عن القوم الفاسقين، لا هؤلاء ولا هؤلاء، لكن الفاسقين بمعنى الكافرين لا يرضى عنهم مطلقاً، وأما الفاسقون بمعنى العصاة؛ فلا يرضى عنهم فيما فسقوا فيه، ويرضى عنهم فيما أطاعوا فيه.

ولا يأمر بالفحشاء (1) ولا يرضى لعباده الكفر (2)......................................................

(1) الدليل قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) ؛لأنهم إذا فعلوا فاحشة: ( قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ؛ فاحتجوا بأمرين، فقال الله تعالى ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، وسكت عن قولهم : (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) لأنه حق لا ينكر، لكن (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) كذب، ولهذا كذبهم وأمر نبيه أن يقول: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ولم يقل : ولم يجدوا عليها آباءهم؛ لأنهم قد وجدوا عليها آباءهم.

(2) لقوله تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ )(الزمر: من الآية7) ،لكن يقدر أن يكفروا ، ولا يلزم من تقديره الكفر أن يكون راضياً به سبحانه وتعالى، بل يقدره وهو يكرهه ويسخطه.

ولا يحب الفساد (1).....................................................................................

(1)دليل ذلك قوله تعالى : ()وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205) .

كرر المؤلف مثل هذه العبارات ليبين انه لا يلزم من إرادته الشيء أن يكون محبوباً له ، ولا يلزم من كراهته للشيء أن لا يكون مراداً له بالإرادة الكونية ، بل هو عز وجل يكره الشيء ويريده بالإرادة الكونية، ويوقع الشيء ولا يرضى عنه، ولا يريده بالإرادة الشرعية.

فإن قلت : كيف يوقع ما لا يرضاه وما لا يحبه؟! وهل أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه؟!

فالجواب: لا أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه، وهذا الذي يقع من فعله عز وجل وهو مكروه له ، وهو مكروه له من وجه، ومحبوب له من وجه آخر؛ لما يترتب عليه من المصالح العظيمة.

فمثلاً ؛ الإيمان محبوب لله ، والكفر مكروه له، فأوقع الكفر وهو مكروه له ؛ لمصالح عظيمة؛ لأنه لولا وجود الكفر؛ ما عرف الإيمان ، ولو لا وجود الكفر ؛ ما عرف الإنسان قدر نعمة الله عليه بالإيمان، ولولا وجود الكفر ؛ ما قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس كلهم يكونون على المعروف، ولولا وجود الكفر ؛ ما قام الجهاد، ولولا وجود الكفر لكان خلق النار عبثاً؛ لأن النار مثوى الكافرين، ولولا وجود الكفر؛ لكان الناس أمة واحدة، ولم يعرفوا معروفاً ولم ينكروا منكراً، وهذا لاشك أنه مخل بالمجتمع الإنساني، ولولا وجود الكفر ؛ ما عرفت ولاية الله ؛ لأن من ولاية الله أن تبعض أعداء الله وأن تحب أولياء الله.

وكذلك يقال في الصحة والمرض؛ فالصحة محبوبة للإنسان؛ وملائمة له ، ورحمة الله تعالى فيها ظاهرة ، لكن المرض مكروه للإنسان، وقد يكون عقوبة من الله له، ومع ذلك يوقعه؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة.

كم من إنسان إذا أسبغ الله عليه النعمة بالبدن والمال والولد والبيت والمركوب؛ ترفع ورأى أنه مستغن بما أنعم الله به عليه عن طاعة الله عز وجل؛ كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى)(6)(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7)، وهذه مفسدة عظيمة؛ فإذا أراد الله أن يرد هذا الإنسان إلى مكانه ؛ ابتلاه ، حتى يرجع إلى الله ، وشاهد هذا قوله تعالى Sadظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) .

وأنت إيها الإنسان إذا فكرت هذا التفكير الصحيح في تقديرات الله عز وجل؛ عرفت ما له سبحانه وتعالى من الحكمة فيما يقدره من خير أو شر ، وأن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يكرهه ويقدر ما يكرهه لمصالح عظيمة؛ قد تحيط بها ، وقد لا تحيط بها ويحيط بها غيرك، وقد لا يحيط بها ولا أنت ولا غيرك.

فإن قيل: كيف يكون الشيء مكروهاً لله ومراداً له؟

فالجواب: أنه لا غرابة في ذلك ؛ فها هو الدواء المر طعماً، والخبيث رائحة يتناوله المريض وهو مرتاح؛ لما يترتب عليه من مصلحة الشفاء، وها هو الأب يمسك بابنه المريض ليكويه الطبيب ، وربما كواه هو بنفسه، مع أنه يكره أشد الكره أن يحرق ابنه بالنار.

والعباد فاعلون حقيقة ، والله خالق أفعالهم (1).........................................................

(1)هذا صحيح ؛ فالعبد هو المباشر لفعله حقيقة، والله خالق فعله حقيقة، وهذه عقيدة أهل السنة، وقد سبق تقريرها بالأدلة.

وخالفهم في هذا الأصل طائفتان:

الطائفة الأولى: القدرية من المعتزلة وغيرهم ؛ قالوا إن العباد فاعلون حقيقة ، والله لم يخلق أفعالهم .

الطائفة الثانية : الجبرية من الجهمية وغيرهم ؛ قالوا : إن الله خالق أفعالهم ، وليسوا فاعلين حقيقة، لكن أضيف الفعل إليهم من باب التجوز ، وإلا فالفاعل حقيقة هو الله.

وهذا القول يؤدي إلى القول بوحدة الوجود، وأن الخالق هو الله ، ثم يؤذي إلي قول من أبطل الباطل، لأن العباد منهم الزاني ومنهم السارق ومنهم شار بالخمر ومنهم المعتدي بالظلم؛ فحاشا أن تكون هذه الأفعال منسوبة إلى الله !! وله لوازم باطلة أخرى.

* وبهذا تبين أن في قول المؤلف :" والعباد فاعلون حقيقة ، والله خالق أفعالهم ": رداً على الجبرية والقدرية.

والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم (1).....................................

(1) يعني : أن الوصف بالإيمان والكفر والبر والفجور والصلاة والصيام وصف للعبد ، لا لغيره ؛ فهو المؤمن وهو الكافر، وهو البار، وهو الفاجر، وهو المصلي، وهو الصائم... وكذلك هو المزكي، وهو الحاج ، وهو المعتمر... وهكذا ، ولا يمكن أن يوصف بما ليس من فعله حقيقة.

وهذه الجملة تتضمن الرد على الجبرية.

والمراد بالعبودية هنا العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عامة وخاصة:

- فالعامة: هي الخضوع لأمر الله الكوني؛ كقوله تعالى : (ِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93).

- والعبودية الخاصة : هي الخضوع لأمر الله الشرعي، وهي خاصة بالمؤمنين ؛ كقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً )(الفرقان: من الآية63)، وقوله : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ )(الفرقان: من الآية1)وهذه أخص من الأولى.

- وللعباد قدرة على أعمالهم ، ولهم إرادة(1) ، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم (2)..................

(1) قوله :" وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة"؛ خلافاً للجبرية القائلين بأنهم لا قدرة لهم ولا إرادة ، بل هم مجبرون عليها.

(2) قوله :" والله خالقهم وخالق إرادتهم وقدرتهم"؛ خلافاً للقدرية القائلين بأن الله ليس خالقاً لفعل العبد ولا لإرادته وقدرته.

* وكان المؤلف يشير بهذه العبارة إلى وجه كون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى ؛ بأن فعله صادر عن قدرة وإرادة ، وخالق القدرة والإرادة هو الله؛ وما صدر عن مخلوق ، فهو مخلوق.

ويشير بها أيضاً إلى كون فعل العبد اختيارياً لا إجبارياً ؛ لأنه صادر عن قدرة وإرادة ؛ فلو لا القدرة والإرادة ؛ لم يصدر منه الفعل ، ولولا الإرادة ؛ لم يصدر منه الفعل ، لو كان الفعل إجبارياً ، ما كان من شرطه القدرة والإرادة.

كما قال تعالى )لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (1) وهذه الدرجة من القدر (2) يكذب بها عامة القدرية (3) الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة (4) ويغلو فيها (5) قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره (6)...............................

(1) ثم استدل المؤلف لذلك ، فقال " كما قال الله تعالى (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28-29).

فقوله : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)فيها رد على الجبرية.

وفي قوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ) : رد على القدرية.

(2) أي: درجة المشيئة والخلق.

(3) أي: أكثرهم يكذبون بهذه الدرجة ، ويقولون إن الإنسان مستقل بعمله ، وليس لله فيه مشيئة ولا خلق.

(4)لأن المجوس يقولون: إن للحوادث خالقين : خالقاً للخير، وخالقاً للشر! فخالق الخير هو النور، وخالق الشر هو الظلمة؛ فالقدرية يشبهون هؤلاء المجوس من وجه؛ لأنهم يقولون: إن الحوادث نوعان: حوادث من فعل الله ؛ فهذه خلق الله ، وحوادث من فعل العباد ؛ فهذه للعباد استقلالاً ، وليس لله تعالى فيها خلق.

(5) أي: في هذه الدرجة.

(6) أي: إثبات القدر.

· وهؤلاء القوم هم الجبرية؛ حيث إنهم سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إنه مجبر على عمله؛ لأنه مكتوب عليه.

ويخرجون عن أفعال الله و أحكامه حكمها ومصالحها (1)..............................................

(1)قوله :" ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها " يخرجون" :معطوفة على قوله :" يغلو".

* ووجه كونهم يخرجون الحكم والمصالح عن أفعال الله وأحكامه أنهم لا يثبتون لله حكمة أو مصلحة؛ فهو يفعل ويحكم لمجرد مشيئته، ولهذا يثيب المطيع، وإن كان مجبراً على الفعل ، ويعاقب العاصي، وإن كان مجبراً على الفعل .

ومن المعلوم أن المجبر لا يستحق الحمد على محمود، ولا الذم على مذموم؛ لأنه بغير اختياره.

*وهنا مسألة يحتج بها كثير من العصاة: إذا أنكرت علي المنكر؛ قال : هذا هو ما قدره الله على ؛ أتعترض على الله؟! فيحتج بالقدر على معاصي الله ، ويقول : أنا عبد مسير! ثم يحتج أيضاً بحديث :" تحاج آدم وموسى ، فقال له موسى: أنت أبونا ، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟! فقال له آدم: أن موسى اصطفاك الله بكلامه ، وكتب لك التوراة بيده! أتلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟!" قال النبي عليه الصلاة والسلام :" فحج آدم موسى" ؛ قالها ثلاثً [285] وعند أحمد " فحجه آدم[286]" وهي صريحة في أن آدم غلب موسى بالحجة .

قال : فهذا آدم لما اعترض عليه موسى؛ احتج عليه بالقدر ، وآدم نبي، وموسى رسول، فسكت موسى؛ فلماذا تحتج عليَّ؟

والجواب على حديث آدم:

- أما على رأي القدرية؛ فإن طريقتهم أن أخبار الآحاد لا توجب اليقين؛ قالوا: وإذا عرضت العقل؛ وجب أن ترد وبناء على ذلك قالوا: هذا لا يصح ولا نقبله ولا نسلم به.

- وأما الجبرية ؛ فقالوا : إن هذا هو الدليل ، ودلالته حق، ولا يلام العبد على ما قدر عليه.

- أما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا : إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب وصار ذنبه سبباً لخروجه من الجنة ، لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه اله وتاب عليه وهداه، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن المحال أن موسى علي الصلاة والسلام- وهو أحد أولي العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه، ونما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله، هي إخراج الناس ونفسه من الجنة؛ فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم ؛ على أن آدم عليه الصلاة والسلام لا شك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام؛ فكيف يلومه موسى؟!

وهذا وجه ظاهر في أن موسى علي السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله ، وحينئذ يتبين أنه لا حجة بهذا الحديث للجبرية.

فنحن نقبله ولا ننكره كما فعل القدري، ولكننا لا نحتج به على المعصية ؛ كما فعل الجبري.

وهناك جواب آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله ، وقال : الإنسان إذا فعل المعصية واحتج بالقدر عليها بعد التوبة منها؛ فلا بأس به.

ومعناه : أنه لو لامك أحد على فعل المعصية بعد أن تبت منها ، وقلت : هذا بقضاء الله وقدره، واستغفر الله وأتوب إليه... وما أشبه ذلك؛ فإنه لا حرج عليك في هذا.

فآدم احتج بالقدر بعد أن تاب منه، وهذا لا شك أنه وجه حسن، لكن يبعده أن موسى لا يمكن أن يلوم آدم على معصية تاب منها.

ورجح ابن القيم قوله هذا بما جرى للنبي عليه الصلاة والسلام حين طرق علياً وفاطمة رضي الله عنهما ليلة، فقال :" ألا تصليان؟" فقال على رضي الله عنه: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله؛ فإن شاء أن يبعثنا ؛ بعثنا . فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم يضرب فخذه وهو يقول: (وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(الكهف: من الآية54).

وعندي إن في الاستدلال بهذا الحديث نظراً؛ لأن علياً رضي الله عنه احتج بالقدر على نومه، والإنسان النائم له أن يحتج بالقدر؛ لأن فعله لا ينسب إليه، ولهذا قال الله تعالى في أصحاب الكهف ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ )(الكهف: من الآية18)؛ فنسب التقليب إليه ، مع أهم هم الذين يتقلبون ، لكن لما كان بغير إرادة منهم؛ لم يضفه إليهم.

والوجه الأول في الجواب عن حديث آدم وموسى- وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية- هو الصواب.

فإذاً ؛ لا حجة للجبري بهذا الحديث ولا للعصاة الذين يحتجون بهذا الحديث لاحتجاجهم بالقدر.

فنقول له : إن احتجاجك بالقدر على المعاصي يبطله السمع والعقل والواقع.

- فأما السمع؛ فقد قال الله تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا )(الأنعام: من الآية148)؛ وقالوا ذلك احتجاجاً بالقدر على المعصية فقال الله تعالى : (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )؛ يعني : كذبوا الرسل واحتجوا بالقدر (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) ، وهذا يدل على أن حجتهم باطلة ؛ إذ لو كانت حجة مقبولة ؛ ما ذاقوا بأس الله.

- ودليل سمعي آخر: قال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)(النساء: من الآية163) إلى قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: من الآية165) ، ووجه الدلالة من هذه الآية أنه لو كان القدر حجة؛ ما بطلت بإرسال الرسل وذلك لأن القدر لا يبطل بإرسال الرسل ، بل هو باق.

فإذا قال قائل: يرد عليك في الدليل الأول قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعامSadاتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام:106-107)؛ فهنا قال الله تعالى : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) فنقول إن قول الإنسان عن الكفار : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) قول صحيح وجائز، لكن قول المشرك : (مَا أَشْرَكْنَا )(الانعام : 148) يريد أن يحتج بالقدر على المعصية قول باطل ، والله عز وجل إنما قال لرسلوه هكذا تسلية له وبياناً أن ما وقع فهو بمشيئة الله.

أما الدليل العقلي على بطلان احتجاج العاصي بالقدر على معصية الله أن نقول له : ما الذي أعلمك بأن الله قدر لك أن تعصيه قبل أن تعصيه؟ فنحن جميعاً لا نعلم ما قدر الله إلا بعد أن يقع ؛ أما قبل أن يقع ، فلا ندري ماذا يراد بنا؛ فنقول للعاصي : هل عندك علم قبل أن تمارس المعصية أن الله قدر لك المعصية ؟ سيقول: لا . فنقول: إذاً لماذا لم تقدر أن الله قدر لك الطاعة وتطع الله ؛ فالباب أمامك مفتوح ، فلماذا لم تدخل من الباب الذي تراه مصلحة لك؛ لأنك لا تعلم ما قدر لك. واحتجاج الإنسان بحجة على أمر فعله قبل أن تتقدم حجته على فعله احتجاج باطل؛ لأن الحجة لابد أن تكون طريقاً يمشي به الإنسان ؛ إذ أن الدليل يتقدم المدلول.

ونقول له أيضا : الست لو ذكر لك أن لمكة طريقين أحدهما طريق معبد آمن، والثاني طريق صعب مخوف؛ ألست تسلك الآمن؟ سيقول : بلى. فنقول : إذا ً ؛ لماذا تسلك في عبادتك الطريق المخوف المحفوف بالأخطار ، وتدع الطريق الآمن الذي تكفل الله تعالى بالأمن لمن سلكه فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ )(الأنعام: من الآية82)، وهذه حجة واضحة.

ونقول له : لو أعلنت الحكومة عن وظيفتين: إحداهما بالمرتبة العالية، والثانية بالمرتبة السفلي؛ فأيهما تريد؟ بلا شك سيرد المرتبة العالية، وهذا يدل على أنك تأخذ بالأكمل في أمور دنياك ؛ فلماذا لم تأخذ بالأكمل في أمور دينك ؟! وهل هذا إلا تناقض منك؟!

وبهذا يتبين انه لا وجه أبداً لاحتجاج العاصي بالقدر على معصية الله عز وجل.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:51 am

فصل

في الإيمان

فصل

ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين (1) والإيمان (2)................................

(1) "الدين" هو ما يدان به الإنسان ، أو يدين به؛ فيطلق عل العمل ويطلق على الجزاء.

ففي قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(الانفطار: 18-1) ؛ فالمراد بالدين في هذه الآية : الجزاء.

وفي قوله تعالى: )وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )(المائدة: من الآية3)؛ أي : عملاً تتقربون به إلى الله .

ويقال : كما تدين تدان ؛ أي : كما تعمل تجازى

والمراد بالدين في كلام المؤلف : العمل.

(2) *(الإيمان)؛ أكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في اللغة التصديق.

ولكن في هذا نظر ؛ لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديتها ، ومعلوم أن التصديق بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فتقول مثلاً: صدقته، ولا تقول : آمنته! بل تقول : آمنت به: أو : آمنت له . فلا يمكن أن نفسر فعلاً لازماً لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به نفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت)؛ فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت).

ولهذا ؛ لو فسر الإيمان بالإقرار ؛ لكان أجود ؛ فنقول : الإيمان : الإقرار ، ولا إقرار إلا بتصديق ؛ فتقول : أقر به ؛ كما تقول : آمن به، وأقر به؛ كما تقول : آمن له. هذا في اللغة.

قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح (1)...................................

(1) وأما في الشرع ؛ فقال المؤلف : " قول وعمل"

وهذا تعريف مجمل فصله المؤلف بقوله :" قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".

· فجعل المؤلف للقلب قولاً وعملاً، وجعل للسان قولاً وعملاً.

- أما قول اللسان؛ فالأمر فيه واضح ، وهو النطق، وأما عمله ؛ فحركاته ، وليست هي النطق، بل النطق ناشئ عنها إن سلمت من الخرس.

- وأما قول القلب ؛ فهو اعترافه وتصديقه .وأما عمله ؛ فهو عبارة عن تحركه وإرادته؛ مثل الإخلاص في العمل؛ فهذا عمل قلب، وكذلك التوكل والرجاء والخوف؛ فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب، بل هناك حركة في القلب.

- وأما عمل الجوارح ؛ فواضح ركوع، وسجود ، وقيام ، وقعود، فيكون عمل الجوارح إيماناً شرعاً؛ لأن الحامل لهذا العمل هو الإيمان.

- فإذا قال قائل: أين الدليل على أن الإيمان يشمل هذه الأشياء؟

قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره[287] "فهذا قول القلب . أما عمل القلب واللسان والجوارح ؛ فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها : قول : لا أله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" [288]فهذا قول اللسان وعمله وعمل الجوارح ، والحياء عمل قلبي، وهو انكسار يصيب الإنسان ويعتريه عند وجود ما يستلزم الحياء .

- فتبين بهذا أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعاً.

- ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم)(البقرة: من الآية143)؛ قال المفسرون: إي : صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فسمى الله تعالى الصلاة إيماناً؛ مع أنها عمل جوارح وعمل قلب وقول لسان.

- هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.

· وشموله لهذه الأشياء الأربعة لا يعني أنه لا يتم إلا بها ، بل قد يكون الإنسان مؤمناً مع تخلف بعض الأعمال ، لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله.

· وخالف أهل السنة في هذا طائفتان بدعيتان متطرفتان:

· الطائفة الأولى: المرجئة يقولون: إن الإيمان هو الإقرار بالقلب ، وما عدا ذلك ؛ فليس من الإيمان.

ولهذا كان ا لإيمان لا يزيد ولا ينقص عندهم ؛ لأنه إقرار القلب ، والناس فيه سواء ؛ فالإنسان الذي يعبد الله آناء الليل والنهار كالذي يعصي الله آناء الليل والنهار عندهم، ما دامت معصيته لا تخرجه من الدين!!

فلو وجدنا رجلاً يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعتدي على الناس، ورجلاً آخر متقياً لله بعيداً عن هذه الأشياء كلها ؛ لكانا عند المرجئة في الإيمان والرجاء سواء؛ كل منهما لا يعذب؛ لأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.

الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة؛ قالوا: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وإنها شرط في بقائه، فمن فعل معصيته من الكبائر خرج من الإيمان . لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين منزلتين؛ فلا نقول : مؤمن ، ولا نقول : كافر ، بل نقول: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين منزلتين.

هذه أقوال الناس في الإيمان.

وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (1).........................................................

(1)هذا معطوف على قوله :" أن الدين..." الخ... أي: أن من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.

ويستدلون لذلك بأدلة من الكتاب والسنة

فمن الكتاب : قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(التوبة: من الآية124)، وقوله تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا)(المدثر: من الآية31)، وهذا صريح في ثبوت الزيادة.

وأما النقص؛ قد ثبت في "الصحيحين"[289] أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ النساء وقال لهن:" ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من أحدكن" فأثبت نقص الدين.

ثم لو فرض أنه لم يوجد نص في ثبوت النقص؛ فإن إثبات الزيادة مستلزم للنقص؛ فنقول : كل نص يدل على زيادة الإيمان؛ فإنه متضمن للدلالة على نقصه.

وأسباب زيادة الإيمان أربعة:

الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته ؛ فإنه كلما ازداد الإنسان معرفة بالله وأسمائه وصفاته؛ أزداد إيمانه.

الثاني: النظر في آيات الله الكونية والشرعية:

قال الله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:17-20)

وقال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)

وكلما ازداد الإنسان علماً بما أودع الله تعالى في الكون من عجائب المخلوقات ومن الحكم البالغات ؛ ازداد إيماناً بالله عز وجل، كذلك النظر في آيات الله الشرعية يزداد الإنسان إيماناً بالله عز وجل ؛ لأنك إذا نظرت إلى الآيات الشرعية، وهي الأحكام التي جاءت بها الرسل؛ وجدت فيها ما يبهر العقول من الحكم البالغة والأسرار العظيمة التي تعرف بها أن هذه الشريعة نزلت من عند الله ، وأنها مبنية على العدل والرحمة، فتزداد بذلك إيماناً.

الثالث: كثرة الطاعات وإحسانها؛ لأن الأعمال داخلة في الإيمان وإذا كانت داخلة فيه؛ لزم من ذلك أن يزيد بكثرتها.

السبب الرابع: ترك المعصية تقرباً إلى الله عز وجل؛ فإن الإنسان يزداد بذلك إيماناً بالله عز وجل.

· أسباب نقص الإيمان أربعة:

الأول : الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.

الثاني: الإعراض عن النظر في الآيات الكونية والشرعية؛ فإن هذا يوجب الغفلة وقسوة القلب.

الثالث: قلة العمل الصالح، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن".

قالوا : يا رسول الله ! كيف نقصان دينها؟ قال :" أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟"[290]

الرابع: فعل المعاصي؛ لقوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14).

· وخالف أهل السنة والجماعة في القول بالزيادة والنقصان طائفتان: الطائفة الأولى المرجئة، والطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة.

الطائفة الأولى: المرجئة : قالوا : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، حتى يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها ؛ فالإيمان هو إقرار القلب، والإقرار لا يزيد ولا ينقص.

ونحن نرد عليهم فنقول:

أولاً: إخراجكم الأعمال من الإيمان ليس بصحيح ؛ فإن الأعمال داخلة في الإيمان ، وقد سبق ذكر الدليل.

ثانياً : قولكم : إن الإقرار بالقلب يقبل التفاضل؛ فإقرار القلب بخبر الواحد ليس كإقراره بخبر اثنين، وإقراره بما سمع ليس كإقراره بما شاهد ألم تسمعوا قول إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(البقرة: من الآية260)؛ فهذا دليل على أن الإيمان الكائن في القلب يقبل الزيادة والنقص.

ولهذا قسم العلماء درجات اليقين ثلاثة أقسام : علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛ قال الله تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 5-7)، وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (الحاقة:51) .

الطائفة الثانية المخالفة لأهل السنة طائفة الوعيدية، وهم الخوارج والمعتزلة، وسمعوا وعيدية؛ لأنهم يقولون بأحكام الوعيد دون أحكام الوعد؛ أي : يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد ، فيخرجون فاعل الكبيرة من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه خارج من الإيمان داخل الكفر، والمعتزلة يقولون: خارج من الإيمان غير داخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين.

ومناقشة هاتين الطائفتين المرجئة والوعيدية في الكتب المطولات.

وهم منع ذلك (1) لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر (2) كما يفعله الخوارج (3) بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه في آية القصاص: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ )(2).............................................................................................

(1) أي: مع قولهم : إن الإيمان قول وعمل.

(2)* أهل القبلة هم المسلمون، وإن كانوا عصاة ؛ لأنهم يستقبلون قبلة واحدة ، وهي الكعبة.

· فالمسلم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر بمطلق المعاصي والكبائر.

· وتأمل قول المؤلف :" بمطلق المعاصي"، ولم يقل : بالمعاصي والكبائر؛ لأن المعاصي منها ما يكون كفراً ، وأما مطلق المعصية؛ فلا يكون كفراً.

والفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء: أن الشيء المطلق يعني الكمال، ومطلق الشيء؛ يعني : أصل الشيء.

فالمؤمن الفاعل للكبيرة عنده مطلق الإيمان؛ فأصل الإيمان موجود عنده لكن كماله مفقود.

فكلام المؤلف رحمه الله دقيق جداً.

(3) يعني: الذين يقولون : إن فاعل الكبيرة كافر، ولهذا خرجوا على المسلمين ، واستباحوا دماءهم وأموالهم .

(4) يعني : أن الأخوة بين المؤمنين ثابتة ول مع المعصية ؛ فالزاني أخ للعفيف، والسارق أخ للمسروق منه، والقاتل أخ للمقتول، ثم استدل المؤلف لذلك فقال:" كما قال سبحانه في آية القصاص: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف)(البقرة: من الآية178).

* آية القصاص هي قوله تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى..........)(إلى قوله( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء)الآية والمراد ب "أخيه" هو المقتول.

ووجه الدلالة من هذه الآية على أن فاعل الكبيرة لا يكفر أن الله سمى المقتول أخاً للقاتل، مع أن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب.

وقال : ()وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(1)...........................................................................

(1) هذا دليل آخر لقول أهل السنة: إن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان.

* (اقتتلوا) جمع، و ( بينهما ) مثنى، و (طائفتان) مثنى؛ فكيف يكون مثنى وجمع ومثنى آخر والمرجع واحد؟!

نقول : لأن قوله : "طائفتان": الطائفة عدد كبير من الناس، فيصح أن أقول : اقتتلوا، وشاهد هذا قوله تعالىSad وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ )(النساء: من الآية102) ، ولم يقل : لم تصل. فالطائفة أمة وجماعة، ولهذا عاد الضمير إليها جمعاً فيكون الضمير في قوله " اقتتلوا" عائداً على المعنى، وف يقوله : " بينهما" عائداً على اللفظ.

فهاتان الطائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، وحمل السلاح بعضهم على بعض، وقتال المؤمن للمؤمن كفر، ومع هذا قال الله تعالى بعد أن أمر بالصلح بينهما للطائفة الثالثة التي لم تدخل القتال )وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات 9-10)، فجعل الله تعالى الطائفة المصلحة إخوة للطائفتين المقتتلتين.

وعلى هذا ؛ ففي الآية دليل على أن الكبائر لا تخرج من الإيمان.

وعلى هذا؛ لو مررت بصاحب كبيرة؛ فإني أسلم عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من حقوق المسلم على المسلم" إذا لقيته فسلم عليه" [291]، وهذا الرجل ما زال مسلماً، فأسلم عليه ؛ إلا إذا كان في هجرة مصلحة؛ فحينئذ أهجره للمصلحة؛ كما جرى لكعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم "[292].

· وهل نحبه على سبيل الإطلاق أو نكرهه على سبيل الإطلاق ؟

نقول : لا هذا ولا هذا؛ نحبه بما معه من الإيمان ، ونكرهه بما معه من المعاصي، وهذا هو العدل.

ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية (1)............................................................

(1) "الفاسق" هو الخارج عن الطاعة.

· والفسق- كما أشرنا غليه سابقاً – ينقسم إلى فسق أكبر مخرج عن الإسلام ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ )(السجدة: من الآية20)، وفسق أصغر ليس مخرجاً عن الإسلام؛ كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) (الحجرات:6)

· والفاسق الذي لا يخرج من الإسلام هو الفاسق المالي، وهو من فعل كبيرة، أو أصر على صغيرة.

ولهذا قال المؤلف : "الملي"؛ يعني: المنتسب إلى الملة الذي لم يخرج منها.

فأهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية؛ فلا يمكن أن يقولوا : إن هذا ليس بمسلم ، لكن يمكن أن يقولوا: إن هذا ناقص الإسلام أو ناقص الإيمان.

ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة(1) بل الفاسق يدخل في أسم الإيمان المطلق(2) كما في قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ )(3 )........................................................................

(1) قوله: لا يخلدونه في النار): معطوف على قوله : "ولا يسلبون ": وعلى هذا يكون قوله :" كما تقول المعتزلة": عائداً للأمرين؛ لأن المعتزلة يسلبونه الإسلام ويخلدونه في النار، وإن كانوا لا يطلقون عليه الكفر.

(2) مراد المؤلف ب " المطلق" هنا ؛ يعني: إذا أطلق الإيمان ؛ فالوصف يعود إلى الاسم لا إلى الإيمان؛ كما سيتبين من كلام المؤلف رحمه الله ؛ فيكون المراد به مطلق الإيمان الشامل للفاسق والعدل.

(3) قوله :" كما في قوله : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ )(النساء:92)؛ فإن المؤمنة هنا يدخل فيه الفاسق.

فلو أن إنساناً اشترى رقيقاً فاسقاً وأعتقه في كفارة؛ أجزئه؛ مع أن الله قال: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)؛ فكلمة (مؤمنة) تشمل الفاسق وغيره.

وقد لا يدخل في أسم الإيمان المطلق (1) كما في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناًَ) (2) وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن (3)........................................................................

(1)أي : في مطلق أسم الإيمان.

قوله :" كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)(الأنفال:2) ؛ ف ( إنما) أداة حصر؛ يعني : ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد بالمؤمنين ؛ يعني : ذوي الإيمان المطلق الكامل.

فلا يدخل في المؤمنين هنا الفساق؛ لأن الفاسق لو تلوت عليه آيات الله ؛ ما زادته إيماناً، ولو ذكرت الله له ؛ لم يوجل قلبه.

فبين المؤلف أن الإيمان قد يراد به مطلق الإيمان، وقد يراد به الإيمان المطلق.

فإذا رأينا رجلاً : إذا ذكر الله ؛ لم يؤجل قلبه، وإذا تليت عليه آياته؛ لم يزدد إيماناً؛ فيصح أن نقول : إنه مؤمن ، ويصح أن نقول : ليس بمؤمن؛ فنقول : مؤمن ؛ أي : معه مطلق الإيمان؛ يعني: أصله، وليس بمؤمن؛ أي: ليس معه الإيمان الكامل.

* * *

(3)هذا مثال ثان للإيمان الذي يراد به الإيمان المطلق ؛ أي الكامل.

· وقوله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"[293]هنا نفي عنه الإيمان الكامل حين زناه، أما بعد أن يفرغ من الزنى؛ فقد يؤمن ؛ فقد يلحقه الخوف من الله بعد أن يتم الزنى فيتوب، لكن حين إقدامه على الزنى لو كان عنده إيمان كامل؛ ما أقدم عليه ، بل إيمانه ضعيف جداً حين أقدم عليه.

وتأمل قوله : " حين يزني": احترازاً من أنه قبل الزنى وبعده تختلف حاله؛ لأن الإنسان ما دام لم يفعل الفاحشة، ولو هم بها ؛ فهو على أمل ألا يقدم عليها .

ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن (1) ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (2) ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن (3) …………………………

(1) وقوله :" لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" : أي: كامل الإيمان ؛ لأن الإيمان يردعه عن سرقته.

(2) وقوله :" ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"؛ أي : كامل الإيمان.

(3)" ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم ": " ذات شرف "؛ أي : ذات قيمة عند الناس، ولهذا يرفعون إليه أبصارهم ؛ فلا ينتهبها حين ينتهبها وهو مؤمن ؛ أي: كامل الإيمان.

هذه أربعة أشياء : الزنى ( وهو الجماع في فرج حرام)، والسرقة ( وهي أخذ المال المحترم على وجه الخفية من حرز مثله)، وشرب الخمر ( والمراد تناوله بأكل أو شرب، والخمر كل ما أسكر على وجه اللذة والطرب)، والنهبة التي لها شرف وقيمة عند الناس ( قيل : الانتهاب : أخذ المال على وجه الغنيمة) لا يفعل هذه الأشياء الأربعة احد وهو مؤمن بالله حين فعله لها . فالمراد بنفي الإيمان هنا : نفي تمام الإيمان.

ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق ، ولا يسلب مطلق الاسم(1)…………………………………………………………………………………

(1)هذا بيان للوصف الذي يستحقه الفاسق الملي عند أهل السنة والجماعة.

· والفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق : أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء؛ يعني : أصل الشيء، وإن كان ناقصاً.

· فالفاسق الملّي لا يعطى الاسم المطلق في الإيمان، وهو الاسم الكامل ، ولا يسلب مطلق الاسم ؛ فلا نقول : ليس بمؤمن ، بل نقول : مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، وهو المذهب العدل الوسط.

· وخالفهم في ذلك طوائف:

- المرجئة ؛ يقولون مؤمن كامل الإيمان.

- والخوارج ؛ يقولون : كافر .

- والمعتزلة ؛ يقولون: في منزلة بين منزلتين

* * *





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:58 am

في موقف أهل السنة والجماعة

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن أصول أهل السنة والجماعة (1)‑سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)..............................

أي: من أسس عقيدتهم.

قوله : " سلامة قلوبهم وألسنهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم":

ولم يقل: وأفعالهم، لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتي لو فرض أن أحداً نبش قبورهم وأخرج جثثهم، فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.

فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.

فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.

فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. وذلك للأمور التالية:

أولاً: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "[294]

ثانياً: أنهم هو الواسطة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.

ثالثاً: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.

رابعاً: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم واستجابتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، ونري أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوقه : حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: " لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" : سبق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من اجتمع به مؤمناً به ومات على ذلك، وسمي صاحباً، لأنه إذا اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غير الرسول، فلا يكون الشخص صاحباً له حتي يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحباً.

كما وصفهم الله به في قوله تعالى : ) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم( (1)….

* استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: " كما وصفهم الله به في قوله تعالى: ) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ( [ الحشر: 10]".

هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: ) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( [الحشر: 8]، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

ففي قوله : ) يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ( : إخلاص النية، وفي قوله: ) وينصرون الله ورسوله ( : تحقيق العمل، وقوله: ) أولئك هم الصادقون (، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.

ثم قال في الأنصار: ) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( [الحشر : 9] ، فوصفهم الله بأوصاف ثلاث: ) يحبون من هاجر إليهم ( ، ) ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ( ، ) ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(.

ثم قال تعالى بعد ذلك: ) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان … ( الآية، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلى يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا .. ( .

ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبون ! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم!!

وقوله: ) ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا (، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان، ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلي يوم القيامة.

) ربنا إنك رءوف رحيم( : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقون بالإيمان.

وطاعة (1) النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( لا تسبوا ))(2).............................

(1)* " طاعة " : معطوف على قوله: " سلامة " ، أي : من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم … إلخ.

(2)* السب: هو القدح والعيب، فإن كان في غيبة الإنسان، فهو غيبة.

أصحابي(1) فو الذي نفسي بيده (2)لو أن أحدكم أنفق مثل أحد (3) ذهباً ما بلغ مد (4) أحدهم ولا نصيفه "(5)... ......

(1)* أي: الذين صحبوه، وصحبه النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها تختلف: صحبه قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.

والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد حين حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل من المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صل الله عليه وسلم لخالد: " لا تسبوا أصحابي" ، والعبرة بعموم اللفظ.

ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلى الإسلام، لهذا قال: " لا تسبوا أصحابي"، يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.

وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله، فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.

(2)* أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم : " لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"[295].

(3)* " أحد " : جبل عظيم كبير معروف في المدينة.

(4)* المد: ربع الصاع.

(5)* " ولا نصيفه " ، أي نصفه. قال بعضهم: من الطعام ، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب ، بقرينة السياق، لأنه قال: " لو أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" ، يعني : من الذهب.

وعلى كل حال ، فإن قلنا : من الطعام، فمن الطعام، وإن قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلي جبل أحد من الذهب لا شيء.

فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفق واحد، والمنفق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم، فلإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.

وهذا النهي يقتضي التحريم، فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحداً منهم على الخصوص، فإن سبهم على العموم ، كان كافراً، بل لا شك في كفر من شك في كفره ، أما إن سبهم على سبيل الخصوص، فينظر في الباعث لذلك، فقد يسبهم من أجل أشياء خَلْقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.

***

ويقبلون (1) ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم(2)……….

(1)أي: أهل السنة.

(2)قوله : " ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم":

الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد منقبة له.

والمراتب: الدرجات، لأن الصحابة درجات ومراتب، كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.

فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم، فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:

فمثلاً ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.

ويقبلون مثلاً ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وهذه فضيلة[296].

ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته في الغار.

ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: " إن من أمن الناس على في ماله وصحبته أبو بكر "[297]

وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي علي رضي الله عنهم وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل، يقبلون هذا كله.

وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم ، فالخلفاء الراشدين هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، كما سيذكره المؤلف.

ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل (1)....................

* دليل ذلك قول تعالى : ) لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ( [ الحديد: 10].

فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة، فالذين أسلموا قبل ذلك، وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.

فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟

فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم، كأن نرجع إلي " الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر أو " الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر أو غير ذلك من الكتب المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف أن ، هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.

وقول المؤلف: " وهو صلح الحديبية " :

هذا أحد القولين في الآية ، وهو الصحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البخاري [298]وقيل: المراد فتح مكة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم.

ويقدمون المهاجرين(1) على الأنصار (2) ............................

(1)المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة.

ا(2)لأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.

وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصرة فقط.

فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلى الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله.

والأنصار أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.

ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة:100) ، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار( [ التوبة: 117]، فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء: ) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم …( [الحشر: 8]، ثم قال: ) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ( [ الحشر: 9].

ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : (اعملوا ما شئتم غفرت لكم )(1) .............

(1)* أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب الصحابة.

وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان ، وسمى الله تعالى يومها يوم الفرقان.

وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلى مكة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً وفرسان وخرجوا من المدينة لا يريدون قتالاً، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.

فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير، أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخاً إلي أهل مكة يستنجدهم ، فانتدب أهل مكة لذلك، وخرجوا بأشرافهم همه وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل: ) بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ( [ الأنفال: 47].

وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فتآمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله، لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم فيها ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتضرب علينا القيان، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبداً.

وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن ولله الحمد كان الأمر على عكس ما يقول، سمعت العرب بهزيمتهم النكراء فهانوا في نفوس العرب.

قدموا بدراً، والتقت الطائفتان، وأوحى الله تعالى إلى الملائكة: ) أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب* ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ( [ الأنفال: 12-14] .

حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة- ولله الحمد – على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعين رجلاً، وقتلوا سبعين رجلاً، منهم أربعة وعشرون رجلاً من كبرائهم وصناديدهم ، سحبوا، فألقوا في قليب من قلب بدر خبيثة قبيحة.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: " يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً " . فقالوا: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: " والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " [299]والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخاً وتقريعاً وتنديماً ، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقاً، قال الله تعالى: ) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ( [ الأنفال:14] ، فوجدوا النار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق ، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد.

فأهل بدر الذين جعل الله على أيدهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر، اطلع الله عليهم، وقال: " اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" [300]، فكل ما يقع منهم من ذنوب، فإنه مغفور، لهم، بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالي على أيديهم.

وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم، فهو مغفور لهم.

وفيه بشارة بأنهم لن يموتوا على الكفر ؛ لأنهم مغفور لهم ، وهذا يقتضي أحد أمرين :

إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.

وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر، فسيوفق للتوبة والرجوع وإلي الإسلام.

وأيا كان، ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحداً منهم كفر بعد ذلك.

وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة (1) ..............................
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 3:59 am

أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان[301]

وسبب هذه البيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربعمائة رجل، لا يريدون إلا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون ، منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، ) وما كانوا أولياءه إن إولياءه إلا المتقون( [الأنفال: 34]، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.

وأرى الله تعالى من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولى تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة، فإن ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتى قالوا: " خلأت القصواء" ، يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعاً عنها: " والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال : " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها"[302] .

وجرى التفاوض، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، لأن له رهطاً بمكة يحمونه، أرسله إلى أهل مكة، يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء معتمراً معظماً للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبر ذلك على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا ولا يفروا إلي الموت. وكان النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبايع الناس، يمد يده فيبايعونه على هذه البيعة المباركة التي قال الله عنها: ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ( [ الفتح: 10]، وكان عثمان رضي الله عنه غائباً، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمني: " هذه يد عثمان".

ثم تبين أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش، حتى انتهى الأمر على الصلح الذي صار فتحاً مبيناً للرسول عليه الصلاة والسلام.

هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: ) لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيماً ( [ الفتح 18-19].

وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

فوصفهم الله تعالى بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة، فهو مؤمن مرضى عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"، فالرضى ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النار ثبت بالسنة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة "، قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: ) وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً ( [مريم:71]؟

فالجمع من أحد وجهين:

الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط، لأن هذا نوع ورود بلا شك، كما في قوله تعالي: ) ولما ورد ما ء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون( [ القصص: 23]، ومعلوم أنه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريباً منه، وبناء على هذا، لا إشكال ولا تعارض أصلاً.

والوجه الثاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلا ويدخل النار، وبناء على هذا القول، فيحمل قوله: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة". لا يدخلها دخول عذاب وإهانة ، وإنما يدخلها تنفيذاً للقسم: ) وإن منكم إلا واردها(، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.

وقوله: " الشجرة ": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحتها يبايع الناس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافه عمر، فلما قيل له: إن الناس يختلفون إليها – أي: يأتونها – يصلون عندها، أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.

قال في " الفتح "[303] وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في " صحيح البخاري" [304]عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رجعنا من العام المقبل يعني: بعد صلح الحديبية فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها، فلم نقدر عليها".

وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد، لأن نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد والله أعلم.

وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأننا نظن أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلي الآن، لعبدت من دون الله.

ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .

أي أهل السنة والجماعة.

والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.

أما المعلقة بالوصف، فأن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة، وكل متق أنه في الجنة، بدون تعيين شخص أو أشخاص.

وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها، لأن الله تعالى أخبر به، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ)(خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [لقمان 8-9]، وقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [ آل عمران: 133].

وأما الشهادة المعلقة بشخص معين، فأن نشهد لفلان أو لعدد معين أنهم في الجنة.

وهذه شهادة خاصة، فنشهد لمن شهد له الرسول صلي الله عليه وسلم، سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.

كالعشرة (1) وثابت بن قيس بن شماس (2) . .....................

(1)* مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: " كالعشرة "، يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة، لقبوا بهذا الاسم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في حديث واحد وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة ابن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر ابن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.

وقد جمع الستة الزائدون عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد، فاحفظه:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير الممدوح

هؤلاء بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: " أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة …"[305]، ولهذا لقبوا بهذا اللقب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صلي الله عليه وسلم بذلك.

(2)ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( [ الحجرات:2]، خاف أن يكون ضبط عمله وهو لا يشعر، فاختفي في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلاً يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: ) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار !! فأتي الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة " [306]، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

وغيرهم من الصحابة (1) ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر(2)………….

(1) مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.

* التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.

ففي " صحيح البخاري " [307] وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.

وفي " صحيح البخاري" [308]أيضاً أن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.

فإذا كان علي رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.

قوله: " وغيره "، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.

وهذا متفق عليه بين الأئمة.

وقال الإمام مالك: ما رأيت أحداً يشك في تقديمهما.

وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.

ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.

ويثلثون بعثمان (1) ويربعون بعلي (2) رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة(3) …………

(1)* " يثلثون " ، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.

(2)* " ويربعون " بعلي " أي: يجعلون علياً هو الرابع.

وعلى هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر ، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.

* استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:

الأول: قوله: " كما دلت عليه الآثار " : وقد سبق ذكر شيء منها.

والثاني: قوله: " وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة " :

فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضاً دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يولى على خير القرون رجلاً وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر: " كما تكونون يولى عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم.

مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي (1)، وقدم قومٌ علياً (2)، وقوم توقفوا (3).........

(1)فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.

فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.

فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.

فالآراء أربعة:

الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.

الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.

الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.

الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو على، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن لا نرى أحداً يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر.

لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان (1) وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة (2) ولكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة(3) وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على (4) ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله(5)……………….

هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة، فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، على ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب، كما سبق دليله.

* يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن علياً أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئاً.

* فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي . ومن قال إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة، فهو ضال، ومن قال: إنها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة.

* الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه أحق ممن سبقه ! فهو أضل من حمار أهله.

وعبر المؤلف بهذا التعبير، لأنه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنه أضل من حمار أهله، وإنما ذكر الحمار، لأنه أبلد الحيوانات على الإطلاق، فهو أقل الحيوانات فهماً، فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعن في الصحابة جميعاً.

فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا الترتيب، حتى لا نقول: إن هناك ظلماً في الخلافة، كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة، لأنهم ظلموا على بن أبي طالب، حيث اغتصبوا الخلافة منه.

أما من بعدهم، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على الناس، فهو أحق بالخلافة من غيره ، لأن من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولي عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم، كما قال الله تعالي: ) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ( [ الإنعام : 129].

واعلم أن الترتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره، فإنه يفضله في كل شئ، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة، فيجب التفريق بين الإطلاق والتقييد.

ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)…………………….

(1)* أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحبون لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكرهونهم أبداً.

ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر، فقد أبغض علياً، وعلى هذا فلا يمكن أن نحب علياً حتى نبغض أبا بكر وعمر، وكأن، أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب مع أنه تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يثني عليها على المنبر.

فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.

ومن أهل بيت أزواجه بنص القرآن، قال الله تعالى: ) يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً * يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا* ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما* يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطيراً ( [ الأحزاب، 28-33]، فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.

وكذلك يدخل فيه قرابته، فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطلب وأبنائه.

فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإيمانهم بالله.

فإن كفروا ، فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أبو طالب، يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.

ويتولونهم (1) ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم (2) حيث قال يوم غديرهم : " أذكركم الله في أهل بيتي " (3)……………………………………

(1(أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصديق، والقريب، والمتولي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة، وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.

(2)أي: عهده الذي عهد به إلي أمته.

(3)هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلي رجل يسمي ( خم )، وهو في الطريق الذي بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلاً في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس، وقال: " أذكركم الله في أهل بيتي"[309]، ثلاثاً، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.

وقال أيضاً (1) للعباس عمه وقد اشتكي إليه أن بعض قريش يجفو (2) بني هاشم (3) فقال: " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتي يحبوكم لله ولقرابتي "(4)………………….

(1)* " أيضاً ": مصدر آض يئيض، أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعني: عوداً على ما سبق.

(2)" يجفو " يترفع ويكره.

(3)* " هاشم " : هو جد أبي الرسول صلي الله عليه وسلم .

(4)أقسم صلي الله عليه وسلم [310]أنهم يؤمنون، أي : لا يتم إيمانهم، حتي يحبوكم لله، وهذا المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين، لأن الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله، لكن قال: " ولقرابتي " : فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي قول العباس: " إن بعض قريش يجفو بني هاشم " : دليل على أن جفاء آل البيت كان موجوداً منذ حياة النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك لأن الحسد من طبائع البشر، إلا من عصمه الله عز وجل، فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على مأمن الله عليهم من قرابة النبي صلي الله عليه وسلم ، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.

فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لأل البيت: أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية لرسول صلي الله عليه وسلم في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلو فيهم، حتي يوصلوهم إلي حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن أبي طالب حين قال له: آنت الله ! والقصة مشهورة.

وقال صلي الله عليه وسلم : " إن الله اصطفي بن إسماعيل(1) ، واصطفي من بني إسماعيل كنانة (2) ، واصطفي من كنانة قريشاً (3)، واصطفي من قريش هاشم (4) ، واصطفاني من بني هاشم[311]* ويتولون أزواج رسول الله صلي الله عليه وسلم أمهات المؤمنين (5) ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة(6)……………….

(1)* " إسماعيل ": هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصة في سورة الصافات.

(2)* " كنانة " : هو الأب الرابع عشر الرسول الله صلي الله عليه وسلم وعلى أله وسلم.

(3)* " قريش " : هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك، وقيل : الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.

(4) * " هاشم " هو الأب الثالث لرسول الله صلي الله عليه وسلم.

(5) قوله: " أمهات المؤمنين " : هذه صفة لـ " أزواج " فأزواج النبي صلي الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال تعالي : ) النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ( [ الأحزاب: 6]، فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض، لأنهن زوجات الرسول صلي الله عليه وسلم.

وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله مختارون من خلقه.

(6)لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالي: ) الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم ( [ غافر: 7-8] فقال: )وأزوجهم( ، فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.

خصوصاً (1) خديجة رضي الله عنها (2) لأن أكثر أولاده وأول من آمن به (3).......................

(1)" خصوصاً " : مصدر محذوف العامل، أي: أخص خصوصاً.

(2) خديجة بنت خويلد" : تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمساً وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صلي الله عليه وسلم انتفاعاً كثيراً، لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحداً.

*فكانت كما قال المؤلف: " أم أكثر أولاده ": البنين والبنات ، ولم يقل المؤلف: أم أولاده، لأن من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.

وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطيب، والطاهر. وأما البنات، فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.

(3) لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لما جاءها وأخبرها بما رأي في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً. وآمنت به، وذهبت به إلي ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى [312]. "الناموس " أي: صاحب السر. فآمن به ورقة.

ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.

وعاضده علي أمره (1) وكان لها منه المنزلة العالية (2) والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها(3) التي قال فيها النبي صلي الله عليه وسلم : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام(4) ……………………

(1)أي: ساعده، ومن تدبر السيرة، وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النبي صلي الله عليه وسلم ما لم يحصل لغيرها من نسائه.

(2)قوله: " وكان لها منه المنزلة العالية" : حتي إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلي صديقاتها، ويقول: " إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد"[313]، فكان يثني عليها، وهذا يدل على معظم منزلتها عند الرسول صلي الله عليه وسلم.

(3)أما كونها صديقة، فلكمال تصديقها لرسول الله صلي الله عليه وسلم، وكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذي في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنه لما نزلت براءتها، قال: إني لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.

وأما كونها بنت الصديق، فكذلك أيضاً، فإن أباها رضي الله عنه هو الصديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها، لأن هذه الأمة أفضل الأمم، فإذا كان صديق هذه الأمة، فهو صديق غيرها من الأمم.

(4)قوله: " على النساء ": ظاهره العموم، أي: على جميع النساء.

وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.

لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسيا امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ، وقد أخرجه الشيخان بدون ذكر خديجة [314]وهذا يدل على أنها أفضل النساء مطلقاً.

ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب، لأن فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسباً.

وأما منزلة، فإن عائشة رضي الله عنها لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الزوجين رضي الله عنهما في منزلة واحدة، لأنه قال: " خصوصاً خديجة … والصديقة " ، ولم يقل : ثم الصديقة.

والعلماء اختلفوا في هذه المسألة:

فقال بعض العلماء: خديجة أفضل، لأن لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها.

وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل، لهذا الحديث، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها.

وفصل بعض أهل العلم، فقال: إن لكل منهما مزية لم تلحقها الأخرى فيها، ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول صلي الله عليه وسلم حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السنة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة، فلا يصح أن تفضل إحداهما على الأخرى تفضيلاً مطلقاً، بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل، فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل. وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معاً.

ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم(1)…………..

(1)الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرهاً للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال، فليقرأ في كتبهم وفي كتب من رد عليهم.

وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثني عليهما وقال: هما وزيرا جدي.

أما النواصب، فهم الذين ينصبون العداء لأل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم، فهم على النقيض من الروافض.

فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن.

ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم، إلا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت.

وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون : إنهم ظلمة‍‍ ويقولون : إنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، إلي غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.

وفي الحقيقة إن سب الصحابة رضي الله عنهم ليس جرحاً في الصحابة رضي الله عنهم فقط بل هو قدح في الصحابة وفي النبي صلى الله عليه وسلم وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل:

_ أما كونه قدحاً في الصحابة، فواضح.

وأما كونه قدحاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحيث كان أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.

وأما كونه قدحاً في شريعة الله، فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله صلي الله عليه وسلم في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم، لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.

وأما كونه قدحاً في الله سبحانه، فحيث بعث نبيه صلى الله عليه وسلم في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته!!

فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم.

ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض شالذين يسبون الصحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا ولله الحمد مملؤة من محبتهم، لما كانوا عليه من الإيمان والتقوي ونشر العلم ونصرة النبي صلي الله عليه وسلم.

ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل (1)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 4:01 am

1) يعني: يتبرأ أهل السنة والجماعة من طريقة النواصب.

وهؤلاء على عكس الروافض، الذين يغلون في آل البيت حتي يخرجوهم عن طور البشرية إلي طور العصمة والولاية.

أما النواصب، فقابلوا البدعة، فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت، قالوا: إذا، نبغض آل البيت ونسبهم، مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم، ودائماً يكون الوسط هو خير الأمور، ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلا قوة.

ويمسكون عما شجر بين الصحابة (1) ……………………………………

(1) يعني: عما وقع بينهم من النزاع.

فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، مما أدي إلي القتال.

وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت بلا شك عن تأويل واجتهاد كل منهم يظن أنه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا علياً رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن عليا على حق.

واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق.

ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلا عن اجتهاد، فإنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر" [315]، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.

فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولي: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.

_ أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جري بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.

وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.

فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جري بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التأريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.

ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم ؛ منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص عن وجهه الصريح، والصحيح منه هم فيه معذورون : إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون(1).................

(1)قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيراً فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.

القسم الثاني: شيء له أصل، لكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.

وهذان القسمان كلاهما يجب رده.

القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله:

" والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون " .

والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ،فله أجر واحد، لقول النبي صلي الله عليه وآلله وسلم : " إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر"[316].

فما جري بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.

لكن لا شك أن عليا أقرب إلي الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا إن معاوية كان مجتهداً.

*ويدل على أن عليا أقرب إلي الصواب أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "ويح عمارا تقتله الفئة الباغية"[317]، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصواب مع على إما قطعناً وإما ظناً.

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره(1) .................….

(1)وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:

" وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.

*لا يعتقدون ذلك، لقوله صلي الله عليه وسلم : " كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"[318] .

ولكن العصمة في إجماعهم ؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوها.

ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئاً من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك[319]، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.

بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة (1) ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر (2)....................

يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: " ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر".

هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.

ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حاطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه شهد بدراً، وما يدريك ؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: أعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"[320].

حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم(1)، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه (2)، أو أتي بحسنات تمحوه (3) . أو غفر له بفضل سابقته(4)……………………………………….

(1)وذلك في قوله صلي الله عليه وسلم: " خبر الناس قرني "[321]، وفي قوله: " لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"[322].

يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى: ) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، … ( إلي قوله: ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [ الفرقان: 68-70]، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له ، فلا يؤثر عليه.

لقوله تعالي : ) إن الحسنات يذهبن السيئات ( [ هود: 114].

لقوله تعالي في الحديث القدسي في أهل بدر: " اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " .

أو بشفاعة محمد صلي الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته (1) أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه (2) فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور(3). ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم (4)…...............

(1)وقد سبق أن النبي صلي الله عليه وسلم يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق الناس في ذلك.

(2)فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلي الله عليه وسلم في قوله: " ما من مسلم يصيبه أذي من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها"[323] صلي الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.

(3) سبق دليله، فتكون هذه من باب أولى آلا تكون سبباً للقدح فيهم والعيب.

*فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:

الأول: خاص بهم، وهو مالهم من السوابق والفضائل.

والثاني: عام، وهى التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلي الله عليه وسلم ، والبلاء.

(4)القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جداً نزر أقل القليل، ولهذا قال: " مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم " .

*ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزني بإحصان وزني بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.

من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح(1) ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء(2) ………………………….

(1)فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.

(2)هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم من قوله: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما[324].

وعلي هذا تثبت خيرتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم.

فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسي، خير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )[ آل عمران: 110] ، وخيرنا الصحابة، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم خير الخلق ، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك .

هذا عند أهل السنة والجماعة ، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق ، إلا من استثنوا منهم.

لا كان ولا يكون مثلهم (1) وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى (2)........................

(1)أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام: " خير الناس قرني " فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقاً ولا لاحقاً.

(2)أما كون هذه الأمة خير الأمم، فلقوله تعالى: ) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( [ ال عمران: 110] وقوله: ) وكذلك جلعناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ( [ البقرة: 143]، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم خير الرسل، فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.

وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلي الله عليه وسلم: " خير الناس قرني"[325]، وفي لفظ : " خير أمتي قرني " [326]،والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعوا التابعين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية" أ هـ.

وكان أخر الصحابة موتاً أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مائة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.

قال الحافظ ابن حجر في " الفتح "[327] " واتفقوا على أن أخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلي حدود العشرين ومائتين".

فصل

في كرامة الأولياء

ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء (1) …………..

(1) كرامات الأولياء مسألة هامة ينبغي أن يعرف الحق فيها من الباطل، هل هي حقيقة ثابتة، أو هي من باب التخيلات؟

فبين المؤلف رحمه الله قول أهل السنة فيها بقوله:

" ومن أصول أهل السنة والجماعة : التصديق بكرامات الأولياء".

فمن هم الأولياء؟

والجواب: أن الله بينهم بقوله: ) )أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:62-63)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من كان مؤمناً تقياً، كان لله ولياً " .

ليست الولاية بالدعوى والتمني، الولاية إنما هي بالإيمان والتقوى، فلو رأينا رجلاً يقول: إنه ولي ولكنه غير متق لله تعالي، فقوله مردود عليه.

أما الكرامات، فهي جمع كرامة، والكرامة أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى علي يد ولي، تأييداً له، أو إعانة، أو تثبيتاً، أو نصراً للدين.

فالرجل الذي أحيا الله تعالي له فرسه، وهو صلة بن أشيم، بعد أن ماتت، حتى وصل إلي أهله، فلما وصل إلي أهله ، قال لابنه : ألق السرج عن الفرس، فإنها عربة! فلما ألقي السرج عنها، سقطت ميتة. فهذه كرامة لهذا الرجل إعانة له.

أما التي لنصرة الإسلام، فمثل الذي جرى للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في عبور ماء البحر، وكما جري لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عبور نهر دجلة، قصتها مشهورة في التاريخ.

فالكرامة أمر خارق للعادة.

أما ما كان على وفق العادة، فليس بكرامة.

وهذا الأمر إنما يجريه الله علي يد ولي، احترازاً من أمور السحر والشعوذة، فإنها أمور خارقة للعادة، لكنها تجري على يد غير أولياء الله، بل على يد أعداء الله، فلا تكون هذه كرامة.

وقد كثرت هذه الكرامات التي تدعي أنها كرامات في هؤلاء المشعوذين الذين يصدون عن سبيل الله ، فالواجب الحذر منهم ومن تلاعبهم بعقول الناس وأفكارهم.

فالكرامة ثابتة بالقرآن والسنة، والواقع سابقاً ولاحقاً.

فمن الكرامات الثابتة بالقرآن والسنة لمن سبق قصة أصحاب الكهف، الذين عاشوا في قوم مشركين، وهم قد آمنوا بالله، وخافوا أن يغلبوا على آمرهم، فخرجوا من القرية مهاجرين إلى الله عز وجل، فيسر الله لهم غاراً في جبل، وجه هذا الغار إلى الشمال، فلا تدخل الشمس عليهم فتفسد أبدانهم ولا يحرمون منها، إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوه منه، وبقوا في هذا الكهف ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، وهم نائمون، يقلبهم الله ذات اليمن وذات الشمال، في الصيف وفي الشتاء، لم يزعجهم الحر، ولم يؤلمهم البرد، ما جاعوا وما عطشوا وما ملوا من النوم. فهذه كرامة بلا شك، بقوا هكذا حتى بعثهم الله وقد زال الشرك عن هذه القرية، فسلموا منه.

ومن ذلك قصة مريم رضي الله عنها، أكرمها الله حيث جاءها المخاض إلى جذع النخلة، وأمرها الله أن تهز بجذعها لتتساقط عليها رطباً جنياً.

ومن ذلك قصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثة، كرامة له، ليتبين له قدرة الله تعالى، ويزداد ثباتاً في إيمانه.

أما في السنة ، فالكرامات كثيرة، وراجع ( كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بن إسرائيل) في " صحيح البخاري"، وكتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لشيخ الإسلام ابن تيمية.

وأما شهادة الواقع بثبوت الكرامات، فظاهر، يعلم به المرء في عصره، إما بالمشاهدة، وإما بالأخبار الصادقة.

فمذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء.

وهناك مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم، حيث إنهم ينكرون الكرامات، ويقولون: إنك لو أثبت الكرامات، لا شتبه الساحر بالولي والولي بالنبي، لأن كل واحد منهم يأتي بخارق.

فيقال: لا يمكن الالتباس، لأن الكرامة على يد ولي، والولي لا يمكن أن يدعي النبوة، ولو ادعاها، لم يكن ولياً. آية النبي تكون على يد نبي، والشعوذة والسحر على يد عدو بعيد من ولاية الله، وتكون بفعله باستعانته بالشياطين، فينالها بكسبه، بخلاف الكرامة، فهي من الله تعالى، لا يطلبها الولى يكسبه.

قال العلماء: كل كرامة لولي، فهي آية للنبي الذي اتبعه، لأن الكرامة شهادة من الله عز وجل أن طريق هذا الولي طريق صحيح.

وعلي هذا، ما جري من الكرامات للأولياء من هذه الأمة فإنها آيات لرسول الله صلي الله عليه وسلم .

*ولهذا قال بعض العلماء: ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين، إلا ولرسول الله صلي الله عليه وسلم مثلها.

فأورد عليهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلق في النار فيخرج حياً، كما حصل ذلك لإبراهيم.

فأجيب بأنه جرى ذلك لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكره المؤرخون عن أبي مسلم الخولاني، وإذا أكرم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بجنس هذا لأمر الخارق للعادة، دل ذلك على أن دين النبي صلى الله عليه وسلم حق ، لأنه مؤيد بجنس هذه الآية التي حصلت لإبراهيم.

وأورد عليهم أن البحر لم يفلق للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد فلق لموسى!

فأجيب بأنه حصل لهذه الأمة فيما يتعلق في البحر شىء أعظم مما حصل لموسى، وهو المشي على الماء، كما في قصة العلاء بن الحضرمي، حيث مشوا على ظهر الماء، وهذا أعظم مما حصل لموسى، مشى على أرض يابسة.

وأورد عليهم أن من آيات عيسي إحياء الموتى، ولم يقع ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم.

فأجيب بأنه حصل وقع لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في قصة الرجل الذي مات حماره في أثناء الطريق، فدعا الله تعالى أن يحييه، فأحياه الله تعالى.

وأورد عليهم إبراء الأكمة والأبرص.

فأجيب بأنه حصل من النبي صلي الله عليه وسلم أن قتادة بن النعمان لما جرح في أحد، ندرت عينه حتى صارت على خده، فجاء النبي صلي الله عليه وسلم، فأخذها بيده، ووضعها في مكانها، فصارت أحسن عينيه. فهذه من أعظم الآيات.

فالآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأمته، ومن أراد المزيد من ذلك، فليرجع إلى كتاب " البداية والنهاية في التاريخ" لابن كثير.

تنبيه:

الكرامات، قلنا: إنها تكون تأييدا أو تثبيتاً أو إعانة للشخص أو نصراً للحق، ولهذا كانت الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة، لأن الصحابة عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات فإن الرسول صلي الله عليه وسلم كان بين أظهرهم، وأما التابعون، فإنهم دون ذلك، ولذلك كثرت الكرامات في زمنهم تأييداً لهم وتثبيتاً ونصراً للحق الذي هم عليه.

وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات (1) …………………..

(1)" خوارق ": جمع خارق.

و " العادات ": جمع عادة.

والمراد بـ " خوارق العادات" : ما يأتي على خلاف العادة الكونية.

وهذه الكرامات لها أربع دلالات:

أولاً: بيان كمال قدره الله عز وجل، حيث حصل هذا الخارق للعادة بأمر الله.

ثانياً: تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل، لأنه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل، لكانت الطبيعة على نسق واحد لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة، دل على أن للكون مدبراً وخالقاً.

ثالثا: أنها آية للنبي المتبوع كما أسلفنا قريباً.

رابعاً: أن فيها تثبيتاً وكرامة لهذا الولي.

في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات (1)...............................

(1)يعني : أن الكرامة تنقسم إلي قسمين : قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات، وقسم آخر يتعلق بالقدرة والتأثيرت.

- أما العلوم، فأن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره.

- وأما المكاشفات، فأن يظهر له من الأشياء التي يكشف له عنها ما لا يحصل لغيره.

مثال الأول – العلوم : ما ذكر عن أبي بكر: أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته الحمل، أعلمه الله أنه أنثي[328].

ومثال الثاني- المكاشفات - : ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يخطب الناس يوم الجمعة على المنبر، فسمعوه يقول: يا سارية ! الجبل ! فتعجبوا من هذا الكلام، ثم سألوه عن ذلك ؟

فقال : إنه كشف له عن سارية بن زنيم وهو أحد قواده في العراق ، وأنه محصور من عدوه، فوجهه إلي الجبل، وقال له: يا سارية ! الجبل! فسمع سارية صوت عمر، وانحاز إلى الجبل، وتحصن به[329]

هذه من أمور المكاشفات، لأنه أمر واقع، لكنه بعيد.

أما القدرة والتأثيرات، فمثل ما وقع لمريم من هزما لجذع النخل وتساقط الرطب عليها، ومثل ما وقع للذي عنده علم من الكتاب، حيث قال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.

كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة (1) وهي موجودة فيها إلي يوم القيامة (2)……………

(1)الكرامات موجودة فيما سبق من الأمم، ومنها قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة[330]، وموجودة في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، كقصة أسيد بن حضير [331]، وتكثير الطعام عند بعض الصحابة[332]، وموجودة في التابعين، مثل قصة صلة بن أشيم الذي أحيا الله له فرسه.

يقول شيخ الإسلام في كتاب " الفرقان " : " وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عياناً ونعرفه في هذا الزمان، فكثير".

الدليل على أنها موجودة إلي يوم القيامة: سمعي وعقلي:

أما السمعي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في قصة الدجال أنه يدعو رجلاً من الناس من الشباب، يأتي، ويقول له: كذبت ! إنما أنت المسيح الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي الدجال، فيقتله قطعتين، فيجعل واحدة هنا وواحدة هنا رمية الغرض ( يعني: بعيد ما بينهما) ، ويمشي بينهما، ثم يدعوه، فيقوم يتهلل، ثم يدعوه ليقر له بالعبودية، فيقول الرجل: ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم ! فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه[333].

فهذه أي: عدم تمكن الدجال من قتل ذلك الشاب من الكرامات بلا شك.

وأما العقلي، فيقال: ما دام سبب الكرامة هي الولاية، فالولاية لا تزال موجودة إلي قيام الساعة(2).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 4:01 am

فصل

في طريقة أهل السنة العملية

ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم(1)………….

(1) لما فرغ المؤلف مما يريد ذكره من طريقة أهل السنة العقدية، شرع في ذكر طريقتهم العملية.

*قوله: " اتباع الآثار" : لا اتباع إلا بعلم ، إذاً، فهم حريصون على طلب العلم، ليعرفوا آثار الرسول صلي الله عليه وسلم ثم يتبعونها فهم يتبعون آثار الرسول صلي الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والأخلاق والدعوة إلي الله تعالي، يدعون عباد الله إلي شريعة الله في كل مناسبة، وكلما اقتضت الحكمة أن يدعوا إلي الله، دعوا إلي الله، ولكنهم لا يخبطون خبط عشواء، وإنما يدعون بالحكمة، يتبعون آثار الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخلاق الحميدة في معاملة الناس باللطف واللين، وتنزيل كل إنسان منزلته، يتبعونه أيضاً في أخلاقه مع أهله، فتجدهم يحرصون على أن يكونوا أحسن الناس لأهليهم، لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: " خيركم لأهله، وأنا خيرك لأهلي "[334].

ونحن لا نستطيع أن نحصر آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن نقول على سبيل الإجمال في العقيدة والعبادة والخلق والدعوة: في العبادة لا يتشددون ولا يتهاونون ويتبعون ما هو أفضل.

وربما يشتغلون عن العبادة بمعاملة الخلق للمصلحة، كما كان الرسول يأتيه الوفود يشغلونه عن الصلاة، فيقضيها فيما بعد.

باطناً وظاهراً (1) ……………………………………………

(1)قوله: " باطناً وظاهراً " : الظهور والبطون أمر نسبي: ظاهراً فيما يظهر للناس ، وباطناً فيما يسرونه بأنفسهم. ظاهراً في الأعمال الظاهرة، وباطناً في أعمال القلوب………

فمثلاً، التوكل والخوف والرجاء والإنابة والمحبة وما أشبه ذلك، هذه من أعمال القلوب، يقومون بها على الوجه المطلوب، والصلاة فيها القيام والقعود والركوع والسجود والصدقة والحج، والصيام، وهذه من أعمال الجوارح، فهي ظاهرة.

ثم أعلم أن آثار الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر:

أولاً: ما فعله على سبيل التعبد، فهذا لا شك أننا مأمورون باتباعه، لقوله تعالي: ( لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )[ الأحزاب: 21]، فكل شئ لا يظهر فيه أنه فعله تأثراً بعادة أو بمقتضى جبلة وفطرة أو حصل اتفاقاً، فإنه علي سبيل التعبد، ونحن مأمورون به.

ثانياً : ما فعله اتفاقاً ، فهذا لا يشرع لنا التأسي فيه، لأنه غير مقصود ، كما لو قال قائل : ينبغي أن يكون قدومنا إلي مكة في الحج في اليوم الرابع من ذي الحجة ! لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة[335].

فنقول: هذا غير مشروع، لأن قدومه صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم وقع اتقاقاً.

ولو قائل قال: ينبغي إذا دفعنا من عرفة ووصلنا إلي الشعب الذي نزل فيه صلى الله عليه وسلم وبال أن ننزل ونبول ونتوضاً وضوءاً خفيفاً كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم ! فنقول: هذا لا يشرع.

وكذلك غيرها من الأمور التي وقعت اتفاقاً، فإنه لا يشرع التأسي فيه بذلك ، لأنه صلي الله عليه وسلم فعله لا على سبيل القصد للتعبد، والتأسي به تعبد.

ثالثاً: ما فعله بمقتضى العادة، فهل يشرع لنا التأسي به؟

الجواب: نعم، ينبغي لنا أن نتأسى به، لكن بجنسه لا بنوعه.

وهذه المسألة قل من يتفطن لها من الناس، يظنون أن التأسي به فيما هو علي سبيل العادة بالنوع، ثم ينفون التأسي به في ذلك.

ونحن نقول: نتأسى به، لكن باعتبار الجنس، بمعني أن نفعل ما تقتضيه العادة التي كان عليها الناس، إلا أن يمنع ذلك مانع شرعي.

رابعاً: ما فعله بمقتضى الجبلة، فهذا ليس من العبادات قطعاً، لكن قد يكون عبادة من وجه، بأن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم ، فإنه بمقتضى الجبلة، لكن يسن أن يكون على اليمين، والأكل والشرب جبلة وطبيعة، ولكن قد يكون عبادة من جهة أخرى، إذا قصد به الإنسان امتثال أمر الله والتنعم بنعمه والقوة على عبادته وحفظ البدن، ثم إن صفته أيضاً تكون عبادة كالأكل باليمين، والبسملة عند البداية، والحمد لله عند الانتهاء.

وهنا نسأل: هل اتخاذ الشعر عادة أو عبادة؟

يرى بعض العلماء أنه عبادة، وأنه يسن للإنسان اتخاذ الشعر.

ويرى آخرون أن هذا من الأمور العادية، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للذي رآه قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: " احلقوا كله أو ذروا كله " [336]، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر ليس بعبادة، وإلا، لقال: أبقه، ولا تحلق منه شيئاً!

وهذه المسألة ينبغي التثبت فيها، ولا يحكم على شيء بأنه عبادة، إلا بدليل، لأن الأصل في العبادات المنع، إلا ما قام الدليل على مشروعيته.

وأتباع (1) سبيل السابقين (2) الأولين (3) من المهاجرين(4) والأنصار(5) ………

(1)أي: ومن طريقة أهل السنة اتباع … الخ، فهي معطوفة على " اتباع الآثار".

(2)يعني: إلي الأعمال الصالحة.

(3)يعني: من هذه الأمة.

(4)المهاجرون: من هاجروا إلي المدينة.

(5)الأنصار: أهل المدينة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم.

*وإنما كان اتباع سبيلهم من منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم أقرب إلي الصواب والحق ممن بعدهم، وكلما بعد الناس عن عهد النبوة، بعدوا من الحق، وكلما قرب الناس من عهد النبوة، قربوا من الحق، وكلما كان الإنسان أحرص على معرفة سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، كان أقرب إلي الحق.

ولهذا تري اختلاف الأمة بعد زمن الصحابة والتابعين أكثر انتشاراً وأشمل لجميع الأمور، لكن الخلاف في عهدهم كان محصوراً.

فمن طريقة أهل السنة والجماعة أن ينظروا في سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فيتبعوها، لأن اتباعها يؤدى إلى محبتهم، مع كونهم أقرب إلى الصواب والحق، خلافاً لمن زهد في هذه الطريقة، وصار يقول: هم رجال ونحن رجال ! لا يبالي بخلافهم!! وكأن قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كقول فلان وفلان من أواخر هذه الأمة !! وهذا خطأ وضلال، فالصحابة أقرب إلي الصواب، وقولهم مقدم على قول غيرهم من أجل ما عندهم من الإيمان والعلم، وما عندهم من الفهم السليم والتقوى والأمانة، وما لهم من صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم.

واتباع(1) وصية (2) رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ(3) ……

(1)" اتباع " : معطوف على " اتباع الآثار ".

(2)" الوصية " العهد إلي غيره بأمر هام.

(3)معنى: " عليكم بسنتي … " إلخ: الحث على التمسك بها، وأكد هذا بقوله: " وعضوا عليها بالنواجذ " ، وهي أقصي الأضراس، مبالغة في التمسك بها.

والسنة: هي الطريقة ظاهراً وباطناً.

والخلفاء الراشدين: هم الذين خلفوا النبى صلي الله عليه وسلم في أمته علماً وعملاً ودعوة.

وأول من يدخل في هذا الوصف وأولى من يدخل فيه: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

ثم يأتي رجل في هذا العصر، ليس عنده من العلم شيء، ويقول: أذان الجمعة الأول بدعة، لأنه ليس معروفاً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نقتصر على الأذان الثاني فقط !

فنقول له: إن سنة عثمان رضي الله عنه سنة متبعة إذا لم تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقم أحد من الصحابة الذين هم أعلم منك وأغير على دين الله بمعارضته، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم باتباعهم.

ثم إن عثمان رضي الله عنه أعتمد على أصل، وهو أن بلالاً يؤذن قبل الفجر في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، لا لصلاة الفجر، ولكن ليرجع القائم ويوقظ النائم، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بالأذان الأول يوم الجمعة [337] لا لحضور الإمام، ولكن لحضور الناس، لأن المدينة كبرت واتسعت واحتاج الناس أن يعلموا بقرب الجمعة قبل حضور الإمام، من أجل أن يكون حضورهم قبل حضور الإمام.

فأهل السنة والجماعة يتبعون ما أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحث علي التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، إلا إذا خالف كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم مخالفة صريحة ؛ فالواجب علينا أن نأخذ بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعتذر عن هذا الصحابي، ونقول: هذا من باب الاجتهاد المعذور فيه.

وإياكم (1) ومحدثات الأمور (2) ……………………………………….

(1)إياكم للتحذير، أي : أحذركم.

(2) " والأمور ": بمعنى : الشؤون، والمراد بها أمور الدين، أما أمور الدنيا، فلا تدخل في هذا الحديث، لأن الأصل في أمور الدنيا الحل، فما

ابتدع منها، فهو حلال، إلا أن يدل الدليل على تحريمه. لكن أمور الدين الأصل فيها الحظر، فما ابتدع منها، فهو حرام بدعة، إلا بدليل من الكتاب والسنة على مشروعيته.

فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " (1) …………………………

(1)قال النبي عليه الصلاة السلام: " فإن كل بدعة ضلالة "[338]: الجملة مفرعة على الجملة التحذيرية، فيكون المراد بها هنا توكيد التحذير وبيان حكم البدعة.

هذا كلام عام مسور بأقوى لفظ دال على العموم، وهو لفظ ( كل ) ، فهو تعميم محكم صدر من الرسول صلي الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق بياناً، وأصدقهم خبراً، فاجتمعت في حقه أربعة أمور: علم ونصح وفصاحة وصدق، نطق بقوله: " كل بدعة ضلالة " .

فعلي هذا: كل من تعبد لله بعقيدة أو قول أو فعل لم يكن من شريعة الله، فهو مبتدع.

فالجهمية يتعبدون بعقيدتهم، ويعتقدون أنهم منزهون لله، والمعتزلة كذلك. والأشاعرة يتعبدون بما هم عليه من عقيدة باطلة.

والذين أحدثوا أذكاراً معينة يتعبدون لله بذلك، ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.

والذين أحدثوا أفعالاً يتعبدون لله بها ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.

كل هذه الأصناف الثلاثة الذين ابتدعوا في العقيدة أو في الأقوال أو في الأفعال، كل بدعة من بدعهم، فهي ضلالة، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بالضلالة، لأنها مركب، ولأنها أنحراف عن الحق.

والبدعة تستلزم محاذير فاسدة:

فأولاً: تستلزم تكذيب قول الله تعالي: ) اليوم أكملت لكم دينكم ( [ المائدة:3]، لأنه إذا جاء ببدعة جديدة يعتبرها ديناً، فمقتضاه أن الدين لم يكمل.

ثانياً: تستلزم القدح في الشريعة، وأنها ناقصة، فأكملها هذا المبتدع.

ثالثاً : تستلزم القدح في المسلمين الذين لم يأتوا بها، فكل من سبق هذه البدع من الناس دينهم ناقص! وهذا خطير !!

رابعاً:من لوازم هذه البدعة أن الغالب أن من اشتغل ببدعة، انشغل عن سنة، كما قال بعض السلف: " ما أحدث قوم بدعة، إلا هدموا مثلها من السنة".

خامساً: أن هذه البدع توجب تفرق الأمة، لأن هؤلاء المبتدعة يعتقدون أنهم أصحاب الحق، ومن سواهم علي ضلال!! وأهل الحق يقولون: أنتم الذين على ضلال ! فتتفرق قلوبهم.

فهذه مفاسد عظيمة، كلها تترتب علي البدعة من حيث هي بدعة، مع أنه يتصل بهذه البدعة سفه في العقل وخلل في الدين.

وبهذا نعرف أن من قسم البدعة إلي ثلاثة أقسام أو خمسة أو ستة، فقد أخطأ، وخطؤه من أحد وجهين:

-إما أن لا ينطبق شرعاً وصف البدعة على ما سماه بدعة.

- وإما أن لا يكون حسناً كما زعم.

فالنبي صلي الله عليه وسلم قال: " كل بدعة ضلالة" ، فقال: " كل "، فما الذي يخرجنا من هذا السور العظيم حتي نقسم البدع إلي أقسام؟

*فإن قلت: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الناس وهم يصلون بإمامهم في رمضان، فقال: نعمت البدعة هذه[339]. فأثني عليها، وسماها بدعة؟ !

فالجواب أن نقول: ننظر إلي هذه البدعة التي ذكرها، هل ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية أو لا.

فإذا نظرنا لم يخرج وجدنا أنه لا ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية، فقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم صلي بأصحابه في رمضان ثلاث ليال، ثم تركه خوفاً من أن تفرض عليهم [340]، فثبت أصل المشروعية، وانتفي أن تكن بدعة شرعية، ولا يمكن أن نقول: إنها بدعة، والرسول صلي الله عليه وسلم قد صلاها.

وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة، لأن الناس تركوها، وصاروا لا يصلون جماعة بإمام واحد، بل أوزاعاً، الرجل وحده والرجلان والثلاثة والرهط، فلما جمعهم علي إمام واحد، صار اجتماعهم بدعة بالنسبة لما كانوا عليه أولاً من هذا التفرق.

فإنه خرج رضي الله عنه ذات ليلة، فقال: لو أني جمعت الناس على إمام واحد، لكان أحسن، فأمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدي عشرة ركعة، فقاما للناس بإحدي عشرة ركعة، فخرج ذات ليلة والناس يصلون بإمامهم، فقال: نعمت البدعة هذه.

إذاً، هي بدعة نسبية، باعتبار أنها تركت ثم أنشئت مرة أخري.

فهذا وجه تسميتها ببدعة.

وأما أنها بدعة شرعية، ويثني عليها عمر، فكلاً.

وبهذا نعرف أن كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يعارضه كلام عمر رضي الله عنه.

*فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول الرسول صلي الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة "[341]، فأثبت أن الإنسان يسن سنة حسنة في الإسلام؟

فنقول: كلام الرسول صلي الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض، فيريد بالسنة الحسنة السنة المشروعة، ويكون المراد بسنها المبادرة إلى فعلها.

يعرف هذا ببيان سبب الحديث، وهو أن النبي صلي الله عليه وسلم قاله حين جاء أحد الأنصار بصرة ( يعني: من الدراهم)، ووضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا أصحابه أن يتبرعوا للرهط الذين قدموا من مضر مجتابي النمار، وهم من كبار العرب، فتمعر وجه النبي صلي الله عليه وسلم لما رأي من حالهم، فدعا إلي التبرع لهم، فجاء هذا الرجل أول ما جاء بهذه الصرة، فقال : " من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة " .

أو يقال: المراد بالسنة الحسنة ما أحدث ليكون وسيلة إلي ما ثبتت مشروعيته، كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحو ذلك.

وبهذا نعرف أن كلام الرسول صلي الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضاً، بل هو متفق، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.

ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله (1) ………………………………

(1)هذا علمنا واعتقادنا، وأن ليس في كلام الله من كذب، بل هو أصدق الكلام، فإذا أخبر الله عن شيء بأنه كائن، فهو كائن، وإذا أخبر عن شيء بأنه سيكون، فإنه سيكون، وإذا أخبر عن شيء بأن صفته كذا وكذا، فإن صفته كذا وكذا، فلا يمكن أن يتغير الأمر عما أخبر الله به، ومن ظن التغير، فإنما ظنه خطأ، لقصوره أو تقصيره.

مثال ذلك لو قال قائل: إن الله عز وجل أخبر أن الأرض قد سطحت، قال: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:20)، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة، فكيف يكون خبره خلاف الواقع؟

فجوابه أن الآية لا تخالف الواقع، ولكن فهمه خاطئ إما لقصوره أو تقصيره، فالأرض مكورة مسطحة، وذلك لأنها مستديرة، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها إلا في مساحة واسعة تكون بها مسطحة، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه، حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية.

فإذا كنا نؤمن أن أصدق الكلام كلام الله، ، فلازم ذلك أنه يجب علينا أن نصدق بكل ما أخبر به كتابه، سواء كان ذلك عن نفسه أو عن مخلوقاته.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (1)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 4:02 am

)" الهدي " : هو الطريق التي كان عليها السالك.

والطرق شتي، لكن خيرها طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم ذلك ونؤمن به، نعلم أن خير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن هدي محمد صلى الله عليه وسلم ليس بقاصر، لا في حسنه وتمامه وانتظامه موافقته لمصالح الخلق، ولا في أحكام الحوداث التي لم تزل ولا تزال تقع إلي يوم القيامة، فإن هدي محمد صلي الله عليه وسلم كامل تام، فهو خير الهدي، أهدي من شريعة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وجميع الهدي.

فإذا كنا نعتقد ذلك، فو الله ، لا نبغي به دليلاً.

وبناء على هذه العقيدة لا نعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، كائناً من كان، حتى لو جاءنا قول لأبي بكر، وهو خير الأمة، وقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، أخذنا بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم.

وأهل السنة والجماعة بنوا هذا الاعتقاد على الكتاب والسنة.

قال الله تعالي: ) ومن أصدق من الله حديثاً ( [ النساء: 87].

وقال النبي صلي الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على المنبر: " خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم " [342]

ولهذا تجد الذين اختلفوا في الهدي وخالفوا فيه: إما مقصرين عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما غالين فيها، بين متشددين وبين متهاونين، بين مفرط ومفّرط، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بين هذا وهذا.

ويؤثرون (1) كلام الله على كلام غيره غيره من كلام أصناف الناس(2) ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم(3) على هدي كل أحد(4)........................

(1)أي: يقدمون.

(2)أي يقدمون كلام الله على كلام غيره من سائر أصناف الناس في الخبر والحكم، فأخبار الله عندهم مقدمة على خبر كل أحد.

*فإذا جاءتنا أخبار عن أمم مضت وصار القرآن يكذبها، فإننا نكذبها.

مثال ذلك: اشتهر عند كثير من المؤرخين أن إدريس قبل نوح، وهذا كذب، لأن القرآن يكذبه، كما قال تعالى: )إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ النساء: 163]، وإدريس من النبيين، كما قال الله تعالي: ) واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ( [مريم: 56] إلي أن قال: ) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ( [ مريم: 58]، وقال تعالي: ) ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب( [ الحديد: 26] فلا نبي قبل نوح إلا آدم فقط.

أي: طريقته وسنته التي عليها.

في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال وفي كل شيء، لقوله تعالي: )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)( الأنعام: 153]، وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)

ولهذا(1) سموا أهل الكتاب والسنة (2) وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة في الاجتماع وضدها الفرقة (3) وإن كان لفظ الجماعة قد صار أسماً لنفس القوم المجتمعين(4)…..

(1)قوله: " ولهذا " : اللام في قول: " ولهذا " للتعليل، أي: ومن أجل إيثارهم كلام الله وتقديم هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم .

(2)لتصديقهما والتزامهما وإيثارهما على غيرهما. ومن خالف الكتاب والسنة، وادعي أنه من أهل الكتاب والسنة، فهو كاذب، لأن من كان من أهل شيء لابد أن يلزمه ويلتزم به.

(3)الجماعة اسم مصدر يجتمع اجتماعاً وجماعة، فالجماعة هي الاجتماع، فمعني أهل الجماعة أهل الاجتماع، لأنهم مجتمعون على السنة، متالفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضاً، ولا يبدع بعضهم بعضاً، بخلاف أهل البدع.

(4)هذا استعمال ثان، حيث صار لفظ ( الجماعة ) عرفاً: اسماً للقوم المجتمعين.

*وعلى ما قرره المؤلف تكون ( الجماعة ) في قولنا: " أهل السنة والجماعة " : معطوفة على ( السنة )، ولهذا عبر المؤلف بقوله: " سموا أهل الجماعة" ، ولم يقل: سموا جماعة، فكيف يكونون أهل الجماعة وهم جماعة؟ ‍

نقول: الجماعة في الأصل: الاجتماع، فأهل الجماعة، يعني: أهل الاجتماع، لكن نقل اسم الجماعة إلي القوم المجتمعين نقلاً عرفياً.

والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين (1) …………

(1) يعني به الدليل الثالث، لأن الأدلة أصول الأحكام، حيث تبنى عليها.

*والأصل الأول: هو الكتاب، والثاني: السنة، والإجماع هو: الأصل الثالث، ولهذا يسمون: أهل الكتاب والسنة والجماعة.

فهذه ثلاثة أصول يعتمد عليها في العلم والدين، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب والسنة، فأصلان ذاتيان، وأما الإجماع، فأصل مبني على غيره، إذ لا إجماع إلا بكتاب أو سنة.

أما كون الكتاب والسنة يرجع إليه، فأدلته كثيرة، منها:

قوله تعالىSadفَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ )[ النساء: 59]. وقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[ المائدة: 92].

وقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[ الحشر: 7] قوله تعاليSad مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[ النساء: 80].

ومن أنكر أن تكون السنة أصلاً في الدليل، فقد أنكر أن يكون القرآن أصلاً.

ولا شك عندنا في أن من قال: إن السنة لا يرجع إليها في الأحكام الشرعية، أنه كافر مرتد عن الإسلام، لأنه مكذب ومنكر للقرآن، فالقرآن في غير ما موضع جعل السنة أصلاً يرجع إليه.

وأما الدليل على أن الإجماع أصل، فيقال:

أولاً: هل الإجماع موجود أو غير موجود؟

قال بعض العلماء: لا إجماع موجود، إلا على ما فيه نص، وحينئذ، يستغني بالنص عن الإجماع.

فمثلاً، لو قال قائل: العلماء مجمعون على أن الصلوات المفروضة خمس، فهذا صحيح، لكن ثبوت فرضيتها بالنص.

ومجمعون على تحريم الزني، فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.

ومجمعون على تحريم نكاح ذوات المحارم فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص.

ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعي الإجماع، فهو كاذب، وما يدريه؟ لعلهم اختلفوا.

والمعروف عن عامة العلماء أن الإجماع موجود، وأن كونه دليلاً ثابت بالقرآن والسنة:

فمن ذلك قوله تعاليSadفَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ )[ النساء: 59]، فإن قوله: ) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ( : يدل على أن ما أجمعنا عليه لا يجب رده إلي الكتاب والسنة، اكتفاء بالإجماع! وهذا الاستدلال فيه شيء!!

ومن ذلك قوله: ) ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيراً( [النساء: 115]، فقال ) ويتبع غير سبيل المؤمنين( .

واستدلوا أيضاً بحديث: " لا تجتمع أمتي على ضلالة "[343].

وهذا الحديث حسنه بعضهم وضعفه آخرون، لكن قد نقول: إن هذا، وإن كان ضعيف السند، لكن يشهد لمتنه ما سبق من النص القرآني.

فجمهور الأمة على أن الإجماع دليل مستقل، وأننا إذا وجدنا مسألة فيها إجماع، أثبتناها بهذا الإجماع.

وكأن المؤلف رحمه الله يريد من هذه الجملة إثبات أن إجماع أهل السنة حجة.

وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين (1) والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذا بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة (2) ……………………………………………

(1)" الأصول الثلاثة" : هي الكتاب والسنة والإجماع.

يعني: أن أهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من قول أو عمل، باطن أو ظاهر، لا يعرفون أنه حق، إلا إذا وزنوه بالكتاب والسنة والإجماع، فإن وجد له دليل منها، فهو حق، وإن كان على خلافه، فهو باطل.

(2) يعني أن الإجماع الذي يمكن ضبطه والإحاطة به هو ما كان عليه السلف الصالح وهم القرون الثلاثة، الصحابة والتابعون وتابعوهم.

ثم علل المؤلف ذلك بقوله: " إذ بعدهم كثر الاختلاف وكثرت الأمة " يعني: أنه كثر الاختلاف ككثرة الأهواء، لأن الناس تفرقوا طوائف، ولم يكونوا كلهم يريدون الحق، فاختلفت الآراء، وتنوعت الأقوال، وانتشرت الأمة فصارت الإحاطة بهم من أصعب الأمور.

فشيخ الإسلام رحمه الله كأنه يقول: من ادعي الإجماع بعد السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، فإنه لا يصح دعواه الإجماع، لأن الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، وهل يمكن أن يوجد إجماع بعد الخلاف؟ فنقول: لا إجماع مع وجود خلاف سابق ولا عبرة بخلاف بعد تحقق الاجماع.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 4:04 am

فصل

في منهج أهل السنة والجماعة

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال



فصل

ثم هم (1) مع هذه الأصول(2) يأمرون بالمعروف(3) وينهون عن المنكر(4) على ما توجبه الشريعة (5)…………………………………

(1)أي: أهل السنة والجماعة.

(2) " مع هذه الأصول" : السابقة التي ذكرها قبل هذا، وهو اتباع آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، واتباع الخلفاء الراشدين وإيثارهم كلام الله وكلام رسوله على غيره واتباع إجماع المسلمين، مع هذه الأصول: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

(3) " المعروف" : كل ما أمر به الشرع ، فهم يأمرون به.

(4) " المنكر " : كل ما نهي عن الشرع، فهم ينهون عنه.

لأن هذا هو ما أمر الله به في قوله: ) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( [ آل عمران: 104].

وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً "[344].

فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يتأخرون عن ذلك.

ولكن يشترط للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن يكونا على ما توجبه الشريعة وتقتضيه.

ولذلك شروط:

الشرط الأول: أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهي عنه، فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به: ولا ينهي إلا عما علم أن الشرع نهى عنه، ولا يعتمد في ذلك على ذوق ولا عادة.

لقوله تعالي لرسوله صلي الله عليه وسلم : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ )[ المائدة: 48].

وقوله: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)

وقوله: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116)

فلو رأى شخصاً يفعل شيئاً الأصل فيه الحل، فإنه لا يحل له أن ينهاه عنه حتى يعلم أنه حرام أو منهي عنه.

ولو رأى شخصاً ترك شيئاً يظنه الرائي عبادة، فإنه لا يحل له أن يأمره بالتعبد به حتى يعلم أن الشرع أمر به.

الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجه إليه الأمر أو النهي أم لا؟ فلو رأي شخصاً يشك هل هو مكلف أم لا، لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتى يستفصل.

الشرط الثالث: أن يكون عالماً بحال المأمور حال تكليفه، هل قال بالفعل أم لا؟

فلو رأي شخصاً دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلي ركعتين، فلا ينكر عليه، ولا يأمره بهما، حتى يستفصل.

ودليل ذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل، فجلس، فقال له النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم: " أصليت ؟ " .

قال: لا قال: " قم فصل ركعتين وتجوز فيها"[345].

ولقد نقل لي أنه بعض الناس يقول: يحرم أن يسجل القرآن بأشرطه، لأن ذلك إهانة للقرآن على زعمه ! فينهى الناس أن يسجلوا القرآن على هذه الأشرطة، لظنه أنه منكر!!

فنقول له : إن المنكر أن تنهاهم عن شيء لم تعلم أنه منكر!! فلابد أن تعلم أن هذا منكر في دين الله.

وهذا في غير العبادات، أما العبادات، فإننا لو رأينا رجلاً يتعبد بعبادة، لم يعلم أنها مما أمر الله به، فإننا ننهاه، لأن الأصل في العبادات المنع.

الشرط الرابع: أن يكون قادراً على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه، فإن لحقه ضرر، لم يجب عليه، لكن إن صبر وقام به، فهو أفضل، لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة، لقوله تعالي: ) فاتقوا الله ما استطعتم ( [ التغابن: 16]، وقوله: ) لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( [ البقرة: 286].

فإذا خاف إذا أمر شخصاً بمعروف أن يقتله، فإنه لا يلزمه أن يأمره، لأنه لا يستطيع ذلك، بل قد يحرم عليه حينئذ. وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الأمر والصبر، وإن تضرر بذلك ما لم يصل إلي حد القتل. لكن القول الأول أولي، لأن هذا الأمر إذا لحقه الضرر بحبس ونحوه، فإن غيره قد يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً مما حصل، حتى في حال لا يخشى ذلك الضرر.

وهذا ما لم يصل الأمر إلى حد يكون الأمر حد يكون الأمر بالمعروف من جنس الجهاد، كما لو أمر بسنة ونهي عن بدعة، ولو سكت ، لاستطال أهل البدعة على أهل البدعة، ففي هذه الحال يجب إظهار السنة وبيان البدعة، لأنه من الجهاد في سبيل الله، ولا يعذر من تعين عليه بالخوف على نفسه.

الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت، فإن ترتب عليها ذلك، فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر.

ولهذا قال العلماء: إن إنكار ينتج منه إحدى أحوال أربعة: إما أن يزول المنكر، أو يتحول إلى أخف منه، أو إلى مثله، أو إلى أعظم منه.

أما الحالة الأولي والثانية، فالإنكار واجب.

أما في الثالثة، فهي في محل نظر.

وأما في الرابعة، فلا يجوز الإنكار، لأن المقصود بإنكار المنكر إزالته أو تخفيفه.

مثال ذلك: إذا أراد أن يأمر شخصاً بفعل إحسان، لكن يستلزم فعل هذا الإحسان ألا يصلي مع الجماعة، فهنا لا يجوز الأمر بهذا المعروف، لأنه يؤدي إلي ترك واجب من أجل فعل مستحب.

وكذلك في المنكر لو كان إذا نهي عن هذا المنكر، تحول الفاعل له إلى فعل منكر أعظم، فإنه في هذه الحال لا يجوز أن ينهي عن هذا المنكر دفعاً لأعلي المفسدتين بأدناهما.

ويدل لهذا قوله تعالي: ) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلي ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ( [ الأنعام: 108] فإن سب آلهة المشركين، لا شك أنه أمر مطلوب، لكن لما كان يترتب عليه أمر محظور أعظم من المصلحة التي تكون بسب آلهة المشركين، وهو سبهم لله تعالي عدواً بغير علم، نهي الله عن سب آلهة المشركين في هذه الحال.

ولو وجدنا رجلاً يشرب الخمر، وشرب الخمر منكر، فلو نهيناه عن شربه، لذهب يسرق أموال الناس ويستحل أعراضهم، فهنا لا ننهاه عن شرب الخمر، لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم.

الشرط السادس: إن يكون هذا الآمر أو الناهي قائماً بما يأمر به منتهياً عما ينهى عنه، وهذا على رأي بعض العلماء، فإن كان غير قائم بذلك، فإنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر، لأن الله تعالي قال لبني إسرائيل: ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ( [ البقرة: 44]، فإذا كان هذا الرجل لا يصلي، فلا يأمر غيره بالصلاة، وإن كان يشرب الخمر، فلا ينهي غيره عنها، ولهذا قال الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

فهم استدلوا بالأثر والنظر.

ولكن الجمهور علي خلاف ذلك ، وقالوا: يجب أن يأمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه، وينهى عن المنكر، وإن كان يأتيه، وإنما وبخ الله تعالي بني إسرائيل، لا على أمرهم بالبر، ولكن علي جمعهم بين الأمر بالبر ونسيان النفس.

وهذا القول هو الصحيح، فنقول: أنت الآن مأمور بأمرين: الأول: فعل البر، والثاني: الأمر بالبر. منهي عن أمرين: الأول: فعل المنكر، والثاني: ترك النهي عن فعله. فلا تجمع بين ترك المأمورين وفعل المنهيين، فإن ترك أحدهما لا يستلزم سقوط الآخر.

فهذه ستة شروط ، منها أربعة للجواز، وهي الأول والثاني والثالث والخامس، على تفصيل فيه، واثنان للوجوب، وهما الرابع والسادس.

ولا يشترط أن لا يكون من أصول الآمر أو الناهي كأبيه أو أمه أو جده أو جدته، بل ربما نقول: إن هذا يتأكد أكثر، لأن من بر الوالدين أن ينهاهما عن فعل المعاصي ويأمرهما بفعل الطاعات قد يقول: أنا إذا نهيت أبي، غضب علي، وهجرني، فماذا أصنع؟

نقول: اصبر على هذا الذي ينالك بغضب أبيك وهجره، والعاقبة للمتقين، واتبع ملة إبراهيم عليه السلام، حيث عاتب أباه على الشرك، فقال: (ِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إلي أن قال: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً) (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) قال: أي أبوه: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)[ مريم: 42-46]. وقال إبراهيم أيضاً لأبيه آزر: ) أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( [الأنعام: 74].

ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد، مع الأمراء، أبراراً كانوا أو فجاراً (1)…...........

(1)الأبرار: جمع بر، وهو كثير الطاعة، والفجار: جمع فاجر وهو العاصي كثير المعصية.

فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تماماً، فيرون إقامة الحج مع الأمير، وإن كان من أفسق عباد الله.

وكان الناس فيما سبق يجعلون على الحج أميراً، كما جعل النبي صلي الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج في العام التاسع من الهجرة، وما زال الناس على ذلك، يجعلون للحجة أميراً قائداً يدفعون ويقفون بوقوفه، وهذا هو المشروع، لأن المسلمين يحتاجون إلي إمام يقتدون به، أما كون كل إنسان على رأسه، فإنه يحصل به فوضى واختلاف.

فهم يرون إقامة الحج من الأمراء، وإن كانوا فساقاً، حتي وإن كانوا يشربون الخمر في الحج، لا يقولون: هذا إمام فاجر، لا نقبل إمامته، لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإن كان فاسقاً، بشرط أن لا يخرجه فسقه إلي الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، فهذا لا طاعة له، ويجب أن يزال عن تولي أمور المسلمين، لكن الفجور الذي دون الكفر مهما بلغ، فإن الولاية لا تزول به، بل هي ثابتة، والطاعة لولي الأمر واجبة في غير المعصية.

خلافاً للخوارج، الذين يرون أنه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصياً، لأن من قاعدتهم: أن الكبيرة تخرج من الملة.

وخلافاً للرافضة الذين يقولون: إنه لا إمام إلا المعصوم، وإن الأمة الإسلامية منذ غاب من يزعمون أنه الإمام المنتظر، ليست على إمام، ولا تبعا لإمام، بل هي تموت ميتة جاهلية من ذلك الوقت إلى اليوم، ويقولون: إنه لا إمام إلا الإمام المعصوم، ولا حج ولا جهاد مع أي أمير كان، لأن الإمام لم يأت بعد.

*لكن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواء كانوا أبراراً أو فجاراً ، وكذلك إقامة الجهاد مع الأمير، ولو كان فاسقاً، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحلة.

فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر، لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله، وتجر إلى فتن عظيمة.

فما الذي فتح باب الفتن والقتال بين المسلمين والاختلاف في الأراء إلا الخروج على الأئمة؟!

فيرى أهل السنة والجماعة وجوب إقامة الحج والجهاد مع الأمراء، وإن كانوا فجاراً.

ولكن هذا لا يعني أن أهل السنة والجماعة لا يرون أن فعل الأمير منكر، بل يرون أنه منكر، وأن فعل الأمير للمنكر قد يكون أشد من فعل عامة الناس، لأن فعل الأمير للمنكر يلزم منه زيادة على إثمه محذوران عظيمان:

الأول: اقتداء الناس به وتهاونهم بهذا المنكر.

والثاني: أن الأمير إذا فعل المنكر سيقل في نفسه تغييره على الرعية أو تغيير مثله أو مقاربه.

لكن أهل السنة والجماعة يقولون: حتي مع هذا الأمر المستلزم لهذين المحذورين أو لغيرهما، فإنه يجب علينا طاعة ولاة الأمور، وإن كانوا عصاة، فنقيم معهم الحج والجهاد، وكذلك الجمع، نقيمها مع الأمراء، ولو كانوا فجاراً.

فالأمير إذا كان يشرب الخمر مثلاً، ويظلم الناس بأموالهم، نصلي خلفه الجمعة، وتصح الصلاة، حتي إن أهل السنة والجماعة يرون صحة الجمعة خلف الأمير المبتدع إذا لم تصل بدعته إلي الكفر، لأنهم يرون أن الاختلاف عليه في مثل هذه الأمور شر، ولكن لا يليق بالأمير الذي له إمامة الجمعة أن يفعل هذه المنكرات.

وكذلك أيضاً إقامة الأعياد مع الأمراء الذي يصلون بهم، أبراراً كانوا أو فجاراً.

وبهذه الطريق الهادئة يتبين أن الدين الإسلامي وسط بين الغالي في والجافي عنه.

فقد يقول قائل: كيف نصلي خلف هؤلاء ونتابعهم في الحج والجهاد والجمع والأعياد؟ !

فنقول: لأنهم أئمتنا، ندين لهم بالسمع والطاعة: امتثالاً لأمر الله بقوله: ) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( [ النساء: 59]. ولأمر النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: " إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: " أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم "[346]. وحقهم: طاعتهم في غير معصية الله.

وعن وائل بن حجر، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلي الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: " اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " [347]

وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: بايعنا رسول الله صلي الله عليه وعلي آله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان "[348].

ولأننا لو تخلفنا عن متابعتهم، لشققنا عصا الطاعة الذين يترتب على شقه أمور عظيمة، ومصائب جسيمة.

والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور، لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه، مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الأجتهاد، فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام، لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم، فليس من طريق أهل السنة والجماعة.

ويحافظون على الجماعات (1)، ويدينون بالنصيحة للأمة (2) ………………

أي: يحافظ أهل السنة والجماعة على الجماعات، أي: علي إقامة الجماعة في الصلوات الخمس، يحافظون عليها محافظة تامة، بحيث إذا سمعوا النداء، أجابوا وصلوا مع المسلمين، فمن لم يحافظ على الصلوات الخمس، فقد فاته من صفات أهل السنة والجماعة ما فاته من هذه الجماعات.

وربما يدخل في الجماعات الاجتماع على الرأي وعدم النزاع فيه، فإن هذا ما أوصي به النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم معاذ بن جبل وأبا موسي حين بعثهما إلي اليمن، فقال: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا "[349].

" يدينون " ، أي: يتعبدون لله عز وجل بالنصيحة للأمة، ويعتقدون ذلك ديناً.

والنصح للأمة قد يكون الحامل عليه غير التعبد لله، فقد يكون الحامل عليه الغيرة، وقد يكون الحامل عليه الخوف من العقوبات، وقد يكون الحامل عليه أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة التي يريد بها نفع المسلمين.. إلي غير ذلك من الأسباب.

لكن هؤلاء ينصحون للأمة طاعة لله تعالي وتديناً له، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث تميم بن أوس الداري: " الدين النصيحة، الدين النصيحة " . قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم "[350].

فالنصيحة لله صدق الطلب في الوصول إليه.

والنصيحة للرسول عليه الصلاة والسلام صدق الاتباع له، ويستلزم ذلك الذود عن دين الله عز وجل، الذي جاء به رسول صلي الله عليه وسلم، ولهذا قال " ولكتابه " .

فينصح للقرآن ببيان أنه كلام الله، وأنه منزل غير مخلوق، وأنه يجب تصديق خبره وامتثال أحكامه، وهو كذلك يعتقده في نفسه.

" وأئمة المسلمين " كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، فهو إمام في ذلك الأمر، فهناك إمام عام كرئيس الدولة، وهناك إمام خاص، كالأمير والوزير والمدير والرئيس وأئمة المساجد وغيرهم.

وعامتهم، يعني: عامة المسلمين، وهم التابعون للأئمة.

ومن أعظم أئمة المسلمين العلماء، والنصيحة لعلماء المسلمين هي نشر محاسنهم، والكف عن مساوئهم، والحرص على إصابتهم الصواب، بحيث يرشدهم إذا أخطاءوا، ويبين لهم أخطأ على وجه لا يخدش كرامتهم، ولا يحط من قدرهم، لأن تخطئة العلماء على وجه يحط من قدرهم ضرر على عموم الإسلام، لأن العامة إذا رأوا العلماء يضلل بعضهم بعضاً سقطوا من أعينهم وقالوا: كل هؤلاء راد و مردود عليه. فلا ندري من الصواب معه! فلا يأخذون بقول أي واحد منهم، لكن إذا احترم العلماء بعضهم بعضاً، وصار كل واحد يرشد أخاه سراً إذا أخطأ، ويعلن للناس القول الصحيح ، فإن هذا من أعظم النصيحة لعلماء المسلمين.

وقول المؤلف: " للأمة" : يشمل الأئمة والعامة، فأهل السنة والجماعة يدينون بالنصيحة للأمة، أئمتهم وعامتهم.

وكان مما يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه: " والنصح لكل مسلم"[351].

فإذا قال قائل: ما هو ميزان النصيحة للأمة؟

فالميزان هو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: " لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [352]، فإذا عاملت الناس هذه المعاملة، فهذا هو تمام النصيحة.

فقبل أن تعامل صاحبك بنوع من المعاملة فكر، هل ترضي أن يعاملك شخص بها؟ فإن كنت لا ترضي، فلا تعامله!!

ويعتقدون معني قوله صلي الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه صلي الله عليه وسلم (1) ……………………

* شبه النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم المؤمن لأخيه المؤمن بالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً، حتي يكون بناء محكماً متماسكاً يشد بعضه بعضاً ويقوي به، ثم قرب هذا وأكده، فشبك بين أصابعه.

فالأصابع المتفرقة فيها ضعف، فإذا اشتبكت، قوي بعضها بعضاً، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، فالبنيان يمسك بعضه بعضاً، كذلك المؤمن مع أخيه إذا صار في أخيه نقص، فإن هذا يكمله، فهو مرآة أخيه إذا وجد فيه النقص كمله، إذا احتاج أخوه ساعده، إذا مرض أخوه عاده … وهكذا في كل الأحوال. فأهل السنة والجماعة يعتقدون هذا المعني ويطبقونه عملاً.

وقوله (1) صلي الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم (2) وتراحمهم (3) وتعاطفهم (4) كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمي والسهر"(5)………

(1)" قوله " : هنا معطوف على " قوله " في الحديث السابق.

(2)أي: مودة بعضهم بعضاً.

(3)أي: رحمة بعضهم بعضاً.

(4)أي: عطف بعضهم على بعض.

(5)أي: أنهم يشتركون في الآمال والآلام، فيرحم بعضهم بعضاً، فإذا احتاج، أزال حاجته، ويعطف بعضهم على بعض باللين والرفق وغير ذلك… ويود بعضهم بعضاً، حتى إن الواحد منهم إذا رأى في قلبه بغضاء لأحد من إخوانه المسلمين، حاول أن يزيله وأن يذكر من محاسنه ما يوجب زوال هذه البغضاء.

فالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو، ولو من أصغر الأعضاء، تداعي له سائر الجسد، فإذا أوجعك أصبعك الخنصر الذي هو من أصغر الأعضاء، فإن الجسد كله يتألم، إذا أوجعتك الأذن، تألم الجسد كله، وإذا أوجعتك العين، تألم الجسد كله، وغير ذلك،

فهذا المثل الذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلام مثل مصور للمعني ومقرب له غاية التقريب.

ويأمرون (1) بالصبر عند البلاء (2) …………………………

(1)" يأمرون ": قد يقال: إن هذه الكلمة تشمل أمر نفوسهم، لقوله تعالي: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [ يوسف:53]، فهم يأمرون حتي أنفسهم.

(2)الصبر: هو تحمل البلاء، وحبس النفس عن التسخط بالقلب أو اللسان أو الجوارح.

والبلاء: المصيبة، قال الله تعالي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة156:155) فالصبر يكون عند البلاء، وأفضله وأعلاه الصبر عند الصدمة الأولي، وهذا عنوان الصبر الحقيقي، كما قاله النبي صلي الله عليه وسلم للمرأة التي مر بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: " اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنكم لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلي الله عليه وسلم فأتت النبي صلي الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولي"[353]، أما بعد أن تبرد الصدمة، فإن الصبر يكون سهلاً، ولا ينال به كمال الصبر.

فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء، وما من إنسان إلا يبتلي إما في نفسه وإما في أهله، وإما في ماله، وإما في صحبه، وإما في بلده، وإما في المسلمين عامة. ويكون ذلك إما في الدنيا وإما في الدين، والمصيبة في الدين أعظم بكثير من المصيبة في الدنيا.

فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء في الأمرين:

فأما الصبر على بلاء الدنيا، فأن يتحمل المصيبة كما سبق.

وأما الصبر على بلاء الدين، فأن يثبت على دينه، ولا يتزعزع عنه، ولا يكن كمن قال الله تعالي فيهم: ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ( [ العنكبوت : 10].

والشكر عند الرخاء (1) والرضا بمر القضاء(2) ……………………………

(1)الرخاء: سعة في العيش، والأمن في الوطن، فيأمرون عند ذلك بالشكر.

وأيهما أشق الصبر على البلاء، أو الشكر عند الرخاء؟

اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الصبر على البلاء أشق، وقال آخرون: الشكر عند الرخاء أشق.

والصواب: أن لكل واحد آفته ومشقته، لأن الله عز وجل قالSadوَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ)( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [ هود: 9-10].لكن كل منهما قد يهونه بعض التفكير: فالمصاب إذا فكر وقال إن جزعي لا يرد المصيبة ولا يرفعها، فإما أن أصبر صبر الكرام، وإما أن أسلو سلو البهائم، فهان عليه الصبر، وكذلك الذي في رخاء ورغد.

لكن أهل السنة والجماعة يأمرون بهذا وهذا، بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء.

(2)الرضي أعلي من الصبر ومر القضاء: هو ما لا يلائم طبيعة الإنسان، ولهذا عبر عنه بـ "المر".

فإذا قضي الله قضاء لا يلائم طبيعة البشر، وتأذي به، سمي ذلك مر القضاء، فهو ليس لذيذاً ولا حلواً، بل هو مر، فهم يأمرون بالرضى بمر القضاء.

واعلم أن مر القضاء لنا فيه نظران:

النظر الأول: باعتباره فعلاً واقعاً من الله.

والنظر الثاني: باعتباره مفعولاً له.

فباعتبار كونه فعلاً من الله يجب علينا أن نرضي به، ألا نعترض على ربنا به، لأن هذا من تمام الرضي بالله رباً.

وأما باعتباره مفعولاً له، فهذا يسن الرضي به، ويجب الصبر عليه.

فالمرض باعتبار كون الله قدره الرضي به واجب، وباعتبار المرض نفسه يسن الرضي به ، وأما الصبر عليه، فهو واجب، والشكر عليه مستحب.

ولهذا نقول: المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات: المقام الأول: السخط، والثاني: الصبر، والثالث: الرضي، والرابع: الشكر.

فأما السخط، فحرام بل هو من كبائر الذنوب، مثل أن يلطم خده، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، أو يقول: واثبوراه! أو يدعو على نفسه بالهلاك وغير ذلك مما يدل على السخط، قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوي الجاهلية"[354]

الثاني: الصبر: بأن يحبس نفسه قلباً ولساناً وجوارح عن التسخط، فهذا واجب.

الثالث: الرضي: والفرق بينه وبين الصبر: أن الصابر يتجرع المر، لكن لا يستطيع أن يتسخط، إلا أن هذا الشيء في نفسه. صعب ومر، ويتمثل بقول الشاعر:

والصبر مثل أسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلي من العسل

لكن الراضي لا يذوق هذا مراً، بل هو مطمئن، وكان هذا الشيء الذي أصابه لا شيء.

وجمهور العلماء علي أن الرضي بالمقضي مستحب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.

الرابع: الشكر: وهو أن يقول بلسانه وحاله: " الحمد لله"، ويري أن هذه المصيبة نعمة، لكن، هذا المقام، قد يقول قائل: كيف يكون؟ !

فنقول: يكون لمن وقفه الله تعالي:

فأولاً: لأنه إذا علم أن هذه المصيبة كفارة للذنب، وأن العقوبة على الذنب في الدنيا أهون من تأخير العقوبة في الآخرة، صارت هذه المصيبة عنده نعمة يشكر الله عليها.

وثانياً: أن هذه المصيبة إذا صبر عليها، أثيب، لقوله تعالي: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بغير حساب)[ الزمر10].

فيشكر الله على هذه المصيبة الموجبة للأجر.

وثالثا: أن الصبر من المقامات العالية عند أرباب السلوك، لا ينال إلا بوجود أسبابه، فيشكر الله علي نيل هذا المقام.

ويذكر أن بعض العابدات أصيبت في أصبعها، فشكرت الله، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.

فأهل السنة والجماعة رحمهم الله يأمرون بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضي بمر القضاء.

تتمة:

القضاء يطلق لى معنيين:

أحدهما: حكم الله تعالى الذي هو قضاءه ووصفه، فهذا يجب الرضى به بكل حال، سواء كان قضاء دينياً أم قضاء كونياً، لأنه حكم الله تعالي، ومن تمام الرضى بربوبيته.

فمثال القضاء الديني قضاؤه بالوجوب والتحريم والحل، ومنه قوله تعالىSadوَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(الاسراء: من الآية23).

ومثال القضاء الكوني: قضاؤه بالرخاء والشدة والغني والفقر والصلاح والفساد والحياة والموت، ومنه قوله تعالي: ) فلما قضينا عليه الموت ( [ سبأ: 14]، ومنه قوله تعالي: )وقضينا إلي بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً ( [الإسراء: 4].

المعني الثاني: المقضي، وهو نوعان:

الأول: المقضي شرعاً، فيجب الرضي به وقبوله، فيفعل المأمور به، ويترك المنهي عنه، ويتمتع بالحلال.

والنوع الثاني: المقضي كوناً.

فإن كان من فعل الله، كالفقر والمرض والجدب والهلاك ونحو ذلك، فقد تقدم أن الرضي به سنة، لا واجب، على القول الصحيح.

وإن كان من فعل العبد، جرت فيه الأحكام الخمسة، فالرضي بالواجب، وبالمندوب مندوب، وبالمباح مباح، وبالمكروه مكروه، وبالحرام حرام.

ويدعون إلي مكارم الأخلاق (1) ومحاسن الأعمال (2) ويعتقدون معني قوله صلي الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " (3) …………………

(1)أي: أطايبها، والكرم من كل شئ هو الطيب منه بحسب ذلك الشيء، ومنه قول الرسول صلي الله عليه وسلم لمعاذ: " إياك وكرائم أموالهم " [355]، حين أمره بأخذ الزكاة من أهل اليمن.

والأخلاق: جمع خلق، وهو الصورة الباطنة في الإنسان، يعني: السجايا والطبائع، فهم يدعون إلي أن يكون الإنسان سريرته كريمة، فيجب الكرم والشجاعة والتحمل من الناس والصبر، وأن يلاقي الناس بوجه طلق وصدر منشرح ونفس مطمئنة، كل هذه من مكارم الأخلاق.

(2)" محاسن الأعمال " هي مما يتعلق بالجوارح، ويشمل الأعمال التعبدية والأعمال غير التعبدية، مثل البيع والشراء والإجارة، حيث يدعون الناس إلي الصدق والنصح في الأعمال كلها، وإلي تجنب الكذب والخيانة، وإذا كانوا يدعون الناس إلي ذلك، فهم بفعله أولى.

(3)هذا الحديث [356]ينبغي أن يكون دائماً نصب عيني المؤمن، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا مع الله ومع عباد الله.

أما حسن الخلق مع الله، فأن تتلقى أوامره بالقبول والإذعان والانشراح وعدم الملل والضجر، وأن تتلقى أحكامه الكونية بالصبر والرضي وما أشبه ذلك.

أما حسن الخلق مع الخلق، فقيل: هو بذل الندي، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.

بذل الندي، يعني: الكرم، وليس خاصاً بالمال، بل بالمال والجاه والنفس، وكل هذا من بذل الندي.

وطلاقة الوجه ضده العبوس.

وكذلك كف الأذى بأن لا يؤذي أحداً لا بالقول ولا بالفعل.

ويندبون (1) إلي أن تصل من قطعك (2) …………………

(1)أي: يدعون.

(2)" أن تصل من قطعك " : من الأقارب ممن تجب صلتهم عليك، إذا قطعوك، فصلهم، لا تقل: من وصلني، وصلته! فإن هذا ليس بصلة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل من إذا قطعت رحمه، وصلتها"[357]، فالواصل هو الذي إذا قطعت رحمه، وصلها.

وسأل النبي صلي الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله! إن لي أقارب، أصلهم ويقاطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون على! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن كنت كما قلت ، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك"[358].

" تسفهم المل" ، أي : كأنما تضع التراب أو الرماد الحار في أفواههم.

فأهل السنة والجماعة يندبون إلي أن تصل من قطعك، وأن تصل من وصلك بالأولي، لأن من وصلك وهو قريب، صار له حقان: حق القرابة، وحق المكافأة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من صنع إليكم معروفاً، فكافئوه" [359]

وتعطي من حرمك (1) وتعفو عمن ظلمك (2) …………………

(1)أي: من منعك، ولا تقل: منعني، فلا أعطيه.

(2)أي: من أنتقصك حقك: إما بالعدوان، وإما بعدم القيام بالواجب.

والظلم يدور على أمرين: اعتداء وجحود: إما أن يعتدي عليك بالضرب وأخذ المال وهتك العرض، وإما أن يجحدك فيمنعك حقك.

وكمال الإنسان أن يعفو عن من ظلمه.

ولكن العفو إنما يكون عند القدرة على الانتقام، فأنت تعفو مع قدرتك على الانتقام.

أولاً: رجاء لمغفرة الله عز وجل ورحمته، فإن من عفا وأصلح، فأجره على الله.

ثانياً: لإصلاح الود بينك وبين صاحبك، لأنك إذا قابلت إساءته بإساءة، استمرت الإساءة بينكما، وإذا قابلت إساءته بإحسان، عاد إلي الإحسان إليك، وخجل، قال الله تعالي: )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34) .

فالعفو عند المقدرة من سمات أهل السنة والجماعة، لكن بشرط أن يكون العفو إصلاحاً، فإن تضمن العفو إساءة، فإنهم لا يندبون إلي ذلك لأن الله اشترط فقال: ) فمن عفا وأصلح ( [الشوري: 40]، أي: كان في عفو إصلاح، أما من كان في عفوه إساءة، أو كان سبباً للاساءة، فهنا نقول: لا تعف ! مثل أن يعفو عن مجرم، ويكون عفو هذا سبباً لاستمرار هذا المجرم في إجرامه، فترك العفو هنا أفضل، وربما يجب ترك العفو حينئذ.

ويأمرون ببر الوالدين (1)...........................

(1)وذلك لعظم حقهما.

ولم يجعل الله لأحد حقاً يلي حقه وحق رسوله إلا للوالدين، فقال: ) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ( [ النساء: 36].

وحق الرسول في ضمن الأمر بعبادة الله، لأنه لا تتحقق العبادة حتي يقوم بحق الرسول عليه الصلاة والسلام، بمحبته واتباع سبيله، ولهذا داخلاً في قوله: ) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً (، وكيف يعبد الله إلا من طريق الرسول صلي الله عليه وسلم ، وإذا عبد الله على مقتضي شريعة الرسول، فقد أدي حقه.

ثم يلي ذلك حق الوالدين، فالوالدان تعباً على الولد، ولا سيما الأم الأم، قال الله تعالي: ) ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ( [ الأحقاف:15]، وفي آية أخرى: ) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمة وهنا على على وهن( [ لقمان: 14]، والأم تتعب في الحمل، وعند الوضع، وبعد الوضع، وترحم صبيها أشد من رحمة الوالد له.

ولهذا كانت أحق الناس بحسن الصحبة والبر، حتى من الأب.

قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال امك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك : قال في الرابعة: " ثم أبوك "[360].

والأب أيضاً يتعب في أولاده، ويضجر بضجرهم، ويفرح لفرحهم، ويسعي بكل الأسباب التي فيها راحتهم وطمأنينتهم وحسن عيشتهم، يضرب الفيافي والقفار من أجل تحصيل العيش له ولأولاده.

فكل من الأم والأب له حق، مهما عملت من العمل، لن تقضي حقهما، ولهذا قال الله عز وجل: ) وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ( [الإسراء: 24]، فحقهم سابق، حيث ربياك صغيراً حين لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً، فواجبها البر.

والبر فرض عين بالإجماع على كل واحد من الناس، ولهذا قدمه النبي صلي الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله، كما في حديث ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله! أي العمل أحب إلي الله ؟ قال: " الصلاة على وقتها " . قلت: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين" . قلت : ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله "[361].

والوالدان هما الأب والأم، أما الجد والجدة، فلهما بر، لكنه لا يساوي بر الأم والأب، لأن الجد والجدة لم يحصل لهما ما حصل للأم والأب من التعب والرعاية والملاحظة، فكان برهما واجباً من باب الصلة لكن هما أحق الأقارب بالصلة، أما البر، فإنه للأم والأب.

لكن، ما معني البر؟

البر: إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وكف الشر.

إيصال الخير بالمال، إيصال الخير بالخدمة، إيصال الخير بإدخال السرور عليهما، من طلاقة الوجه، وحسن المقال والفعال، وبكل ما فيه راحتهما.

ولهذا كان القول الراجح وجوب خدمة الأب والأم على الأولاد، إذا لم يحصل على الولد ضرر، فإن كان عليه ضرر، لم يجب عليه خدمتهما، اللهم إلا عند الضرورة.

ولهذا نقول: إن طاعتهما واجبة فيما فيه نفع لهما ولا ضرر على الولد فيه، أما ما فيه ضرر عليه، سواء كان ضرراً دينياً، كأن يأمراه بترك واجب أو فعل محرم، فإنه لا طاعة لهما في ذلك، أو كان ضرراً بدنيا، فلا يجب عليه طاعتهما. أما المال، فيجب عليه أن يبرهما ببذله، ولو كثر إذا لم يكن عليه ضرر، ولم تتعلق به حاجته، والأب خاصة له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ما لم يضر.

وإذا تأملنا في أحوال الناس اليوم، وجدنا كثيراً منهم لا يبر بوالديه، بل هو عاق، تجده يحسن إلي أصحابه، ولا يمل الجلوس معهم، لكن لو يجلس إلي أبيه أو أمه ساعة من نهار، لوجدته متململاً، كأنما هو على الجمر، فهذا ليس ببار، بل البار من ينشرح صدره لأمه وأبيه ويخدمهما على أهداب عينيه، ويحرص غاية الحرص على رضاهما بكل ما يستطيع.

وكما قالت العامة:" البر أسلاف " ، فإن البر مع كونه يحصل به البار على ثواب عظيم في الآخرة، فإنه يجازي به في الدنيا. فالبر والعقوق كما يقول العوام: " أسلاف "، أقرض، تستوف، إن قدمت البر، برك أولادك، وإن قدمت العقوق، عقك أولادتك..

وهنا حكايات كثيرة في أن من الناس من بر والديه فبر به أولاده، وكذلك العقوق فيه حكايات تدل على أن الإنسان عقه أولاده كما عق هو آباءه.

فأهل السنة والجماعة يأمرون ببر الوالدين.

وصلة الأرحام (1).................................

(1)وكذلك يأمرون بصلة الأرحام.

ففرق بين الوالدين والأقارب الآخرين، الأقارب لهم الصلة، والوالدان لهما البر، والبر أعلي من الصلة، لأن البر كثرة الخير والإحسان ، لكن الصلة آلا يقطع، ولهذا يقال في تارك البر: إنه عاق، ويقال فيمن لم يصل: إنه قاطع، فصلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة والحرمان من دخول الجنة، قال الله تعالي: ) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم اله فأصمهم وأعمي أبصارهم ( [ محمد: 22-23]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا يدخل الجنة قاطع" [362]، أي: قاطع رحم.

والصلة جاءت في القرآن والسنة مطلقة.

وكل ما أتي ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد

وعلي هذا، يرجع إلي العرف فيها، فما سماه الناس صلة، فهو صلة، وما سماه قطيعة، فهو قطيعة، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأمم.

إذا كان الناس في حالة فقر، وأنت غني، وأقاربك فقراء، فصلتهم أن تعطيهم بقدر حالك.

وإذا كان الناس أغنياء، وكلهم في خير، فيمكن أن يعد الذهاب إليهم في الصباح أو المساء صلة.

وفي زماننا هذه الصلة بين الناس قليلة، وذلك لانشغال الناس في حوائجهم، وانشغال بعضهم عن بعض، والصلة التامة أن تبحث عن حالهم، وكيف أولادهم، وتري مشاكلهم، ولكن هذه من الأسف مفقودة، كما أن البر التام مفقود عند كثير من الناس.

وحسن الجوار (1)...................

(1)أي: ويأمرون، يعني: أهل السنة والجماعة بحسن الجوار مع الجيران، والجيران هم الأقارب في المنزل، أدناهم أولاهم بالإحسان والإكرام: قال الله تعالي: ) وبالوالدين إحسانا وبذي القربي واليتامي والمساكين والجار ذي القربي والجار الجنب ( [ النساء: 36]، فأوصي الله بالإحسان إلي الجار القريب والجار البعيد.

وقال النبي صلي الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره "[363].

وقال: " إذا طبخت مرقة، فأكثر من ماءها، وتعاهد جيرانك" .

وقال: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه "[364].

وقال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"[365]. إلي غير ذلك من النصوص الدالة على العناية بالجار والإحسان إليه وإكرامه.

والجار إن كان مسلماً قريباً، كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.

وإن كان قريباً جاراً ، فله حقان: حق القرابة، وحق الجوار.

وإن كان مسلما غير قريب وهو جار، فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.

وإن كان جاراً كافراً بعيداً، فله حق واحد، وهو حق الجوار.

فأهل السنة والجماعة يأمرون بحسن الجوار مطلقاً، أيا كان الجار ومن كان أقرب، فهو أولي.

ومن المؤسف أن بعض الناس اليوم يسيئون إلي الجار أكثر مما يسيئون إلي غيره، فتجده يعتدي على جاره بالأخذ من ملكه وإزعاجه.

وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله في آخر باب الصلح في الفقه شيئاً من أحكام الجوار، فليرجع إليه.

والإحسان (1) إلي اليتامي (2) والمساكين(3) ………………

(1)كذلك يأمرون، أي: أهل السنة والجماعة بالإحسان إلي هؤلاء الأصناف الثلاثة.

(2)اليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل بلوغه.

وقد أمر الله تعالي بالإحسان إلي اليتامى، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حث عليه في عدة أحاديث.

ووجه ذلك أن اليتيم قد انكسر قلبه بفقد أبيه، فهو في حاجة إلي العناية والرفق.

والإحسان إلي اليتامى يكون بحسب الحال.

(3)والمساكين: هم الفقراء، وهو هنا شامل للمسكين والفقير.

فالإحسان إليهم مما أمر به الشرع في آيات متعددة من القرآن، وجعل لهم حقوقاً خاصة في الفيء وغيره.

ووجه الإحسان إليهم أن الفقر أسكنهم وأضعفهم وكسر قلوبهم، فكان من محاسن الإسلام أن نحسن إليهم جبراً لما حصل لهم من النقص والانكسار.

والإحسان إلي المساكين يكون بحسب الحال: فإذا كان محتاجاً إلي طعام، فالإحسان إليه بأن تطعمه، وإذا كان محتاجاً إلي كسوة، فالإحسان إليه بأن تكسوه، وإلي اعتبار بأن توليه اعتباراً، فإذا دخل المجلس، ترحب به، وتقدمه لأجل، أن ترفع من معنويته.

فمن أجل هذا النقض الذي قدره الله عز وجل عليه بحكمته أمرنا عز وجل أن نحسن إليهم.

وابن السبيل (1) والرفق بالمملوك (2) ………………………….

(1)ابن السبيل، وهو المسافر، وهو هنا المسافر الذي انقطع به السفر، أو لم ينقطع، بخلاف الزكاة لأن المسافر غريب، والغريب مستوحش، فإذا آنسته بإكرامه والإحسان إليه، فإن هذا مما يأمر به الشرع.

فإذا نزل ابن سبيل بك ضيفاً، فمن إكرامه أن تكرم ضيافته.

لكن قال بعض العلماء: إنه لا يجب إكرامه بضايفته إلا في القرى دون الأمصار!

ونحن نقول: بل هي واجبة في القرى والأمصار، إلا أن يكون هناك سبب، كضيق البيت مثلاً، أو أسباب أخري تمنع أن تضيف هذا الرجل، لكن على كل حال ينبغي إذا تعذر أن تحسن الرد.

يعني: أن أهل السنة والجماعة يأمرون بالرفق بالمملوك.

وهذا يشمل المملوك الآدمي والبهيم:

فالرفق بالمملوك الآدمي أن تطعمه إذا طعمت، وتكسوه إذا اكتسبت، ولا تكلفه ما لا يطيق.

والرفق بالمملوك من البهائم سواء كانت ما تركب أو تحلب أو تقتني، يختلف بحسب ما تحتاج إليه، ففي الشتاء تجعلها في الأماكن الدافئة إذا كانت تتحمل البرد، وفي الصيف في الأماكن الباردة إذا كانت لا تتحمل الحر، ويؤتي لها بالطعام وبالشراب إن لم تحصل عليه بنفسها بالرعي، وإذا كانت مما تحمل، فلا تحمل ما لا تطيق.

وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه لم ينس حتى البهائم، وعلي شمولية طريقة أهل السنة والجماعة.

وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق (1)……

(1)الفخر بالقول، والخيلاء بالفعل، والبغي العدوان، والاستطالة الترفع والاستعلاء.

فينهون عن الفخر: أن يتفاخر الإنسان على غيره بقوله، فيقول: أنا العالم ! أنا الغني! أنا الشجاع!

وإن زاد على ذلك أن يستطيل على الآخرين ويقول: ماذا أنتم عندي؟ فيكون هذا فيه بغي واستطالة على الخلق.

والخيلاء تكون بالأفعال، يتخايل في مشيته وفي وجهه وفي رفع رأسه ورقبته إذا مشي، كأنه وصل إلي السماء، والله عز وجل وبخ من كان هذا فعله، وقال: ) ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً ( [ الإسراء: 37].

فأهل السنة والجماعة ينهون عن هذا، ويقولون: كن متواضعاً في القول وفي الفعل، حتى في القول، لا تثن على نفسك بصفاتك الحميدة، إلا حيث دعت الضرورة أو الحاجة إلي ذلك، كقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لو أعلم أحداً هو أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه"[366]، فإنه رضي الله عنه قصد بذلك أمرين:

الأول: حث الناس على تعلم كتاب الله تعالي.

والثاني: دعوتهم للتلقي عنه.

والإنسان ذو الصفات الحميدة لا يظن أن الناس تخفي عليهم خصاله أبداً، سواء ذكرها للناس أم لم يذكرها، بل إن الرجل إذا صار يعدد صفاته الحميدة أمام الناس، سقط من أعينهم، فاحذر هذا الأمر.

والبغي: العدوان على الغير، ومواقعه ثلاثة بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام "[367].

كالبغي على الخلق بالأموال والدماء والأعراض.

في الأموال، مثل أن يدعي ما ليس له أو ينكر ما كان عليه، أو يأخذ ما ليس له، فهذا بغي على الأموال.

وفي الدماء: القتل فما دونه، يعتدي على الإنسان بالجرح والقتل.

وفي الأعراض: يحتمل أن يراد بها الأعراض، يعني: السمعة، فيعتدي عليه بالغيبة التي يشوه بها سمعته، ويحتمل أن يراد بها الزني وما دونه، والكل محرم، فأهل السنة والجماعة ينهون عن الاعتداء على الأموال والدماء والأعراض.

وكذلك الاستطالة على الخلق، يعني الاستعلاء عليهم بحق أو بغير حق.

فالاستعلاء على الخلق ينهي عنه أهل السنة والجماعة، سواء كان بحق أو بغير حق، والاستعلاء هو أن الإنسان يترفع على غيره.

وحقيقة الأمر أن من شكر نعمة الله عليك أن الله إذا منَّ عليك بفضل على غيرك من مال أو جاه أو سيادة أو علم أو غير ذلك، فإنه ينبغي أن تزداد تواضعاً، حتى تضيف إلى الحسن حسني، لأن الذي يتواضع في موضع الرفعة هو المتواضع حقيقة.

ومعني قوله: " بحق " أي: حتى لو كان له الحق في بيان أنه عال مترفع، فإن أهل السنة والجماعة ينهون عن الاستعلاء والترفع.

أو يقال: إن معني قوله: " الاستطالة بحق " : أن يكون أصل استطالته حقاً، بأن يكون قد اعتدي عليه إنسان، فيعتدي عليه أكثر.

فأهل السنة والجماعة رحمهم الله ينهون عن الاستطالة والاستعلاء على الخلق، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين   شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين - صفحة 2 Emptyالخميس مايو 08, 2014 4:05 am

ويأمرون بمعالي الأخلاق ( 1) وينهون عن سفاسفها (2) وكل ما يقولونه (3) ويفعلونه (4) من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة. وطرقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمداً صلي الله عليه وسلم (5)..................

(1)أي: ما كان عالياً منها، كالصدق والعفاف وأداء الأمانة ونحو ذلك.

(2)أي: رديئها، كالكذب والخيانة والفواحش ونحو ذلك.

(3)أي: أهل السنة والجماعة.

(4)من هذا وغيره.

(5)وهذه حال ينبغي أن يتنبه لها، وهو أننا كل ما نقوله وكل ما نفعله نشعر حال قوله أو فعله أننا نتبع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الإخلاص لله، لتكون أقوالنا وأفعالنا كلها عبادات لله عز وجل، ولهذا يقال: إن عبادات الغافلين عادات، وعادات المنتبهين عبادات.

فالإنسان الموفق يمكن أن يحول العادات إلي عبادات، والإنسان الغافل يجعل عباداته عادات.

فليحرص المؤمن على أن يجعل أقواله وأفعاله كلها تبعاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ينال بذلك الأجر، ويحصل به كمال الإيمان والإنابة إلي الله عز وجل.

لكن لما أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن أمته (1) ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (2)………………………

(1)" أن أمته "، يعني: أمة الإجابة، لا أمة الدعوة، لأن أمة الدعوة يدخل فيها اليهود والنصارى، وهم مفترقون، فاليهود إحدى وسبعون فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، كلها تنسب نفسها إلي الإسلام واتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم.

(2)قوله: " كلها في النار إلا واحدة "[368]: لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإنما المعني أن عملها مما تستحق به دخول النار.

وهذه الثلاث والسبعون فرقة، هل وقعت الآن وتمت أو هي في المنظور؟

أكثر الذين تكلموا على هذا الحديث قالوا: إنها وقعت وأنتهت، وصاروا يقسمون أهل البدع إلي خمسة أصول رئيسية، ثم هذه الخمسة الأصول يفرعون عنها فرقاً، حتي أوصلوها إلي أثنتين وسبعين فرقة، وأبقوا فرقة واحدة، وهي أهل السنة والجماعة.

وقال بعض العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أبهم هذه الفرق، ولا حاجة أن نتكلم فنقسم البدع الموجودة الآن إلي خمسة أصول، ثم نقسم هذه الأصول إلي فروع، حتي يتم العدد، حتي إننا نجعل الفرع أحياناً فرقة تامة من أجل مخالفتها في فرع واحد، فإن هذا لا يعد فرقة مستقلة.

فالأولي: أن نقول : إن هذه الفرق غير معلومة لنا، ولكننا نقول: بلا شك أنها فرق خرجت عن الصراط المستقيم، منها ما خرج فأبعد، ومنها ما خرج خروجاً متوسطاً، ومنها ما خرج خروجاً قريباً، ونلزم بحصرها، لأنه ربما يخرج فرق تنتسب للأمة الإسلامية غير التي عدها العلماء، كما هو الواقع، فقد خرج فرق تنتسب إلي الإسلام من غير الفرق التي كانت قد عدت في عهد العلماء السابقين.

وعلي كل حال، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن أمته أمة الإجابة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها ضالة، وفي النار، إلا واحدة، وهي:

وهي الجماعة(1)، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " (2) صار (3) المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة (4) ………………

(1)" الجماعة "، يعني: التي اجتمعت على الحق ولم تتفرق فيه.

(2)الذين كانوا على ما كان عليه الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه هم الجماعة الذين اجتمعوا على شريعته، وهم الذين امتثلوا ما وصي الله به: ) أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ( [الشوري: 13]، فهم لم يتفرقوا، بل كانوا جماعة واحدة.

(3)جملة " صار " جواب الشرط قوله: " لكن لما " .

(4)فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟

فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب.

وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيميه يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، لأن تمسكهم مشوب بما أدخلوا فيه من البدع.

وهذا هو الصحيح، أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة.

وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟!

لأنه يقال: إما إن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف، لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدي من بعدهم، فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم، صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك.

وفيهم الصديقون (1) …………………………

(1)قوله: " وفيهم " ، أي في أهل السنة.

(2)" الصديقون " : جمع صديق، من الصدق، وهذه الصيغة للمبالغة، وهو الذي جاء بالصدق وصدق به، كما قال تعالي: ) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ( [الزمر: 33]، فهو صادق في قصده، وصادق في قوله، وصادق في فعله.

أما صدقه في قصده، فعنده تمام الإخلاص لله عز وجل، وتمام المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، قد جرد الإخلاص والمتابعة، فلم يجعل لغير الله تعالي شركاً في العمل، ولم يجعل لغير سنة الرسول صلي الله عليه وسلم اتباعاً في عمله، فلا شرك عنده ولا ابتداع.

صادق في قوله، لا يقول إلا صدقاً، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلي البر، وإن البر يهدي إلي الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتي يكتب عند الله صديقاً "[369]

صادق في فعله بمعني: أن فعله لا يخالف قوله، فإذا قال، فعل، وبهذا يخرج عن مشابهة المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون.

وأيضاً يصدق بما قامت البينة على صدقه، فليس عنده رد الحق، ولا احتقار للخلق.

ولهذا كان أبو بكر أول من سمي الصديق من هذه الأمة، لأنه لما أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يتكلم أنه أسري به إلي بيت المقدس وعرج به إلي السماء، صار الكفار يضحكون به ويكذبونه ويقولون: كيف تذهب يا محمد في ليلة وتصل في ليلة إلي ما وصلت إليه في السماء ونحن إذا ذهبنا إلي الشام نبقي شهر آلم نصله وشهر الرجوع؟! فاتخذوا من هذا سلماً ليكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما وصلوا إلي أبي بكر، وقالوا: إن صاحبك يحدث ويقول كذا وكذا ! قال: إن كان قال ذلك، فقد صدق. فمن ذلك اليوم سمي الصديق، وهو أفضل الصديقين من هذه الأمة وغيرها.

والشهداء(1)......................................

(1)" الشهداء " جمع شهيد، بمعني: شاهد.

فمن هم الشهداء؟

قيل: هم العلماء، لأن العالم يشهد بشرع الله، ويشهد على عباد الله بأنها قامت عليهم الحجة، ولهذا يعد العالم مبلغاً عن الله عز وجل ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم، فيكون شاهداً بالحق على الخلق.

وقيل: إن الشهيد من قتل في سبيل الله.

والصحيح أن الآية عامة لهذا وهذا.

وفيهم الصالحون (1) ومنهم أعلام (2) الهدي (3) ومصابيح (4) الدجي(5) أولوا المناقب المأثورة (6) والفضائل المذكورة(7) ………………

(1)الصالح ضد الفاسد، وهو الذي قام بحق الله وحق عباده، وهو غير المصلح، فالإصلاح وصف زائد على الصلاح، فليس كل صالح مصلحاً، فإن من الصالحين من همه هم نفسه، ولا يهتم بغيره، وتمام الصلاح بالإصلاح.

(2)الأعلام: جمع علم، وهو في الأصل الجبل، قال الله تعالي: ) ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ( [ الشوري: 32]، يعني: الجبال، وسمي الجبل علماً، لأنه يهتدي به ويستدل به.

(3) " أعلام الهدي " : الذين يستدل الناس بهم ويهتدون بهديهم، وهم العلماء الربانيون، فإنهم هم الهداة، وهم مصابيح الدجي.

(4)المصابيح: جمع مصباح، وهو يستصبح به للإضاءة.

(5)الدجي: جمع دجية، وهي الظلمة، أي: هم مصابيح الظلم، يستضيء بهم الناس، ويمشون على نورهم.

(6) " المناقب ": جمع منقبة، وهي المرتبة، أي: ما يبلغه الإنسان من الشرف والسؤدد.

(7) " الفضائل "، جمع فضيلة، وهي الخصال الفاضلة، التي يتصف بها الإنسان من العلم والعبادة من العلم والعبادة والزهد والكرم وغير ذلك، فالفضائل سلم للمناقب.

وفيهم الأبدال (1) وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم (2) وهم الطائفة المنصورة (3)……………………

(1)" الأبدال " : جمع بدل ، وهم الذين تميزوا عن غيرهم بالعلم العبادة، وسموا أبدلاً: إما لأنهم كلما مات منهم أحداً، خلفه بدله، أو أنهم كانوا يبدلون سيئاتهم حسنات، أو أنهم كانوا أسوة حسنة كانوا يبدلون أعمال الناس الخاطئة صائبة، أو لهذا كله وغيره.

(2)الإمام: هو القدوة، وفي أهل السنة والجماعة أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، مثل: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة المشهورين المعروفين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.

*وقوله: " أئمة الدين" : خرج به أئمة الضلال من أهل البدع، فهؤلاء ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم على خلاف أهل السنة والجماعة، وهم، وإن سموا أئمة، فإن من الأئمة أئمة يدعون إلي النار، كما قال تعالى عن آل فرعونSadوَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (القصص:41)

(3)يعني: أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة التي نصرها الله عز وجل، لأنهم داخلون في قوله تعالي: )إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) ،فهم منصورون، والعاقبة لهم. لكن لابد قبل النصر من معاناة وتعب وجهاد ؛ لأن النصر يقتضي منصوراً ومنصوراً عليه، إذاً، فلابد من مغالبة، ولابد من محنة، ولكن، كما قال ابن القيم رحمه الله:

الحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمن

فلا يلحقك العجز والكسل إذا رأيت أن الأمور لم تتم لك بأول مرة، بل اصبر وكرر مرة بعد أخري، واصبر على ما يقال فيك من استهزاء وسخرية، لأن أعداء الدين كثيرون.

لا يثني عزمك أن تري نفسك وحيداً في الميدان، فأنت الجماعة وإن كنت واحداً، ما دمت على الحق، ولهذا ثق بأنك منصور إما في الدنيا وإما في الأخرة.

ثم إن النصر ليس نصر الإنسان يشخصه، بل النصر الحقيقي أن ينصر الله تعالي ما تدعو إليه من الحق، أما إذا أصيب الإنسان بذل في الدنيا، فإن ذلك لا ينافي النصر أبداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوذي إيذاء عظيماً، لكن في النهاية انتصر علي من آذاه، ودخل منصوراً مؤزراً ظافراً بعد أن خرج منها خائفاً.

الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :" لا تزال طائفة نم أمتي على الحق ظاهرين؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى تقوم الساعة (1)..........................

(1)هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم [370] بنحو ما ساقه المؤلف عن عدد من الصحابة عن النبي صلي الله عليه وسلم.

قوله: " لا تزال " : هذا من أفعال الاستمرار، وأفعال الاستمرار أربعة، وهي: فتئ، وانفك، وبرج ، وزال إذا دخل عليها النفي أو شبهه.

فقوله : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق" ، يعني: تستمر على الحق.

وهذه الطائفة غير محصورة بعدد ولا بمكان ولا بزمان، يمكن أن تكون بمكان تنصر فيه في شئ من أمور الدين، وفي مكان آخر تنصر فيه طائفة أخري، وبمجموع الطائفتين يكون الدين باقياً منصوراً مظفراً.

وقوله: " لا يضرهم"، ولم يقل: لا يؤذيهم، لأن الأذية قد تحصل، لكن لا تضر، وفرق بين الضرر والأذي، ولهذا قال الله تعالي في الحديث القدسي: " يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني " [371]، وقال سبحانه وتعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [ الأحزاب: 57]، وفي الحديث القدسي: " يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر" [372]، فأثبت الأذي ونفي الضرر، وهذا ممكن، ألا تري الرجل يتأذي برائحة البصل ونحوه، ولا يتضرر بها.

وفي قوله: " حتى تقوم الساعة ": إشكال، لأنه قد ثبت في الصحيح أنها " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله" [373]أي: حتى يمحى الإسلام كله، ولا يبقي من يعبد الله أبداً، فكيف قال هنا: " حتى تقوم الساعة" ؟!

وأجاب عنه العلماء بأحد جوابين:

1-إما أن يكون المراد حتى قرب قيام الساعة، والشيء قد يعبر به عما قرب منه إذا كان قريباً جداً، وكأن هؤلاء المنصورون إذا ماتوا ، فإن الساعة تكون قريبة جداً.

2- أو يقال: إن المراد بالساعة ساعتهم.

ولكن القول الأول أصح، لأنه إذا قال: " حتي تقوم الساعة " ، فقد تقوم ساعتهم قبل الساعة العامة بأزمنة طويلة، وظاهر الحديث أن هذا النصر سيمتد إلي آخر الدنيا، فالصواب أن المراد بذلك إلى قرب قيام الساعة. والله أعلم.

فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، والله أعلم، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1)................

(1)بهذا الدعاء الجليل ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة القليلة اللفظ الكثيرة المعنى، وهي تعتبر خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة وفيها فوائد عظيمة، ينبغي لطالب العلم أن يحفظها.

والحمد لله رب العالمين على الإتمام، ونسأل الله أن يتم ذلك بالقبول والثواب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم أجمعين.





قمت بمراجعة الكتاب وإضافة ما تدعو الضرورة إليه

وحذف ما لا يحتاج إليه في يوم الجمعة السابع عشر من شعبان سنة 1414هـ

وقمت بمراجعته مع المضاف مساء يوم الخميس السابع والعشرين

من صفر سنة 1415هـ

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
 
شرح العقيدة الواسطية محمد بن صالح العثيمين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» فتاوى العقيدة للشيخ محمد بن صالح العثيمين
» كتاب: المناهي اللفظية (نسخة منقحة)الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
» كتاب: الاعتدال في الدعوة **للشيخ مجمد بن صالح العثيمين
» 50 سؤالا ً وجواباً في العقيدة لشيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب
» أخطاء في العقيدة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة :: المنتدى الأول :: شرح العقيدة الواسطية-
انتقل الى: