منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
نرحب بضيوفنا الكرام اللهم اجعلنا واياكم من اهل الجنة
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
نرحب بضيوفنا الكرام اللهم اجعلنا واياكم من اهل الجنة
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة

منتدى علمي لنشر الدين وعلومه
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
((عن عبد الله بن عمر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: بلغوا عني ولو آية, ومن كذب علي متعمداً, فليتبوأ مقعده من النار))
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )

 

 أصول الفقه : منظومة أصول الفقه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:13 pm

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الناظم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:

1 ـ الحمدُ للَّهِ المُعِيدِ المُبْدِي***مُعْطِي النوالِ كلَّ مَنْ يَسْتَجْدِي

2 ـ مُثَبِّتِ الأحكامِ بالأصولِ***معينِ مَنْ يَصْبُو إلى الوصولِ

3 ـ ثم الصلاةُ معْ سلامٍ قدْ أُتِمْ***على الذي أُعْطِي جوامعَ الكَلِمْ

4 ـ محمدِ المبعوثِ رحمةَ الوَرَى***وخيرِ هادٍ لجميعِ مَنْ دَرَى

5 ـ وبعدُ فالعلمُ بحورٌ زاخِرَهْ***لنْ يبلغَ الكادحُ فيه آخرَهْ

6 ـ لكنَّ في أصولِهِ تَسْهِيلا***لنَيْلِهِ فاحرصْ تجدْ سبيلا

7 ـ اغْتَنِمِ القواعدَ الأصُولا***فمَنْ تَفُتْهُ يُحْرَمِ الوصولا

8 ـ وهاكَ مِنْ هذِي الأصولِ جُمَلا***أرجو بها عالِي الجنانِ نُزُلا

9 ـ قواعداً مِنْ قولِ أهلِ العلمِ***وليس لي فيها سِوَى ذا النظمِ

(القواعد والأصول)

10 ـ الدينُ جاءَ لسعادةِ البَشَرْ***ولانتفاءِ الشرِّ عنهم والضَّرَرْ

11 ـ فكلُّ أمرٍ نافعٍ قد شَرَعَهْ***وكلُّ ما يَضُرُّنَا قد مَنَعَهْ

12 ـ ومعْ تساوِي ضَرَرٍ ومَنْفَعَهْ***يكونُ ممنوعاً لدَرْءِ المفْسَدَهْ

13 ـ وكلُّ ما كَلَّفَهُ قد يُسِّرَا***من أَصْلِهِ وعند عارضٍ طَرَا

14 ـ فاجلبْ لتيسيرٍ بكلِّ ذي شَطَطْ***فليس في الدينِ الحنيفِ من شَطَطْ

15 ـ وما استطعت افعلْ من المأمورِ***واجْتَنِبِ الكلَّ مِنَ المحظورِ

16 ـ والشرعُ لا يلزمُ قبلَ العلمِ***دليلُهُ فعلُ المُسِي فافْتِهِم

17 ـ لكنْ إذا فَرَّطَ في التعلُّمِ***فذا مَحَلُّ نظرٍ فلْتَعْلَمِ

18 ـ وكلُّ ممنوعٍ فللضرورةِ***يباحُ والمكروهُ عند الحاجةِ

19 ـ لكنَّ ما حُرِّمَ للذريعةِ***يجوزُ للحاجةِ كالعَرِيَّةِ

20 ـ وما نُهِيْ عنهُ من التَّعَبُّدِ***أو غيرِهِ أَفْسِدْهُ لا تردّدِ

21 ـ فكلُّ نهيٍ عادَ للذواتِ***أو للشروط مُفْسِداً سَيَاتي

22 ـ وإِنْ يَعُدْ لخارجٍ كالعِمَّهْ***فلن يَضير فافْهمَنَّ العِلَّهْ

23 ـ والأصلُ في الأشياءِ حِلٌّ وامْنَعِ***عبادةً إلا بإذنِ الشارعِ

24 ـ فإنْ يقعْ في الحكمِ شكٌّ فارجِعِ***للأصلِ في النوعَيْنِ ثم اتَّبِعِ

25 ـ والأصلُ أن الأمرَ والنهيَ حُتِمْ***إلا إذا النَّدبُ أو الكُرْهُ عُلِمْ

26 ـ وكلُّ ما رُتِّبَ فيه الفَضْلُ***من غيرِ أمرٍ فهْو ندبٌ يَجْلُو

27 ـ وكلُّ فعلٍ للنبيِّ جُرِّدَا***عن أمرِهِ فغيرُ واجبٍ بَدَا

28 ـ وإن يكنْ مُبَيِّناً لأمرِ***فالحكمُ فيه حكمُ ذاك الأمرِ

29 ـ وقدِّم الأعلَى لدى التزَاحُمِ***في صالحٍ والعكسُ في المظالِمِ

30 ـ وادفعْ خفيفَ الضَّرَرَيْنِ بالأخفْ***وخذْ بعالِي الفاضلَيْنِ لا تَخَفْ

31 ـ إنْ يجتمعْ معَ مُبِيحٍ ما مَنعْ***فَقَدِّمَنْ تغليباً الذي مَنَعْ

32 ـ وكلُّ حكمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ***إِنْ وُجِدَتْ يوجدْ وإلا يَمْتَنِعْ

33 ـ وأَلْغِ كلَّ سابقٍ لسببِهْ***لا شرطِهِ فادْرِ الفروقَ وانتبهْ

34 ـ والشيءُ لا يَتِمُّ إلا أنْ تَتِمْ***شروطُه ومانعٌ منه عُدِمْ

35 ـ والظنُّ في العبادةِ المُعْتَبَرُ***ونفسَ الامْرِ في العقودِ اعتبرُوا

36 ـ لكنْ إذا تَبَيَّنَ الظنُّ خَطَا***فأَبْرِئِ الذمةَ صَحِّحِ الخَطَا

37 ـ كرجلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الوقتِ***فليُعِدِ الصلاةَ بعدَ الوقتِ

38 ـ والشكُّ بعدَ الفعلِ لا يُؤثِّرُ***وهكذا إذا الشكوكُ تَكْثُرُ

39 ـ أوْ تَكُ وَهْماً مثلَ وَسْوَاسٍ فَدَعْ***لكلِّ وَسْوَاسٍ يَجِي بِهِ لُكَعْ

40 ـ ثم حديثُ النفسِ مَعْفُوٌّ فَلا***حكمَ له ما لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا

41 ـ والأمرُ للفورِ فبادِرِ الزمَنْ***إلا إذا دَلَّ دليلٌ فاسْمَعَنْ

42 ـ والأمرُ إنْ رُوعِي فيه الفاعل***فذاك ذو عينٍ وذاكَ الفاضلُ

43 ـ وإنْ يُراعَ الفعلُ معْ قطعِ النَّظَرْ***عن فاعلٍ فذو كفايةٍ أُثِرْ

44 ـ والأمرُ بعد النهيِ للحِلّ وفي***قولٍ لرفعِ النَّهي خُذْ به تَفِي

45 ـ وافعلْ عبادةً إذا تَنَوَّعَتْ***وجوهُهَا بكلِّ ما قد وَرَدَتْ

46 ـ لِتَفْعَلَ السُنَّةَ في الوجْهَيْنِ***وتحفظَ الشرعَ بذي النوعَيْنِ

47 ـ والْزَمْ طريقةَ النبيِّ المصطفَى***وخذْ بقولِ الراشدين الخُلَفَا

48 ـ قولُ الصحابِي حجةٌ على الأصَحْ***ما لم يخالفْ مثلَه فما رَجَحْ

49 ـ وحجةُ التكليفِ خُذْهَا أربعَهْ***قرآنُنَا وسُنَّةٌ مُثَبَّتَهْ

50 ـ من بعدها إجماعُ هذِي الأُمَّهْ***والرابعُ القياسُ فَافْهَمَنَّهْ

51 ـ واحكمْ لكلِّ عاملٍ بنيتِهْ***واسْدُدْ على المحتالِ بابَ حيلتِهْ

52 ـ فإنَّما الأعمالُ بالنياتِ***كما أَتَى في خبرِ الثقاتِ

53 ـ ويَحْرُمُ المُضِيُّ فيما فَسَدَا***إلا بحجٍّ واعتمارٍ أَبَدَا

54 ـ والنفلَ جوِّزْ قطعَه ما لم يقَعْ***حجاً وعمرةً فقطعُهُ امْتَنَعْ

55 ـ والإثمُ والضمانُ يسقطانِ***بالجهلِ والإكراهِ والنسيانِ

56 ـ إنْ كان ذا في حقِّ مولانا ولا***تُسقطْ ضماناً في حقوقٍ للمَلا

57 ـ وكلُّ مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا***لم يكنِ الإتلاف مِنْ دَفْعِ الأَذَى

58 ـ أوْ يكُ مأذوناً به مِنْ مالكِ***أو ربِّنَا ذي الملكِ خيرِ مالكِ

59 ـ ويُضْمَنُ المثلِيُّ بالمثلِ ومَا***ليس بمثليِّ بما قد قُوِّمَا

60 ـ فكلُّ ما يحصلُ مما قدْ أُذِنْ***فليس مضموناً وعكسُهُ ضُمِنْ

61 ـ وما على المحسنِ مِنْ سبيلِ***وعكسُهُ الظالمُ فاسمعْ قِيْلِي

62 ـ ثم العقودُ إنْ تكنْ معاوضَهْ***فَحَرِّرَنْهَا ودَعِ المخَاطَرَهْ

63 ـ وإنْ تكنْ تَبَرُّعاً أو تَوْثِقَهْ***فأمرُها أخفُّ فادْرِ التفرِقَهْ

64 ـ لأنَّ ذِي إنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمُ***وَإِنْ تَفُتْ فليسَ فيها مَغْرمُ

65 ـ وكلُّ ما أَتَى ولم يُحَدَّدِ***بالشرعِ كالحرزِ فبالعرفِ احْدُدِ

66 ـ من ذاك صِيغاتُ العقودِ مُطلقَا***ونحوُها في قولِ مَنْ قد حَقَّقَا

67 ـ واجعلْ كلفظٍ كلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ***فشرطُنَا العرفيُّ كاللفظِيْ يَرِدْ

68 ـ وشرطُ عقدٍ كونُه من مالكِ***وكلُّ ذي ولايةٍ كالمالكِ

69 ـ وكلُّ مَنْ رضاه غيرُ مُعْتَبَرْ***كمُبْرَإٍ فعلمُه لا يُعْتَبَرْ

70 ـ وكلُّ دعوى لفسادِ العقدِ***مع ادعاءِ صحةٍ لا تُجْدِي

71 ـ وكلَّ ما ينكره الحسُّ امنَعَا***سماعَ دعواه وضدَّهُ اسمَعَا

72 ـ بَيِّنةً أَلْزِمْ لكلِّ مُدَّعِ***ومنكراً أَلْزِمْ يميناً تُطِعِ

73 ـ كلُّ أمينٍ يدعي الرَّدَّ قُبِلْ***ما لم يكنْ فيما له حظٌّ حَصَلْ

74 ـ وأَطْلِقِ القَبُولَ في دعوى التلَفْ***وكلُّ مَنْ يُقبل قولُه حَلَفْ

75 ـ أدِّ الأمانَ للذي قدْ أَمَّنَكْ***ولا تخنْ مَنْ خان فهْو قد هَلَكْ

76 ـ وجائزٌ أخذُك مالاً استُحِقْ***شرعاً ولو سرَّاً كضيفٍ فهْو حَقْ

77 ـ قد يَثْبُتُ الشيءُ لغيرِهِ تَبَعْ***وإنْ يكنْ لوِ استَقَلَّ لامْتَنَعْ

78 ـ كحاملٍ إنْ بِيعَ حملُها امْتَنَعْ***ولو تُباعُ حاملاً لم يَمْتَنِعْ

79 ـ وكلُّ شرطٍ مُفسدٍ للعقدِ***بذكرِهِ يُفسدُه بالقصدِ

80 ـ مثلُ نكاحِ قاصدِ التحليلِ***ومَنْ نَوَى الطلاقَ للرَّحِيلِ

81 ـ لكنَّ مَنْ يجهلُ قصدَ صاحِبِهْ***فالعقدُ غيرُ فاسدٍ مِنْ جانبِهْ

82 ـ لأنه لا يَعلمُ الذي أَسَرّ***فأُجْرِيَ العقدُ على ما قد ظَهَرْ

83 ـ والشرطُ والصلحُ إذا ما حَلَّلا***مُحَرَّماً أو عكسُه لنْ يُقْبَلا

84 ـ وكلُّ مَشْغُولٍ فليس يُشْغَلُ***بمُسقطٍ لما به يَنْشَغِلُ

85 ـ كمُبْدَلٍ في حكمه اجعلْ بَدَلا***ورُبَّ مَفْضُولٍ يكونُ أَفْضَلا

86 ـ كلُّ استدامةٍ فأقوى مِنْ بَدَا***في مثلِ طيب مُحْرِمٍ ذا قد بَدَا

87 ـ وكلُّ معلومٍ وجوداً أو عَدَمْ***فالأصلُ أن يَبْقَى على ما قد عُلِمْ

88 ـ والنفيُ للوجودِ ثم الصحهْ***ثم الكمالِ فارْعَيَنَّ الرُّتْبَهْ

89 ـ والأصلُ في القيدِ احترازٌ ويَقِلْ***لغيرِهِ ككشفِ تعليلٍ جُهِلْ

90 ـ وإنْ تَعَذَّرَ اليقينُ فارجِعَا***لغالبِ الظنِّ تكنْ مُتَّبِعَا

91 ـ وكلُّ ما الأمرُ بِهِ يَشْتَبِهُ***من غيرِ مَيْزٍ قُرعةٌ تُوْضِحُهُ

92 ـ وكلُّ مَنْ تَعَجَّلَ الشيءَ عَلَى***وجهٍ مُحَرَّمٍ فمنعُه جَلا

93 ـ وضاعفِ الغُرْمَ على مَنْ ثَبَتَتْ***عقوبةٌ عليه ثم سَقَطَتْ

94 ـ لمانعٍ كسارقٍ مِنْ غيرِ ما***مُحَرَّزٍ ومَنْ لضالٍ كَتَمَا

95 ـ وكلُّ ما أُبِينَ من حيِّ جُعِلْ***كميْتِهِ في حكمِهِ طُهْراً وحِلْ

96 ـ وكان تأتي للدوامِ غالباً***وليس ذا بلازمٍ مُصاحِباً

97 ـ وإِنْ يُضَفْ جمعٌ ومفردٌ يَعُمْ***والشرطُ والموصولُ ذا له انْحَتَمْ

98 ـ مُنَكَّرٌ إِنْ بعدَ إثباتٍ يَرِدْ***فمطلقٌ وللعمومِ إِنْ يَرِدْ

99 ـ مِنْ بعد نفيٍ نهيٍ استفهامِ***شرطٍ وفي الإثباتِ للإنعامِ

100 ـ واعتبرِ العمومَ في نصٍّ أُثِرْ***أَمَّا خصوصُ سببٍ فما اعْتُبِرْ

101 ـ ما لم يكنْ مُتَّصِفاً بوصفِ***يفيدُ علةً فخُذْ بالوصفِ

102 ـ وخَصِّصِ العامَّ بخاصٍّ وَرَدَا***كقَيْدِ مطلقٍ بما قد قُيِّدَا

103 ـ ما لم يكُ التخصيصُ ذكرَ البعضِ***من العمومِ فالعمومَ أَمْضِ.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:14 pm

بداية الشرح

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فهذه المنظومة في أصول الفقه وقواعده، والفرق بينهما أن أصول الفقه موضوع البحث فيها أدلة الأحكام، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما يتعلق بذلك، أما قواعد الفقه فموضوع البحث فيها في الفقه، الذي هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المتعلقة بأفعال المكلَّفين، فهي قواعد للفقه وليست قواعد لأصول الفقه، ولكنها تكون قاعدةً تشتمل على فروع متعددة.

ومن الكتب في ذلك: قواعد ابن رجب الحنبلي تلميذ ابن القيم ـ رحمهما الله ـ فإن له كتاباً سمّاه: «القواعد الفقهية» يذكر القاعدة وما يتفرع عنها من المسائل، وهو كتاب عظيم؛ لكنه يحتاج إلى شخص قد بلغ من الفقه منزلةً؛ لأن فيه صعوبة.

ونظراً إلى أنني رأيت أن النظم يسهل حفظه، ويبقى في الحافظة أكثر؛ نظمت هذه المنظومة فكنت كلَّما مرّ بي قاعدة من أصول الفقه أو من الفقه وضعتها في هذه المنظومة، وما زلت ألتمس قواعد في أصول الفقه أو في الفقه لألحقها بهذه المنظومة، ولذلك لا تعتبر هذه المنظومة تامةً.

1 ـ الحمدُ للَّهِ المُعِيدِ المُبْدِي***مُعْطِي النوالِ كلَّ مَنْ يَسْتَجْدِي

قوله: (الحمد) : هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم فإن كُرِّرَ الوصفُ بالكمال؛ سمِّي ثناءً.

وليس الحمد هو الثناء، ودليل ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله تعالى قال: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليّ عبدي» [(3)]، وهذا نص صريح.

ثم إن اللغة تؤيد هذا؛ لأن الثناء هو الإعادة أو الرجوع إلى ما سبق.

وتفسير بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ الحمد بالثناء بالجميل أو ما أشبه ذلك فيه شيء من النظر، والصحيح ما ذكرناه.

قوله: (لله) : الله اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ وهو أصل الأسماء ولهذا لا يأتي إلا متبوعاً؛ إلا في آية واحدة، فإنه جاء تابعاً وذلك في سورة إبراهيم حين قال سبحانه وتعالى: {{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}} [إبراهيم: 1 ـ 2] . فجاء عطفَ بيانٍ على ما سبق تابعاً وإلا فجميع الأسماء تتبعه ويخطئ جدًّا من يقول: إن «الله» ليس من أسماء الله مع أنه في القرآن الكريم، قوله تعالى: {{بِسْمِ اللَّهِ}} [هود: 41، والنمل: 30] . وفي الحديث الذي فيه إدراج أسماء الله ـ وإن كان الإدراج ضعيفاً ـ لما قال: إن لله تسعة وتسعين اسماً[(4)]، قال: هو الله الذي لا إله إلا هو.. وبدأ به؛ بل إن في سورة الحشر: {{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ}} إلى قوله: {{لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}} [الحشر: 23، 24] .

إذاً فـ «الله» من أسماء الله لا شك، لكن المُسَمَّى ليس هو الاسم، فالمُسَمَّى بـ «الله» ليس هو لفظ «الله» أو لفظ «الرحمن» أو لفظ «الرحيم»؛ لأن المُسَمَّى غير الاسم كما هو ظاهر.

مثال ذلك: شخص مُسَمَّى، باسم محمد، يكتب بالورق وينطق باللسان ويؤتى بالورقة تمزّق فيتمزّق الاسم، فهل إذا مُزّق الاسمَ أو احترق يتمزق المسمى أو يحترق؟ الجواب: لا.

وإذا قلت: أكرم محمداً، فالمعنى أكرم المُسَمَّى بهذا الاسم، فلو أن رجلاً قيل له: أكرم محمداً، فأتى بورقة مكتوب فيها محمد ووضع بين يديها طبقاً من الطعام، وقال: أنا أكرم محمداً بهذا. ماذا يقول الناس عنه؟ يقولون: مجنون.

إذاً فالاسم غير المُسَمَّى، الاسم لفظ وضع للدلالة على المُسَمَّى، فكلمة «الله» لفظ للدلالة على مسمّاه، وهو رب العالمين عزّ وجل، فهو اسم من أسمائه لا شك في هذا، وهو علم على ذاته تعالى لا يسمى به غيره عزّ وجلّ.

ومعنى «الله»: الإله، لكن حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال.

والإله والله هو المألوه المعبود الذي يَأْلَهُهُ الخلق، أي: يتعبدون له، ويتذللون له محبةً وتعظيماً، ولا إله حق إلا الله عزّ وجل، وكل ما سوى الله مما يُدْعَى بالآلهة فهو باطل، كما قال الله تعالى: {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}} [الحج: 62] .

قوله: (المعيد المبدي) : هذان الوصفان مأخوذان من قوله تعالى: {{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ *}} [البروج: 13] .

فهو الذي يُبْدئ الأشياء وهو الذي يعيدها فهو معيد الأشياء بعد تلفها، ومن ذلك إعادة الأبدان بعد موتها، وهو تعالى المبدئ المظهر للأشياء المبين لها، كما قال تعالى: {{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}} [الروم: 27] ، فالبدء من عنده والعود إليه عزّ وجل. قال الله تعالى: {{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى *}} [النجم: 42] .

«والمعيد والمبدئ» ليسا من أسماء الله، ولكنهما من أوصافه، كما نقول: المتكلم ليس من أسماء الله، لكنه يوصف بأنه متكلم.

وهنا قد نقول: إن في هذين الوصفين براعة استهلال.

وبراعة الاستهلال أن يأتي الناظم أو المـؤلـف فـي خطبة الكتاب بما يدل على موضوع الكتاب. فمثلاً: إذا كنت أُؤلف كتاب فقه فأقول: الحمد لله الذي فقّه مَنْ أراد به خيراً في الدين؛ نسمي هذا براعة استهلال، يعني: أن هذا من براعة الكاتب أو المؤلف أنه أتى في الخطبة بما يدل على موضوع مؤلَّفِه.

وهنا يمكن أن نقول: «المعيد المبدئ» فيها براعة استهلال، لأن الأصول ترجع إليها الفروع، والقواعد ترجع إليها المسائل التي تتفرع عليها، ففيه إبداء وفيه إعادة.

قوله: (معطي النوالِ كُلَّ مَنْ يستجدي) : معطي النوالِ ـ بالكسر ـ ومعطي اسم فاعل مضاف إلى مفعوله الأول، والمفعول الثاني (كلَّ) أما الفاعل فمستتر تقديره هو ـ أي الله عزّ وجل ـ معطي النوال؛ أي: معطي العطاء.

(كلَّ مَنْ يستجدي) : أي: كل من يسأل، والاستجداء هو الطلب. فالمعنى: أن الله عزّ وجل يعطي العطاء كل من يطلبه منه؛ لقوله تعالى: {{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}} [غافر: 60] وقوله تعالى: {{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}} [البقرة: 186] ، ولا سيما في الأوقات أو الأمكنة أو الأحوال التي ترجى فيها إجابة الدعاء.

فالأوقات: كآخر الليل، وبين الأذان والإقامة..

والأحوال: ككون الإنسان ساجداً، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد [(5)].

والأماكن: كالأماكن التي يطلب فيها الدعاء مثل: الطواف، وكذلك الأماكن الفاضلة، الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة من الأماكن الأخرى.

2 ـ مُثَبِّتِ الأحكامِ بالأصولِ***معينِ مَنْ يَصْبُو إلى الوصولِ

هذه براعة استهلال واضحة أوضح من الأولى.

قوله: (مثبت الأحكام بالأصول) : أي أنه تعالى ثبت الأحكام بأصولها، وأصول الأحكام أدلتها، وسميت أصولاً؛ لأن الأحكام تُبنى عليها، ولهذا إذا أتى بالمسألة في المغني[(6)] يقول: الأصل في هذا قوله تعالى: .... الآية.

وأدلة الأحكام، سيأتي في النظم أنها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح[(7)].

(الأحكام) : هي ما يثبت بخطاب الشرع من إيجاب أو تحريم أو كراهة أو استحباب أو إباحة.

وأصول الأحكام اثنان يتفرع عنهما اثنان: أما الأولان: فهما الكتاب والسنّة فإنهما أصل الأصول، وعليهما مدار الأحكام الشرعية من عقدية وقولية وفعلية، وأما الأصلان الآخران الفرعان: فهما الإجماع والقياس الصحيح.

هذه هي الأصول الأربعة التي تنبني عليها أحكام الشريعة المطهّرة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس الصحيح.

بهذه الأصول الأربعة تثبت الأحكام، ولا يبقى لأحد منازعة فيما ثبت. ومن المعلوم أنه يقدّم القرآن ثم السنّة ثم الإجماع ثم القياس، حتى إن العلماء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن أي قياس مخالف للكتاب والسنّة؛ فإنه قياس فاسد مردود على قائله ويسمّى عندهم: فاسد الاعتبار.

وعلم من قوله: (مثبت الأحكام بالأصول) أن ما لا دليل عليه فليس بثابت؛ لأن الدليل بمنزلة البيّنة بل إن الله سمّاه بيّنة. قال تعالى: {{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}} [الحديد: 25] .

وليس كل شيء له دليل؛ بل من الأشياء ما دليله إيجابي، ومنها ما دليله عدمي؛ فالأدلة قد تكون عدمية فيقال: الدليل عدم الدليل وقد تكون إيجابية فيقال: الدليل قوله تعالى... فإذا قال قائل مثلاً: هذا النوع من البيع حرام، نقول له: أين الدليل؟ لأن الأصل أن البيوع حلال. وإذا قلنا: هذا النوع من البيع حلال، فطالبنا بالدليل، فإننا نقول: الدليل عدم الدليل أي: ليس هناك دليل يدل على التحريم، والأصل هو الحل.

قوله: (معين من يصبو إلى الوصول) : يصبو بمعنى: يميل، ومنه سِنُّ الصِّبا لأن الغالب أن الصبي سريع الميلان، كلُّ شيء يجذبه، وكلُّ شيء يصرفه، ولهذا سمي سِنُّ الصِّبا ـ بكسر الصاد ـ أما الصَّبا ـ بفتح الصاد ـ فهي الريح الشرقية، ومنه الحديث: «نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور»[(Cool]. والدبور: الريح الغربية.

(معين من يصبو إلى الوصول) : أي: أن الله تعالى يعين من يميل إلى الوصول، أي: وصول الحق، فإنه ـ جلّ وعلا ـ يعين كل شخص يطلب الوصول إلى الحق، لكن قد يتخلف المقصود لوجود مانع أو لحكمة أرادها الله عزّ وجل. بمعنى أن الإنسان قد يبذل جهده، ولكن لا يصل إلى مقصوده لحكمة يريدها الله عزّ وجل قد يبتلي الله العبد، فلا يتمكن من الوصول في أول محاولة أو ثاني محاولة حتى يعلم الله عزّ وجل من هو صادق في الطلب، ومن ليس بصادق.

ومن ذلك أن الله تعالى يُديل أعداءه أحياناً على أوليائه، لينظر من يصبر ومن لا يصبر {{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ *}} [محمد: 31] . وإلا فالأصل أن كل إنسان يقصد الوصول إلى الحق بنية صادقة، فإنه لا بد أن يصل إليه. وما أحسن عبارة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «العقيدة الواسطية»: «من تدبر القرآن طالباً الهدى منه، تبيّن له طريق الحق»[(9)].

فكل إنسان يصبو إلى الوصول ويستعين بالله عزّ وجل مع بذل الجهد فإن الله يعينه ما لم يكن إثماً، أما الإنسان الكسول الذي لا يصبو إلى الوصول، وإنما يريد أن يمضي الأوقات فقط ويقتلها فإن هذا يذهب عليه دهره سدىً، لا يستفيد، لكن الإنسان الذي يعمل بجد، ويريد أن يصل إلى غاية حميدة، فهذا يعان ويصل إلى مقصوده، ولهذا يجب علينا نحن ـ ونحن نطلب العلم ـ أن يكون لنا هدف نسعى إلى الوصول إليه لا مجرد إمضاء الوقت فقط؛ بل نطلب العلم للوصول إلى الغاية وهي أن أعْلَم، ثم أعمل، ثم أُعَلِّم، ثم أدعو، هذه غايتي، والعامل العابد غايته الوصول إلى الله عزّ وجل، إلى مرضاة الله: {{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}} [الفتح: 29] ومن يصلّي ليسقط الفرض فقط، هذا لا شك أنه يجزئ وتبرأ به الذمة، لكن الذي ينبغي أن يصلّي ليَصِلَ إلى غاية، وهي أنه كلما صلّى فريضة ارتقى درجة.

3 ـ ثم الصلاةُ معْ سلامٍ قدْ أُتِمْ***على الذي أُعْطِي جوامعَ الكَلِمْ

قوله: (ثم الصلاة مع سلام قد أتم) : ثم بعد حمد لله عزّ وجل والثناء عليه ووصفه بما يليق به ـ جلّ وعلا ـ تكون الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والترتيب هنا مناسب، لأن حق الله مقدم على حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيبدأ أولاً بحق الله ثم بحق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الموافق للكتاب والسنّة، فإن حق الله تعالى يُذْكَر قبل حق رسوله صلّى الله عليه وسلّم. ألم تر إلى التشهد في الصلاة يقدم وجوب الثناء على الله عزّ وجل وتعظيم الله عزّ وجل على السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا تقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»[(10)]، ثم حق النفس ثم حق الصالحين. وكما درج عليه علماؤنا ـ رحمهم الله ـ، يبدؤون أولاً بالثناء على الله سبحانه وتعالى ثم بالصلاة والسلام على الرسول صلّى الله عليه وسلم.

(ثم الصلاة مع سلام قد أتم) : جمع بين الصلاة والسلام لأنه أكمل، كما أمر الله تعالى فقال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] ولو اقتصر على الصلاة وحدها، أو على السلام وحده، لكان ذلك جائزاً غير مكروه على القول الراجح. فإن النبي عليه الصلاة والسلام علّم أمته التشهد أول ما علمهم ليس فيه صلاة، كان التشهد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»[(11)] ليس فيه صلاة حتى قالوا: يا رسول الله، عَلِمنَا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك[(12)]؟ فعلّمهم.

فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يكره إفراد الصلاة عن السلام، ولا السلام عن الصلاة، ولكن الجمع بينهما أفضل.

(قد أتم) : يحتمل أن الناظم قالها تتميماً للشطر، ويحتمل أن يكون المراد بها أن الله عزّ وجل أكد التسليم بالمصدر، فقال: {{وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] وهذا يدل على أنه ينبغي أن يسلّم تسليماً تاماً، لأن المصدر يفيد التأكيد، كما قالوا في قوله تعالى: {{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}} [النساء: 164] أنه يفيد تأكيد الكلام ونفي المجاز، فقولنا: «قد أتم» أي وقع متمماً مكملاً.

(ثم الصلاة) : الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: التعبد لله بأقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.

وهنا نقول: ما الفائدة من أن نعرف معناها في اللغة ومعناها في الشرع؟

الفائدة: هي أن الصلاة إذا جاءت في كلام أهل اللغة تحمل على عرفهم، وهو الدعاء، وإذا جاءت في كلام الشرع تحمل على عرف الشرع، وهي: العبادة ذات الأقوال والأفعال المعلومة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ما لم يوجد دليل على أن هذا غير المراد فإن وجد دليل على أن هذا غير مراد فإنها لا تحمل عليه، مثل قوله تعالى: {{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}} [التوبة: 103] . الصلاة هنا: الدعاء قطعاً، ودليل ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فسّرها بفعله، فكان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صلِّ على آل فلان»[(13)].

وصلاة الله على رسوله أصح وأحسن ما قيل فيها ما اعتمده المحققون من العلماء: أنها ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، وهم الملائكة. يذكره بالخير على وجه التكرار.

نحن إذا صلّينا عليه مرة صلّى الله بها علينا عشراً، ولله الحمد. ولهذا ينبغي أن نكثر من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بقدر المستطاع.

أما السلام، فالسلام اسم مصدر «سَلَّم»، والمصدر من «سَلَّم» «تسليم»، مثل «كلَّم» مصدره «تكليم»، واسم المصدر منه «كلام».

والسلام هو السلامة من الآفات الحسية والمعنوية. والآفات الحسية هي الظاهرة، مثل: آفات في البدن من أمراض أو غيره، وآفات في الأموال، وآفات في المجتمع؛ من جدب، وقحط، وخوف. أما السلامة من الآفات المعنوية فهو أن يسلم الله دين الإنسان مما يوجب الانحراف.

وبالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا دعونا له بالسلام فالسلام الحسي غير وارد لأنه قد توفي صلّى الله عليه وسلّم. أما السلام المعنوي فإنه وارد، وهو أن يسلم الله شريعته من كل آفة، لأن سلامة شريعته سلامة له لا شك. كذلك يمكن أن نقول: يراد به السلام الحسي أيضاً، وذلك يوم القيامة، كما جاء في الحديث: أن دعاء الرسل عند عبور الصراط: (اللهم سلّم سلّم)[(14)]، فجمع الناظم في قوله: (ثم الصلاة مع سلام قد أتم) بين زوال المكروه وذلك بالسلام، وبين حصول المقصود وذلك بالصلاة.

قوله: (على الذي أعطيَ جوامع الكلم) : وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا من خصائصه كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه «أعطيَ جوامع الكلم»[(15)]، واختصر له الكلام[(16)].

جوامع: جمع جامعة أي: الكلمة الجامعة، والكلم بمعنى: الكلمات.

فالرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول كلمات يسيرة تتضمن معاني كثيرة. أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[(17)] كيف كانت هاتان الجملتان تشملان الدين كله، بل تشملان أعمال العباد كلها؟! ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(18)] كيف يشمل كثيراً من الأحكام الشرعية وتوزن به الأعمال الظاهرة. ولهذا قال أهل العلم: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» هذا ميزان الأعمال الباطنة ـ أعمال القلوب ـ وإن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ميزان للأعمال الظاهرة. وبهذا يتم الدين كله، ويتحقق الشرطان الأساسيان وهما الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلَّى الله عليه وسلم.

ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم لما شُكي إليه أن الإنسان يجد في نفسه شيئاً يحب أن يكون فحمة ولا يتكلم به. أمر عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة من الشيطان الرجيم وأن يقرأ الإنسان: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} {اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}}[(19)] [الإخلاص: 1 ـ 4] . ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم لمن ابتلي بالوسوسة حيث أعطاه كلمتين تحجبان عنه كل وساوس الشيطان، فقال: «لا يزالون يتساءلون من خلق كذا من خلق كذا، من خلق كذا» أي: لا يزال الشيطان يقول للإنسان: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فليستعذ بالله ولينته»[(20)] أي: ليستعذ بالله من شر الشيطان ووساوسه، ولينته أي: ليعرض عنه، والفطرة تدلك أن الخالق هو الله، وبذلك ينقطع ويحسم الشر والوساوس.

هاتان الكلمتان لو أن الفلاسفة والمتكلمين جمعوا عدة ورقات ما اهتدوا إلى ما يدل عليه هذا الكلام المختصر، بل تجد الفلاسفة لمَّا تكلموا على مسألة التسلسل ملؤوا الصفحات كلاماً هراء لا تخرج منه بفائدة.

ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[(21)] كلام قليل لكن يتضمن معاني كثيرة.

(جوامع الكلم) : وإنما اختير هذا اللفظ في هذه المنظومة لأن هذه المنظومة تشتمل على القواعد والأصول، والقواعد والأصول من جوامع الكلم في الواقع، لأن القاعدة تشتمل على أشياء كثيرة، بألفاظ قليلة.

إذاً فالرسول صلّى الله عليه وسلّم أعطيَ جوامع الكلم، ولا ينافي هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحياناً يسهب في المقال ويقول قولاً موسعاً، وذلك في الحال التي تقتضي ذلك، لأن لكل مقام مقالاً. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث الأصل قد أعطيَ جوامع الكلم ولكنه أحياناً يسهب لدعاء الحاجة إلى ذلك. كما نجد في القرآن الكريم الآيات التي نزلت في مكة غالبها الاختصار والجمع، والآيات التي نزلت في المدينة الغالب فيها البسط والاتساع، لأن لكل مقام مقالاً.

ثم بيّن من الذي أعطيَ جوامع الكلم، فقال:

4 ـ محمدِ المبعوثِ رحمةَ الوَرَى***وخيرِ هادٍ لجميعِ مَنْ دَرَى

قوله: (محمد المبعوث) : (محمد) : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي صلّى الله عليه وآله وسلّم. و (محمد) : علم من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وله أسماء متعددة، منها في القرآن: محمد وأحمد. قال تعالى: {{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}} [الفتح: 29] {{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}} [آل عمران: 144] {{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}} [الصف: 6] وسبحان الله! الذي ألهم عيسى عليه السلام أن يقول أحمد بدلاً من محمد، لأن أحمد اسم تفضيل يدل على أنه أحمد الناس لله، وعلى أنه أحق الناس أن يحمد، لأنه يخاطب بني إسرائيل، حتى يعرف بنو إسرائيل فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقدره قبل أن يبعث ولا يفضلوا عليه أحداً.

(محمَّد) : مُفَعَّل لكثرة محامده عليه الصلاة والسلام، فإن محامده تفوق محامد الناس بكثير.

(المبعوث) : أي المرسل، والبعث هو الإرسال. قال الله تعالى: {{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}} [النحل: 36] والباعث هو الله عزّ وجل.

وقوله: (رحمة الورى) : رحمة هنا مفعول من أجله عاملها المبعوث. قال الله تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *}} [الأنبياء: 107] فهو مبعوث ومرسل لرحمة الخلق أي: ليرحم الله الخلق برسالته.

(الورى) : هم الخلق وقد أُرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإنس والجن عامة إلى يوم القيامة، وكان غيره من الأنبياء يبعث إلى قومه خاصة.

وقوله: (وخير هاد) : هذه صفة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، لا شك في هذا، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير الهداة، فهو أهدى الناس سبيلاً، وهو أقوم الناس في الدعوة إلى الله عزّ وجل. و (هاد) : اسم فاعل من الهداية وهي هنا بمعنى الدلالة، وليست بمعنى التوفيق، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدل الخلق إلى الحق، ولا يوفقهم للحق، إذ التوفيق للحق بيد الله عزّ وجل، كما قال تعالى: {{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}} [القصص: 56] والهداية عند أهل العلم قسمان:

1 ـ هداية دلالة وإرشاد، وهذه تكون للرسول صلّى الله عليه وسلّم ولغيره، كما هي لله تعالى أيضاً، ومن أمثلتها قوله تعالى: {{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ}} [الشورى: 52] وقوله تعالى: {{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}} [السجدة: 24] .

2 ـ هداية توفيق، وهذه لا تكون إلا لله، ومن أمثلتها قوله تعالى: {{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}} [القصص: 56] . إذاً (خير هاد) أي: دال.

قوله: (لجميع من درى) : أي: من كان ذا دراية وعلم، فإنه يعرف هداية النبي صلّى الله عليه وسلّم له. أما الأعمى الذي أعمى الله قلبه وبصيرته، والعياذ بالله، فهذا لا يدري عن هداية النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل قد ينكرها. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}} [المطففين: 12 ـ 14] هذا يقول عن القرآن العظيم الذي فيه أعظم الهداية: إنه أساطير الأولين، فأبطل الله قوله بقوله: {{كَلاَّ}}، فالعلة إنما هي في قلب هذا الرجل حيث {{رَانَ}} على قلبه ما كان يكسب.

5 ـ وبعدُ فالعلمُ بحورٌ زاخِرَهْ***لنْ يبلغَ الكادحُ فيه آخرَهْ

قوله: (وبعد) : أي: بعد ما ذكر من الثناء على الله، والصلاة على نبيه صلَّى الله عليه وسلم.

قوله: (فالعلم) : الفاء رابطة لشرط مقدّر أي: مهما يكن من شيء بعد ذلك فالعلم هو الذي يقع بعد. وقوله: (العلم) يشمل جميع العلوم، علم الشريعة، علم اللغة، علم الهندسة، علم الصنائع، كلها (بحور زاخرة) أي: واسعة لا يصل الناس إلى غايتها. قال الله تعالى: {{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}} [الإسراء: 85] ولهذا الآن يترقى العلم في الصناعات ترقياً يَبْهرَ، وبالمقارنة ما بين هذه السنة مثلاً وقبل عشر سنوات نجد الفرق العظيم، وكذلك العلم الشرعي بحور، فرجل ابتدأ طلب العلم يحفظ ـ مثلاً ـ مائة مسألة، ورجل آخر قد بلغ في العلم مبلغاً يعرف ألف مسألة، حسب ما أعطاه الله عزّ وجل من العلم والفهم.

ومع ذلك مهما بلغ الإنسان فإنه قاصر، ولن يبلغ آخره، حتى العلماء الجهابذة لا يصلون إلى منتهى العلم أبداً. فالعالم الذي بلغ من العلم مبلغاً كبيراً قد تأتيه المسألة فيتوقف فيها، كما يوجد في كتب العلماء السابقين، تجده يحكي خلافاً مثلاً من دون ترجيح يعني: أنه متوقف، وإلا كان الواجب عليه أن يرجّح، لأجل أن يبلّغ الناس علمه.

قوله: (لن يبلغ الكادح فيه آخره) : الكادح هو العامل المجد المجتهد في العمل لا يمكن أن يبلغ آخر العلم. وهذا هو الواقع، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: {{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}} [الإسراء: 85] وقول الله تعالى: {{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}} [يوسف: 76] حتى يَنْتَهِي إلى عالم الغيب والشهادة جلّ وعلا.

ولكن الناظم استدرك أشياء تقرّب العلم وتجمعه، فقال:

6 ـ لكنَّ في أصولِهِ تَسْهِيلا***لنَيْلِهِ فاحرصْ تجدْ سبيلا

يعني: أنه من نعمة الله عزّ وجل أن جعل لهذه البحور الزاخرة أصولاً تسهل نيلها، وهذه الأصول هي القواعد والضوابط، وليست هي الأصول المذكورة في أول هذه المقدمة، لأن الأصول المذكورة في أولها هي الأدلة التي يعتمد عليها في فهم الأحكام، أما هنا فالمراد بالأصول القواعد والضوابط التي تجمع شتات العلم.

قوله: (لكن في أصوله) : أي: أصول العلم (تسهيلاً لنيله) ؛ لأن الإنسان إذا عرف الأصل بنى عليه مسائل كثيرة. فالأصول تجمع لك مسائل كثيرة في كلمتين يسيرتين.

نضرب لذلك مثلاً:

إذا شك الإنسان في طهارة الماء أو نجاسته، فالأصل الطهارة. فكلما جاءت مسألة مثل هذه، فابن على هذا الأصل.

جاءك رجل يقول: أنا عندي إناء فيه ماء أصفر اللون. تقول له: الماء طاهر، لأن الأصل الطهارة.

وجاءك شخص آخر يقول: وجدت في ثوبي بقعة لا أدري أنجاسة هي أم لا؟ تقول: الأصل الطهارة..

فأنت إذا عرفت الأصول، وهي أن الأصل في الأشياء الطهارة فرّعت عليها مسائل لا يحصيها إلا الله، فعلى طالب العلم أن يستنبط الأصول من كلام أهل العلم.

ومن الأصول وإن كانت ليست أصولاً واسعة، ما تجدونه في كلام الفقهاء من التعليلات. فهي في الحقيقة أصول لأنها موجبات الحكم، فهي أدلة من جهة، وهي أيضاً تشمل مسائل كثيرة.

أرأيتم قول الله عزّ وجل: {{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}} [الأنعام: 145] نأخذ من هذا التعليل أن كل رجس حرام، لأن الله علل تحريم هذه الأشياء بأنها رجس. فأخذنا من هذا قاعدة (أن كل نجس حرام).

وليس كل حرام نجساً، فهذا الحرير مثلاً حرام على الرجل وليس بنجس. والمغصوب حرام وليس بنجس.. والسم حرام وليس بنجس.. وهكذا.

إذاً التعليلات التي يعلل بها الفقهاء هي في الحقيقة بمنزلة القواعد.

أنا أذكر في زمن الطلب أني كنت أتتبع شرح ابن دقيق العيد على عمدة الأحكام[(22)]، لأن هذا الشرح من أعظم الشروح في مسألة الرجوع إلى القواعد الأصولية، وإن كان من جهة الأحكام، ومن جهة الكلام على الألفاظ ليس بذاك الواسع، لكنه في الحقيقة من جهة القواعد الأصولية والفقهية يعتبر مرجعاً. كنت أتتبع هذا الشرح كلما وجدت فيه قاعدة كتبتها واستفدت من ذلك.

كذلك بعض طلبة العلم تتبع الروض المربع شرح زاد المستنقع، وكلما ذكر تعليلاً قيّده، فصار يستفيد من هذا...

المهم أن القواعد مفيدة لطالب العلم، وهناك من طلبة العلم من يهتم بحفظ المسائل فقط دون القواعد، فتجد أن عنده قصوراً عظيماً، إذا جاءته مسألة خارجة عما كان يحفظ توقف، لا يعرف كيف يصرفها، لأنه ليس عنده قاعدة، لكن الذي عنده قاعدة يرد جزئيات المسائل إلى أصولها، وينتفع انتفاعاً كثيراً.

قوله: (لنيله فاحرص تجد سبيلاً) : أي: احرص على هذه الأصول تجد سبيلاً للوصول إلى العلم وإلى إدراك العلوم.

7 ـ اغْتَنِمِ القواعدَ الأصُولا***فمَنْ تَفُتْهُ يُحْرَمِ الوصولا

قوله: (اغتنم) : أي: اطلبها على أنها غنيمة، وعلى أنك أدركتها إدراك المجاهد للغنيمة، وهذا يدل على الحرص على إدراكها من وجه، والحرص على إبقائها من وجه آخر.

قوله: (القواعد الأصولا) : يعني: القواعد الأصولية التي تكون أصلاً، سواء في باب الفقه أو في باب أصول الفقه. والقواعد جمع قاعدة، وهي: ما ينبني عليه غيره، كالأصل للجدار الذي يسمى قاعدته.

(الأصولا) : عطف بيان للقواعد أو نعت، والمعنى: أن القواعد هي الأصول أي: أصول العلم.

لكن قد تجد في هذه المنظومة أشياء ليست من القواعد ولكنها ضوابط، فيقال: الحكم على الأغلب، فغالب ما في هذه المنظومة قواعد، وألحقت بها بعض الضوابط. وهنا يجب أن نعرف الفرق بين القاعدة وبين الضابط:

القاعدة: عبارة عن جملة من القول تشمل أنواعاً من العلم.

والضابط: عبارة عن جملة من القول تشمل أفراداً من العلم.

فالضابط: يكون في مسألة واحدة، لكن يضبط أفرادها، مثل أن تقول: يجري الربا في كل مكيل. هذا ضابط، لأنه إنما يجمع أفراداً في شيء معيّن، لكن القاعدة أن تقول: كل أمين فقوله مقبول في التلف. هذا يشمل أشياء كثيرة من أنواع مختلفة في العلم، فهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، وهنا نقول: اغتنموا قواعد الأصول.

قوله: (فمن تفته يحرم الوصولا) : (تفته) فعل الشرط مجزوم، و (يحرم) جواب الشرط مجزوم أيضاً، لكن حُرِّكَ بالكسر لالتقاء الساكنين. (من تفته) : أي: هذه القواعد والأصول فلم يدركها (يحرم الوصولا) ، أي: يمنع الوصول إلى المقصود، وهو العلم، وهذه قاعدة عند العلماء، يقولون: «من حرم الأصول حرم الوصول» وصدقوا. لذلك ينبغي لنا أن نحرص على معرفة القواعد، وعلى معرفة ما تتضمنه، وأن نتباحث فيها، وأن نسأل من هو أعلم منا حتى نحصل على المقصود منها بنّية وإخلاص وحسن أداء، لأن من تفته الأصول يأخذ العلم مسألة مسألة دون أن يكون له أصل يبني عليه، فيختل علمه ويتبدد فكره، وينسى هذه المسائل، أما الأصل فيبني عليه غيره ويتفرع عليه أشياء كثيرة.

والألف في قوله: (الأصولا) وفي قوله: (الوصولا) للإطلاق، أي: لإطلاق الروي، وهذا مستعمل كثيراً في النظم.

8 ـ وهاكَ مِنْ هذِي الأصولِ جُمَلا***أرجو بها عالِي الجنانِ نُزُلا

قوله: (وهاك من هذي الأصول) : هاك: اسم فعل بمعنى خذ، والفرق بين اسم الفعل والفعل أنه إن تغير بإسناده إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المخاطبة فهو فعل، وإن لم يتغير فهو اسم فعل، فمثلاً: (هاك) اسم فعل، لأنه لا يتغير إذا خاطبت به الواحد والاثنين والجماعة، وإنما يتغير كاف الخطاب فقط.

صه: اسم فعل، لأنك تخاطب الرجل فتقول: صه، وكذا المرأة، وتخاطب الاثنين فتقول: صه، وكذا الجمع.

وهل يُقال: (صهْ) أو (صهٍ)؟

فيه تفصيل: إن كنت أريد أن يسكت مطلقاً أقول: صهٍ. وإن كنت أريد أن يسكت عن شيء معين أقول: صَهْ.

(هاك) : الخطاب لكل من يقرأ هذه المنظومة.

(من هذي الأصول جملا) : من للتبعيض، يعني: أننا لم نأت بجميع الأصول، وإنما أتينا منها بجمل.

قوله: (جملا) : جمع جملة، والمراد بذلك الشيء الذي تحصل به الكفاية.

قوله: (أرجو بها) : أي: أسأل الله بهذه الأصول أو بهذه الجمل من الأصول (عالي الجنان) أي: العالي منها، وهي الفردوس، ـ أسأل الله أن يجعلنا من أهلها ـ وأصلها (عالي الجنان) لكنها خففت الياء للوزن، ثم حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين.

والجنان جمع جَنَّة، وهي في الأصل البستان الكثير الأشجار، كما في قوله تعالى: {{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا *}} [الكهف: 32] لكنها إذا أريد بها جزاء المؤمنين المتقين فهي دار الخلد التي أعدها الله تعالى لأوليائه المتقين، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال الله تعالى في القرآن: {{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}} [السجدة: 17] وقال تعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»[(23)].

(نزلا) : أي: منزلاً أو ضيافة.

وهل يمكن للإنسان أن يرجو شيئاً بدون فعل الأسباب التي توصل إليه؟ الجواب: لا يمكن، لأن الرجاء لا بد له من سبب، ولهذا من رجا شيئاً بدون عمل، فإنه متمنٍ وليس براجٍ.

وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني»[(24)].

وعلى هذا فمن رجا الجنان فليعمل لها، ومن خاف من النار، فليعمل العمل الذي ينجيه من النار. وأما أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأنت معرض غير قائم بأمر الله، ولا منتهٍ عما نهى الله، فهذا ليس بصواب، بل هذا أشبه ما يكون بالاستهزاء، كما أن الرجل لو قال: اللهم ارزقني ولداً ولم يتزوج لعدّ ذلك سفهاً،وهذا من الاعتداء في الدعاء.

9 ـ قواعداً مِنْ قولِ أهلِ العلمِ***وليس لي فيها سِوَى ذا النظمِ

قوله: (قواعداً) : عطف بيان لقوله: (جملا) ، وكلمة «قواعد» ممنوعة من الصرف ولكنها صرفت هنا لأجل النظم ولهذا قال ابن مالك رحمه الله:

ولاضطرارٍ أو تناسبٍ صُرِفْ***ذو المنعِ والمصروف قد لا ينصرف[(25)]

وقال الحريري رحمه الله:

وجائز في صنعة الشعر الصَّلف***أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف[(26)]

ويجوز أن تقول (قواعدُ) يعني: هي قواعدُ على أنها خبر لمبتدأ محذوف.

قوله: (قواعداً من قول أهل العلم) : يعني: أن الناظم تتبع من أقوال أهل العلم ما استطاع، ثم أخذ من هذه الأقوال قواعد ونظمها في هذه الأبيات.

قوله: (وليس لي فيها سوى ذا النظم) : يعني: ما جئت بها من عندي، إنما أتيت بالنظم، والكلام لأهل العلم، فالفضل في هذه القواعد لله عزّ وجل ثم لأهل العلم الذين سبقونا، ودائماً يقولون: كم ترك الأول للآخر؟! وفي هذا يقول الشاعر العربي:

ما أُرانا نقول إلا مُعاراً***أو معاداً من قولنا مكروراً[(27)]

وهذا من الإنصاف أن يعترف الإنسان لأهل الفضل بفضلهم، وأنه استعان بأهل العلم في علومهم.

هذا هو خلاصة المقدمة التي تشتمل على هذه الأبيات التسعة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:27 pm



35 ـ والظنُّ في العبادةِ المُعْتَبَرُ***ونفسَ الامْرِ في العقودِ اعتبرُوا

هاتان القاعدتان عبّر عنهما العلماء بقولهم: العبرة في العبادات غالباً بما في ظن المكلف، والعبرة في المعاملات غالباً بما في نفس الأمر.

قوله: (اعتبروا) : يعني: العلماء، قالوا في باب العبادات: العبرة بالظن، وفي المعاملات: العبرة بما في نفس الأمر.

ووجه ذلك: أن العبادات حق لله تعالى، فاكتُفي فيها بالظن، لأنه هو المستطاع.

ويدل لهذا الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ثم ليبن عليه»[(198)]. وأما المعاملات فهي حق للآدمي فلا بد من موافقة التصرف لما في نفس الأمر.

مثال ذلك في العبادات:

ـ رجل ظن أن هذا الماء طهور فتطهر به وصلّى وبقي على ظنه فهل تصح صلاته؟

الجواب: نعم، تصح بناء على الظن.

ـ رجل غسل ثوبه من نجاسة حتى غلب على ظنه أنه قد تطهر من النجاسة، فالثوب طاهر ولو كان في نفس الواقع لم يتطهر، لأن العبرة بما في ظن المكلف.

ـ رجل صلَّى فلما كان في التشهد الأخير، شك هل صلَّى ثلاثاً أو أربعاً، وغلب على ظنه أنها أربع. فنقول: اكتف بهذا الظن واجعلها أربعاً، واسجد سجدتين للسهو بعد السلام. حتى لو فرض أن صلاته في الواقع كانت ثلاثاً، فإن صلاته صحيحة، لأن العبرة في العبادات بغلبة الظن.

ـ رجل يطوف بالبيت، فشك هل طاف ستاً أو سبعاً، وغلب على ظنه أنها سبعة أشواط فليجعلها سبعة، لأن هذا هو الظن، والعبادات مبناها على الظن، وإذا قدر أنه لم يطف إلا ستة أشواط في نفس الأمر فإنه لا يلزمه شيء لأن هذه المعاملة بينه وبين ربه والله تعالى محل العفو والسماح.

ـ رجل صلَّى الفجر بناءً على أن الفجر قد طلع، وبقي على هذا الظن، فصلاته صحيحة، حتى لو فرض أنه في الواقع قد صلَّى قبل الوقت، لأن العبرة بما في ظن المكلف.

ـ رجل صائم ظن غروب الشمس فأفطر، ثم تبيّن بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فصومه صحيح، لكن عليه الإمساك من حين أن يعلم أن النهار باقٍ حتى تغرب الشمس حقيقة.

ودليل ذلك ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «أفطرنا ـ يعني في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ في يوم غيم ثم طلعت الشمس»[(199)]. ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلينا، لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله، وشريعة الله محفوظة.

ـ رجل أعطى زكاته لشخص يظن أنه من أهل الزكاة ثم تبيّن أنه ليس من أهل الزكاة، فزكاته مقبولة ومبرئة للذمة، لأنه بنى على غالب ظنه.

ويدل لهذا قصة الرجل الذي تحدث عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لأتصدقن الليلة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله، على سارق! لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد بغي ـ أي زانية ـ فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على زانية، فقال: الحمد لله، على زانية! لأتصدقن الليلة، فتصدق فوقعت صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون؛ تُصُدِّق الليلة على غني، فقال: الحمد لله، على سارق وزانية وغني! فقيل له: إن صدقتك قد قبلت، أما السارق فلعله يستعف ويستغني بما أعطيته عن السرقة، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيتصدّق»[(200)].

فهذا الرجل وقعت الصدقة في غير ما يريد، لكنه ظن أنه الذي يريده، وهو أنه فقير عفيف ورع فوقعت الصدقة في غير هؤلاء، لكنه قيل له: إنها قد قبلت، لأن هذا كان الذي أداه إليه اجتهاده.

أما المعاملات: فالعبرة بما في نفس الأمر، لا بما في ظنه، وإن كان يحرم على المكلّف أن يتصرف فيما لا يظن أن له حق التصرف فيه. ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ رجل باع ملك زيد بدون توكيل منه، وبدون ولاية عليه، ثم لما باعه تبين أن زيداً قد مات وكان هو الذي يرثه، والبيع وقع بعد موت زيد، فبيعه صحيح، مع أنه حين باعه يعتقد أنه مُلْكُ غيره، لأن العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر، لكن إذا كان قد سرقها فهو آثم على نيّة الفعل، أما الفعل فتبيّن أنه صحيح.

ـ رجل باع مالاً لشخص، وكان صاحب المال قد وكلَّه في البيع، لكنه لم يعلم بالوكالة حتى باعه، فهنا نقول: إن البيع صحيح، لأنه وقع ممن يقوم مقام المالك وهو الوكيل، وإن كان حين البيع لم يعلم بالوكالة.

ثم قال الناظم مستدركاً:

36 ـ لكنْ إذا تَبَيَّنَ الظنُّ خَطَا***فأَبْرِئِ الذمةَ صَحِّحِ الخَطَا

هذا الاستثناء عائد على الشطر الأول من البيت السابق يعني: في العبادات، فإذا بنيت على الظن وتبيّن الظن خطأ (فأبرئ الذمة) بماذا أبرئها؟ قال: (صحح الخطا) هذه الجملة بيان لقوله: (فأبرئ الذمة) إذا تبيّن أن هذا الظن خطأ وجب عليك أن تعود إلى الصواب فتبرئ الذمة، وهذا إذا كان مما يمكن تداركه وتلافيه كأن يكون الخطأ المبني على الظن في ترك واجب فيعيد ما كان الصواب فيه خلاف ظنه أما المحرم فتكفي التوبة منه. مثاله قال:

37 ـ كرجلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الوقتِ***فليُعِدِ الصلاةَ بعدَ الوقتِ

قلنا: (قبيل) : ولم نقل قبل الوقت، لأنه لا يمكن أن يغلب على ظنه أن الوقت دخل إلا إذا صلّى قبيل الوقت، أما أن يصلي في الضحى، قبل الظهر بوقت طويل، وهو يظن أن الظهر قد دخل وقته، فهذا وقوعه بعيد. لكن لو صلّى قبيل الوقت ظناً منه أن الوقت قد دخل ثم تبيّن أنه لم يدخل قال: (فليعد الصلاة بعد الوقت) ، وتكون الصلاة الأولى نافلة له.

مثال آخر:

ـ رجل ظن أن الشمس قد غربت فصلَّى المغرب، ثم تبيّن بعد ذلك أن الشمس لم تغرب، فهنا يجب عليه أن يعيد الصلاة إذا دخل وقت المغرب، أي إذا غابت الشمس.

فإن قال قائل: ما الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الصائم إذا أفطر قبل أن تغيب الشمس، ثم تبيّن أن الشمس لم تغب فإنه يجزئه الصوم.

قلنا: الفرق أن الأكل في الصوم وجودُ مفسدٍ، فيعذر الإنسان فيه بالجهل، وأما الصلاة التي لم يدخل وقتها فهو فَقْدُ واجبٍ.

والعلماء يقولون: إن ترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل، وأما فعل المحظور فيعذر فيه بالجهل، لقول الله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] فقال الله تعالى: «قد فعلت»[(201)].

ـ رجل غلب على ظنه أنه صلىّ أربعاً فسلم، ثم تبيّن بعد السلام أنه صلَّى ثلاثاً، فهل له أن يقول: أنا بنيت على غلبة الظن، والعبادات يكتفى فيها بغلبة الظن؟

الجواب: لا، لأنه تبيّن الخطأ، فيجب عليه أن يكمل أربعاً ويسجد للسهو إن علم في زمن قصير أو يعيد الصلاة من أولها إن علم بعد زمن طويل.

ـ رجل صلَّى يظن أنه على وضوء، ثم تبيّن بعد سلامه أنه ليس على وضوء، فهنا نقول: يجب عليك أن تتوضأ وتعيد الصلاة.

ـ رجل أكل لحم إبل، لكنه يغلب على ظنه حين أكله أنه لحم ضأن وصلَّى، فصلاته صحيحة، فإن تبيّن له فيما بعد أنه لحم إبل وجب عليه أن يعيد الوضوء والصلاة.

ـ رجل طاف ستة أشواط وغلب على ظنه أنها سبعة فانصرف، ولما مشى خطوات ذكر أنه إنما طاف ستة أشواط، فالواجب أن يعود ويأتي بالسابع لأنه إذا تبيّن الخطأ وجب العود إلى الصواب.

ـ رجل ظن أنه أخرج زكاة ماله، فلم يخرجها ظناً منه أنه قد أخرجها، فبنى على هذا الظن، ولم يُحْصِ ماله، ولم يؤد الزكاة، ثم تبيّن له بعد ذلك أنه لم يزكّ فهنا يجب عليه أن يحصي ماله الزكوي، وأن يزكي، لأنه تبيّن أن ظنه الأول ليس بصحيح، فوجب أن يأتي بالفعل الصحيح.

ـ رجل أعطى شخصاً زكاة بناءً على غلبة الظن أنه رجل فقير، ثم تبيّن أنه غني فالحديث السابق[(202)] يدل على الإجزاء، وهذا لم يخرج عن القاعدة، لأنه في هذه الصورة لا يمكن تصحيح الخطأ، إذ إن تصحيح الخطأ أن يسترد المال ممن أخذه، واسترداده المال ممن أخذه لا يمكن، لأنه ملكه بطريق شرعي، فلا يمكن أن ينتزع منه، فلهذا لا يُظَنُّ أن هذه خارجة عن القاعدة، وإنما لم نقل بإعادتها لأن الله تعالى لم يوجب عليه الزكاة مرتين.

مسألة: من أعطى غنياً يظنه فقيراً ويستطيع أن يعظه ويسترد المال منه فهل يلزمه؟

الإجابة: لا يلزمه، لأن الحديث دلّ على أنها قبلت بناءً على ظنه.

مسألة: ما الحكم إذا غلب على ظنه دخول الوقت فصلَّى، ثم تبيّن له أن الوقت لم يدخل، وما الفرق بين غلبة الظن في دخول الوقت وبين غلبة الظن في اتجاه القبلة؟

الإجابة: إذا صلَّى قبيل الوقت، ثم تبيّن أنه صلَّى قبل دخوله، فإنه يعيد الصلاة. ووجه ذلك: أنه صلَّى في وقت لم يؤمر أن يصلّي فيه، فتكون الصلاة حينئذ غير مأمور بها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(203)]. فلما دخل الوقت طولب بالصلاة.

وأما الخطأ في استقبال القبلة إذا كان في موضع اجتهاد، فلأنه صلَّى صلاة مأموراً بها، واتقى الله ما استطاع، وتوجه إلى حيث يرى أنه القبلة، فلم يقصّر في شيء، وقد طولب بأن يصلّي لأن الوقت قد دخل، فصلَّى على الوجه الذي أمر به حيث اجتهد واتقى الله ما استطاع، فلا تلزمه الإعادة.

مسألة: إذا شك الإمام في صلاته فبنى على غالب ظنه، ووافق ظنه الواقع وذلك بموافقة المأمومين له، فهل يسجد للسهو أو لا؟.

الإجابة: المسألة فيها خلاف بين العلماء. والمذهب أنه لا يسجد إذا تبيّن أنه مصيب فيما فعل، لأن السجود إنما لسببٍ تَبيَّنَ عدمُه[(204)]. وقيل: إنه يسجد لأنه أدى جزءاً من صلاته شاكّاً فيه، أي: في هذا الجزء لا يدري أزائد هو أم لا؟ ولم يتبيّن لي كثيراً رجحان أحد القولين.

مسألة: رجل في رحلة برية مع زملائه وعندما، قام لصلاة الفجر وجد نفسه محتلماً، والجو بارد جداً، ولا يستطيع استعمال الماء، فتوضأ وصلَّى على تلك الحالة، ثم أعاد الصلاة قبيل الظهر بعد تمكنه من الاغتسال، فهل تصح صلاته؟.

الإجابة: الرجل قد برئت ذمته على كل حال، لأنه أعاد الصلاة. لكن حسب السؤال لم يتيمّم لصلاة الفجر، وإنما توضأ، والوضوء يخفف الجنابة لا شك، لكن لا يرفعها، وعليه فإعادته الصلاة بعد اغتساله إعادة شرعية.

أما لو تيمّم لصلاة الصبح بناءً على أنه يخاف على نفسه البرد وصلَّى، فإنه لا تلزمه الإعادة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:28 pm

ـ والشكُّ بعدَ الفعلِ لا يُؤثِّرُ***وهكذا إذا الشكوكُ تَكْثُرُ

39 ـ أو تك وهماً مثل وسوا س فدع***لكل وسوا س يجي به لكع

هذان البيتان في حكم الشك، هل يؤثر أو لا؟ وأنه لا يعتبر في ثلاثة مواضع:

والشك: هو التردد بين شيئين، فيشمل ما ترجح أحدهما على الآخر، وما لم يترجح، وهذا هو المراد، فالشك هنا يقابل اليقين.

قوله: (والشك بعد الفعل لا يؤثر) : هذا هو الموضع الأول مما لا يعتبر فيه الشك، يعني: الشك بعد فعل المشكوك فيه وانتهائه منه، لا يؤثر، لأن الأصل أن ما وقع إنما وقع على وجه السلامة والصحة. ولذلك لما شكا الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل يُخَيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة[(205)] ـ أي في نفس العبادة دون أن ينصرف منها ـ ومع ذلك أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن لا يلتفت إليه، لأنه شك، والشك لا يرفع اليقين. ولو فتح باب الشك بعد الفعل، لكان فتحاً لوسواس لا نهاية له.

لكن لو زال الشك وتبيّن له الأمر فإنه يرجع إلى اليقين، لأن مراد العلماء بالشك هنا إذا دام شكه.

ومن أمثلة هذا:

ـ إنسان توضأ ولما انتهى وضوؤه، شك هل تمضمض أو لا. فنقول: لا شيء عليه، وعليه أن يستمر، ولا أثر لهذ الشك، لأنه بعد الفراغ من الفعل.

ـ رجل صلّى، ثم بعد الفراغ من صلاته شك هل صلَّى ثلاثاً أو أربعاً، فنقول: لا يلتفت إلى هذا الشك، لأنه بعد الفراغ من العبادة.

ـ إنسان صلَّى الصلاة، وبعد سلامه منها شك هل سجد مرتين أو مرة واحدة، فصلاته صحيحة، ولا يلتفت لهذا الشك، لأنه لو التفت لكانت الشكوك تتوارد عليه ويقول: ربما لم أسجد إلا سجدة واحدة في كل ركعة، وحينئذ يعيد الصلاة من أولها.

ـ رجل بعد أن فرغ من صومه شك هل نوى أنه عن القضاء أو أنه نفل؟ فنقول: لا يلتفت لهذا الشك.

ـ رجل بعد فراغه من الطواف وانصرافه من مكان الطواف شك هل طاف سبعاً أو ستاً فنقول: لا يلتفت، ويُحْكَمُ له أنه طاف سبعة.

وهذه القاعدة مأخوذة من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين شُكي إليه الرجل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً[(206)]، لأن الأصل بقاء طهارته، والأصل أن طهارته صحيحة، فالشك هنا ليس وارداً على الصلاة بل وارد على الوضوء، والوضوء عبادة قد تمت ثم طرأ عليها الشك هل أحدث أو لا، فلا يلتفت إليه. ولو اعتبرنا مثل هذه الشكوك ما بقيت عبادة إلا ونحن نشك فيها.

قوله: (وهكذا إذا الشكوك تكثر) : هذا هو الموضع الثاني مما لا يعتبر فيه الشك، فإذا كان الإنسان شكَّاكاً، كلما فعل عبادة شك، إن توضأ شك، وإن استنجى شك، وإن صلَّى شك، وإن صام شك. فهنا نقول: ألغِ هذا الشك، ولا تعتبره، لأن كونه لا يفعل وضوءاً ولا صلاة ولا غيرها إلا شك، هذا مرض في الواقع، فلا يلتفت إليه، لأننا نعلم أنه ما دام الإنسان له عقل واختيار فإنه سوف يفعل الشيء على ما طلب منه، ولو أنه اعتبر كل ما شك فيه؛ لتعب ولصار كلما صلَّى أعاد الصلاة، وكلما توضأ أعاد الوضوء، وهذا من الحرج وقد قال الله تعالى: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] فيلغى هذا الشك.

قوله: (أو تك وهماً) : هذا هو الموضع الثالث مما لا يعتبر فيه الشك، يعني: إذا كانت الشكوك وهماً مثل الوساوس، فالموسوس ـ نسأل الله العافية ـ لا يبني على أصل، بل مجرد وهم، والغالب أن الموسوس تكثر معه الشكوك، والوسواس لا دواء له إلا الإعراض والتلهي عنه، لكن لو فرض أن الشكوك لا تكثر معه، ثم حصل له وهم، فإنه لا يلتفت إلى هذا الوهم، سواء كان في أثناء العبادة أو بعد فراغه منها، لأن الوهم لا يُرجع إليه.

والوهم: هو الشك المرجوح، والراجح ظن، لأن ما عدا العلم إما شك إذا تساوى الطرفان، وإما ظن إذا ترجح أحد الطرفين، فالراجح ظن، والمرجوح وهم لا يُلتفت إليه.

وبذلك نستريح في الواقع من مشاكل كثيرة، لأنه يوجد من بعض الناس أنه يشك هل طلق زوجته أو لا؟ يشك إما في اللفظ الذي صدر منه؛ هل قال: طالق، أو قال: تذهب إلى أهلها، أو قال: سوف أطلق، وما أشبه ذلك. وإما أن يشك هل تلّفظ أو لم يتلفظ، كل هذا نقول: لا عبرة به، ما دام يترجح عنده عدم ذلك، فالأصل أن هذا وهم، وحتى لو كان شكاً متردداً، أو غالباً على الظن، فإنه لا يعتد به، لأن الأصل بقاء النكاح، واليقين لا يزول بالشك.

ويوجد من الناس من يبتلى بالوساوس، حتى إنه إذا شرب الماء وتنفّس فيه ثلاثاً، يقول له الشيطان: طَلَّقْتَ زوجك في النفس الأول الطلقة الأولى، والثانية في النفس الثاني، والثالثة في النفس الثالث، فهي الآن بائنة منك. وإنما ذكرنا هذا المثال لأنه واقع، حتى إن بعضهم إذا قام يقرأ في القرآن وقلب الأوراق، يأتيه الشيطان كلما قلب ورقة قال: هذه طلقة... وهكذا.

وبعض الناس يأتيه الشيطان في جانب الرب عزّ وجل، بالشك في الرب، أو في صفة من صفاته، أو في فعل من أفعاله، من أجل أن يلبس على الإنسان دينه، حتى إن الصحابة شَكَوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الواحد منهم يجد في نفسه ما يحب أن يخر من السماء ولا يتكلم به. أو ما يحب أن يكون فحمة، حُمَمَةً سوداء، ولا يتلفظ به، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ذلك صريح الإيمان[(207)]، وأنه لا يضر.

ولهذا يجب على الإنسان أن لا يلتفت إلى مثل هذه الوساوس حتى لا تضره، بل يعتمد على ما في قلبه من الإيمان، ويستعين بالله تعالى، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم، ويستمر في عبادته لله عزّ وجل، فإذا فعل ذلك لم تضره هذه الوساوس، بإذن الله، وعرف الشيطان أنه لا مدخل له على هذا الإنسان، فيعود خاسئاً ذليلاً.

قوله: (فدع) : يعني: اترك (لكل وسوا س يجي به لكع) : لكع: كلمة ذم، والمراد به هنا الشيطان أي: يجيء به الشيطان، واللكع: اللئيم، ولا أحد أَلأَْم من الشيطان الرجيم.

والمعنى: دع كل الوساوس واتركها، لأن الوساوس إنما تأتي من الشيطان، من أجل أن ينكد على الإنسان حياته، ويلبِّس عليه دينه.

وخلاصة ما سبق أن الشك ينقسم إلى قسمين:

1 ـ شك في أثناء الفعل. وهذا قد يكون من كثير الشكوك، وقد يكون وهماً.

2 ـ شك بعد الفعل.

ولكل واحد من هذه الأحوال حكمه.

وأما إذا كان الشك في غير هذه المواضع فإنه يكون معتبراً.

تنبيه: في هذه الأحوال التي يطرح فيها الشك إذا تبين له اليقين فإنه يعمل به لأن مراد العلماء بالشك في هذا إذا دام شكه مثال ذلك: رجل شك بعد فراغه من الصلاة هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فإنه لا يلتفت إليه لكن إذا تيقن أنه لم يصل إلا ثلاثاً وجب عليه أن يأتي بالرابعة ويسجد للسهو بعد السلام إن قصر الزمن وإن طال الزمن أعاد الصلاة من جديد.

مسألة: ما الفرق بين الاشتباه والشك؟

الإجابة: الاشتباه يكون في المحسوسات، بأن يشتبه عليك هذا الشيء: هل هو ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص، هل هو زيد أو عمرو، والشك يكون في القلوب والتصور.

مسألة: ذكرنا أن الشك بعد العبادة لا يؤثر، فإنسان صلَّى ثلاث ركعات، وفي الركعة الرابعة شك: هل في الركعة الأولى سجد سجدتين أو سجدة واحدة، فما حكمه؟

والجواب أن نقول: ما دام أنه في أثناء الصلاة فإنه يلغي الركعة الأولى، وتكون الركعة الثانية بدلها، وقلنا ذلك لأنه إلى الآن لم يفرغ من الصلاة، فلا نحكم بصحة الصلاة حتى ينتهي منها.

مسألة: إذا صام الرجل، ثم بعد أن انتهى من صيامه شك: هل نوى القضاء أو النفل، إذا كان عليه قضاء، ومن عادته أن يصوم الثلاث البِيض، ولم يتيقن؛ فهل صوم هذا للثلاث البيض أو للقضاء؟

والجواب أن نقول: هذه قرينة تؤيد أن صومه كان للبِيض، ما دامت هي عادته، والقضاء ليس على الفور فهنا يحمل على ما اعتاده.

مسألة: إنسان صار يحدّث نفسه: أَطَلَّقَ أو لم يطلّق زوجته، فقال: أطلقها وأستريح، فطلقها، فهل يقع طلاقه؟

والجواب أن نقول: إن كان مريداً للطلاق طَلُقَت، وإن كان من ضغط الوسواس عليه فإنها لا تطلق، وهنا طلّق: يريد أن يستريح فلا تطلق، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق»[(208)]. ولهذا ذكر كثير من العلماء أن طلاق الموسوس لا يقع بناءً على هذا.

مسألة: رجل أصيب ابنه بوسوسة عظيمة في الوضوء، فأفتاه بترك الصلاة لمدة شهر وبعد نهاية الشهر شفي ابنه من هذا الوسواس، فهل عليه شيء وهل على ابنه قضاء؟.

نقول: هذه الفتوى غير صحيحة لأنه أفتاه بترك ما هو واجب عليه، وفرض من فروض الإسلام، لكن من رحمة الله به أن شفى ابنه.

والواجب أن ينصح هذا الابن بترك الوسواس ويقف عنده من يعينه حين الوضوء، حتى إذا أتم الثلاث قال له: قف. وهذا وإن كان فيه مشقة لكن تُحْتَمَل للعلاج، والإنسان قد يثاب بعمل لا يختاره.

وعلى هذا الوالد أن يتوب إلى الله تعالى مما أفتاه به، وأن لا يعود لمثله، وأن لا يقدم على الفتوى إلا بعلم؛ لأن الإقدام على الفتوى بلا علم أمره خطير، لأنه يكون ممن افترى على الله الكذب، وقال على الله ما لا يعلم، وقد قال الله عزّ وجل: {{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}} [الأعراف: 33] وقال تعالى: {{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ *}} [يونس: 69] وقال تعالى: {{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}} [النحل: 105] أما بالنسبة لقضاء ما فات ابنه من الصلوات في الشهر فالاحتياط أن يقضي.

مسألة: أنا شاب أطلب العلم ولله الحمد، وأحرص على إخلاص النية لله بقدر المستطاع، ولكن ينتابني شعور بأني لا أخلص لله عزّ وجل، مع أني أستغفر الله ليلاً ونهاراً، وأدعوه أن يوفقني للإخلاص، والآن ينتابني خوف من هذا الأمر وجّهوني جزاكم الله خيراً؟

نقول: هذا من وساوس الشيطان، والشيطان عدوٌّ لنا كما قال ربنا عزّ وجل: {{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}} [فاطر: 6] . الشيطان يأتي الإنسانَ الحريصَ على الطاعة من هذا الباب، يقول: أنت إنما صلّيت رياء، إنما طلبت العلم رياء، إنما طلبت العلم للراتب، إنما طلبت العلم للمرتبة، ويفسد عليه عبادته بمثل هذه التقديرات، فليستعذ بالله ولينته، ولا يضره ذلك شيئاً، ويأتي الشيطان للشخص المتهاون فيثبطه عن الطاعة؛ ويقول: لا تفعل هذه الطاعة هذه سهلة، هذه نفل، افعل الطاعة في وقت آخر، أو يهوّن عليه الذنب ويقول: إن الله غفور رحيم، ورحمته سبقت غضبه، وما أشبه ذلك، فهذه من الوساوس الشيطانية التي يجب على الإنسان أن يكف عنها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقد شكا الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «ذاك صريح الإيمان»[(209)]، وأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والانتهاء عن ذلك. فامض في عبادتك، ولو قال لك الشيطان إنك مُراءٍ، أو إنك تريد الدنيا فلا يهمك[(210)].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:30 pm

ـ ثم حديثُ النفسِ مَعْفُوٌّ فَلا***حكمَ له ما لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا

هذا له صلة قوية بالبيتين السابقين.

حديث النفس معفو عنه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به»[(211)]، ولأن في دفعه حرجاً ومشقة لا تأتي بمثلها الشريعة، قال الله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] فلو أن الإنسان يؤاخذ بما تحدثه به نفسه لكان يلحقه بذلك حرج ومشقة.

ولا فرق في هذا بين العبادات والمعاملات؛ فلو حدَّث الإنسان نفسه بأمر خطير فإن هذا الحديث معفو عنه، ولكن عليه أن يعرض عنه ويستعيذ بالله ولا يبالي.

ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ يكون الإنسان في صلاته ويحدث نفسه؛ يقول مثلاً: مررت على فلان، وسلمت عليه، وسألته: كيف حالك وأخبارك، وقدم لي الأكل، وقلت: بسم الله، ثم خرجت، وقلت: أكرمك الله. هذا حديث نفس، لو أننا مؤاخذون بذلك لكانت صلاتنا تبطل، لأنه كلام آدميين، ولكن والحمد لله لا نؤاخذ به.

ـ لو أن إنساناً حدّث نفسه أنه سيعتق عبده، أو سيوقف بيته، أو سيطلق امرأته، فإن ذلك لا أثر له.

ـ لو حدّث نفسه بأنه سوف يعق والديه أو يقطع رحمه، فقال مثلاً: هذا أبي أتعبني فلن أذهب إليه، ولن أسلم عليه، ولن أصله بمال. يقول هذا في نفسه، لكنه لم يركن إليه بل هو حديث نفس فقط، فإن هذا لا عبرة به، ولا أثر له، ولا يكتب عليه، مع أن ما حدّث به نفسه من كبائر الذنوب.

ـ ولو حدّث نفسه أن يشرب الخمر فإنه لا أثر لذلك، ولا إثم بهذا الحديث.

ـ ولو حدّث نفسه أن يسرق، ولكنه لم يسرق فإنه لا أثر لهذا، ولا يأثم به ودليله الحديث السابق بل من هم بالسيئة ثم تركها لله تعالى كتبها الله حسنة كاملة.

أما إذا أحدث عملاً بالقول أو بالفعل فلا شك أنه يؤاخذ به حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية. ولهذا قال الناظم: (ما لم يؤثر عملا) يعني ما لم يكن على إثر حديث النفس عمل، فإذا أثر حديث النفس عملاً فإنه يعتبر ذلك العمل الذي نتج عن حديث النفس.

فائدة: الفرق بين العمل والفعل أن العمل إذا أطلق فإنه يشمل القول والفعل، أي: القول باللسان، والعمل بالأركان. وأما الفعل فهو خاص بفعل حركة الجوارح.

مسألة: هل كل حديث يدور في النفس معفو عنه؟ وهل الظن من حديث النفس، وكيف نجمع بين حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به»[(212)] وبيّن قوله تعالى: {{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}} [الحج: 25] ؟.

الإجابة: حديث النفس لا يشتمل على هَمٍّ ولا على عزيمة، وإنما يحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل؟ لكن لم يهم، فهذا معفو عنه، لأن الشيطان دائماً يلقي في قلب الإنسان ما يحدث به نفسه، مما يعد طامة كبرى، وردّة عن الإسلام، ولو أنه أُخِذ به الإنسان لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق.

وأما الهَمُّ فإنه مرتبة فوق التحديث، يعني يحدث النفس ثم يهم ويعزم، فهذا هو الذي يعاقب عليه، ما لم يترك المحرّم الذي همَّ به لله، فإن ترك المحرّم الذي همَّ به لله فإن الله تعالى يكتبه حسنة كاملة، لأنه تركها ـ أي المعصية التي همّ بها ـ خوفاً من الله عزّ وجل وإخلاصاً له.

وأما قوله تعالى في المسجد الحرام: {{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}} فالمعنى من يهمّ به همّاً جازماً مقروناً بالإلحاد؛ أي: همّ بمعصية واضحة بينّة، فإن الله تعالى يذيقه من عذاب أليم، فيجب أن نعرف الفرق، لأن الله تعالى يقول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}} [الأنفال: 29] .

وسمى الله القرآن فرقاناً، لأنه يفرق بين الأمور، بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين المؤمن والكافر، وبين حق الله وحق العباد، إلى غير ذلك مما تكون به الفروق.

مسألة: قلنا: إن حديث النفس معفو عنه فما الحكم لو كان في الصلاة فَحَدَّث نفسه أن يخرج من الصلاة، ألا تكون هذه نية قطع للصلاة فتبطل؟

الإجابة: إذا هم أن يخرج من الصلاة ولم يخرج فلا تبطل صلاته، بخلاف ما لو نوى قطعها ولم يتردد، فإنها تبطل. ولو أراد أن يُحْدِث في الصلاة ولكنه لم يُحْدِث فإنها لا تبطل.

41 ـ والأمرُ للفورِ فبادِرِ الزمَنْ***إلا إذا دَلَّ دليلٌ فاسْمَعَنْ

قوله: (والأمر للفور) : الفور هو المبادرة بالشيء؛ يعني: أن أمر الله ورسوله يجب أن يُفعل على الفور إن كان واجباً، من حين أن يوجد سبب الوجوب، وكان قادراً على ذلك. ويستحب أن يُفعل على الفور إذا كان مستحباً، وذلك لأن الواجب لا بد من فعله، وأما المستحب فللإنسان أن يدعه.

وهذه المسألة ـ أعني: هل الأمر للفور أو للتراخي ـ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما دل الدليل على أنه للفور، فهذا لا إشكال فيه أنه يجب على الفور.

الثاني: ما دل الدليل على أنه ليس للفور، فهذا أيضاً لا إشكال فيه أنه ليس للفور، وأنه على التراخي.

الثالث: الأمر المطلق، وهو ما لم يدل الدليل على أنه للفور أو للتراخي، وهو الذي يريده الناظم، فهل يكون للفور أو لا؟ هذا موضع خلاف بين العلماء.

مثال الأول: قوله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان: «إذا رأيتموه ـ يعني الهلال ـ فصوموا»[(213)]، فهذا الأمر على الفور بالنص والإجماع، بالنص لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه أعرابي فقال: إنه رأى الهلال، فسأله أيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالاً أن يؤذن في الناس أن يصوموا غداً[(214)].

ومثال الثاني: قول الله تعالى: {{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}} [البقرة: 238] وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله.. ووقت العشاء إلى نصف الليل»[(215)]، فهذا دل الدليل على أنه للتراخي، وأن له أن يصلّي في أول الوقت وفي وسطه وفي آخره.

ومن الثاني أيضاً: قول الله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] يعني: فعليه عدة، لكن دل الدليل على أن قضاء رمضان ليس على الفور، وأنه على التراخي، إلا أن يبقى من شعبان بقدر ما عليه، فحينئذٍ يجب عليه الصوم. فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤخر القضاء إلى أن يبقى على رمضان الثاني بقدر أيامها، ولم ينكر عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم[(216)] مما يدل على الجواز.

ومثال الثالث: كفارة اليمين إذا حنث فيها، وفدية الأذى، ومحظورات الإحرام وجميع ما يلزم فيها، هل يجب أن يبادر بها أو لا؟ نقول: هو مبني على ما ذكرنا في النظم: (والأمر للفور) : فالأصل أنه للفور.

ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: {{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}} [المائدة: 48] {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}} [آل عمران: 133] {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] ؛ فالأصل أنه إذا وجه الأمر للمكلّف ليقوم به أن يبادر، فإن أخّر فقد خالف الأمر.

ودليله من السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية أمر أصحابه أن يحلقوا ويحلوا، فتباطؤوا فغضب لذلك، لأنهم تأخروا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وأخبرها الخبر، فأشارت عليه أن يخرج إلى الناس ويدعو الحلاَّق ويحلق ففعل، فلما حلق ورآه الناس قد حلق، كاد يقتل بعضهم بعضاً في الحلق[(217)]. وهذا دليل من الأثر.

أما الدليل النظري: فلأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت، فيفوته هذا الواجب، وإذا كان لا يدري متى يفجأه الموت كان العقل والنظر يدلان على وجوب المبادرة به، ثم إنه إذا بادر بالشيء استراح في آخر الأمر، ولو قلنا بأن الأمر للتراخي فإن النفوس تميل إلى الكسل والتفريط ـ إلا من عصم الله ـ فربما يكسل ويُفرِّط ويمضي عليه الوقت، وتتراكم عليه الأوامر، فيعجز عن القيام بها.

وقال بعض العلماء: إن الأمر المطلق يكون على التراخي، والفور أفضل، وعللوا ذلك: بأن الفاعل للمأمور به إذا فعله متأخراً صدق عليه أنه ممتثل، فإذا قيل لك: اشتر كذا وكذا من السوق، ولم تشتره الآن بل بعد يوم أو يومين، صدق عليك أنك ممتثل، فإذا كان الشرع لم يأمر بالفورية والمبادرة، ولم تدل القرينة على ذلك فالأصل أنه على التراخي، لأن المطلوب أن تفعل هذا الفعل، وقد حصل.

واستدلوا أيضاً بأن الله تعالى فرض الحج والعمرة في السنة السادسة في الحديبية، ولم يحج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في السنة العاشرة، فأخّر الأمر.

ولكن هذا القول ضعيف؛ أما التعليل الأول فيقال: نعم، المقصود الفعل، لكن لمّا لم يقيّده الشرع بسبب ولا وقت، فإن تمام الامتثال ـ لا شك ـ أن تبادر بالفعل للأدلة المذكورة من القرآن والسنة، والنظر الصحيح.

وأما الاستدلال بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخَّر الحج إلى السنة العاشرة مع فرضه في السنة السادسة، فلا يصح الاستدلال به، لأن المذكور في صلح الحديبية ليس ابتداء الحج والعمرة، ولكن إتمام الحج والعمرة؛ قال الله تعالى: {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ}} [البقرة: 196] ؛ والإتمام شيء، والابتداء شيء آخر، فالآية {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ}} أمر بإتمام ما ابتدأه.

ويدل لهذا أيضاً أن آية فرض الحج هي قوله تعالى في آل عمران: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] وهذه الآية نزلت في عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة.

ويدل لذلك أيضاً من المعنى: أن مكة قبل الفتح كانت بلاد شرك، والمسيطر عليها المشركون، فكان من الحكمة أن يؤخر الله سبحانه وتعالى فريضة الحج حتى تخلُص للمسلمين، أما أن تكون بأيدي المشركين فإنهم ربما يصدون الناس كما صدوهم في عام الحديبية فالصواب أن الأمر المطلق للفور، أما ما قيّد بالتراخي فهو على تراخيه، وأما ما قيّد بالفورية فهو على الفور بالاتفاق.

قوله: (فبادر الزمن) : هذه إشارة إلى علة كون الأمر على الفور، وأنه ينبغي للإنسان أن ينتهز الفرصة ما دام فارغاً شاباً قوياً، فليبادر الزمن؛ لأن الزمن يتغير؛ فكم من سليم أصيب بعيب، وكم من صحيح أصيب بمرض، وكم من غني افتقر، وكم من فارغ اشتغل فليبادر الإنسان الزمن وليقم بما أمره الله به.

قوله: (إلا إذا دل دليل) : أي: إلا إذا دل الدليل على أن الأمر على التراخي وليس للفور، فحينئذٍ نأخذ بالدليل. مثاله كما سبق في قضاء رمضان إذا أفطر لسفر أو مرض فقد قال الله تعالى: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] فهذه العدة لا يجب على الإنسان أن يبادر بقضائها، بل له أن يؤخرها حتى يبقى على رمضان الثاني مثل ما عليه من الأيام، فإذا قُدِّرَ أن عليه عشرة أيام فله أن يؤخرها إلى يوم العشرين من شعبان من السنة الثانية؛ أي: إذا بقي عليه بمقدار ما أفطر، فإنه يجب عليه أن يقضيه لضيق الزمن. ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان)[(218)]. وكان ذلك في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر عليها.

مثال آخر: الواجب المؤقت يعني الواجب الذي له وقت محدد من أوله إلى آخره كالصلوات الخمس مثلاً فإنه لا يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة فور دخول وقتها لأن وقتها موسع فله أن يصليها في أول وقتها وله أن يؤخرها إلى آخر الوقت، لأن توقيته يدل على أن الوقت كله زمن للفعل من أوله إلى آخره.

وقوله: (فاسمعن) : أي اسمع ما أقول سماعَ تفهّمٍ وتفكّرٍ، لأن السماع المجرد ليس بشيء، حتى يكون معه تأمل وتدبر.

إذاً القاعدة: أن الأمر المطلق للفورية ما لم يدل الدليل على أنه للتراخي، وهذا هو القول الراجح.

42 ـ والأمرُ إنْ رُوعِي فيه الفاعل***فذاك ذو عينٍ وذاكَ الفاضلُ

43 ـ وإنْ يُراعَ الفعلُ معْ قطعِ النَّظَرْ***عن فاعلٍ فذو كفايةٍ أُثِرْ

في هذه القاعدة يتبيّن الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنّة الكفاية وسنّة العين، وذلك لأن الأوامر الشرعية تنقسم إلى قسمين:

إما عينية وإما كفائية.

فالعينية هي التي تطلب من كل شخص بعينه، وذات الكفاية هي التي يقصد بها حصول هذا الشيء، بقطع النظر عن الفاعل، هل هو زيد أو عمرو أو غيره.

قوله: (إن روعي فيه الفاعل فذاك ذو عين) : وهذا هو أكثر المأمورات أنها عينية؛ تطلب من كل شخص بعينه.

وقوله: (فذاك ذو عين) : أي سمّه فرضَ عينٍ في الواجب، وسنّةَ عينٍ في المستحب، ومن أمثلة ذلك:

ـ الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وبر الوالدين، ونحوها مطلوبة من كل شخص بعينه، إذاً هي فرض عين.

ـ السنن الرواتب التابعة للمكتوبات والسواك وقراءة القرآن والذكر مطلوبة من كل شخص بعينه؛ إذاً هي سنة عين، وعلى هذا فقس.

قوله: (وإن يراع الفعل مع قطع النظر عن فاعل) : أي: إذا قصد الفعل فقط بقطع النظر عن الفاعل فهذا ذو كفاية، سواء كان سنة كفاية أو فرض كفاية.

قوله: (أثر) : أي: عُلم الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنة الكفاية وسنة العين.

ـ فابتداء السلام من الجماعة إذا مروا بشخص قاعد سنّة، لكنه سنّة كفاية يعني: إذا سلم واحد من الجماعة كفى، لأن المقصود هو إلقاء السلام على هذا الجالس.

ـ كذلك تعليم العلم إن لم يكن التعليم واجباً.

ـ كذلك بعض العلماء يرى أن التسمية على الطعام ـ إذا كانت تسميتهم في آن واحد ـ سنة كفاية، إذا سمَّى أحدهم مع الجهر بالتسمية كفى عن الجميع ولكن الأحوط أن يسمّي كل واحد لنفسه.

ـ صلاة العيد على قول بعض العلماء بأنها سنة، هي سنة كفاية. والصحيح أنها فرض عين.

ـ الأذان والإقامة فرض كفاية، ولهذا لا يؤمر أن يؤذن كل واحد من الناس، إنما يؤمرون أن يؤذن واحد منهم؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم»[(219)].

ـ تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يُخْبَر بالمرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد لما ماتت في الليل[(220)]. ولأنه صلّى الله عليه وسلّم قال في الذي وقصته راحلته في عرفة: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه..»[(221)] ولم يباشر ذلك.

ـ تعليمُ العلم الذي لا يتعيَّن تعليمه، وطلبُ العلم العام، فرض كفاية.

ـ الجهاد في سبيل الله تعالى، فرض كفاية وما أشبه ذلك.

قوله: (وذاك الفاضل) : الإشارة إلى فرض العين، أو سنّة العين.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله؛ فمنهم من قال: سنّة العين أفضل من سنّة الكفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية. ووجه ذلك أن الله تعالى أمر به كل واحد من الناس، فدل على فضله واعتباره ولو كان كفاية لكان الناس لا يقومون به كلهم، لأن فرض الكفاية أو سنّة الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الطلب عن الباقين. فأهل البلد يكفيهم مؤذن واحد، لكن فرض العين لا بد أن يقوم به كل واحد منهم.

وزعم بعض العلماء أن فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن بقية الناس. ولكن هذا غير صحيح؛ لأن هذا فضل متعلق بالغير لا بذات المفروض، ونحن كلامنا عن ذات المفروض ففرض العين أفضل.

فائدة: بمناسبة ذكر إلقاء السلام فإنه ينبغي أن نذكر شيئاً من آداب السلام. فالسنة إذا تلاقى المؤمنان أن يسلم أحدهما على الآخر، ومن الأدب أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي. ولكن إذا لم يحصل ذلك، وتناسى أو تعامى من هو أولى بالسلام عن السلام، فليسلم الآخر. يعني لو تلاقى صغير وكبير، فالمطلوب أن يسلم الصغير على الكبير، لكن لو تناسى أو تغافل أو غفل أو استكبر الصغير، فليسلم الكبير على الذي أصغر منه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لمسلم أنَّ يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»[(222)].

ومن آداب السلام: أن يكون بصوت واضح، لا أن يكون بصوت منخفض لا يسمعه المسلَّم عليه، أو كما يقول العامة يتكلم بأنفه لا يفصح بلسانه، فليسلم تسليماً مسموعاً واضحاً هذا هو السنة وليقل: السلام عليك إن كان واحداً، وعليكما إن كانا اثنين، وعليكم إن كانوا جماعة، وإن قال في الجميع: السلام عليكم بالجمع فلا بأس.

ومن آداب السلام: أن لا يقتصر على ما يفعله بعض الناس إذا لاقى أخاه قال: أهلاً وسهلاً ومرحباً وما أشبه ذلك، فإن هذا ليس من السنة التي أمر بها، بل السنة أن يسلم أولاً: سلام عليكم، أو: السلام عليكم، ثم يقول ما شاء من التحية: أهلاً وسهلاً، حياك الله، صبحك الله بالخير، وما أشبه ذلك.

ومن الآداب أن لا يقتصر على الإشارة باليد؛ لأن ذلك ليس بسلام حقيقة. وقد ورد النهي عن الاقتصار عليها[(223)]. أما إذا جمع بين الإشارة والنطق فهذا خير، إن احتيج إلى الإشارة باليد، لبعد المُسَلَّم عليه، أو لكونه أصم، وما أشبه ذلك.

مسألة: هل أجر فرض الكفاية مساوٍ لأجر فرض العين؟

الإجابة: لا يساويه، أجر فرض العين أكثر، لكن قد يكون فرض الكفاية أفضل من فرض العين في بعض الصور. فمثلاً قد يجب على الإنسان أن يساعد إنساناً في حمله على دابته، وهذا قد يكون فرض عين، لأنه لم يحضره أحد، لكن إذا كان هناك ميت يخشى أن يتفسخ، ويحتاجُ إلى حمل، فهنا قد نقول: إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين.

مسألة: هل صلاة الكسوف من سنّة الكفاية أو من سنّة الأعيان؟

الإجابة: الظاهر الثاني أنها سنة أعيان فكل يطلب منه أن يصلّي، لكن هل هي سنة أو واجبة؟ لأن بعض العلماء يرى أنها واجبة، فتكون واجبة إما على الأعيان، وإما على الكفاية، لكن الأقرب أنها فرض على الكفاية، وأنه لا يمكن أن يدع الناس صلاة الكسوف والله سبحانه وتعالى أنذرهم بالعذاب. فإن هذا من جنس التحدي لله عزّ وجل.

مسألة: الإنسان إذا عَطَسَ هل يكفي عن الجماعة أن يقول واحد يرحمك الله قياساً على ردِّ السلام؟

الإجابة: المشهور عند العلماء رحمهم الله أنه يكفي وأن تشميت العاطس فرض كفاية. وقال ابن القيم رحمه الله: إن الظاهر أنه فرض عين[(224)] لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان حقاً على كل من سمعه أن يقول يرحمك الله»[(225)] فقوله: «كان حقاً على كل من سمعه» يدل على أن كل من سمعه يجب أن يُشَمِّته.

كن قال تعالى: {{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}} [النساء: 86] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يكفيك واحد»[(226)] ألا يقاس التشميت على هذا؟ فيقال: لا قياس مع النص، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان حقاً على كل من سمعه».

مسألة: ما هي الحالات التي يتعيَّن فيها فرض الكفاية؟

الإجابة: ما دام أننا قلنا إنه فرض كفاية فمعناه أنه إذا لم يقم به من يكفي ففرضه باقٍ، فإذا كان يقوم به اثنان لم يجب على الثالث، وإذا كان يقوم به ثلاثة لم يجب على الرابع. وهكذا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:31 pm

4 ـ والأمرُ بعد النهيِ للحِلّ وفي***قولٍ لرفعِ النَّهي خُذْ به تَفِي

لما ذكر أن الأمر يكون للوجوب[(227)] ويكون للفور[(228)]، ذكر الأمر الذي خرج عن هذه القاعدة، وهو الأمر الوارد بعد النهي. وفي هذا للعلماء قولان: فأكثر الأصوليين يقولون: إن الأمر بعد النهي للإباحة، ولا يعود إلى حكمه الأول الذي هو قبل النهي، لأن النهي ورد على الحكم الأول فنسخه، ثم رُفِع النهي بعد أن نسخ الحكم الأول، فعاد الأمرُ للإباحة.

وقيل: بل الأمر بعد النهي رفعٌ للنهي، فينظر فيما نهي عنه ويرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحباً، وإن كان أصله الإباحة كان مباحاً.

قوله: (لرفع النهي) : معناه: أنه إذا ورد الأمر بعد النهي فهو رفع، للنهي، وحينئذٍ يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي.

قوله: (خذ به تفي) : أي: هذا أقرب؛ فنقول: إن الأمر بعد النهي يرفع النهي، ويعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل وجود النهي.

ـ فمن ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}} [الجمعة: 9، 10] فالأمر بالانتشار في الأرض وطلب الرزق للإباحة على القول الأول، وعلى القول الثاني لرفع النهي ومن المعلوم أن طلب الرزق مأمور به لسد حاجة الإنسان وحاجة من يمونه فيكون الأمر بذلك للندب.

ـ ومن ذلك: الإذن للخاطب أن يرى من مخطوبته ما يدعو إلى نكاحها، فإن الأصل تحريم نظر الرجل إلى المرأة. فهل الأمر بالنظر في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها»[(229)] للإباحة أو للاستحباب؟ ينبني على الخلاف.

ـ ومن ذلك: قوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] فهذا ورد بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}} إلى قوله: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 1، 2] فلما رفع النهي عن الاصطياد في حال الإحرام، وذلك بالإحلال، عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون للإباحة على القولين لأن الصيد من قسم المباح، ولم يقل أحد إن الإنسان إذا حَلَّ من إحرامه يجب عليه أن يذهب ويأخذ البندقية ويرمي الصيد، بل ولا قال أحد باستحبابه. وهذا مما يدل على أن قول من قال: إن الأمر بعد النهي للوجوب، ليس له وجه.

وهذا الذي اخترناه في النظم هو الذي اختاره الغزالي رحمه الله في المستصفى[(230)].

مسألة: ما الذي جعلنا نرجح أن الأمر بعد النهي لرفع النهي؟

الإجابة: الذي جعلنا نرجح هذا هو العقل فمثلاً لو قلت لك: اجلس للناس الذين يأتون للضيافة ثم قلت لك: لا تجلس، ثم قلت لك: اجلس؛ هل تقول في الأمر الأخير أعطيتك الخيار بين أن تجلس أو لا تجلس أو نقول: رفعت النهي وعدت إلى الحال الأولى؟ الجواب: الثاني.

مسألة: قول من قال إن الأمر بعد الحظر يدل على الوجوب ما وجهه؟

الإجابة: ليس له وجه أبداً وما علمنا أن أحداً قال يجب على الإنسان إذا حلّ من الإحرام أن يذهب يصطاد، ولهذا لو استأذنت عليَّ في البيت فقلت لك: ادخل. ثم بدا لك أن تنصرف، فهل لي حق أن ألومك؟ الجواب: لا لأن قولي: ادخل. يعني يباح لك أن تدخل.

45 ـ وافعلْ عبادةً إذا تَنَوَّعَتْ***وجوهُهَا بكلِّ ما قد وَرَدَتْ

46 ـ لِتَفْعَلَ السُنَّةَ في الوجْهَيْنِ***وتحفظَ الشرعَ بذي النوعَيْنِ

هذه قاعدة في العبادة إذا وردت على وجوه متنوعة، فهل الأفضل أن نختار وجهاً منها ونستمر عليه، أو الأفضل أن نفعل كل هذه الوجوه؟ وإذا قلنا: الأفضل أن نفعل هذه الوجوه كلها، فهل نجمعها جميعاً، أو نختار كل واحد منها على البدل؟ فعندنا الآن ثلاثة أشياء:

1 ـ أن نختار أكمل هذه الوجوه وأوفاها ونستمر عليه.

2 ـ أن نختار التنويع بأن نفعل هذا تارة وهذا تارة بدون أن نجمع بينها.

3 ـ أن نجمع بينها، ونداخل بعضها ببعض حتى يتكامل السياق مؤلفاً من الوجهين.

وأبرز مثال لذلك وأشهره أدعية الاستفتاح في الصلاة، وألفاظ الأذان، وألفاظ التشهد، وأنواع الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنواع التسبيح بعد الصلاة.

ففي أدعية الاستفتاح مثلاً ـ ويقاس عليه ما بعده ـ من العلماء من قال: اختر واحداً منها واستمر عليه، ثم بعضهم رجح قول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك»[(231)] على بقية الاستفتاحات، وممن رجح ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد[(232)] وذكر أن هذا أرجح من غيره من عشرة أوجه، أو أكثر، ومنهم من رجح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد»[(233)]. وعلل هذا الترجيح بأن هذا ثابت في الصحيحين وغيرهما فهو أقوى ثبوتاً من حديث: «سبحانك اللهم وبحمدك».. إلخ.

إذاً على هذين الرأيين نستمر على واحد، لكن أيهما أفضل؟ فيه خلاف كما سبق ذكره.

والقول الثاني في المسألة: أن نختار واحداً منهما مرة والثاني مرة أخرى، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(234)].

لكن في دعاء الاستفتاح ـ مثلاً ـ لا نقول بالجمع بين «سبحانك اللهم وبحمدك» وبين «اللهم باعد بيني وبين خطاياي» كما قال به بعضهم لأن السنة دلت على عدم الجمع، فإن أبا هريرة رضي الله عنه لما سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يقول: أخبره بأنه يقول: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي»[(235)] ولم يذكر «سبحانك اللهم وبحمدك»؛ فدل هذا على أنه لا يجمع بينهما.

ـ مثال آخر: التشهد: فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم[(236)]، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما[(237)]، وكلاهما صحيح. فهل نتشهد بتشهد عبد الله بن مسعود، أو بتشهد عبد الله بن عباس؟

ينبني على القاعدة:

منهم من قال: نتشهد بالتشهد الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لأنه أكمل من تشهد ابن عباس.

ومنهم من قال: نتشهد بتشهد ابن عباس رضي الله عنهما.

ومنهم من قال: نفعل هذا مرة وهذا مرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(238)]، وهو الذي اخترناه هنا.

ـ ومن ذلك: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضاً؛ اختلفت فيها الصفات على وجوه متنوعة، ومن أراد الاطلاع على ذلك فليقرأ كتاب ابن القيم رحمه الله تعالى المؤلف في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم[(239)] يجد اختلاف الألفاظ في كيفية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم.

ـ ومن ذلك أيضاً: التكبير على الجنازة فقد كبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجنازة أربعاً، وكبر عليها خمساً[(240)]، وكبر عليها أكثر من ذلك[(241)]، فهل السنة أن نأخذ بالأكثر، ونقول: نكبر عليها بأكثر شيء وارد؟ أو نقول: نكبر عليها تارة بهذا وتارة بهذا؟

الجواب: الثاني، أننا نكبر عليها مرة أربعاً، ومرة خمساً، لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كبر خمساً على الجنازة، وربما زاد على ذلك، ولكن نحافظ في الأكثر على ما كان أكثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الأربع.

إذا أخذنا بهذا الرأي فما هو التعليل الذي جعلنا نختاره؟ قال: (لتفعل السنة في الوجهين) : لأنك إذا لزمت وجهاً واحداً فاتتك السنة في الوجه الثاني (وتحفظ الشرع بذي النوعين) ولأنك لو لم تفعل هذا مرة وهذا مرة نُسِيَ، لأن من أسباب الحفظ العمل؛ فإذا لم تعمل بهذا مرة وهذا مرة نسيت الثاني، فالفائدة من وجهين:

1 ـ الإتيان بالسنة بوجهيها.

2 ـ حفظ النوعين، لأنه إذا بقي على واحد نسي الآخر مع طول الزمن[(242)].

فإن قال قائل: هل نجمع بين الصفتين؟

الجواب: إذا دل الدليل على أنه لا جمع فإننا لا نجمع، سواء كان ذلك من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو من قرينة الحال.

مثال الذي من قوله: حديث الاستفتاح وذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام ماذا يقول؟ قال أقول: كذا وكذا ولم يذكر الثاني، والمثال الذي من قرينة الحال: التشهد والتسبيح خلف الصلوات، لأن التشهد ألفاظه متقاربة يعني يختلف فيه كلمة أو كلمتان، وما دامت ألفاظه متقاربة فإن أحدهما يغني عن الآخر، لأنك لو جمعت بينهما وليس بينهما إلا فرق يسير في كلمات يسيرة، صار هذا مشبهاً للتكرار، ومن ذلك التسبيح خلف الصلوات حيث ورد على أربعة أنواع:

1 ـ سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً.

2 ـ سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، فالجميع تسع وتسعون، ويختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

3 ـ سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين.

4 ـ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمساً وعشرين مرة، فالجميع مائة مرة.

فهذه لا نجمع بينها لأنها من جنس واحد، كالتشهد، فيُكْتَفَى بواحد منها.

وأما إذا لم يدل الدليل على فعلها على التبادل، فإن الأفضل أن يجمع بينها تحصيلاً للثواب المرتب على هذه العبادة.

من ذلك: الأذكار المشروعة خلف الصلوات. ففي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف من صلاته قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»[(243)]. وحديث ثوبان رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم استغفر ثلاثاً وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»[(244)]، لأن كل واحد منهما يغاير الآخر مغايرة تامة، فإذا كان يغايره فمعناه أن نذكرهما جميعاً. هذا ما تحرر لنا في هذه المسألة.

47 ـ والْزَمْ طريقةَ النبيِّ المصطفَى***وخذْ بقولِ الراشدين الخُلَفَا

قوله: (الزم) : أيها العبد (طريقة النبي المصطفى) : أي سنته، لأن السنة والطريقة لغة معناهما واحد (النبي) «ال»: هنا للعهد الذهني، والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلم.

(المصطفى) : يعني المختار، كما جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[(245)].

ومصطفى أصلها مصتفى، لكن قلبت التاء طاء لعلة تصريفية، ومصطفى من الصفاء أو من الصفوة وهي الخلوص، يقال: هذا شيء صافٍ أي خالص من مخالطة غيره.

فالنبي صلّى الله عليه وسلّم من المصطفين الأخيار بل هو أفضل المصطفين الأخيار صلّى الله عليه وسلّم. اصطفاه الله تعالى عليهم من عدة وجوه، وهذا داخل في عموم قوله تبارك وتعالى: {{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}} [البقرة: 253] .

وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تفضلوني على يونس بن متَّى»[(246)]، فإنما قاله صلّى الله عليه وسلّم حين حصل النزاع بين رجل يهودي من بني إسرائيل، وبين أحد المسلمين، فمتى أدت المفاضلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الرسل إلى نزاع يؤدي إلى تهوين شأن الرسل الآخرين، أو تهوين شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن الواجب الكف عنه.

وقوله: (والزم طريقة النبي المصطفى) ولم يقل: (الزم طريقة محمد) مع أن محمداً هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إشارةً إلى علة وجوب اللزوم، كأنه قال: الزم طريقته لأنه النبي المصطفى، ولهذا يحسن عندما نتكلم عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعزو شيء إليه أن نصفه بالنبوة أو الرسالة، فنقول: قال النبي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما كثر في ألسنة المتأخرين من قولهم: قال محمد بن عبد الله، فهذا وإن كان حقاً، لكن ليس فيه ذكر الرسالة أو النبوة، والذي لا يَعرِف أن محمداً رسول الله اسمُه محمد بن عبد الله يظن أنه رجل آخر. لكن إذا قلت: قال رسول الله، أو قال نبي الله، أو قال النبي، وما أشبه ذلك، كان ذلك أولى، لأن هذا أكثر تعبير الصحابة، وإن كانوا يعبرون بغير ذلك أحياناً، كقول أبي هريرة رضي الله عنه لما رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان قال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم[(247)]. وقول عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم[(248)].

وقوله: (والزم طريقة النبي المصطفى): أدلة ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}} [التغابن: 12] ومنها قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}} [النساء: 59] ومنها قوله تعالى: {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}} [آل عمران: 31] ومنها قوله تعالى: {{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}} [الأعراف: 158] . ومنها قوله تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}} [الأحزاب: 21] . ومنها قوله تعالى: {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] .

ومنها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار»[(249)]، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»، والأدلة على ذلك أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر.

وقوله: (طريقة النبي) يشمل: طريقته العقدية، وطريقته القولية، وطريقته الفعلية، وكل ما تعبد به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ربَّه فإنه مشروع لنا أن نتبعه فيه إما على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب حسب الأدلة الواردة في ذلك.

والنبي: هو من أوحي إليه بشرع، وسمي النبي نبياً لأنه مُنْبَأٌ ومُنْبِئٌ، فهو مُنْبَأٌ من قِبَل الله ومُنْبِئٌ عن الله تعالى مبلِّغ عنه، وهذا أحد الأدلة التي يحصل بها التكليف، يعني: سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم[(250)].

قوله: (وخذ بقول الراشدين الخلفاء) : وفي الأول قال: (والزم طريقة النبي) لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله حجة وفعله حجة، أما الخلفاء: فقيل: إن قولهم حجة وليس فعلهم حجة، لأن فعلهم غير معصوم؛ فقد ينسون السنة فلا يطبقونها، وقد يطبقونها على الوجه الذي لم ترد عليه بتأويل، أو غير ذلك. ولكن الذي يظهر أن قول الخلفاء الراشدين وفعلهم يعتبر حجة. وعليه فالمراد بقول الخلفاء ما ذهبوا إليه، سواء ذهبوا إليه بالقول أو بالفعل. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»[(251)] والسنة هي الطريقة، وتشمل القول والفعل، والمراد بالخلفاء الراشدين الخلفاءُ الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وخصّوا بذلك لأن غيرهم لا يستحق هذا الوصف؛ فإن الخلفاء الأربعة متفق على أنهم خلفاء راشدون رضي الله عنهم، فهؤلاء إذا أجمعوا على شيء فقولهم حجّة بلا شك، وإذا انفرد أحدهم من غير مخالف فقوله حجة، لا سيّما أبو بكر وعمر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص عليهما وقال: «اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر»[(252)]، وقال: «إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا»[(253)] وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» وأول من يدخل فيهم وأولاهم الخلفاء الأربعة، لكن قولهم حجة بشرط ألا يعارضه النص، فإن عارض نصًّا وجب الأخذ بالنص؛ لأن سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدمة ولهذا قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء».

ولا يمكن أن يُحتج بقول أحد على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهما كان الأمر، ولا يحتج بفعل أحد على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وبهذا تعرف ضعف قول من يقول من العلماء: إنه يجوز أن يأخذ الإنسان من لحيته ما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان إذا حج أخذ من لحيته ما زاد عن القبضة[(254)]، لأن هذا الفعل مخالف لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «أعفوا اللحى»[(255)]؛ فإنه مطلق غير مقيّد، حتى وإن كان ابن عمر رضي الله عنهما أحد رواة هذا الحديث؛ لأن الصحابي إذا خالف ما روى فإن العبرة بما روى لا بما رأى.

وأما من بعدهم من الخلفاء الراشدين فليس قولهم حجة، كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وما أشبه ذلك. وقال بعض العلماء: بل قولهم حجة لأن المراد بالخلفاء الراشدين من خَلَفَ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في أمته عبادةً وخلقاً ودعوةً وجهاداً. ولكن الذي يظهر أنه لا يؤخذ إلا بقول الخلفاء الراشدين الأربعة فقط.

48 ـ قولُ الصحابِي حجةٌ على الأصَحْ***ما لم يخالفْ مثلَه فما رَجَحْ

قوله: (قول الصحابي حجة) : لما ذكر طريقة النبي صلّى الله عليه وسلّم وطريقة الخلفاء الراشدين انتقل إلى قول الصحابة غير الخلفاء الراشدين: هل قولهم حجة؟ والصحابي عند علماء الحديث: كل من اجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به ومات على ذلك، سواء رآه أم لم يره؛ إذ العبرة بالاجتماع.

وقولنا: «بالنبي» يفيد أنه لا بد أن يكون اجتماعه به بعد نبوته صلّى الله عليه وسلّم؛ فمن اجتمع به قبل أن يُنَبَّأ فليس بصحابي، وإن آمن به بعد نبوته. لكن إن آمن به بعد نبوته واجتمع به صار صحابيّاً.

وقوله: (حجة) : أي: دليل يُحتج به.

وقوله: (على الأصح) : أفاد بأن في هذا خلافاً بين العلماء، فمنهم من قال: إن قول الصحابة ليس بحجة، لأنهم غير معصومين، يخطئون ويصيبون، ويستدلون بالقرآن والسنة كما يستدل غيرهم فلا يكون قولهم حجة، بل الحجة إنما هي في قول المعصوم، ولكن قولهم أرجح من قول غيرهم، لكنه ليس بحجة على الغير.

والأصح أن قول الصحابي حجة لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: سلامة عقيدتهم، لأنهم أسلم الناس عقيدة، وسلامة العقيدة من أسباب التوفيق للصواب.

الوجه الثاني: أنهم خير القرون وأعلمهم بشريعة الله وأقربهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهداً وصحبة فهم أقرب الناس فهماً لقول الله ورسوله، لأنهم أعلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقاله من غيرهم، ولا شك أن أقرب الناس للشخص هو أعلم الناس بحاله، وأعلم الناس بمقاله. ولهذا نجد الشخص الملازم لآخر هو أعلم الناس بحال هذا الرجل، فكذلك الصحابة عندهم من العلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقاله ما ليس عند غيرهم.

الوجه الثالث: أنه لم تظهر في عهدهم الأهواء والآراء، بل كانوا على الهدى، ومعلوم أنه إذا ظهرت الأهواء كثر الضلال، وفي عهدهم ليس هناك أهواء كثيرة، وإنما الكتاب والسنة، وهما المرجع، فلهذا صار قولهم حجة، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وقال: «إننا نتهم الرأي ولا نتهم الصحابة»[(256)].

أما بعد ذلك فقد انتشرت الأمة، وكثرت أهواؤها، ودخلت على الأمة كتب الفلاسفة والمناطقة وغير ذلك.

ولكن هل قول الصحابي حجة أيّاً كان الصحابي يعني حتى لو كان أعرابياً جاء على بعيره وأسلم ورجع إلى أهله، هل يعتبر قوله حجة على أئمة المسلمين ممن بعد الصحابة؟

الجواب: لا، وإنما المراد بقولنا: إن قول الصحابي حجة من كان من أهل الاجتهاد من الصحابة، يعني له قدم راسخ في العلم، أما رجل حضر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلم ورجع إلى قومه لا يحمل إلا حديثاً أو حديثين، فليس قوله الذي يقوله تفقهاً حجة، لكن روايته مقبولة. فقول الناظم: (قول الصحابي حجة) ليس على إطلاقه إذ إن المراد بذلك الفقهاء من الصحابة.

وعلى هذا فالحاصل أن الصحابي إذا قال قولاً، وقال من بعده قولاً قُدِّم قول الصحابي واحتُجّ به، وهذا هو القول الأول.

والقول الثاني: أنَّ قول الصحابي ليس بحجة؛ لأن الصحابي غير معصوم، وكم من أقوال للصحابة كانت على خلاف ما جاءت به السنة، فيعتذر لهم فيها. فإذا كانوا غير معصومين، كانوا مثل غيرهم في الحجة.

وفَصَّل بعضهم فقال: أما الصحابة الفقهاء المعروفون بالفقه والفتيا، فهؤلاء قولهم حجة، لأنه لا شك أن علمهم أغزر وأوسع وأقرب إلى الصواب ممن بعدهم، وأما من كان له مجرد صحبة، ولم يعرف بفقه ولا علم فإن قوله ليس بحجة وإنما يعرض على الكتاب والسنة، وهذا القول أقرب إلى الصواب.

قوله: (ما لم يخالف مثله فما رجح) : ما رجح: «ما» اسم موصول بمعنى الذي، فقوله: (ما لم يخالف مثله) يعني ما لم يخالف صحابيّاً مثله في الصحبة والعلم والفقه وملازمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن خالفه مثلُه: (فما رجح) يعني فالحجة ما رجح؛ أي: ما رجح من قول الصحابة المختلفين. وأسباب الترجيح كثيرة ومعلومة في أصول الفقه.

وقوله: (ما لم يخالف مثله) يفيد أنه لو خالفه من هو أفقه منه وأعلم منه فإن قوله ليس بحجة، بل قد تكون الحجة في قول الأفقه.

مثال ذلك: إذا اختلف أبو بكر وعمر فنقدم أبا بكر لأن أبا بكر مقدم في خلافة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، وأَمَّرَهُ على الناس في الحج، وأشار إلى خلافته في الأمة، فهو أقرب إلى الصواب من عمر وإن كان قد يخطئ ويصيب.

وكذلك لو خالف قول الصحابي الكتاب والسنة فإنه من باب أولى ليس بحجة، لأنه إذا كانت مخالفة غيره من الصحابة تبطل كون قوله حجة فمن باب أولى إذا خالف الكتاب والسنة.

ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر[(257)]. قال ذلك حينما كان يدعو الناس إلى التمتع في الحج، وأبو بكر وعمر يريان الإفراد. ورأيهما من أجل أن يبقى البيت عامراً في كل السَّنة، لأن العمرة ليس لها وقت محدد، بل متى تيسرت للإنسان أن يذهب ويعتمر فعل ذلك، فإذا قيل للناس: اعتمروا في أشهر الحج؛ تركوا البيت وصاروا لا يعتمرون إلا إذا جاؤوا للحج، لأن المواصلات كانت من قبل صعبة جداً، فإذا قيل لهم تمتعوا، قالوا: إذاً لا حاجة أن نسافر للعمرة في وقت آخر، فيتعطل البيت من الزوار.

هذا هو اجتهاد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولكنه اجتهاد مخالف لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتمتع، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم ماذا يترتب على قوله، ومع هذا أمر بالتمتع وحث عليه، وغضب عليه الصلاة والسلام لما تأخر الصحابة في تنفيذ ذلك.

المهم أن قول الصحابي حجة بشرط أن لا يخالفه غيره، فإن خالفه غيره وجب الترجيح. وكذا أن لا يخالف نصاً من الكتاب والسنّة، فإن خالف نص الكتاب أو السنّة فقوله ليس بحجة بالاتفاق، لكن يعتذر له.

مسألة: إذا خالف الصحابي أحد الخلفاء الأربعة فمن نقدم؟

الإجابة: نقدم الأرجحَ، قولَ الخلفاء الأربعة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:33 pm

9 ـ وحجةُ التكليفِ خُذْهَا أربعَهْ***قرآنُنَا وسُنَّةٌ مُثَبَّتَهْ

50 ـ من بعدها إجماعُ هذِي الأُمَّهْ***والرابعُ القياسُ فَافْهَمَنَّهْ

قوله: (وحجة التكليف) : الحجة والدليل والبرهان والسلطان كلها بمعنى واحد؛ يعني بذلك الدليل، ولهذا يقال: هل لك حجة في ذلك، هل لك دليل في ذلك؟

وقوله: (حجة التكليف) يعني الأدلة التي يحصل بها تكليف العباد، وتثبت بها الأحكام العقدية والعملية (خذها أربعهْ) وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وهذه هي أدلة التكليف التي يكلف بها العبد فما ثبت بهذه الأدلة فإنه يعمل به وما لا فلا.

الأول: (قرآننا) : يعني القرآن الكريم الذي هو كلام الله عزّ وجل فهو حجة بإجماع المسلمين. والدليل على أن القرآن حجة كل القرآن يدل على ذلك قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}} [يونس: 57] {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ}} [النساء: 170] {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِيناً *}} [النساء: 174] {{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *}} [النساء: 105] . ولكنه حجة على من بلغه وفهمه. قال تعالى: {{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}} [الأنعام: 19] أما من بلغه ولم يفهمه فإنه قد لا يكون قامت عليه الحجة، لقول الله تعالى: {{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ *}{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ *}} [الشعراء: 198 ـ 199] لأنهم لا يفهمونه ولا يعرفونه، ولهذا قال عزّ وجل: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}} [إبراهيم: 4] ، والقرآن الكريم أصل الأصول، فما دل عليه منطوقاً أو مفهوماً أو إشارة فإنه يجب الأخذ به؛ أي يجب اعتباره دليلاً.

ثم إن هذا الفعل الذي دل عليه الكتاب قد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون مباحاً.

والناظر في القرآن يحتاج إلى شيء واحد فقط، وهو دلالة القرآن على الحكم؛ هل هو دالٌّ على هذا الشيء، أو ليس بدالٍّ عليه. فمثلاً قوله تعالى: {{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}} [البقرة: 228] بعض العلماء يقول: القروء هي الأطهار، وبعضهم يقول: هي الحِيَض. فنحتاج إلى دليل يدل على أحدهما.

والمطلقة ثلاثاً: هل تحتاج إلى ثلاث حيض، أو يكفي حيضة واحدة؟ فينظر هل دل القرآن على هذا أو على هذا؟

وإذا كانت المرأة حاملاً بولدين، ووضعت الولد الأول، وهي في عدة، فهل تنقضي العدة؟ هل دل القرآن على هذا أو لا؟ والأمثلة على هذا كثيرة.

ولا يحتاج الناظر في القرآن أن ينظر في السند، لأنه متواتر، تلقاه الأصاغر عن الأكابر، فمن أنكر منه شيئاً كأن يقول إن قوله تعالى: {{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}} [البقرة: 281] ليس من القرآن مثلاً فإنه كافر، ومن زعم أن القرآن قد حذف منه شيء فإنه كافر، لأنه مكذّب لقول الله تعالى: {{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *}} [الحجر: 9] ، ومكذب لإجماع الأمة المعصومة، فإن الأمة المعصومة أجمعت على أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه زيادة ولا نقص. اللهم إلا ما اختلفت فيه القراءات، فقد يكون في بعض القراءات إسقاط حرف عطف أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يضر.

فالناظر في القرآن قد كُفِيَ الثبوت، لأنه متواتر، ولكن يبقى النظر في الدلالة.

الثاني: (وسُنَّة مُثَبَّتة) : (سنة) يعني: سنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهي إما قوله أو فعله أو إقراره. وكل هذا سنّة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم معصوم أن يُقِرَّ أحداً على الخطأ، أو يقره الله على خطأ.

(مُثَبَّتة) يعني: يثبتها أهل العلم بالنقل، فخرج بذلك ما لم يكن مثبتاً كالأحاديث الضعيفة والموضوعة، فإنها ليست بحجة، فالناظر في السنة يحتاج إلى نظرين:

1 ـ النظر السابق: بأن ينظر هل ثبتت أو لا؟ لأن السنة قسمان: متواتر وآحاد.

والآحاد: إما صحيح أو حسن أو ضعيف، ومنه الموضوع لكن الموضوع ليس من السنة أصلاً، فليس بحجة، ولا يجوز نسبته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا يجوز نقله وتداوله؛ لأنه مكذوب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، إلا لمن أراد أن يبيّن أنه موضوع حتى لا يغتر الناس به.

وأما الضعيف فقد اختلف العلماء رحمهم الله في نقل الضعيف وروايته، فمنهم من أجازه مطلقاً، لكن هذا لا أظن أحداً يثبت قدمه على القول به.

ومنهم من منعه مطلقاً، وقال: إن الضعيف لا تجوز نسبته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه ضعيف. وإذا كنا نتحرى فى النقل عن واحد من البشر، فالتحري في النقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من باب أولى.

ومنهم من أجاز رواية الضعيف بشروط ثلاثة:

الشرط الأول: أن لا يكون الضعف شديداً.

والشرط الثاني: أن لا يعتقد صحة نسبته إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.

والشرط الثالث: أن يكون في أصل ثابت، بمعنى: أنه لا يثبت به أصلُ حكمٍ من الأحكام، ولكنه يُذكر على سبيل الترغيب فيما هو مطلوب، أو الترهيب مما هو منهي عنه، بمعنى: أنه إذا ورد الحديث الضعيف في فضيلة أمرٍ ثابتٍ، ومأمورٍ به فلا بأس من ذكره، لأنه إن صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد حصل ما رتب على الفعل من الثواب، وإن لم يصح كان فيه تنشيط للنفس على العمل المطلوب. وكذلك يقال في الترهيب، فإنه لا بأس بذكر الأحاديث الضعيفة بشرط أن يكون أصل هذا المعنى الذي ورد به الحديث ثابتاً؛ مثل أن يرد حديث ضعيف في آثام الزنى والربا وما أشبه ذلك، ولكن لا بد من ملاحظة الشرطين الآخرين، وهما أن لا يكون الضعف شديداً، فإن كان الضعف شديداً فإنه لا تجوز روايته ولا نقله إلا مقروناً ببيان ضعفه. وأن لا يعتقد صحة ثبوته عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.

وبناءً على هذا الشرط أرى أنه لا ينبغي إطلاقاً أن يذكر الحديث الضعيف عند العامة، سواء كان في فضائل الأعمال أو غيره؛ لأن العامي لا يميز بين كونه يعتقد أنه صحيح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لا، إذ إن ما قيل في المحراب فهو صواب عند العامة، فليت إخواننا الوعّاظ عدلوا عن ذكر الأحاديث الضعيفة في الوعظ إلى ذكر الأحاديث الصحيحة، وكفى بها واعظاً.

وأما المتواتر من السنة فيحتاج أن نثبت أنه متواتر بتتبع الروايات.

2 ـ النظر اللاحق: وهو النظر في الدلالة.

فصار على الناظر في السنة تعب أشد من الناظر في القرآن، لأنه يحتاج إلى نظرين:

أولاً: في الثبوت، وهذا أمر مهم.

ثانياً: في الدلالة.

وهل يُكتفَى في الثبوت بتصحيح بعض العلماء؟

الجواب: ينظر فيه، لأن بعض حفاظ الحديث يتساهل في التصحيح، وبعضهم يشدد في التصحيح وبعضهم وسط.

ثم يحتاج العالم بالإسناد إلى فقه الحديث أيضاً؛ لأنه ربما ينظر إلى ظاهر الإسناد فيحكم بالصحة، مع أن المتن شاذ أو منكر. ولهذا نجد أن المستدِل بالسنة في الواقع يحتاج إلى جهد كبير حتى تثبت أولاً، ثم تثبت الدلالة ثانياً، ومن ثَمَّ قيل: (وسنة مثبتة) يعني ثَـبَّـتَها أهل العلم.

والدليل على أن السنة حجة قول الله تبارك وتعالى {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}} [النساء: 59] ولو لم تكن حجة لم يكن للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فائدة، وقوله تعالى: {{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ}} [الأعراف: 158] ، وقوله تعالى: {{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}} [الحشر: 7] وإذا كنا مأمورين بأن نأخذ ما آتانا من فيء ومال، فما آتانا من حكم وتشريع من باب أولى. وقوله تعالى: {{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً}} [الأحزاب: 36] {{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}} [الجن: 23] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا أُلْفِيَنَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه»[(258)] والنصوص في هذا معروفة مشهورة[(259)].

قوله: (من بعدها إجماع هذي الأمة) .

الثالث: الإجماع.

قوله: (من بعدها) يعني: بعد حجة الكتاب والسنةِ الإجماعُ.

والإجماع في اللغة: الاتفاق والعزم، أما كونه بمعنى الاتفاق فهذا أمر معروف، تقول: أجمع الناس على كذا، أي: اتفقوا عليه.

وأما كونه بمعنى العزم فذكروا له مثل قوله تبارك وتعالى: {{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}} [يونس: 71] أي: اعزموه ولا تفترقوا فيه.

أما الإجماع المصطلح عليه فهو: اتفاق مجتهدي الأمة على حكم شرعي بعد وفاة النبي صلَّى الله عليه وسلم.

فقولنا: اتفاق مجتهدي الأمة، خرج به المقلدون؛ فإن المقلد ليس من المجتهدين، فلا يعتبر قوله في الخلاف والإجماع، لأن المقلد حقيقته أنه نسخة من كتاب أو قول، مُكَرِّر مَنْ يُقلده وليس مستقلاً بنفسه، وبهذا يتبيّن أنه ينبغي لنا أن نحرر أنفسنا من التقليد الأعمى والتعصب الأهوج الذي يسلكه بعض الناس، وأن نحاول الوصول إلى معرفة الحق من أصوله، الكتاب والسنة.

وقولنا: مجتهدي هذه الأمة، احترازاً من مجتهدي غير هذه الأمة، فإن قولهم: ليس بحجة، ولا يعتبر قولهم إطلاقاً في مسائل الشرع.

وقولنا: بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، خرج به ما لو اتفقوا على حكم في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فإن ما كان في حياته صلّى الله عليه وسلّم يعتبر من سنته، سواء علم به أم لم يعلم به، لأنه على تقدير أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم به، فإن الله تعالى قد علمه، فإذا أَقَرَّه الله تعالى ولم ينكره دل ذلك على أنه حق.

وقوله: (من بعدها) : أي من بعد هذه الحجة، إشارة إلى أن الإجماع لا بد أن يكون مبنياً على كتاب أو سنة؛ لأن الأمة لا يمكن أن تجمع على ما لا دليل فيه. فمستند الإجماع هو الكتاب والسنة، أما إجماع بلا كتاب ولا سنة فهذا مستحيل.

فإن قال قائل: إذا قلت بهذا لم يكن للإجماع فائدة، لأن الدليل حصل بالكتاب والسنة.

فيقال: بل فيه فائدة عظيمة:

أولاً: لأن الناظر قد لا يطّلع على الكتاب والسنة فيكتفي بالإجماع، كما يوجد في الإفصاح لابن هبيرة والإجماع لابن المنذر وغيرهما، يقول: أجمعوا على كذا، أجمعوا على كذا ولا يذكر الدليل، فنقول: نحن لا نستطيع أن نبحث عن الدليل، فيكفينا أن نعلم أنهم أجمعوا.

ثانياً: أننا نستفيد أنه لا نزاع في دلالة الكتاب والسنة على خلاف ما أجمعوا عليه، لأنه لو كان هناك خلاف في دلالة الكتاب والسنة ما أجمعوا عليه.

مسألة: ذكرنا أن مستند الإجماع الكتاب والسنّة وقد أجمع العلماء على أن الماء إذا تغيّر بنجاسة فهو نجس، فما مستندهم لهذه المسألة؟

والجواب أن نقول: ليس بلازم أن يكون مستند الإجماع من الكتاب والسنّة جميعاً، بل يكفي أحدهما، والمستند في هذه المسألة القرآن. قال الله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}} [المائدة: 3] استدل الإمام أحمد رحمه الله بهذه الآية على نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة، قال: لأن الميتة حرام، فإذا تغير الشيء بالحرام واختلط به صار حراماً، ضرورة أنه لا يمكن ترك الحرام إلا باجتناب الحلال، فلهذا كان حراماً، وإذا كان حراماً ـ والميتة نجسة بنص القرآن ـ صار الماء نجساً، فيؤخذ هذا الحكم إذاً استنباطاً من القرآن.

وقد نوزع في إمكان الإجماع ونوزع في كونه حجة.

أما النزاع في إمكانه فأنكر بعض العلماء أن يوجد إجماع، يقول: من يعرف أن عالماً في أقصى الشرق موافق لعالم في أقصى الغرب، لا سيّما وفي الزمن الأول المواصلات والاتصالات صعبة جداً؟ فما الذي يدرينا أن أحداً من العلماء لم يخالف؟ وكون الإنسان لا يعلم مخالفاً لا يعني أن الناس أجمعوا على ذلك، ولهذا قال الإمام أحمد: من ادَّعى الإجماع فهو كاذب، وما يدريه لعلهم اختلفوا[(260)].

والذين ينكرون وجود الإجماع مرادهم أنه لا يوجد، فضلاً عن أن يكون دليلاً.

ولكن الصحيح أن الإجماع ثابت، أما في الأمور المعلومة بالضرورة من الدين فهذا أمر واضح، فالعلماء مجمعون على وجوب الصلاة وتحريم الخمر والزنى وما أشبه ذلك؛ لأن هذه الأحكام ثبتت بالنص. أما الأمور الأخرى فالصحيح أنه يمكن فيها الإجماع، لكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «العقيدة الواسطية»: الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، يعني بذلك: القرون المفضَّلة الصحابة والتابعين وتابعيهم يعني ثلاث طبقات، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة[(261)]، واتسعت في أقطار الأرض وكثرت الأهواء والفتن؛ فزمن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان يمكن أن يعرف فيه الإجماع.

ونحن نذكر هنا قاعدة مفيدة وهي: أن ما جاء به الكتاب والسنة ولم يذكر عن الصحابة خلافه، فهم مجمعون عليه.

فمثلاً إذا قال قائل: أجمع الصحابة على أن قوله تعالى: {{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *}} [طه: 5] يعني علا على العرش وقال إنسان: هاتوا لي كلمة واحدة عن أبي بكر وعمر وعثمان أو غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم يقولون: استوى بمعنى علا.

فالجواب: إذا كان القرآن باللغة العربية، واستوى على العرش يعني علا عليه، ولم يأت عمن يفقه اللغة العربية ما يخالف هذا، دل ذلك على إجماعهم.

ولا يمكن أن نقرر إجماع الصحابة على إجراء النصوص على ظاهرها إلا بهذه الطريقة؛ أن نقول: القرآن باللغة العربية، وقد مر على الصحابة وقرؤوه، وما لم يرد عنهم خلاف في مدلوله فهم على ما دل عليه ظاهره.

إذاً الإجماع ممكن لكن في الصدر الأول من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم.

والدليل على أن الإجماع حجة، قول الله تبارك وتعالى: {{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}} [النساء: 115] حيث قال: {{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}}، وإذا أجمع المؤمنون على شيء فهذا سبيلهم، فإذا اتَّبع غيره فهو ضال يوليه ما تولى.

وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}} [النساء: 59] ، مفهومه أنه إن لم نتنازع فقولنا حجة بنفسه لا يحتاج إلى استدلال، وهو دليل على الإجماع.

أما التعليل: فإن هذه الأمة معصومة فقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث سنده حسن: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»[(262)].

ويشهد لهذا المعنى وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة قوله تعالى: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}} ـ يعني عدلاً خياراً ـ {{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}} [البقرة: 143] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مرت جنازة فأثنوا عليها خيراً، قال: «وجبت». ومرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: «وجبت»، فقالوا: يا رسول الله ما وجبت؟ فقال: «أما الأول فوجبت له الجنة وأما الثاني فوجبت له النار»، ثم قال: «أنتم شهداء الله في أرضه»[(263)].

فهذه الأدلة تدل على أن الإجماع حجة.

مسألة: هل من الممكن أن يكون هناك إجماع في هذا الزمان؟ وكيف يكون ذلك؟

والجواب أن نقول: الإجماع لا يكون في هذا الزمان إذا كان هناك خلاف سابق، لأنه لا إجماع مع وجود خلاف سابق، فإذا اختلفت الأمة على قولين، ثم أجمع المتأخرون على أحد القولين، فإن ذلك لا يعد إجماعاً؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وعلى هذا فلا يتصور ورود هذا السؤال لعدم إمكانه.

مسألة: من نعتد به في نقل الإجماع؟

والجواب أن نقول: لا بد أن يكون الإنسان ممن عرف بالاطلاع وسعة العلم، لأنه في بعض الأحيان ينقل الإجماع وليس في المسألة إجماع، بل أحياناً ينقل الإجماع، والإجماع على خلافه. ومن ذلك: نقل بعضهم أن من طلق زوجته ثلاثاً في كلمة واحدة أو في مجلس واحد فإنها تبين منه. وقال آخرون: ينبغي أن يكون الإجماع على ضد ذلك، لأنه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم[(264)]، وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فالإجماع القديم على أن الثلاث واحدة. وذكر ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة» أكثر من عشرين مسألة نُقل فيها الإجماع وليس فيها إجماع[(265)]، ولذا يجب أن نتحرى، كفعل بعض العلماء رحمهم الله يتحرز ويقول: لا نعلم فيه خلافاً، فإذا قال ذلك سلم من العُهْدَة.

والظاهر أن من أدق الناس وأوثقهم في نقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قوله: (والرابع القياس فافهمنه) : يعني الرابع من الأدلة القياس، والقياس في اللغة: مصدر قاس يقيس؛ إذا مثَّل شيئاً بشيء، أو ألحق شيئاً بشيء.

أما في اصطلاح الأصوليين: فيقولون: القياس إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمٍ لعلةٍ جامعة.

فهذه أربعة أشياء وهي أركان القياس:

الأول: فرع، وهذا هو المقيس.

الثاني: أصل، وهذا هو المقيس عليه.

الثالث: حكم، وهذا محل القياس.

الرابع: علة جامعة، وهذا الوصفُ الجامع بين الفرع والأصل.

فيستفاد من هذا التعريف أنه لا بد للقياس من أركان أربعة، وأن الأمور التعبدية ليس فيها قياس.

فمثلاً: صلاة الظهر أربع ركعات، وصلاة العصر أربع ركعات. وما أشبه ذلك هذه ليس فيها قياس.

كون لحم الإبل ينقض الوضوء، ـ على القول بأنه تعبدي ـ لا يقاس عليه لحم السباع مثلاً، لأن هذا تعبدي.

فكل شيء لا نعقل علته فإنه لا يمكن فيه القياس؛ لأن من شرط القياس العلم بالعلة التي تجمع بين الأصل والفرع في الحكم. وإذا كنا لا نعلم العلة، فكيف نلحق الفرع بالأصل؟

واختلف العلماء رحمهم الله في كون القياس من الأدلة. ومع ذلك، فإن العلماء الذين يقولون: إنه ليس من الأدلة استعملوه، ولم يستطيعوا أن يتخلصوا منه.

والدليل على أن القياس حجة: الكتاب والسنة والنظر الصحيح.

أما الكتاب، فقول الله تعالى: {{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}} [الشورى: 17] والميزان هو ما توزن به الأشياء.

وكذلك فإن جميع الآيات التي ضربها الله مثلاً تعتبر دليلاً على القياس لأن تمثيلَ حالٍ بحال، أو فردٍ بفرد يعني قياسه عليه وقد جعلها الله تعالى حجة. والمقصود بذلك أن يعتبر الناس بالمثل، فيقيسون عليه ما شابهه، وهذا هو عين القياس.

ثم إن الله تعالى مَثَّل إمكان إحياء الموتى بعد أن كانوا رميماً، بإحياء الأرض بعد أن كانت هامدة، قال الله تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}} [فصلت: 39] وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *}} [الحج: 5] وقال الله تبارك وتعالى: {{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ}} [يوسف: 111] ولا يمكن أن يكون في قصصهم عبرة إلا أن نقيس ما ماثل أحوالهم على أحوالهم، وقال الله تبارك وتعالى: {{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا *}} [محمد: 10] . وقال تعالى: {{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}} [الروم: 27] . وقال تعالى: {{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ *}} [ق: 15] . وهذا قياس المعاد على المبدأ، وهو قياس جلي واضح، لأن القادر على البدء لا يعجز عن الإعادة، إذ إن البدء أصعب، والإعادة أهون.

ولهذا قال الله تعالى في آخر سورة يس: {{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *}} [يس: 78 ـ 79] وهذه كلها أدلة عقلية؛ فالذي أنشأها أول مرة ليس بعاجز عن إحيائها. وهذا هو الدليل الأول.

الدليل الثاني: {{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}} فإذا كان عليماً بكل خلق، فإنه قادر على كل خلق، لأنه لا يعجز عن الخلق إلا من هو جاهل كيف يخلق، ولكنه سبحانه وتعالى {{بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}}.

الدليل الثالث: {{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *}} [يس: 80] وهذا كانوا يستعملونه في الأزمان السابقة؛ هناك شجر معين يقدح فيه بالزند، أو بالمرو أو ما أشبه ذلك، فيشتعل ناراً، أو يضرب بعضه ببعض فيشتعل ناراً. هذا الشجر الأخضر بعيد من النار، لأنه رطب والنار يابسة، والرطب يلزم من رطوبته البرودة، والنار حارة. فبينهما تناقض وتضاد، ومع ذلك يكون هذا من هذا، فالذي هو قادر على أن يخرج النار الحارة اليابسة من هذا الشجر الأخضر البارد قادر على إعادة الخلق، وقوله: {{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}} هذا تحقيق للواقع.

الدليل الرابع: {{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}} [يس: 81] الذي خلق السماوات والأرض وهي أكبر من خلق الناس كما قال تعالى: {{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *}} [غافر: 57] ولهذا قال: {{بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ}} هذا كالتأكيد لقوله فيما سبق: {{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}} [يس: 79] .

الدليل الخامس: {{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [يس: 82] والذي هذا أمره أن يقول للشيء: كن فيكون، إذا قال لهذه العظام الرميم: كوني أجساماً، فإنها تكون، {{إِذَا أَرَادَ شَيْئًا}} و«شيئاً» نكرة في سياق الشرط فتعم {{أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}}.

الدليل السادس: {{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}} [يس: 83] أي تنزيهاً له عن العجز، وهو بيده ملكوت كل شيء، فمن بيده ملكوت كل شيء وهو منزه عن كل عيب ونقص، لا يعجز أن يعيد الخلق.

الدليل السابع: {{}} [يس: 83] يعني: لو كان الخلق يموتون ثم لا يرجعون إلى الله، لكان هذا منافياً للحكمة. فإذا كان لا بد من الرجوع إلى الله، فلا بد من الإحياء.

فهذه الأدلة السبعة من سورة يس دلَّلَ اللهُ بها على إمكان إحياء الله الموتى. وهذا من باب القياس الجلي.

أما السنة فأدلتها أيضاً كثيرة:

منها: قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ـ وهو وامرأته ليسا أسودين، وهذا تعريض بزنى زوجته. وقيل: إنه أراد أن يعرف وجه كون لون الابن مخالفاً للونهما، وهذا أقرب لما فيه من إحسان الظن بالصحابة. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟»، قال: ألوانها حُمْر، قال: «هل فيها من أورق؟ ـ يعني بين السواد والبياض ـ» قال: نعم، قال: «من أين أتاها؟» قال: لعله نزعه عرق، قال: «ابنك هذا لعله نزعه عرق»[(266)]. وهذا قياس واضح اطمأن له الأعرابي؛ حيث قاس النبي صلّى الله عليه وسلّم وجود ولد أسود بين أبوين لونهما يخالف لونه، على وجود الجمل الأورق بين إبل حُمْر؛ لأن القادر على هذا قادر على هذا.

ومنها: قصة المرأة التي سألت أن أمها نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: «نعم»، ثم قال لها: «أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته»، قالت: نعم، قال: «اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»[(267)].

ومنها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بُضْع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «نعم، أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[(268)].

أما النظر الصحيح لاعتبار القياس دليلاً، فهو أن هذه الشريعة مبنية على الحكمة، وعلى ما تقتضيه العقول، لأنها نزلت من لدن حكيم خبير، ولأن الله تعالى دائماً يحث على التفكر والتدبر، ولأن الله تعالى دائماً يَنْعَى على الكافرين أَنهم لا يعقلون؛ قال الله تعالى: {{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}} [البقرة: 171] وقال تعالى: {{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *}} [البقرة: 44] . فإذا كانت الشريعة مبنية على الحكمة، وعلى ما تقتضيه العقول السليمة، فمن المعلوم أن القياس من الحكمة ومما تقتضيه العقول السليمة؛ لأن القياس جمع بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين. فإذا كان كذلك كان هذا مقتضى العقل وما اقتضته العقول السليمة فإن الشريعة الإسلامية لا تنافيه بل تؤيده.

فإن قال قائل: إذا أثبتم القياس دليلاً لزم من هذا أن تجعلوا للعقل مجالاً في تشريع الأحكام. فالجواب عن ذلك أن يقال: إن العقل في باب القياس ليس مستقلاً بدليل أن الكتاب والسنة قد دلا عليه، فالعقل ليس مستقلاً في إثبات كون القياس دليلاً شرعياً، بل العقل مثبت لما يثبته الشرع خلافاً لمن أنكروا القياس وقالوا: إن هذا إدخال شيء في شريعة الله لم يشرعه الله، ثم إنه من قال: إن العقل ليس بدليل؟ العقل الذي لا يخالف الشرع يعتبر دليلاً، فإن الله يحيل دائماً على العقل. وما الأمثال التي يذكرها الله عزّ وجل إلا إعمال للعقل واعتبار به.

ولكن لا بد للقياس من أن يكون صحيحاً، أما إذا كان باطلاً فإنه لا يعتبر. ونحن كلامنا في القياس الصحيح الذي تتحقق فيه علة الأصل في الفرع، أما ما لا توجد فيه علة الأصل، فإنه ليس بقياس صحيح.

ولهذا رد الله عزّ وجل قياس الشيطان حيث أُمِر بالسجود لآدم فقال: {{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}} [الأعراف: 12] وقياس الشيطان هنا أن لا يسجد خير لمن هو أدنى منه، لكن هذا قياس باطل لأنه في معارضة النص. وأبطل الله قياس من قالوا: إنما البيع مثل الربا فقال الله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}} [البقرة: 275] .

فالمراد بالقياس الذي هو حجة القياس الصحيح.

فإن قال قائل: ما ميزان الصحة في القياس؟ قلنا: أن لا يعارض الكتاب والسنة بحيث يبطل ما دل عليه الكتاب والسنة.

وأما تخصيص عموم النص بالقياس فإن هذا ثابت، وليس من معارضة القياس للكتاب والسنة. فمثلاً: قوله تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}} [النور: 2] عام؛ يعني أن أي زانٍ يزني، وأي زانية تزني، يجلد مائة جلدة، لكن إذا كانت الزانية أمة فإنها تجلد خمسين جلدة، لقول الله تعالى: {{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}} [النساء: 25] وإذا كان الزاني عبداً فإنه بجلد خمسين جلدة، بالقياس على الأمة.

وهذا القياس لو أبطل دلالة الآية لقلنا هذا قياس فاسد، لكن لم يبطل الآية إنما خصصها بالقياس الجلي على الأمة.

ومثال القياس المخالف للنص فيكون فاسد الاعتبار: إذا قال إنسان: يجوز للمرأة البالغة الحرة أن تزوج نفسها بغير ولي، كما يجوز أن تبيع مالها بغير ولي، لأن الكل تصرف، فالتزوج تصرف في منفعتها، والبيع تصرف في مالها.

والجواب عن هذا القياس أنه قياس باطل لأنه في مقابلة النص؛ فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تُنْكَح الأيِّم حتى تُسْتأمر، ولا تُنْكَح البكر حتى تُسْتأذن» قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: «إذنها أن تسكت»[(269)]. فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تزوج المرأة بغير إذن وبغير ولي، لأنه لو كانت تملك أن تزوج نفسها ما احتاج أن يقول: لا تُنْكَح البكر ولا تُنْكَح الأيم، فلا بد من أن يكون لها ولي. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم مصرحاً بذلك: «لا نكاح إلا بولي»[(270)] وعليه فيكون ما قاسوه فاسد الاعتبار، فيسقط.

ومن قاس قياساً مخالفاً للنص فقياسه باطل من وجهين: الوجه الأول: مخالفة النص. والوجه الثاني: أنه لا بد أن يكون بين المقيس والمقيس عليه فرق، من أجله ثبت الفرق بينهما بالكتاب والسنة. ولهذا قال الناظم: (القياس فافهمنه) . فليس هذا تكميلاً للبيت فقط، بل هو إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يعتني بالقياس ويفهم هل القياس صحيح أو لا، وهل يصادم النص أو لا يصادمه؟

مسألة: الأصل أنها لا تجزئ عبادة غير المميز، ولا تصح منه، إلا الحج فيستثنى؛ هل يمكن أن يقاس المجنون على غير المميز في صحة الحج؟

والجواب أن نقول: بعض العلماء قاس المجنون على غير المميز، وبعضهم قال: يمتنع القياس؛ لأن غير المميز ليس فاقداً للعقل، بل لم ينشأ عقله بعد، بخلاف المجنون. وفرق بين شخص لم ينشأ فيه العقل والتمييز، وبين شخصٍ فقده، فمنعوا القياس.

والذي يظهر لي أنه لا يصح من المجنون بل لو جن في أثناء الحج فإن حجه يبطل، ما لم يُعْلم أن جنونه مؤقت، يعني مثل إنسان يصيبه الجنون ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، فهذا لا يبطل.

مسألة: هل يقاس على المستثنى من القاعدة؟

والجواب أن نقول: نعم، يقاس بشرط التساوي في العلة. ولهذا العرايا وردت في ثمر النخل وأجازها شيخ الإسلام رحمه الله في العنب، كإنسان عنده زبيب ويريد عنباً جنيّاً[(271)]..

بقي النظر في استصحاب الحال والاستحسان: هل هما من الأدلة أم لا؟

أما استصحاب الحال فمعناه: أن يبقى الشيء على ما كان عليه.

فمثلاً: إذا قال قائل: هل تجب صلاة سادسة؟ قالوا: لا تجب، قال: ما هو الدليل؟ قالوا: الدليل استصحاب الحال وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان. هل يحرم هذا النوع من البيع، قالوا: لا، قال: ما هو الدليل؟ قالوا: الدليل استصحاب الحال، لأن الأصل في البيوع الحل.

وهل هذا النوع من الطير حلال؟ قالوا: نعم والدليل على ذلك استصحاب الحال، فنقول: إن استصحاب الحال ليس دليلاً مستقلاً بل هو مقتضى الكتاب والسنة والقياس.

فمثلاً: لا تشرع صلاة سادسة لأن الله تعالى أنكر على الذين يشرعون في دينه ما ليس منه وقال نبيه صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(272)].

ـ رجل باع بيعاً معيناً قلنا هذا البيع حلال، ولا نقول: إن الدليل استصحاب الأصل لأننا عندنا آية من القرآن: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}} [البقرة: 275] ، كذلك هذا الطير حلال لقوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] وهذا مما في الأرض فنحن في غنى عن استصحاب الحال، ولا حاجة إلى أن نجعله دليلاً مستقلاً.

وأما الاستحسان فنقول: ليس دليلاً، لأنه إن كان لا ينافي ما جاءت به الشريعة فإنه ثابت بالدليل الشرعي في قوله تعالى: {{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] ، وإن كان هذا الاستحسان ينافي الشريعة فليس بحسن وإن ظنه صاحبه حسناً، وبهذا نعرف أننا مستغنون عن الاستحسان.

فلو قال قائل: عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألزم الناس بأن الطلاق الثلاث تَبِين به المرأة ولا رجعة فيه، مع أنه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة، لكن لما كثر وقوعه من الناس ألزمهم به[(273)]، وهذا هو الاستحسان.

فالجواب: أن هذا ليس استحساناً غير مبنيٍّ على أصل، بل له أصل، وهو القياس: لأن الله سبحانه وتعالى قال: {{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}} [النساء: 160] والناس لما ظلموا في الطلاق الثلاث وصاروا يُطْلِقُونه ويكثرون منه، صار هذا ظلماً، فكان من الحكمة الموافقة للحكمة الإلهية أن يمنعوا من الرجوع، كما منع بنو إسرائيل من بعض الطيبات لظلمهم.

إذاً ليس إمضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه للطلاق الثلاث، والحيلولة بين المرء وزوجته ليس مجرد استحسان رأي، ولكنه مبني على قياس صحيح، فهو لم يخرج عن الأدلة الأربعة التي دل الكتاب والسنة والنظر الصحيح على ثبوتها.

وإذا كان الاستحسان بالرأي لم تأت به الشريعة، فإنه ليس بحسن ولو ظنه صاحبه حسناً. سواء كان ذلك في الأمور العلمية أو في الأمور العملية.

مثاله في الأمور العلمية: ظن أهل التعطيل من الأشعرية والمعتزلة والجهمية أن نفي الصفات عن الله هو الأحسن قالوا: لأن ذلك تنزيه الله عن مماثلة المخلوقين، فعقولنا تستحسن أن نقول: ليس لله وجه، وليس لله عين، وليس لله يد، وليس لله استواء، وليس لله نزول إلى السماء الدنيا، ولا يضحك الله ولا يفرح، ولا يحب ولا يكره، ولا يسخط ولا يبغض، فهم استحسنوا هذا ورأوه عقيدة يجب أن يموت الإنسان عليها.

ولكن يقال: إن هذا الاستحسان ليس بحسن، بل هو قبيح وإن رأوه حسناً.

ومثاله في الأمور العملية: ما ابتدعه الصوفية من الأذكار والتسبيحات والمسابح، وما أشبه ذلك ظناً منهم أن هذا هو الحسن، وأن هذا هو الذي تحصل به العبادة ورقة القلب وما أشبه ذلك.

واستحسانهم هذا لا يجعل هذه الأمور مشروعة.

فالاستحسان إذاً ليس بدليل، لأن الاستحسان إن شهد الشرع بحسن ما استُحسن فهو من الشرع الثابت بالكتاب أو السنّة أو القياس، وإن لم يستحسنه فإنه ليس بحسن وإن ظنه صاحبه حسناً.

فصح أن الأدلة التي تقوم بها الحجة أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والقياس[(274)].

مسألة: لو قيل: إن حجة الاستحسان ورد بقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن»[(275)].

والجواب أن نقول: أولاً: إن هذا الأثر فيه نظر في ثبوته، ثم إن مراد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن المؤمنين لا يمكن أن يستحسنوا ما لم يستحسنه الله وأن المؤمن يُهدى إلى الصراط المستقيم بما أعطاه الله تعالى من النور.

مسألة: قلنا: إن الله تعالى قال: {{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}} [النساء: 160] وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الطلقة الواحدة ثلاثاً، ثلاث طلقات بائنة لا رجعة بعدها. لكن المشرّع في الآية هو الله عزّ وجل، وهنا عمر بن الخطاب ثم إن قياسه هنا خالف نصاً مجمعاً عليه من قبل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلافة أبي بكر وصدر خلافته رضي الله عنهما. فهل نقول: إن القياس هذا صحيح؟.

الإجابة: تحريم الله عزّ وجل على اليهود هذه الطيبات موافق للحكمة. إذاً من الحكمة أن الناس إذا أذنبوا أن يمنعوا بعض ما أحل الله لهم.

فإن قيل: إن القياس الصحيح لا يكون مصادماً للنص، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل الثلاث طلقات طلقة واحدة، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وأما عمر رضي الله عنه فجعلها ثلاث طلقات ففيه مصادمة؟

فالجواب: أنه ليست فيه مصادمة، لأن الرجعة حق للإنسان، له أن يراجع، ولولي الأمر أن يمنعه من المراجعة تأديباً، فهي نوع من التعزير، ولهذا لو أن الناس راجعوا في عهد عمر ثم منع الرجعة بعد حصولها كان هذا هو المصادم للنص، أما إذا منعهم أن يرجعوا فهو لم يصادم؛ لأنه منعهم من حق لهم تعزيراً عليهم، لأنهم تعجّلوا في أمر كان لهم فيه أناة.

وتوضيح ذلك: أن الرجل لما قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، يريد بذلك أن يتعجّل أمراً جعل الله له فيه أناة، لأنك لو سألته: لماذا فعل ذلك؟ لقال: من أجل أن لا أراجعها فهو لم يقله تأكيداً، بل تأسيساً، يريد أن لا يراجع، وإذا طلق الثلاث تطليقات جميعاً لئلا يراجع، فهذا محادة لله؛ لأن الله تعالى جعل الطلاق طلقة ثم رجعة ثم طلقة ثم رجعة ثم طلقة، وهذا حاد الله فيكون حراماً، ولهذا جاء في الحديث أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قام غضباً وقال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»[(276)] في الرجل الذي طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة. فعمر رضي الله عنه قال: هم أرادوا أن يتعجّلوا. فنحن نؤدبهم بأن نمنعهم من الرجوع من حق كان لهم.

فإن قيل: هل للعلماء في العصر الحاضر أن يجروا ما أجراه عمر رضي الله عنه أو أن هذا خاص بالخلفاء إذا رأوا تساهلاً في بعض الأمور؟.

الإجابة: إذا كان الناس لا ينتهون بدونه فلا بأس، وقد يقال: إن عمر رضي الله عنه له سنّة متبعة.

مسألة: كيف تسمى الأحكام الشرعية تكليفية ومنها ما لا يكلف به كالتطوع؟.

الإجابة: هي تكليفية بمعنى: أن العبد مأمور بها أو منهي عنها وحتى المستحب هو مكلف به بأن يعتقد أنه مشروع على وجه الاستحباب، والمكروه مكلف به على أن يعتقد بأنه منهي عنه على سبيل الكراهة، وليس معنى تكليفية أن الإنسان يكلف ما لا يطيق لأن الله تعالى قال: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] فأثبت التكليف بالوسع ونفى التكليف بغير الوسع.

51 ـ واحكمْ لكلِّ عاملٍ بنيتِهْ***واسْدُدْ على المحتالِ بابَ حيلتِهْ

قوله: (واحكم لكل عامل) : (واحكم) : فعل أمر، فكل عامل يحكم له بنيته؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

والعمل يشمل القول والفعل بل ويشمل عمل القلب وهو إرادته.

ومن تأثير النية في العمل أنك قد تجد رجلين يصلّيان ساجدين؛ أحدهما يسجد للشمس، والثاني يسجد لخالق الشمس، وصورة العمل واحدة، لكن من يسجد لله فعمله مرضي عند الله، ومن يسجد للشمس فعمله مسخوط عند الله. ولهذا سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[(277)]. فبين صلّى الله عليه وسلّم أن الرجلين قد يقاتلان جميعاً أحدهما في سبيل الله، والثاني في سبيل الطاغوت.

وكم من طالبين للعلم في مكان واحد، وأمام مدرّس واحد، وبينهما كما بين السماء والأرض؛ باعتبار النية.

فالنية لها تأثير كبير في تصحيح العمل وتكميله، أو إبطاله ونقصانه.

وهذه القاعدة، وهي الحكم على الإنسان بنيته مستفادة من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»[(278)]. وهذا الحديث من أجمع الأحاديث وأعظمها، وعليه مدار أعمال القلوب كلها، ولا يمكن أن يقع فعل من عاقل مختار بدون نية إطلاقاً، وهذه النية عليها مدار الجزاء من ثواب أو عقاب، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنما لكل امرئ ما نوى».

وينبني على هذه القاعدة مسائل كثيرة، حتى إن بعض العلماء قال: إن هذا الحديث نصف العلم؛ لأن العلم هو العلم بالأحكام، والأحكام إما ظاهرة وإما باطنة، فالباطنة ميزانها حديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات»؛ والظاهرة ميزانها حديث عائشة رضي الله عنها: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(279)] وهذا صحيح، وهما بمعنى قولنا: إن شرطي العبادة الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالإخلاص يكون بالنية، والمتابعة تكون بالعمل الظاهر. ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الدين كله يدور على هذين الحديثين. بل لو قيل: إن الدين كله ينبني على هذا الحديث «إنما الأعمال بالنيات». لم يكن بعيداً؛ لأنه حتى العمل الظاهر لو كان موافقاً للشريعة في ظاهره ولكنه بدون إخلاص فهو باطل، وإن أردت مزيد كلام على الحديثين فراجع شرح ابن رجب للأربعين النووية.

ثم قوله: (واسدد على المحتال باب حيلته) : يعني أن من أراد التحيل على محارم الله بما يفعل فاسدد عليه باب الحيلة وألغ حيلته، سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العباد، وسواء كان ذلك في التحيل على إسقاط واجب، أو التحيل على فعل محرم.

والحيلة: هي التوصل إلى إسقاط الواجب أو فعل المحرم بطرق خفية؛ ظاهرها الإباحة وحقيقتها التحريم.

وذلك أن الإنسان لو أسقط الواجب صراحةً لكان الناس كلهم يلومونه، ولو انتهك المحرم صراحة لكان الناس كلهم يلومونه، لكن يأتي الإنسان بعمل، صورته صورة الإباحة، والمراد به التوصل إلى المحرم.

مثال ذلك في الصلاة: من أكل بصلاً فإنه لا يجوز أن يأتي لصلاة الجماعة، ويمنع من دخول المسجد، ولو دخل المسجد فإنه يخرج منه، كما كان الناس يُخْرَجُون في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم من المسجد من تبينت منه رائحة البصل أو الكراث أو الثوم[(280)]، فيأتي رجلٌ يريد أن يدع الجماعة فيقول: إن تركت الجماعة هكذا بلا سبب فكل الناس سوف يلومونني، ولكنني آكل البصل لأجل أن يكون ذلك مانعاً لي من حضور المسجد، فحينئذٍ نقول: يحرم عليه أكل البصل لكونه أراد بهذا المباح الذي هو أكل البصل حيلة يتوصل بها لإسقاط واجب عليه، وهو صلاة الجماعة؛ ويحرم عليه ـ أيضاً ـ ترك الجماعة، فيكون آثماً بتركها، أما من أكل البصل لأنه اشتهاه أو لحاجة فإنه لا يذهب إلى المسجد، ولا إثم عليه ولا عقوبة؛ لأن الأعمال بالنيات.

ـ مثال آخر في الصيام: رجل أراد أن يجامع زوجته، أو يأكل، أو يشرب في نهار رمضان وعرف أنه لو بقي في بلده لم يتمكن من ذلك ولأنكر عليه الناس، فسافر إلى بلد آخر من أجل أن يتمكن من ذلك. فإن السفر في حقه محرّم، والفطر محرّم؛ لأن هذا السفر حيلة لإسقاط الواجب. فتحرم الوسيلة والغاية، فيحرم السفر ويحرم الإفطار.

ـ مثال آخر في الزكاة: من المعلوم أن من شرط وجوب الزكاة أن يبقى النصاب في ملك الإنسان طوال السنة. لكن هذا الرجل لما قارب انتهاء السنة أراد أن يسقط الزكاة عن نفسه بالحيلة فوهب ماله لولده ومعلوم أن الإنسان إذا وهب الشيء ولو لولده انتقل ملكه إلى الموهوب له، ثم رجع في هبته، لأن الوالد يجوز أن يرجع في هبته التي وهبها لولده، ومراده بذلك إسقاط الزكاة لأنه برجوعه فيما وهب لولده يستأنف حولاً جديداً، فنقول: إن هذه الهبة حرام، لأنها حيلة لإسقاط واجب.

أما لو وهب ماله لولده تودداً إليه أو قياماً بحاجة له، أو ما أشبه ذلك فإنه يؤجر، ولا تجب عليه الزكاة فيما وهبه لولده ولو كان قبل حلول وقتها بيسير.

ـ مثال آخر في الحج: من شروط وجوب الحج أن يكون عند الإنسان مال يستطيع به الحج، فوهب ماله لابنه عند موسم الحج، حتى إذا جاء الحج لم يكن عنده مال يحج به، فهذه الهبة حرام لأنها حيلة لإسقاط واجب.

أمثلة في المعاملات:

ـ مثال في البيع : الربا معلوم للمسلمين أنه حرام، فلو جاء إنسان إلى آخر، وقال: أريد أن تعطيني ألفاً بألف ومائتين إلى سنة، فقال له المطلوب منه: هذا ربا لا يجوز، ثم قال: أنا أبيع عليك هذه السلعة بألف ومائتين إلى سنة، فباعها عليه ونيته أن يشتريها منه نقداً بألف، فباعها عليه بألف ومائتين إلى سنة، ثم رجع واشتراها منه بألف نقداً، فهذه حيلة، حقيقتها أنه أقرضه ألفاً بألف ومائتين إلى سنة، وهذا هو الربا، وهذه المسألة تسمى العِينَة، وفاعلها قد أدرك إثم الربا، وزاد على ذلك بالحيلة على فعل المحرم.

ـ جاء شخص لآخر وقال: أقرضني خمسين ألفاً أريد أن أشتري بها سيارة، فقال: أقرضك خمسين ألفاً على أن توفيني ستين ألفاً، قال: هذا ربا لا يجوز، فقال: إذاً أنا أشتري السيارة وأبيعها عليك، فاشتراها التاجر بخمسين نقداً وباعها عليه بستين مؤجلة، فهذه حيلة؛ لأن التاجر ما اشترى السيارة ولا دار في فكره أن يشتريها، لولا أن هذا جاء إليه وقال: أنا أريد أن تقرضني خمسين ألفاً.

ـ عمرو له مُلْك مشترك بينه وبين زيد، فباع عمرو نصيبه على خالد، فلزيد أن يأخذ هذا النصيب بالشفعة، بأن يأتي لخالد ويقول: أنا مُشَفِّع، فيأخذه قهراً من خالد ويسلم خالداً الثمن الذي اشترى به، وهذا قضى به النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: جابر رضي الله عنه: «قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يقسم»[(281)]. لكن خالداً خاف أن يُشَفِّع زيد، فكتب بأني وقفت الشِّقص ـ أي النصيب ـ الذي اشتريته من عمرو، ومراده بالوقف أن يسقط حق زيد في الشفعة، لأن الوقف لا يمكن أن يؤخذ بالشفعة. فنقول: لا يسقط حق زيد في الشفعة؛ لأن هذا الوقف لا يصح، لأنه حيلة لإسقاط واجب لزيد ـ وهو الشريك ـ لئلا يُشَفِّع.

ـ ومن ذلك أيضاً إذا اشترى شيئاً فإن البائع بالخيار ما دام في مجلسه، فيقوم المشتري فور الشراء، ويفارق المجلس لإسقاط حق البائع في الخيار. فهذا أيضاً حرام، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله، لأن هذا حيلة على إسقاط حق البائع في الخيار. وكذلك لو قام البائع لإسقاط حق المشتري في الخيار، فإنه لا يحل.

ـ مثال في النكاح: رجل طلق زوجته الطلقة الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويطأها. وكانت أم أولاده ففقدها وحزن عليها وفكر ماذا يفعل، فقال: أذهب إلى صديقي، وأقول: خذ هذه العشرة آلاف وتزوج هذه المرأة، ولكن أشترط عليك شرطاً: أنك إذا جامعتها تتركها حتى تطهر من الحي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:34 pm

56 ـ إنْ كان ذا في حقِّ مولانا ولا***تُسقطْ ضماناً في حقوقٍ للمَلا

يعني إن كان هذا الفعل الواقع جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً في حق الله فإنه يسقط عن الفاعل الإثم والضمان بواحد من هذه الأمور الثلاثة، لأن الله تعالى هو الذي أسقطها، والحق حقه، حيث قال تعالى: (قد فعلت)[(309)] في قوله: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] . وقال: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] ، فالحمد لله على تسهيله وتيسيره.

فإذا قال قائل: هل يستثنى من هذه القاعدة شيء؟

فالجواب: أن النصوص عامة، ولكن يرد على هذا قتل النفس خطأ، ففيه الضمان للآدمي وهذا لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في الكفارة، إلا أنه ينبغي أن لا يشكل ما دام أن الذي رفع الجهل والإكراه والنسيان هو الله، ثم أوجب الكفارة في قتل الخطأ فالحكم لله، فيكون القتل مستثنى من هذه القاعدة.

فإن قال قائل: ما وجه الاستثناء، ونحن نعلم أن الشريعة مبنية على الحكمة، وأنها لا تفرق بين متماثلين إلا لسبب؟

قلنا: الحكمة في ذلك تعظيم الدماء، ولئلا يدَّعي مُدَّعٍ أنّه قتل خطأً وهو متعمد، فلتعظيم الدماء وشدة احترامها، وجبت الكفارة كما وجب الضمان فيها، ولو في حال الخطأ.

أما إن كان الفعل الواقع جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً في حق المخلوق فقد بيّن حكمه بقوله:

(ولا تسقط ضماناً في حقوق للملا) : لم يقل (إثماً) بل قال: لا تسقط (ضماناً في الحقوق للملأ) وأما الإثم فيسقط بالجهل والإكراه والنسيان حتى في حق المخلوق، ولكن بالنسبة للضمان فإنه لا يسقط.

مثال ذلك:

ـ رجل ذبح شاة لشخص ظن أنها شاته، نقول: عليه ضمان الشاة، ولكن لا يأثم، لأنه جاهل.

ـ رجل أعطاه إنسان عنباً وديعة، وقال: أعطه لأهلي، فلما وصل بيته ووضع العنب على أنه سيذهب به إلى بيت صاحبه نسي فأكله، فليس عليه إثم، وعليه الضمان.

ـ رجل أُكْرِه على أن يذبح شاة فلان، فذبحها، فلا إثم عليه، وعليه الضمان؛ لأنه مباشر والقاعدة أنه: إذا اجتمع متسبب ومباشر قدم المباشر، وقال بعض أهل العلم: الضمان عليهما جميعاً، لأن المباشر لا يتمكن من الامتناع، لأنه لو تمكن من الامتناع لم يكن مكرهاً، فيكون الضمان عليهما جميعاً؛ على المُكرِه والمباشر. وهذا أقرب إلى الصواب، لأن المباشَرة هنا مُلْجَأ إليها.

ـ رجل أخذ بشخص صغير الجسم، ثم ضرب به شاة فلان ـ ضرب الشاةَ بالإنسان ـ فماتت الشاة، نقول: الضمان على الضارب، لأن المضروب به مثل الآلة ليس له اختيار.

ـ رجل ألحَّ على إنسان أن يذبح شاة فلان، ولكن لم يكرهه، فنقول: الضمان على الذابح لأن الأول لم يكرهه، حتى وإن كان الذي ألحَّ عليه الأب فالضمان على الذابح لأن هذا ليس بإكراه. وإن أكرهه أبوه على ذبح شاة أخيه لأمه، فعلى الابن الضمان.

وإن قال الأب: اذبح شاة أخيك الذي هو ابني ففيه تفصيل: إن كان الأب تَمَلَّكَهَا أولاً، ثم قال اذبحها فلا ضمان، وإلا ضمن الذابح، وكذلك فيه تفصيل آخر: إن كانت هذه الشاة تتعلق بها حاجة مالكها الذي هو الابن فليس للأب أن يَتَمَلَّكها، وحينئذٍ يكون على الأخ الضمان؛ لأن الأب، حتى وإن صرح بتملكها، فإنه لا يتملكها.

ـ لو أن إنساناً أُكره على قتل إنسان فإنه لا يقتله، حتى لو هُدِّد بالقتل، وقال له المكرِه: إما أن تقتل فلاناً وإلا قتلتك. فإنه لا يجوز أن يقدم على قتل فلان، لأنه لا يجوز لأحد أن يهلك حياً من أجل استبقاء نفسه، فليصبر على القتل ولا يقتل مؤمناً، على أن المهدِّد له بالقتل قد لا يقصد قتله إذا لم يقتل من أكرهه على قتله، ولكنه قال ذلك تهديداً، وليس لديه القدرة على تنفيذه.

والحاصل من البيتين السابقين: أنه إذا وقع الفعل جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً، فإنه لا إثم فيه ولا ضمان فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل، لأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والفضل فكان الفاعل معذوراً.

أما في حق المخلوق فإنه لا إثم فيه أيضاً إذا وقع عن جهل أو نسيان أو إكراه ولكن فيه الضمان؛ بأن يضمنه لصاحبه، لأن حق المخلوق مبني على المشاحة، والنصوص في رد المظالم إلى أهلها عامة فلذلك نوفيه حقه كاملاً، حتى وإن كان الفاعل معذوراً، ما لم يبرئه منه. فإن أبرأه منه وهو ممن يصح تبرعه سقط عنه الضمان أيضاً.

57 ـ وكلُّ مُتْلَفٍ فمضمونٌ إذا***لم يكنِ الإتلاف مِنْ دَفْعِ الأَذَى

58 ـ أوْ يكُ مأذوناً به مِنْ مالكِ***أو ربِّنَا ذي الملكِ خيرِ مالكِ

من القواعد الفقهية أن كل متلف فهو مضمون على متلفه، سواء كان ذلك مما يتعلق بحق الله تعالى كالصيد في الحرم، أو حال الإحرام، ولو خارج الحرم. أو كان مما يتعلق بحق الآدميين، لكن يستثنى في حق الله تعالى ما أتلف جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً كما سبق.

والدليل على هذه القاعدة قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}} [النساء: 29] ؛ وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحفة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين قال: «طعام بطعام، وإناء بإناء»[(310)].

ولأن الله تعالى أوجب الدية في القتل الخطأ، وهذا ضمان لا شك. والأدلة على هذه القاعدة كثيرة.

إلا أن هناك ثلاث حالات لا يَضْمَن فيها المُتْلِف:

الحال الأولى: إذا كان الإتلاف بسبب دفع الأذى، أي: لأجل أن يدفع المُتْلِفُ الأذى عن نفسه، فلا ضمان عليه. ومن ذلك:

ـ لو صال على المُحْرِم صيد، فانتهره فلم يرجع، فحذفه بحصاة فلم يرجع، ولم يندفع إلا بقتله، فقتله، فإنه لا يضمن، لأنه قتله لدفع الأذى عن نفسه، ولكن لا يحل له أكله في هذه الحال.

ـ نزلت شعرة في عين رجل مُحْرِم ولم يندفع أذاها إلا بنتفها، فنتفها فإنه لا شيء عليه، وهذا على قول الجمهور أن الشعر لا يجوز إزالته أياً كان الشعر، أما إذا قلنا: إن التحريم خاص بشعر الرأس فلا ترد هذه المسألة.

ـ زجاج سقط على شخص وهو جالس، ولم يتمكن من دفعه إلا بأن نفض هذا الزجاج وتكسر، فإنه لا يضمنه لأن هذا لدفع أذاه.

ـ لو صال إنسان على شخص يريد أخذ ماله، ولم يندفع إلا بالقتل، فله قتله لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن رجلاً سأله فيمن صال عليه يريد أخذ ماله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُعْطِه»، قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد»، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار»[(311)].

فأباح النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل من صال على الشخص ليأخذ ماله، ولكن يجب أن تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فاقتله، وإن خفت أن يبادرك بالقتل، وأنك لو حاولت أن تدفعه بما دون القتل قتلك، فلك أن تبادره بالقتل، ولا ضمان عليك لأنك قتلته لدفع أذاه.

مسألة: من أتلف شيئاً لكونه يؤذيه، ويمكن دفعه بأقل من إتلافه، فعليه الضمان.

مسألة: من أتلف شيئاً لدفع أذاه بإتلافه، والأذى كان من غيره، فعليه الضمان، ومن ذلك:

ـ ما حصل لكعب بن عجرة رضي الله عنه حين حمل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان مريضاً، والقمل يتناثر على وجهه من رأسه، قال: ما كنت أَرَى الوجع بلغ بك ما أَرَى. وفي بعض الألفاظ: «لعله آذاك هوام رأسك»؟ قال: نعم. فأمره أن يحلق رأسه وأن يفدي[(312)]. وهذه الفدية هي المذكورة في قول الله تعالى: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}} [البقرة: 196] .

فالأذية هنا ليست من نفس الشعر، وإنما الأذية من الهوام، لكن لا تندفع هذه الأذية إلا بإتلاف الشعر، فيضمنه، ولهذا أوجب الله عليه الفدية، مع أنه أباح له أن يحلق رأسه من أجل الضرورة إلى حلقه. لكن لما لم يكن الأذى من الشعر، بل من غيره، ودفع أذى ذلك الغير بإتلاف الشعر، صار فيه الضمان.

ولهذا من قواعد ابن رجب رحمه الله: من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه ومن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه[(313)].

ـ لو اضطر المحرم إلى صيد ليأكله، فاصطاده ودفع ضرورته به، فإنه يضمنه بالجزاء، وليس بآثم لأنه مضطر.

الحال الثانية: إذا كان الإتلاف بإذن من المالك أي ممن يملك الإذن بذلك سواء كان مالكاً لعين الشيء، أو وكيلاً أو ولياً أو ما أشبه ذلك. فلو قال لك صاحب الطعام: كُلْ هذا الطعام، أو اذبح بعيري أو شاتي ففعلت، فإنك لا تضمن، لأنه أذن لك، ولو لم يأذن لك لكنت ضامناً.

مسألة: رجل كبير في السن ولديه بعض الأملاك، ثم تسلّم ابنه إدارة هذه الأملاك، وكان ذلك الأب لا يؤدي زكاتها مطلقاً، فهل يجب على الابن إخراج زكاتها دون علمه، لأنه إذا علم فلن يرضى بذلك مطلقاً؟

الإجابة: إذا كانت الوكالة مطلقة بأن يعرف بأنه وكيل عنه في كل شيء، فله أن يخرج الزكاة، أما إذا كانت الوكالة تعني الوكالة في تدبير هذه الأملاك، شراءً وتأجيراً فإنه لا يملك إخراج الزكاة إلا بتوكيل من أبيه.

مسألة: رجل في بعض الأوقات تأتيه ضائقة مالية، ولا يكون أمامه إلا أن يلجأ إلى هذا المال المُوَكَّل فيه، مع النية الصادقة في إرجاعه في أقرب وقت، فهل يحل له ذلك بدون علم صاحبه؟

الإجابة: لا يحل له أن يأخذ من المال المُوَكَّل فيه إلا بعد موافقة الموكِّل، لأنه أمين، والأمين لا يتصرف لمصلحة نفسه.

الحال الثالثة: إذا كان الإتلاف بإذن من الشرع. وهو المراد بقولنا: (أو ربنا ذي الملك) يعني: أو يكن الإتلاف مأذوناً فيه من الله.

وقلنا: (ذي الملك) : أتينا بهذه الصفة، دون أن نقول: أو ربنا الرحمن أو العظيم وما أشبه ذلك، ليتبين أن ما أذن الله به فقد وقع من أهله، لأنه سبحانه وتعالى هو صاحب الملك، فله أن يأذن بما شاء من إتلاف أموالنا.

وقوله: (خير مالك) : يعني أن الله تعالى خير المُلاَّك فلا يأذن إلا بحق كما قال عزّ وجلّ: {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}} [الحج: 62] فهو جل وعلا حق وكل ما صدر منه فهو حق ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى لن يأذن بإتلاف شيء من أموالنا إلا لما هو خير ومصلحة.

ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أنه يجوز التعزير بالمال، يعني بأن نتلف مال الإنسان لو حصل منه ما يقتضي ذلك، كما يُحَرّق رحل الغال، وكما تتلف آلات اللهو المحرمة وما أشبه ذلك.

ومما أذن الشرع بإتلافه أيضاً الزاني المحصن بالرجم، فإنه لا ضمان فيه لأنه بإذن الله عزّ وجل.

مسألة: رجل وجد آلة لهو يستعملها صاحبها فكسَّرها فلا ضمان عليه؛ لأن تكسيرها مأذون به شرعاً.

هذا من جهة الضمان. أما هل يكسرها إذا رآها مع صاحبها أو لا؟ فهذا فيه تفصيل إن كان للإنسان سلطة وقدرة على تكسيرها بدون مضرة أكبر، وجب عليه أن يكسرها وإن لم يكن له سلطة في ذلك، أو كان يترتب على تكسيرها مفسدة ومضرة أعظم، فإنه لا يكسرها؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه»[(314)].

إذاً فكل مُتْلَفٍ فهو مضمون إلا في ثلاث حالات:

1 ـ ما كان لدفع أذاه.

2 ـ ما أذن به المالك. أي: من يملك الإذن بذلك.

3 ـ ما أذن به الشرع.

ثم إذا ثبت الضمان فكيف يكون؟

بيّن الناظم ذلك بقوله:

59 ـ ويُضْمَنُ المثلِيُّ بالمثلِ ومَا***ليس بمثليِّ بما قد قُوِّمَا

يعني إذا أردت أن تُضَمِّنَ شخصاً فضمنه: المثلى بمثله، والمتقوَّم بقيمته وكونه يضمن المثلى بالمثل لأنه أقرب إلى العدل، لقوله تعالى: {{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}} [البقرة: 194] .

ومن أمثلة ذلك:

ـ من أتلف صاعاً من البر الطيب وجب عليه أن يضمنه بصاع من البر الطيب.

ـ ومن أتلف صاعاً من الرز الطيب يضمن صاعاً من الرز الطيب.

لكن ما هو المثلى؟

المثلى على المذهب: هو كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، وليس فيه صناعة مباحة[(315)].

فخرج بقولنا: (كل مكيل أو موزون): ما ليس بمكيل ولا موزون كالثياب والحيوان وما أشبه ذلك.

وخرج بقولنا: (يصح السلم فيه): ما لا يصح السلم فيه من المكيلات والموزونات، والذي لا يصح السلم فيه من المكيلات والموزونات مثل: المكيل المُخَلَّط، فبعض الناس يخلط طعاماً بعضه ببعض، كعدس برز. فالعدس مكيل والرز مكيل، فإذا خلطا جميعاً لم يصح السلم فيه، وذلك لأنه لا يمكن ضبط كل واحد منهما، قد يكون الخلط ثلثين، أو نصفاً، وقد يكون أكثر أو أقل، فلما كان لا يصح السلم فيه لم يكن مثلياً.

وخرج بقولنا: (وليس فيه صناعة مباحة): ما كان فيه صناعة مباحة كالحلي مثلاً؛ فمع أنه مصنوع من موزون ـ من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو ما أشبه ذلك ـ إلا أنه ليس بمثلي لأن فيه صناعةً مباحة.

أما إذا كانت الصناعة محرمة كرجل اصطنع آلة لهو من حديد، فالصناعة محرمة ولا عبرة بها. فيُضمن كأنه حديد لم يصنع، فيدخل في قولنا مكيل أو موزون يصح السلم فيه.

واستدل المذهب على هذا الضابط للمثلى بأن هذا هو الذي يمكن فيه المماثلة. ولكن يقال: يمكن المماثلة في غير هذا، ثم إنه لعل الصنعة فيما سبق لم تتقدم إلى هذا الحد، فتختلف لأنها صنعة يد.

وهذا التعريف للمثلي لا شك أنه يضيقه تماماً، ويجعل المثلى نادراً. والصحيح أن المثلى ماله مماثل، إما مطابق تماماً وإما مقارب، سواء كان مصنوعاً أم غير مصنوع، وسواء كان مكيلاً أو موزوناً أو غيرهما، وسواء يصح فيه السلم أو لا يصح، فهذا هو المثلى، ويضمن بمثله كما قال الناظم.

وأما المتقوَّم فهو فيما لا يمكن أن يوجد له مثيل، ويضمن بالقيمة بما يساوي وقت الإتلاف لأنه إذا تعذر الأصل رجعنا إلى البدل.

وعلى هذا القول الراجح يضمن الإناء بإناء، والثوب المصنوع بثوب، والحيوان بحيوان. ولا يخرج عن المثلى إلا أشياء قليلة.

ويدل لذلك قصة أم المؤمنين رضي الله عنها، حين كسرت الصحفة فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم صحفتها ودفعها للتي أرسلت الصحفة وقال: «طعام بطعام وإناء بإناء»[(316)].

ويدل لذلك أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستقرض البعير ويرد بعيراً، فقد استقرض بكراً ورد رباعياً خياراً[(317)].

وأما التعليل على هذا فإن ضمانه بمثله تماماً، أو بمقارب له؛ أقرب إلى العدل من ضمانه بالقيمة لأن القيمة لا تماثله، ثم إن القيمة تقتضي المعاوضة؛ لأنها من غير الجنس، فلا يجبر المضمون له على شيء يعتبر كالمعاوضة، لأن من شرط البيع الرضى.

ـ وهذا مثال يتبين به صحة ما رجحناه: الفناجين على المذهب ليست مثلية لأنها ليست مكيلة ولا موزونة، وأيضاً فيها صناعة مباحة، وعلى القول الراجح هي مثلية. وأيهما أقرب إلى المماثلة صاع من بر بصاع من بر، أو فنجان بفنجان من نفس الصنعة؟

لا شك أن فنجان بفنجان أقرب إلى المماثلة، حتى إن الإنسان لا يميز بين هذا الفنجان وهذا.

أما إذا أتلف إنسان شاة حاملاً فإنه يضمنها بما تساويه من القيمة، لأن المماثلة تتعذر هنا، لجهالة ما في بطنها.

مسألة: كيف يجيب المذهب عن حديث: «إناء بإناء»؟

الإجابة: ليس عندهم جواب، اللهم إلا أن يقولوا: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قَدَّر أن هذا الإناء يقارب ذاك في القيمة، وأن النقود عندهم قليلة فكان رجوعه لذلك من باب الضرورة.

مسألة: إذا كانت الزوجة مُفَرِّطة في بيتها وأراد زوجها أن يؤدبها بأن تضمن ما تتلفه من البيت من أثاث أو أوانٍ فهل له ذلك؟

الإجابة: إذا قيده بشيء نعرف أنها مفرطة فلا بأس، أما امرأة عاقلة تطبخ الطعام طبخاً جيداً، لكن فاتها يوم من الأيام فأحرق الطعام أو سقطت جمرة على الفراش كيف تضمن هذه؟!

مسألة: إذا أتلف شيئاً قديماً له مثل في السوق لكن المثل في السوق جديد؟

الإجابة: الظاهر والله أعلم أن نقول لصاحب الشيء المتلَفِ: لك الخيار إن شئت ضمناه شيئاً جديداً وتدفع الفرق، وإن شئت قَوَّمْنا هذا بالقيمة، فيضمن بالقيمة. إلا إذا كان يمكن أن نجد شيئاً مستعملاً كاستعماله فإنه يأتي به بدل المتلَف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:35 pm

ـ فكلُّ ما يحصلُ مما قدْ أُذِنْ***فليس مضموناً وعكسُهُ ضُمِنْ

هذه قاعدة وهي كالتعليل لما سبق، كل ما يحصل من المأذون فليس بمضمون، سواء أُذِنَ به شرعاً أو أُذِنَ به من المالك، وكل ما ترتب على غير المأذون فهو مضمون.

وهذه قاعدة معروفة عند العلماء (ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون).

وذكروا لذلك أمثلة كثيرة.

منها: سراية الجناية مضمونة، وسراية القود غير مضمونة.

يعني: إنسان جنى على شخص وقطع إصبعه، ثم سرت الجناية إلى النفس ومات الذي قطعت إصبعه، فإن الجاني يضمنه كله لا الإصبع فقط، أو يقتل إذا تمت شروط القصاص.

وأما سراية القود، يعني: القصاص فغير مضمونة فهذا الذي قَطع الإصبع قطعنا إصبعه قصاصاً، لتمام شروط القصاص. ثم إنَّ القطع سرى إلى النفس ومات المقطوع، فإنه لا يُضْمَن؛ لأن قطع إصبعه مأذون فيه شرعاً، بخلاف قطع إصبع المجني عليه فإنه غير مأذون فيه.

ومنها: رجم الزاني المحصن فإنه لا ضمان فيه، لأنه بإذن الله عزّ وجل.

ومنها العارية: إذا تلفت عند المستعير من غير تعدٍ ولا تفريط فإنها لا تضمن على القول الراجح، فيد المستعير يد أمينة. لأن صاحبها أذن فيها؛ وسَلَّط المستعير على مُلكه باختياره.

وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عارية مؤداة»[(318)]، فمعناه: إن بقيت أعطيتك إياها وإلا فلا.

ومنها: تصرف الوكيل على وجه لا تعدي فيه ولا تفريط فإنها لا تضمن.

إذاً، كل ما يحصل مما أذن فيه فليس بمضمون، وكل ما يحصل مما لم يؤذن فيه فهو مضمون، وهذه القاعدة لها أربع صور:

الأولى: ما أذن فيه الشارع والمالك كقطع عضو قصاصاً من مملوك أذن سيده بالقصاص منه فهذا لا ضمان فيه.

الثانية: ما لم يأذن به الشارع ولا المالك كقتل المحرم صيداً مملوكاً بلا إذن مالك ففيه الإثم والضمان فيضمن لمالكه بالمثل أو بالقيمة إن تعذر ويضمن بالجزاء في حق الله تعالى.

الثالثة: ما أذن فيه الشارع دون المالك كإتلاف آلات اللهو فلا ضمان فيه ولا إثم لأن إذن مالكه غير معتبر لتحريم إبقائه عليه.

الرابعة: ما أذن المالك دون الشارع مثل أن يأذن لشخص بقتل نفسه أو قطع عضو منه أو إحراق ماله فالإذن هنا غير معتبر فلا يبيح للمأذون له فعله، فإن فعل فلا ضمان عليه للآذن لكن عليه الضمان لحق الله فيضمن ما يلزمه بهذه الجناية ويصرف إلى بيت المال لكن إن أراد الإمام أن يقتص منه فيما يوجب القصاص فله ذلك فيما يظهر إلا أن يكون الجاني جاهلاً غريراً يظن أن إذن المجني عليه يبيح ذلك فيمتنع القصاص لقوة الشبهة.

61 ـ وما على المحسنِ مِنْ سبيلِ***وعكسُهُ الظالمُ فاسمعْ قِيْلِي

هذه أيضاً قاعدة مأخوذة من القرآن الكريم، قال الله تبارك وتعالى: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] فكل محسن فإنه لا سبيل عليه، والظالم هو الذي عليه السبيل لقوله تعالى: {{فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}} [البقرة: 193] وقال تعالى: {{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}} [الشورى: 42] .

قوله: (وما على المحسن من سبيل) : يعني ليس عليه طريق يلام به، أو يضمن به، لأنه محسن.

دليل ذلك: قوله تعالى: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] ، فلو فعل الإنسان شيئاً من الإحسان وتلف به شيء فلا ضمان عليه.

مثال هذا:

ـ رجل وضع أحجاراً في السوق من أجل أن يمشي الناس عليها، لئلا يقعوا في الدحض ـ أي: الزلق ـ ويسقطوا، لكن حصل من الناس من عثر بهذه الأحجار وأصيب فإن واضع الأحجار لا يضمن لأنه محسن، والله تعالى يقول: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] .

ـ رجل آخر حفر بئراً إلى جانب الطريق، من أجل أن يشرب الناس منه فسقط فيه إنسان فإن الحافر لا يضمن، لأنه محسن.

ـ رجل أعطى شخصاً وديعة يحفظها له ثم تلفت الوديعة بغير تعد منه ولا تفريط، فإنه لا ضمان على المودَع لأنه محسن.

قوله: (وعكسه الظالم فاسمع قيلي) : الظالم: هو المعتدي، فإنه يضمن لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق»[(319)].

ومثال هذا:

ـ رجل قال: هذا الطريق الذي يمشي به فلان لأضعن فيه أحجاراً لعله يعثر بها، فيصاب، فحصل الأمر بأن خرج وعثر بها فأصيب، فإنه يضمن لأنه ظالم.

ـ رجل آخر حفر بئراً في وسط الطريق فسقط الناس بها، فإنه يضمن حتى وإن أراد أن يشرب الناس منها، لأنه غير محسن، فليس من الإحسان أن تحفر البئر ـ ولو للمسلمين ـ في طريقهم، لكن أَبْعدها عن الطريق.

ـ الغاصب إذا غصب من شخص شيئاً ثم تلف هذا الشيء، أو حصل فيه نقص فإن الغاصب يضمنه لأنه ظالم.

قوله: (فاسمع قيلي) (قيلي) بمعنى قولي، قال الله تعالى: {{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}} [النساء: 122] وهذا تكملة للبيت، ولكن فيه فائدة وهي أنه ينبغي للإنسان أن يسمع ما يقال من العلم النافع.

62 ـ ثم العقودُ إنْ تكنْ معاوضَهْ***فَحَرِّرَنْهَا ودَعِ المخَاطَرَهْ

63 ـ وإنْ تكنْ تَبَرُّعاً أو تَوْثِقَهْ***فأمرُها أخفُّ فادْرِ التفرِقَهْ

والتفرقة هي قوله:

64 ـ لأنَّ ذِي إنْ حَصَلَتْ فَمَغْنَمُ***وَإِنْ تَفُتْ فليسَ فيها مَغْرمُ

هذه القاعدة في اشتراط العلم وانتفاء الغرر في العقود فالعقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

معاوضة، وتبرع، وتوثقة.

قوله: (ثم العقود إن تكن معاوضة) .

1 ـ عقود المعاوضة : كالبيع والإجارة، وما أشبه ذلك، مما يقصد به المشاحة والتكسب وما أشبه هذا، فهذه معاوضة، لا يرضى أحد المتعاقدين إلا بعوض، فلا بد أن تحررها، ولهذا قال: (فحررنها) : وهذا معنى قولنا في كتاب البيع: يشترط أن يكون المبيع معلوماً، والثمن معلوماً وأن يتم فيه الشروط المعروفة؛ لأن البيع عقد معاوضة، فحررها بحيث لا يبق فيها أي جهل.

والتحرير يكون بالعلم وبالقدرة على التسليم.

قوله: (ودع المخاطرة) : أي لا تعقد عقد غرر فتحصل فيه المخاطرة، لأنك إذا لم تحررها صار فيها مخاطرة، والمخاطرة من الميسر. وقد قال الله تعالى: {{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}} [المائدة: 90] ، بل يجب أن يكون كل من العوضين معلوماً مقدوراً عليه.

وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه «نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر»[(320)]، «ونهى أيضاً عن بيع الحمل في البطن»[(321)]، «ونهى عن بيع حبل الحبلة» كل هذا لأنها غرر وجهالة، وقال في السلم: «من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»[(322)].

وإنما كان هذا لازماً ـ أي تحرير العقد ـ لأن كل واحد من المتعاقدين يريد حقه كاملاً، فإذا كانت هناك مخاطرة صار أحدهما: غانماً، والثاني: غارماً، فانقلبت المعاوضة إلى رهان وميسر وهذا حرام، هذا من حيث الدليل.

وأما التعليل: فلأن بيع المجهول يؤدي إلى النزاع، والنزاع يؤدي إلى الكراهة والعداوة والبغضاء ويشغل القلوب ويصدها عن ذكر الله، فكان من حكمة الشرع النهي عن بيع الغرر.

ـ من ذلك بيع العبد الآبق، لا يجوز، لأنه غير مقدور على تسليمه، حتى لو وصف بأدق الأوصاف، فإنه لا يصح البيع، فإن علمنا أن العبد الآبق محبوس في محل معين مقدور على تسليمه جاز البيع.

ـ ومثل ذلك أيضاً: بيع الطير في الهواء، لا يصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، حتى لو كان من عادته أن يرجع إلى مأواه، فلا يصح بيعه لأنه قد يرجع وقد لا يرجع.

ـ ومن المخاطرة في البيع: أن يبيعه شيئاً ضائعاً، إما شاة ضالة أو بعيراً، وإما عيناً أخرى ضائعة فإن بيع ذلك حرام؛ لأنه غرر، قد يحصل عليه المشتري وقد لا يحصل، ثم إن الغالب أنه يباع بأقل من ثمنه حاضراً، فإذا كان المُشْتَرَى يساوي حاضراً مائة فإنه لن يباع بالمائة إذا كان غائباً، فيكون مثلاً بثمانين أو بخمسين، حينئذٍ إن وُجِدَ صار المشتري غانماً، وإن لم يوجد صار غارماً. وعكسه البائع: متى كان المشتري غانماً فالبائع غارم، ومتى كان البائع غانماً فالمشتري غارم، وهذا غرر ونوع من الميسر.

ـ ومن الغرر بيع ما في بطون البهائم، وإن شئت فقل: بيع ما في بطون الحوامل، فيشمل الحامل من الإماء، فإن بيع حملها حرام، لأنه مجهول لا يُدْرَى أذكر هو أم أنثى؟ أواحد هو أم متعدد؟ فإذا قٌدِّرَ أنه عُلِمَ ذلك بسبب تقدم الطب فإنه يبقى الجهل: أيخرج حياً أم ميتاً؟ فيكون داخلاً في الغرر، فلا يصح العقد عليه.

ـ ومن بيع الغرر: بيع الثمار على رؤوس الشجر قبل صلاحها، وكذلك الزروع، ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمر على رؤوس النخل وقال: «حتى يبدو صلاحها»[(323)] وسئل عن الصلاح فقال: «تحمر أو تصفر»[(324)] وكذلك في العنب: لا يصح بيعه حتى يَتَمَوَّه[(325)] حلواً، لأنه قبل ذلك، أي قبل بدو الصلاح في ثمر النخل، والتموه حلواً في العنب عرضة للفساد، فيكون فيه غرر ومخاطرة.

ومن ذلك النهي عن بيع الحب في سنبله حتى يشتد أي: حتى يصلب ويقوى ويكون حباً.

وبناء على ذلك لا يصح البيع إذا كان الثمن مجهولاً للطرفين، لما في ذلك من الغرر، ولأن المشتري قد يقدر ثمناً، ويكون الثمن الذي يريده البائع أكثر بكثير، والبائع قد يقدر ثمناً، ويكون الثمن الذي بذله المشتري أقل بكثير.

وأما البيع بما ينقطع به السعر، يعني: أن يقول المشتري للبائع: إذا انقطع السعر فهي عليَّ بما ينقطع به السعر، كما يقول عوامنا: أخذتها بما تقف عليه بالمزايدة.

فقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه.

فمن العلماء من قال: إن هذا لا يجوز، لأنه غير معلوم للبائع ولا للمشتري، ولأن المشتري قد يكون تقديره الثمن أقل بكثير مما انقطع به السعر، وكذلك البائع ربما يكون الثمن في تقديره أكثر بكثير مما انقطع به السعر.

ومن العلماء من أجاز ذلك، وقال: إن النهي عن بيع الغرر، إنما كان خوف الغبن، وما ينقطع به السعر ليس به غبن، لأن ما ينقطع به السعر هو قيمة الشيء بين الناس، وحينئذٍ فلا غبن.

ولكن القول بأنه لا يجوز أقرب إلى الصواب، لأن ما ينقطع به السعر قد يتولاه شخص ذو حاجة، فيرفع السعر في المزايدة حتى يصل إلى حد لم يخطر ببال المشتري، وقد يكون الحضور للمزايدة قليلين، فينقص الثمن إلى حدٍّ ما كان يقدره البائع؛ وحينئذٍ يحصل الندم.

وعمل الناس اليوم على القول الثاني، وهو القول بالجواز.

مسألة: لو قال البائع: أبيعه عليك بثمنه عند الناس، يعني: كما يبيعون فما الحكم؟

الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه جائز، ومنهم من قال: إنه ليس بجائز.

وهذا النوع أقرب إلى الجواز مما في المسألة التي قبلها، لأن القيمة المعتبرة بين أوساط الناس لا يندم عليها أحد، حيث إن البائع لن يبيع بأزيد مما يبيع به الناس، وكذلك المشتري.

وعلى هذا، فإذا قال الرجل للتاجر: أرسل لي صندوق شاي، أو كيس رز، ولم يذكر الثمن فإن ذلك لا بأس به، ويقيده عليه بما هو سعره عند الناس.

والعمل على هذا في عرف الناس، لا سيما إذا كان البائع رجلاً معتبراً في البيع يثق به الناس.

والخلاصة: أن كل بيع يتضمن الغرر فغير صحيح، وكذلك يقال في الإجارة، لأن الإجارة عقد معاوضة، فالمستأجر يملك منافع العين التي استأجرها، والمُؤَجِّر يؤجره إياها ويملك الأجرة. وعلى هذا فلا بد من تحريرها بأن تكون الأجرة التي تدفع معلومة، والنفع الذي استؤجرت العين لأجله معلوماً، ولا بد أن تكون العين المستأجرة معلومة حتى لا يقع المتعاقدان في الغرر الذي يشبه الميسر.

فإذا قال قائل: ألستم تجيزون الجعالة؟ وهي عقد على شيء مجهول، مثل أن يقول: من رد لقطتي فله كذا وكذا، ومن رد ضالتي فله كذا وكذا، ومن المعلوم أنه قد يردها في زمن قريب، أو في زمن بعيد، من مكان قريب أو من مكان بعيد، وأنتم تقولون: هذا جائز!

الجواب: نعم، نقول ذلك، لأن عقد الجعالة هو من مشروط على عمل، متى حصل فذاك العوض، ولهذا كانت الجعالة من العقود الجائزة[(326)]، ويدل لهذا قول الله تعالى: {{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}} [يوسف: 72] ؛ لأنه قد يأتي به من مكان قريب، وفي مدة وجيزة، وقد يأتي به من مكان بعيد، وفي مدة طويلة.

وفي قوله: (دع المخاطرة) : إشارة إلى سبب التحرير فيها، لكي تتبين واضحة، من أجل أن لا يكون هناك مخاطرة، والمخاطرة هي الميسر.

وبهذا نعرف أن عقود التأمين على السلع محرمة، لأنها تتضمن مخاطرة، فإذا أمَّن الإنسان على سيارته مثلاً، صار يدفع كل سنة خمسمائة ريال، أو أربعمائة ريال، وهنا تكمن المخاطرة، لأنه إن مرت السنة دون أن يحصل حادث صارت الشركة غانمة، وصاحب التأمين غارماً، وإن حصل في المُؤَمَّن عليه ضرر أكثر مما دفعه صاحب التأمين، صارت الشركة غارمة وصاحب التأمين غانماً فيحصل بذلك غرر وجهالة، لأن كلاً منهما إما غانم وإما غارم.

مسألة: كثير من العُمَّال إذا أردت الاتفاق معه يقول: الذي تدفعه مقبول عندي، فما حكم ذلك؟

والجواب أن نقول: هذا لا يصح، لأن الأجرة مجهولة، فالعامل إنما عمل عند صاحب العمل بالأجرة بلا شك، ولهذا لو أنه انتهى من العمل وأعطاه صاحب العمل شيئاً، فقال: زدني. وقع بينهما الخلاف، وقد يأبى العامل أن يأخذ ما قدره صاحب العمل، ويتركه معه ويذهب، فيندم صاحب العمل، فيطلب الحصول على هذا العامل، ويسأل عنه لعله يجده فيعطيه حقه. فلذلك نقول: لا يجوز لهما الاتفاق على العمل إلا أن يحددا الأجرة، إلا إذا كان العمل مما عُرِفَتْ أجرتُه بين الناس، فهذا شيء يُعْمَلُ فيه بالعرف.

مسألة: إذا اتفق صاحب العمل والعامل على أجرة في مدة محددة، وقبل انقضاء المدة رفض العامل العمل، وطلب حقه فهل يعطاه؟

والجواب أن نقول: لا يعطاه، لأنه إذا استؤجر على عمل لزمه إكماله، فإن لم يكمله فلا أجرة له، إلا إذا كان هناك عذر قاهر لا طاقة للعامل به، فحينئذٍ يُعطى من الأجرة بقدر ما عمل.

مسألة: اتفق رجل مع عامل على تصليح جهاز من الأجهزة، ولم يتفقا على الأجرة، وعندما أراد إعطاءه المبلغ، ثمانية دنانير وهو العرف، طلب ضعف هذا المبلغ، وهو مبلغ كبير بالنسبة لعمله، وقد رفض أخذ مبلغ ثمانية دنانير وذهب، فماذا على صاحب الجهاز؟

والجواب أن نقول: ليس عليه شيء، ما دامت هذه أجرة العادة، ولم يكن بينهما عقد، فتقدر الأجرة بالعرف، ولكن إن أيس منه، تصدق بها بالنية عنه، وإن لم ييأس من رجوعه انتظر حتى يرجع.

مسألة: رجل استأجر داراً للسكن وأراد أن يبني فيها مخزناً، فما حكم ذلك؟

الإجابة: المستأجِر لا يملك أن يزيد ولا ينقص في الدار المستأجَرة إلا بموافقة صاحب الدار. وإذا فعل المستأجِر شيئاً من ذلك بلا علم المؤجر، فله أن يلزمه بالهدم، ويضمنه كل ما ترتب على البناء من فساد الأرض وما أشبه ذلك.

مسألة: ما حكم أخذ فوائد المال من البنوك الربوية؟ وهل أتركه لهم، أم آخذه وأتلفه، أم أتصدق به؟

الإجابة: يقول الله عزّ وجل: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ *}} [البقرة: 278 ـ 279] فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا، لأن الله قال: {{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}} وقال: {{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}}. وأعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطبته عام حجة الوداع وهو واقف بعرفة أعلن أن ربا الجاهلية موضوع، قال: «وأول رباً أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله»[(327)] وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا، لا من البنوك ولا من غيرها، وما أفتى به بعض الناس استحساناً بأنك تأخذ الربا وتتصدق به تخلصاً منه، فهذا استحسان في مقابلة النص، فهو مردود على صاحبه، ولو كانت هذه الطريق حسنة محبوبة إلى الله لأرشد الله عباده إليها، ولقال: اتقوا الله وخذوا ما بقي من الربا وتصدقوا به، لكنه قال: {{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}} ليقطع طمع الإنسان وتعلق نفسه به نهائياً.

وأي فائدة من أن يلطخ الإنسان صحيفة عمله بقاذورة الربا، ثم يذهب يغسلها ويتخلص منها؟ أي فائدة من هذا؟! وهل هذا إلا لغو، وعبث محض؟!

فإن قال قائل: هذا الربا إذا تركته للبنك فقد يستعين به على محرم؟

قلنا: أصل هذا الربا ليس كسب مالِك، مالُك ربما كان قد خسر حين تعامل به البنك، وربما يكون مالك كسب أضعاف أضعاف ما أعطاك من الربا، وربما خسر مالك كل الخسارة، فليس هذا كسب مالك حتى تقول: أنا لا أريد أن أمكنهم من مالي فيعبثوا به وإنما هو من مال البنك.

وبعض الناس يدعي أنه لو ترك هذه الزيادة في البنك لذهب يعطيها الكنائس، أو يسلح بها أعداء المسلمين؟ فنقول: أولاً: هذا غير مؤكد، قد يكون هذا، وقد ينتفع بها البنك لمصالحه الخاصة.

ثانياً: لو تأكدنا من ذلك، فهل أنا أعطيته شيئاً من مالي يعين به الأعداء على المسلمين أو يعين به الكنائس؟ أبداً، ما أعطيته، لأن هذه الزيادة لم تدخل في مالي أصلاً، وليست هي ربح مالي.

وعلى كل حال فالاستحسان في مقابلة النص ليس مقبولاً، والواجب اتباع النص {{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ *}} [البقرة: 278 ـ 279] .

مسألة: الملح من الأصناف التي يدخل فيها الربا، فما حكم من أخذ من الدكان ملحاً ثم قال: اجعله ديناً علي؟

الإجابة: لا بأس بذلك، لأن النقدين مع بقية الأصناف ليس بينهما ربا، ولهذا كان من عبارات الفقهاء رحمهم الله: يجري ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، ليس أحدهما نقداً[(328)]. يعني: أن النقد لا يجري الربا بينه وبين بقية الأصناف.

ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة ووجدهم يُسْلِفُون في الثمار السنة والسنتين فلم يمنعهم[(329)]، مع أن المشتري نَقَدَ أهل البستان، وقبضه للثمار يتأخر.

2 ـ عقود التبرع:

قوله: (وإن تكن تبرعاً) : يعني وإن تكن العقود عقود تبرع كالصدقة والهبة والعطية والوصية إلى آخره (فأمرها أخف) .

والهبة: هي التبرع بمال بلا عوض، فإن قصد بها ثواب الآخرة فصدقة، وإن قصد بها التودد فهي هدية، وإن قصد بها مجرد الإعطاء فهي هبة.

ثم إن كانت الهبة أو الصدقة أو الهدية في مرض الموت المَخُوف فإنها تُجْعَل من الثلث، بمعنى أن ما زاد على الثلث يكون أمره موكولاً إلى الورثة، إن شاؤوا أجازوه، وإن شاؤوا منعوه، لأن المريض مرض الموت المخوف قد تعلق حق الورثة بماله، فليس له أن يتبرع بما زاد على الثلث إلا بعد إجازتهم.

(إن تكن تبرعاً) : مثل أن يهب الإنسان عبده الآبق لشخص، فيقول: قبلت. فهنا تصح الهبة لأنه إن حصل هذا العبد الآبق فهذا مغنم، وإن لم يحصل فليس فيه مغرم فهو سالم فلا ضرر عليه في الحالين، وبهذا خرج عن الميسر. ثم إنه إذا لم يحصل على العبد لم تحصل بينهما عداوة وبغضاء، لأن الموهوب له يعرف أن الواهب تفضل عليه، وليس له حق أن يطالبه بشيء.

3 ـ عقود التوثقة:

قوله: (أو توثقة) : وعقود التوثقة أضيق من عقود التبرع، لكنها أخف من عقود المعاوضة.

مثاله: الرهن، إذا قال مثلاً: رهنتك هذا البيت، والمرتهن لا يدري ما في البيت من حُجَرٍ وفُرُشٍ وغيرها، فهنا نقول: يصح الرهن، وذلك لأن الدائن لا يضيع حقه، إن حصلت فمغنم، وإن لم تحصل فليس فيها مغرم، لأن حقه سيبقى، بمعنى أن الرهن إذا كان على ما في نفس المرتهن فهذا هو المطلوب، وإن كان دونه فالمقصود توثيقه للمال.

نعم، لو فرض أن الراهن خدعه، وقال: هذا البيت فيه كذا وفيه كذا، مما ليس فيه، فهذا حرام، وللمرتهن الخيار بين إبقاء الرهن بحاله وبين الفسخ، ثم إذا فسخ فإن كان الرهن مشروطاً في البيع، فله فسخ البيع، وإن لم يكن مشروطاً فليس له فسخه.

ـ لو قال: أنا رهنتك إحدى هاتين السيارتين، فإنه يصح؛ لأن أي واحدة منهما سيكون له فيها فائدة، ولذلك لا يجب تحرير عقود التبرعات وعقود التوثقة كما تحرر عقود المعاوضة؛ فيجوز أن يرهن ما لا يجوز بيعه، كالثمرة قبل بدو صلاحها، لأنه لو قُدِّر أنه لم تحصل الثمرة فالدين باقٍ.

ـ امرأة تزوجها رجل بدون أن يُحَرِّر المهر، لا جنساً ولا قدراً، فإن العقد يصح، ويفرض لها في هذه الحال مهر المثل، لأن هذا ليس عقد معاوضة. يصح ـ أيضاً ـ أن تخالع الزوج بما في يدها من دراهم، لأنه ليس المقصود المعاوضة، ولكن المقصود أن تتخلص من هذا الزوج بهذا العوض.

ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله: يصح أن يخالعها على ما في يدها من دراهم، أو على ما في بيتها من متاع، وإن كان لا يدري ما هو[(330)].

قوله: (فادر التفرقة) : أي: اِعْلَمْها واِفْهَمْها، التفرقة أي: بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات والتوثقات، والتفرقة هي أن عقود المعاوضات مبناها على المشاحة والمطالبة بالحق كاملاً. بخلاف عقود التبرعات والتوثقات ولهذا قال:

لأن ذي إن حصلت فمغنم***وإن تفت فليس فيها مغرم

قوله: (لأن ذي) : المشار إليه القريب، ومن القواعد المقررة: أن الضمير أو الإشارة يعودان إلى أقرب مذكور، فيكون مراده بقوله: (ذي) أي: عقود التبرعات والتوثقة، فعقود التبرعات إن حصلت فمغنم، وإن لم تحصل فليس فيها مغرم ولذلك يسامح فيها بالجهل، وكذلك عقود التوثقة لأن الحق باقٍ فإن حصلت التوثقة فهذا زيادة فضل وإن لم تحصل لم يضره شيء، وهذا هو الفرق الذي طلب الناظم ملاحظته بقوله: (فادر التفرقة) وفي هذا إشارة إلى مثل هذه العقود التي يكون فيها الأمر دائراً بين الغنم والسلامة خارجة عن الميسر لأن الميسر عقد دائر بين الغرم والغنم.

مسألة: ما حكم من وهب شيئاً لمصلحة يريدها من الموهوب له، ثم فاتت مصلحته فندم وأراد أن يرجع في الهبة؟

الإجابة: هذا يحصل، كما لو وهبت المرأة شيئاً لزوجها، حتى لا يتزوج عليها، فتبذل له مالاً بنية ألاَّ يتزوج عليها، فإذا تزوج فإنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ. لأننا نعلم أنها إنما وهبته لغرض لم يتحقق، وكذلك لو قيل له: إن فلاناً أصابته فاقة، فأعطاه من أجل هذه الفاقة ثم تبين أنها لم تكن، فإنه يرد عليه صدقته.

مسألة: أخذ رجل من آخر عسلاً ليبيعه له، فقال له صاحب العسل: قيمة الكيلو منه ثلاثمائة ريال، وإذا بعتَه بزيادة عن ذلك فلك الزيادة. فأصبح يبيع الكيلو بثلاثمائة وخمسين ريالاً ما حكم هذا البيع وماذا عليه؟

والجواب أن نقول: إذا وَكَّلَه في بيع شيء ـ عسل، أو طعام، أو غير ذلك ـ وقال له: بعه بكذا وما زاد فلك، فلا بأس به، لكن بشرط أن يكون البائع الذي وَكَّلَه عالماً بسعر السوق، لأن الإنسان قد تكون عنده السلعة قد ملّ منها، وتعب منها، فيوكل شخصاً في بيعها، فإذا قال له: خذ هذه السلعة بعها بمائة، وما زاد فهو لك، وعرف الوكيل أن هذا الرجل ليس عنده علم بالأسعار فعليه أن يبين له، فيقول: يا فلان السلعة تساوي مائتين، فإذا قال صاحب السلعة: وإن يكن الأمر كذلك، بعها بمائة فما زاد فلك، فحينئذٍ يبيعها بما تساوي في السوق، ولو بلغت ثلاثمائة أو أربعمائة، ويرد إلى مالكها المائة التي اشترطها لنفسه.

مسألة: حصل حادث بين سيارتين، فقدمت شركة التأمين للرجل الذي وقع عليه الحادث اختيارين، إما أن تصلح له السيارة، وإما أن تعطيه مبلغاً، فاختار المبلغ، علماً بأن تصليح السيارة أقل من المبلغ المعطى له من شركة التأمين، فماذا يفعل بالمبلغ المتبقي، هل يصرفه على نفسه، أو في المصالح العامة؟

والجواب أن نقول: نحن لا نقر التأمين على السيارات والأملاك وما أشبه ذلك، بل نرى أنه من الميسر المحرم، لأنه عقد يجعل المتعاقدين بين غانم وغارم، وهذا هو حقيقة الميسر، لكن إذا وقع من غير شركة التأمين، مثل أن يصطلح المعتدي والمعتدى عليه على عوض لإصلاح السيارة مثلاً، فتصلح السيارة بأقل، فهل يلزم صاحب السيارة أن يرد ما زاد على المعتدي؟

هذا فيه تفصيل: إذا قال: خذ هذا أصلح به السيارة، فإنه يلزمه إذا زاد ما أعطاه على ما أصلح به السيارة أن يرد الزائد، وإن كانت المسألة مصالحة، حيث إن هذا الذي حصل كان بعدوانه، فإنه لا يلزم الذي أخذه أن يرده. ونظير ذلك قول الفقهاء رحمهم الله: لو أعطى شخص شخصاً مالاً، ليحج به فزاد، فإن كان قال له: خذ هذا المال حج به، فالزيادة للحاج. وإن قال: خذ هذا المال حج منه، فالزيادة ترجع إلى المحجوج عنه[(331)].

65 ـ وكلُّ ما أَتَى ولم يُحَدَّدِ***بالشرعِ كالحرزِ فبالعرفِ احْدُدِ

هذه من القواعد المهمة؛ وهي أن ما جاء في الكتاب والسنّة مطلقاً بغير تحديد بزمن أو مكان أو عدد أو صفة، فإنه يرجع في تحديده إلى العرف، لأن المطلق يحمل على ما يتعارفه المخاطبون بينهم.

وليعلم أن الألفاظ إذا أطلقت فلا تخلو من إحدى حالات ثلاث:

1 ـ إما أن يكون النص قد بَيَّن أن المرجع في ذلك إلى العرف، فهنا نرجع للعرف.

2 ـ وإما أن يكون النص قد بَيَّن أن المرجع في ذلك إلى الشرع، فهنا نرجع إلى الشرع.

3 ـ وإما أن لا نعلم هذا ولا هذا، فيرجع إلى العرف.

بيان ذلك:

1 ـ ما أحيل فيه على العرف مثل: جميع حقوق الزوجة يرجع فيها إلى العرف بنص الشرع، قال تعالى: {{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [البقرة: 228] ، {{وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [البقرة: 233] {{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [النساء: 19] ؛ فهذا واضح أنه أحيل فيه على العرف فيؤخذ به.

2 ـ ما أحيل فيه على الشرع: فيرجع فيه إلى الشرع وَيُلْغَى العرف.

مثال هذا: لو كان من عادة الناس أن الإنسان إذا باع عبده واشترط أن الولاء له وافقوا على ذلك، فهنا لا نرجع إلى العرف بل: هذا مرجعه إلى الشرع. ولهذا أبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الشرط وقال: «قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»[(332)].

ومثل ذلك: المواريث، فالزوجة لها نصيب، والأم لها نصيب، والأب له نصيب، وهذا محدد بالشرع.

3 ـ ما لم يقيد بالشرع ولا بالعرف: فهذا يرجع فيه إلى العرف.

مثاله: الحِرْز في السرقة، ذكر العلماء رحمهم الله أن يد السارق لا تقطع إلا إذا سرق من حرز[(333)]. والحرز هو كل ما تحفظ به الأموال، وهو يختلف باختلاف السلطان والمكان والزمان وأنواع المال، وغير ذلك، فحرز الذهب والفضة ليس كحرز المواشي، فالذهب والفضة يحرزان بالصناديق المغلقة وراء الأبواب، والغنم بالحظائر، وَفَرَّقَ بينهما العرف.

ـ رجل أعطاك دراهم على أنها وديعة، فذهبت إلى حظيرة الغنم فألقيت الدراهم في مكان الغنم، وجاء السارق فسرقها، فإنك تضمن؛ لأن هذا ليس بحرز. لكن لو وضعتها في صندوق، وأغلقت عليها، ثم جاء السارق وكسر الصندوق وأخذها، فلا ضمان عليك لأن هذا حرز في العادة.

ـ كذلك السفر، جاء مطلقاً في القرآن والسنة ولم يحدد؛ قال الله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}} [النساء: 101] . فأطلق الضرب ولم يحدده لا بزمان ولا بمسافة، فيرجع فيه إلى العرف، وما ورد عن بعض السلف، من أنه مِنْ مكانِ كذا وكذا سفرُ قصرٍ، يعني وما دونه فليس سفرَ قصرٍ، فإنما هو من باب المثال لِمَا كان سفراً في عرفهم، ولهذا لم يحدد النبي صلّى الله عليه وسلّم زمناً ولا مسافة في سفر القصر، بل قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج ثلاثة أميال صلى ركعتين)[(334)].

فيرجع في ذلك إلى العرف، فما سماه الناس سفراً فهو سفر، وما ليس سفراً في عرف الناس فليس بسفر.

وكذلك الإقامة أثناء السفر في بلد أو مكان بَرِّي، لم يحددها الشرع بأيام معلومة، أو أشهر معلومة، أو سنوات معلومة، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقيم إقامات متعددة مختلفة، ويقصر فيها الصلاة، فقد أقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، وأقام في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، وذلك في غزوة الفتح، وأقام في مكة في آخر سفر سافره في حجة الوداع، عشرة أيام كما ثبت ذلك في صحيح البخاري[(335)] رحمه الله (لما سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: كم أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم) لأنه قدم في يوم الأحد، الرابع من شهر ذي الحجة، وسافر من مكة في صبيحة اليوم الرابع عشر، فهذه عشرة أيام يقصر فيها الصلاة، ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ أقام كذا لزمه القصر، ومن أقام دون ذلك لم يقصر، فدل ذلك على أنه ما دام الإنسان لم يَعُدْ إلى بلده، فهو مسافر.

ـ ومن ذلك أيضاً الخفان، وردت السنة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مسح على الخفين»[(336)] ولم يشترط النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخفين شرطاً معيناً، إلا أنه لبسهما طاهرتين، وأن مسحهما في مدة معينة، ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، فإذاً نقول: يمسح على كل ما يسمى خفاً عرفاً، وهذا هو القول الراجح، وأننا لا نشترط شروطاً في جواز مسح الخفين لم تثبت في الكتاب ولا في السنة، لأننا إذا شرطنا شروطاً ضيقنا نطاق المسح، وليس لأحد تضييق ما وَسَّعه الله.

ومن أمثلة ما أحيل فيه على العرف: النفقة، يقول الله عزّ وجل: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}} [الطلاق: 7] وأطلق الإنفاق، فيرجع في ذلك للعرف، فما تعارف عليه الناس من نفقة الغني وجب على الزوج الغني، وما تعارفوا عليه من نفقة الفقير وجب عليه.

ـ كذلك المعاشرة: قال الله عزّ وجل: {{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [النساء: 19] ولم يحدد شيئاً معيناً، بل جعل ذلك إلى العرف.

وهذه قاعدة نافعة تنفع في أبواب كثيرة في الفقه: أن كل شيء أتى في النص، من كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولم يحدد، فإنه يرجع فيه إلى العرف.

وما سبق من الحالات الثلاث إنما هو في باب المعاملات، وأما في باب العبادات فَعَرفنا من قبل أنه لا يمكن أن يعمل الإنسان عبادة إلا بإذن الشارع.

وقوله: (فبالعرف) : اقترن الخبر بالفاء لأن المبتدأ (كل) مُضَمَّن معنى الشرط من حيث العموم.

66 ـ من ذاك صِيغاتُ العقودِ مُطلقَا***ونحوُها في قولِ مَنْ قد حَقَّقَا

قوله: (من ذاك) : أي مما أطلقه الشرع ولم يحدده ويرجع فيه إلى العرف، (صيغات) : جمع صيغة وهي الألفاظ ونحوها مما يدل على العقد إيجاباً أو قبولاً. (وصيغات) : مبتدأ مؤخر و (من ذاك) : خبر مقدم، (العقود) : جمع عقد ويراد به عقود المعاملات كالبيع والإجارة والرهن والوقف والعارية والوديعة وغير ذلك.

وقوله: (مطلقا) : يعني لا يستثنى شيء من العقود، فيرجع إلى العرف في كل عقد.

ومن ذلك على القول الراجح عقد النكاح، فإن عقد النكاح ينعقد بأي لفظ دل عليه، أما على المذهب فإنه: لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج: أنكحتك أو زوجتك، أو بلفظ: (أعتقتك وجعلت عتقك صداقك) إذا تزوج أمته[(337)]. وتعليلهم: أن هذا هو اللفظ الذي ورد به القرآن والسنة؛ قال تعالى: {{وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}} [البقرة: 234] هذا تزويج، والنكاح في قوله تعالى: {{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}} [النساء: 3] .

ولكن القول الراجح أنه داخل في العموم؛ أي أنه ينعقد بما دل عليه.

ودليل هذا:

أولاً: أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه زَوَّجَ بغير لفظ التزويج؛ فقد جاء في بعض روايات البخاري[(338)] في الذي زوجه الرسول صلّى الله عليه وسلّم المرأة الواهبة نفسها أنه قال: «مَلَّكْتُكَها بما معك من القرآن». وجاء أيضاً في تزوجه صفية أنه قال لها: «أعتقتك وجعلت عتقك صداقك»[(339)].فدل هذا على أن النكاح ينعقد بما دل عليه.

مثاله: إذا قال رجل: جوزتك بنتي قال: قبلت. ودخل عليها، فالمذهب أن النكاح غير صحيح، وإذا جامعها فهو جماع شبهة، ويجب أن يفرق بينهما، ثم يعقد من جديد، لكن على القول الراجح يصح العقد، لأن جوزتك عند العامة مثل زوجتك ولا إشكال.

ـ لو قال: ملكتك بنتي، على المذهب لا يصح، وعلى القول الراجح يصح، ولو قال: أعطيتك بنتي فعلى المذهب لا يصح، وعلى القول الراجح: فيه تفصيل؛ فإن كان عند الخطبة فليس عقداً عند كل الناس، وإن كان عند العقد وكان من المعروف عندهم أن قول وليّ المرأة: أعطيتك بنتي. فيقول المتقدم: قبلت، أن هذا عقد، فهو عقد.

وقوله: (ونحوُها) : أي نحو صيغ العقود، مثل الفسوخ والوكالات والإقرار وغيرها، هذه أيضاً يرجع فيها إلى ما تقتضيه الصيغة عرفاً سواء كانت قولية أم فعلية، وليس لها لفظ مقيد. وله أمثلة:

ـ خالع رجل زوجته ـ والخلع أن يفارقها بعوض ـ فقال: خالعتك على مائة درهم، فهذا صحيح.

ـ قال: فاديتك على مائة درهم، فهذا صحيح، لأن هذا أيضاً جاء به القرآن {{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}} [البقرة: 229] .

ـ فارقتك على مائة درهم، فهذا صحيح.

ـ طلقتك على مائة درهم. هذا يصح، لكن هل يكون طلاقاً أو يكون فسخاً؟

فيه خلاف بين العلماء، منهم من يقول: هذا طلاق على عوض، ومنهم من يقول: هو فسخ، ولو كان بلفظ الطلاق وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: كل فراق يدخله العوض فهو فسخ[(340)].

وفائدة قولهم: فسخ، أنه لا ينقص به عدد الطلاق، فلو قُدِّر أن هذا آخر فراق لها يعني أنه قد فارقها قبل ذلك مرتين، فإن قلنا: إنه طلاق بانت منه بينونة كبرى، وإذا قلنا: إنه فسخ بانت منه بينونة صغرى، أي له أن يتزوجها بعقد جديد.

ولكل من القولين دليل، لكن ظاهر حديث ثابت بن قيس رضي الله عنه، أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة»[(341)] ظاهر هذا إذا كان محفوظاً، أن الخلع إذا ورد بلفظ الطلاق فهو طلاق.

ـ لو قال رجل لامرأته: خليتكِ. فالمذهب أنه ليس بطلاق بل هو كناية[(342)]. والقول الثاني: أنه طلاق، لأن هذا صريح عند كثير من الناس: خليتها أي: فارقتها؛ فما دل على الفراق بأي لفظ كان فهو طلاق، بناء على هذه القاعدة، أن كل شيء لم يحدده الشرع فيرجع فيه إلى العرف.

قوله: (في قول من قد حققا) : أي: في قول العلماء المحققين أنه لا فرق بين عقد وعقد، ولا فرق بين عقد وفسخ في ذلك. ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: إن جميع العقود تنعقد بما تعارفه الناس[(343)]. وهو عالم محقق قوي الفهم، قوي الدين ولهذا تجد غالب اختياراته موافقة للدليل الصحيح وإني أوصي طالب العلم بالحرص على كتبه وكتب تلميذه ابن القيم رحمهما الله فإن فيهما خيراً كثيراً يعطيان الإنسان ملكة قوية للترجيح بين الأقوال.

مسألة: لو حدد السلف ما أطلقه الشرع، فهل يعتبر محدداً لعرفنا؟ وما الحكم لو اضطربت الأعراف في بلد واحد؟

والجواب أن نقول: لو أن السلف رحمهم الله عينوا ما أطلقه الشرع، فإن ذلك لا يتعين، ما دام يختلف في الأعراف والأزمان والأماكن، لأن المُتَّبع هو النص، لكن: إذا كان تعيين السلف تفسيراً لمبهم فإنه يرجع إليه، لا سيما تفسير الصحابة رضي الله عنهم وأهل الفقه منهم.

وإذا اختلفت الأعراف اتبع في كل مكان ما كان عرفاً فيه، واتبع في كل زمان ما كان عرفاً فيه[(344)].

67 ـ واجعلْ كلفظٍ كلَّ عُرْفٍ مُطَّرِدْ***فشرطُنَا العرفيُّ كاللفظِيْ يَرِدْ

هذه أيضاً من القواعد؛ وهي أن الأعراف المطردة كالألفاظ المنطوقة؛ فإذا جرت العادة بشيء معين، فإنه يكون كالمشروط.

مثاله: استأجر رجل بيتاً للسكن، فإذا به يربط فيه الحمير والبغال والإبل وقال: أنا استأجرت البيت وملكت منافعه، فلي أن أنتفع به بأي وجه من الوجوه، نقول له: ليس لك ذلك ولا يجوز لأنه خلاف المعتاد والعقد المطلق يحمل على العرف المعتاد لأن الشرط العرفي المطرد كالشرط اللفظي، له حكمه فيكون معتبراً.

ـ ومن ذلك الهدايا تهدى لإنسان؛ فما جرت العادة أن مثله يعتبر هدية، يكون هدية.

ـ إنسان مستعد للبيع للناس، فجاء رجل ووضع متاعه في دكان هذا الرجل المستعد للبيع، هل يكون هذا توكيلاً له في البيع؟ نقول: نعم، يكون توكيلاً، لأن هذا هو العرف.

ـ إنسان دفع ثوبه إلى غَسَّال، فلما جاء في آخر النهار ذهب إلى الغَسَّال وأعطاه ثوبه نظيفاً، فأخذه ثم انصرف ولم يعطه الأجرة، فقال الغسال: أين الأجرة؟ قال: ما اشترطت علي؟

نقول: لابد أن يعطيه الأجرة، لأن هذا عرف مطرد، وهذا الرجل قد أَعَدَّ نفسه لهذا العمل.

ـ رجل يمشي بسيارته في الطريق، فأشار إليه رجل فوقف له وركب معه إلى المدينة التي يريد، فلما وصل قال السائق: أعطني الأجرة. قال الراكب: ما شرطت علي. فهل تلزمه الأجرة أو لا؟

الجواب: إن كان السائق صاحب سيارة أجرة، فيلزم الراكب بالأجرة، لأن هذا هو العرف، وإن كان لم يُعِدَّ نفسه لذلك، فليس له الحق عليه، ولو كان يريد الأجرة لاشترط عليه وقال: أَذْهَبُ بك بكذا.

ـ رجل استأجر آخر ليعلمه القرآن فاتفقا على ساعتين في اليوم ولم يعيناها، فجاءه الساعة الثانية ليلاً وقال: أُعَلِّمُك الآن، فإنه لا يقبل منه، لأنه لم يجر العرف بذلك، بل إما في النهار أو أول الليل.

فهذه من القواعد النافعة: أن العرف المطرد كالشرط.

مسألة: المكاتب العقارية بعضها يعتبر أصحابها مجرد الدلالة على العين المُؤْجَرة إلزاماً للزبون بالعقد. فما حكم ذلك؟

الإجابة: إن كان هذا هو العرف فيعمل به.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 8:36 pm

ـ وشرطُ عقدٍ كونُه من مالكِ***وكلُّ ذي ولايةٍ كالمالكِ

قوله: (وشرط عقد كونه من مالك) : أي مالك لهذا العقد، وهذا يشمل كل عقد، سواء كان عقد بيع أو إجارة أو رهن أو وقف أو وديعة أو عارية، فجميع العقود يشترط أن تكون من مالك.

ومن عقد عقداً لا يملكه فعقده باطل لا يصح.

دليل ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ...} [النساء: 29] . وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: «لا تبع ما ليس عندك»[(345)]. فهذا يدل على أن الإنسان لا يتصرف بشيء ليس له ولا يملكه.

ولأن الله تعالى قال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}} [البقرة: 282] وسياق الآية يدل على أنه لا بد أن يكون هذا العقد بين مالكين.

وأما التعليل؛ فلأنه لو جاز العقد من غير المالك لأدى ذلك إلى النزاع والفوضى، وصار كل إنسان يريد أن يبيع ملك غيره يبيعه بدون ولاية عليه، وهذا لا تأتى به الشريعة ولا ترضاه، لما يحصل فيه من فساد القلوب، وتفرق الأمة.

ومن أمثلة ذلك:

ـ ما لو باع الإنسان ما لا يملك، فالبيع غير صحيح حتى لو تم الإيجاب والقبول وعلم الثمن والمبيع وحصل التقابض، لأنه ليس مالكاً.

ـ وكذلك لو رهن لدين عليه وهو غير مالك للمرهون، لم يصح الرهن.

ـ وكذلك لو تبرع به صدقة على الفقير، أو هدية لمن يطلب مودته، أو غير ذلك، فإن هذا التبرع غير صحيح لأنه ليس من مالكٍ.

ـ وكذلك لو باع حراً فإن البيع لا يصح، حتى لو كان ابنه أو أباه أو أخاه، لأنه ليس مالكاً له، إذ إن الحر لا يُمْلك.

ـ كذلك لو زوج ابنة غيره لم يصح العقد، لأنه لا يملك ذلك.

وقس على هذا بقية العقود بجميع أنواعها.

وظاهر كلام الناظم أنه إذا وقع من غير المالك، فإنه لا يصح وإن أجازه المالك، وهذا ما يعرف عندهم بتصرف الفضولي. والمسألة فيها تفصيل، فإن تَصَرُّفَ الفضولي منه ما أذن به الشرع، ومنه ما دعت إليه الضرورة، ومنه ما لم يأذن به الشرع ولم تدع إليه الضرورة، ولكن حسب ثقة الإنسان المتصرف بالنسبة للمالك، تَصَرَّف.

1 ـ فأما ما أذن به الشرع، مثل: اللُّقَطَة إذا تم عليها الحول ولم يُعثر على صاحبها، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن باستنفاقها، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر، وجب على اللاقط أن يضمنها له، لكن لا يضمنها على ما وجدها، بل يضمنها على أدنى صفة كانت عليها عند الإذن بالإنفاق[(346)].

2 ـ أما ما دعت الحاجة والضرورة إليه: مثل إنسان وجد لقطة، وكانت لو بقيت إلى الحول لفسدت، كالبطيخ والفواكه وما أشبهها، فهنا له أن يتصرف فيها، مع أنها لم تدخل في ملكه بعد، لكن هذا دعت إليه الضرورة.

ومنها ما لو مات إنسان في بَرٍّ، وكان معه مال لا يمكن حمله إلى البلد، فرأى الحاضرون أن يبيعوه ويحملوا ثمنه إلى البلد، فهذا تصرف من غير مالك، ولا موصَىً إليه، لكنه للضرورة. والأمثلة على هذا كثيرة.

3 ـ ما لم تدع الضرورة إليه ولم يأذن به الشرع: مثل أن يعرف رجل أن صاحب هذه السيارة يريد أن يبيعها، فجاء إنسان ليشتريها، وأعطى فيها ثمناً كثيراً يعتبر غبطة، فباعها ذلك الرجل بدون توكيل من مالكها ولا إذن. فهذا تصرف فضولي، لم يأذن به الشرع ولم تدع الحاجة إليه ولكنه غبطة ومصلحة لصاحب السلعة، فهل نقول: بصحة هذا البيع لأنه مصلحة لصاحب السلعة؟ أو نقول: لا يصح البيع لأن البائع ليس بمالك ولا مأذون له شرعاً؟ نقول: ظاهر كلام الناظم أن البيع لا يصح، وهذا هو المذهب[(347)].

ولكن الصحيح أنه إذا أذن المالك فإنه يكون نافذاً وصحيحاً، وذلك لأن منع الإنسان بيع ما لا يملك إنما هو لحق المالك؛ فإذا أذن فيه فقد أسقط حقه.

وربما يدل على هذا حديث أبي هريرة[(348)] رضي الله عنه حين استحفظه النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصدقة وجاء الشيطان يأخذ منها، فأعطاه أبو هريرة بدون إذن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجازه.

وحينئذٍ يكون هذا القسم قد دل عليه الأثر بالقياس، ودل عليه النظر بالتعليل.

وهل يدخل في هذا عقد النكاح؛ بمعنى أن رجلاً كان يعلم أن صاحبه يطلب امرأة يريد أن يتزوجها، وأنه يخطب من الناس، فجلس مع شخص وخطب منه ابنته لهذا الرجل الذي يبحث عن امرأة ليتزوجها، وقال: لا بأس أنا أزوجها إياه، فخاف أن ينقلب الولي ويرجع عن وعده، فقال: إذاً نعقد الآن، فعقد عقداً تام الشروط، ثم إن الذي كان يخطب، علم بذلك، وأجاز العقد فهل يصح أم لا؟ نقول: على كلام الناظم لا يصح لأنه ليس له ولاية ولا وكالة، والقول الصحيح أنه يصح إذا أذن وأجاز، لأن ذلك عقد كغيره من العقود، وربما يكون هذا الذي يطلب امرأة، ربما يعطي صاحبه جائزة، أن وجد له امرأة بدون كلفة وبدون مشقة.

فالقاعدة إذاً: أن كل العقود، سواء كانت عقود تبرعات أو معاوضات أو توثيقات أو أنكحة أو غيرها، لا بد أن تكون من مالك ويستثنى منها تصرف الفضولي، إذا كان للضرورة، أو أذن به الشرع، أو أذن به من عُقِدَ له على القول الصحيح.

قوله: (وكل ذي ولاية كالمالك) : هذه القاعدة الثانية في البيت: كل من له ولاية بالوضع أو بالشرع فإنه كالمالك، أي عقده نافذ، ودليل هذه القاعدة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في النكاح: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»[(349)] وقوله تعالى: {{وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}}[(350)] [النساء: 5] . والأولياء ثلاثة أنواع:

الأول: من ولايته ثابتة بالشرع، لكنها ولاية عامة كالحاكم، يعني القاضي، فإن له ولاية عامة أثبتها له الشرع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ في النكاح ـ: «فإن اشتجروا ـ يعني أولياء المرأة ـ فالسلطان ولي من لا ولي له» وهذا تصرفه صحيح، وولايته ثابتة بأصل الشرع.

الثاني: من ولايته ثابتة بأصل الشرع لكنها ولاية خاصة كولي القُصَّر وولي اليتيم، الذي يجب عليه أن يتصرف بمال اليتيم بما هو الأصلح لقوله تعالى: {{وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ}} [الأنعام: 152] .

الثالث: من ولايته ثابتة بإذن من المالك، وهو ـ أيضاً ـ ثلاثة أنواع:

1 ـ الوكيل: وهو من أذن له بالتصرف في الحياة، كما وكل النبي صلّى الله عليه وسلّم عروة بن الجعد رضي الله عنه أن يشتري له أضحيته بدينار، فاشترى بالدينار شاتين، فباع واحدة بدينار ورجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بشاة ودينار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم بارك له في بيعه»[(351)] فكان لا يبيع شيئاً إلا ربح فيه حتى التراب، بدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم فهنا تصرف لكن بإذن النبي صلّى الله عليه وسلّم.

2 ـ الوصي: وهو من أذن له بالتصرف بعد الموت.

3 ـ الناظر: وهو من أذن له بالتصرف في الأوقاف، كما فعل عمر رضي الله عنه حين أوقف نصيبه من خيبر بمشورة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: (تليه حفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ما عاشت ومن بعدها ذوو الرأي من أهلها ـ أي من آل عمر ـ)[(352)].

أمثلة:

مثال الوكيل: أن تقول لشخص: يا فلان وكلتك أن تشتري لي كذا وكذا، فهذا وكيل.

مثال الوصي: إنسان يوصي بثلث ماله في أعمال البر ويجعل التصرف إلى فلان بن فلان، فهذا الذي يتصرف يسمى وصياً، لأنه أذن له بالتصرف بعد الموت.

وبهذا نعرف تسامح بعض الكُتَّاب الذين يكتبون الوصايا، تجده يقول: أوصى فلان بكذا وكذا والوكيل فلان، وهذا غلط وتساهل، بل نقول: الصواب، والوصي فلان.

فإذا قال قائل: هل هناك فرق بين الوكيل والوصي؟

قلنا: نعم، الإنسان إذا وُكِّل فمات المُوَكِّل، انفسخت الوكالة، كما لو قال لشخص: وكلتك في بيع بيتي، ثم مات الموكل قبل بيع البيت، انفسخت الوكالة، لأن ملك البيت انتقل إلى الورثة، وهم قد لا يرضون بهذا الوكيل. لكن الوصية إذا قال: أوصيت إلى فلان بن فلان بكذا وكذا، فإنها لا تبطل بالموت، لأنه من المعلوم أن الوصي لا يتصرف إلا بعد الموت.

مثال الناظر: أن يقول القائل: إني وقفت هذا الشيء على طلبة العلم والناظر عليه فلان وقد اصطلح الفقهاء رحمهم الله على أن يسمى ناظراً وإن كان حكمه حكم الوكيل، فإذا تصرف الناظر تصرفاً مأذوناً فيه من قبل المالك أو من قبل الشارع فهو كالمالك. وليعلم أن قولنا: إن المتصرف في الوقف يسمى ناظراً، ينبغي التفطن له، لأننا نرى كثيراً من إخواننا الذين يكتبون الأوقاف، يقول: هذا وقف على كذا وكذا والوكيل عليه فلان، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث الجملة، لكن الأولى والأحسن، أن يعبّر بما عبر به الفقهاء والسلف الصالح، فيقول: ـ بدلاً من قولهم: والوكيل فلان بن فلان ـ والناظر عليه: فلان بن فلان.

69 ـ وكلُّ مَنْ رضاه غيرُ مُعْتَبَرْ***كَمُبْرَإٍ فعلمُه لا يُعْتَبَرْ

هذه أيضاً قاعدة مهمة: كل من لا يشترط رضاه في أي تصرف فإنه لا يشترط علمه، لأنه إذا كان لا يعتبر رضاه منسوف يقع مقتضى النطق معه سواء علم أو لم يعلم رضي أم لم يرض، لأنه لو عارض لم تقبل معارضته، فعلمه وجهله سواء.

مثاله: المُبْرَأ، يعني: الرجل الذي عليه دَيْن، أو أي حق كان، إذا قال له الطالب: أبرأتك من دَيِْنك. هنا يبرأ المطلوب من هذا الدين، سواء رضي أم لم يرض.

أما لو وهبه شيئاً، فلا يدخل في ملكه إلا إذا رضي، لأن الهبة عين قائمة بنفسها، فلا بد من قبولها إذا وهبت إلى شخص، أما الإبراء فهو رفعُ وصفٍ في ذمة.

وبيان ذلك: أن غريمي مدين لي، وهذا الغُرْم وصف في ذمته، فإذا أبرأته من الدين برئ سواء رضي أم لم يرض، لأنني أسقطت دينه ورفعت الوصف الذي في ذمته وهو أنه غريم.

ونظيره: لو كان إنسان يطلبني مائة صاع بر وسط، فأتيت إليه بمائة صاع بر جيد، وقال: لا أقبل الجيد، أريد وسطاً، نقول: يلزمه أن يقبل الجيد، لأنني أعطيته نصيبه موصوفاً بصفة ولم أعطه عيناً حتى أقول: لا بد من قبولها، بل إنما أعطيته صفة في الواقع، فيلزمه القبول، وهذا من جهة التعليل ظاهر.

ومن جهة أخرى نقول: إنه لا يمكن أن يرد الطيب بدلاً عن الوسط إلا لسفاهته، وتصرف السفيه غير مقبول.

إذاً هبة الأوصاف لا يشترط فيها الرضى، وإزالة الأوصاف، وهي الإبراء، لا يشترط فيها الرضى أيضاً، هذه قاعدة المذهب[(353)].

وعلى هذا فهل يشترط علم المُبْرَأ؛ بمعنى أنني لو قلت لجماعة حولي: اشهدوا أني أبرأت فلاناً من الدَّيْن الذي عليه، ومرت الأيام والأعوام، ثم أتى المطلوب وقال: هذا مالك، فقال الطالب: قد أبرأتك قبل عشر سنين، قال: ما علمت، هل يصح الإبراء؟

نقول: يصح، لأن رضى المبرأ ليس بشرط، سواء علم أم لم يعلم، فإنه سيرتفع الدين عن ذمته.

هذا هو تقرير المذهب في هذه المسألة.

ومذهب الإمام مالك أنه لا يبرأ حتى يقبل.

ومذهب الإمام أبي حنيفة أنه يبرأ إلا إن رده، وهو القول الراجح الذي تطمئن له النفس، لأن المبرأ قد يَرُدُّ الإبراء بحجة أنه لو قبل لأوشك أن يكون المُبْرِئ ـ بكسر الراء ـ يمن عليه بذلك الإبراء بعد ذلك، وهذا لا شك أنه يؤثر على نفسية المبرأ، فهذا هو القول الراجح أنه إذا لم يرض المبرأ بالإبراء فإنه لا يثبت الإبراء، لكننا مشينا في التمثيل على المشهور من المذهب[(354)].

ـ امرأة طلقها زوجها ومضى على طلاقه ثلاثة أشهر، وكانت تحيض في كل شهر حيضةً، يعني: أتى عليها ثلاث حيض، فهل تنتهي عدتها وهي لم تعلم؟

نقول: نعم؛ لأن رضاها غير معتبر فعلمها ليس بمعتبر.

وعكس هذه القاعدة: من رضاه معتبر هل يشترط علمه؟

نقول: نعم؛ لأنه لا يمكن أن يرضى بمجهول؛ فكل من رضاه معتبر فعلمه معتبر، إلا أن ينيب غيره مُنابه، فإنه لا يشترط علمه.

مثاله: إذا وكلت رجلاً أن يشتري لي سيارة أو أغراضاً، وأنا لم أعلم هذه الأغراض، فلا بأس لأني أقمت هذا الرجل مُقامي.

ـ رجل تزوج لابنه العاقل البالغ بغير رضاه ولا توكيله، هل يصح العقد؟ الجواب: لا، لأنه يشترط رضى الزوج، وهنا لم نعلم رضاه، لكن سبق أن بعض العلماء يقول: إن هذا من باب تصرف الفضولي، وأنه إذا أجازه الابن فلا بأس.

ـ ومن ذلك لو أن الرجل زوج ابنته كفؤاً في الدين والخلق بدون علمها، فإن تزويجه صحيح، لأن رضاها غير معتبر. وهذا على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله عند أصحابه[(355)].

والصواب أنه ليس له الحق أن يزوجها بدون علمها، ولا بدون رضاها؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُنكح البكر حتى تُسْتأذن»[(356)] وهذا عام للأب وغيره، بل جاء قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والبكر يستأمرها أبوها»[(357)] أو قال: «يستأذنها». فنص على إذن البكر، ونص على الأب.

70 ـ وكلُّ دعوى لفسادِ العقدِ***مع ادعاءِ صحةٍ لا تُجْدِي

هذه من القواعد المفيدة أيضاً: وهو أنه إذا تنازع المتعاقدان في صحة العقد، فادّعى أحدهما أن العقد غير صحيح؛ لكونه لم يعلم به، أو لكونه عُقِدَ في وقت لا يحل فيه البيع، كالبيع بعد نداء الجمعة الثاني، أو ما أشبه ذلك، مما يُفْسِدُ العقدَ والآخر ادّعى صحته، فالأصل الصحة، ودعوى الفساد خارجة عن الأصل فلا تقبل سواء ادعى الفساد لفوات شرط أو لوجود مانع، ولهذا قلنا (لا تجدي) أي لا تنفع.

فنقول للذي ادّعى الفساد: هات البينة، فإذا أتى بالبينة عملنا بها، وإن لم يأت بها فنرجع إلى اليمين على مدّع الصحة، لأن كل من كان القول قوله فإنه لا بد من يمينه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدّعي واليمين على من أنكر»[(358)].

ولأنه لو فتح الباب وقلنا: إن القول قول مدّع الفساد، لفسدت كثير من عقود المسلمين، ولكان ذلك فتحاً لباب الحيل والتحايل.

ويُذكر عن أحد المشتغلين بالفتيا أنه قال: إن بعض الناس يتحيل على إبطال البينونة في الطلاق الثلاث، ويدّعي أن العقد الذي وقع به الطلاق لم يكن تام الشروط، بل أحد الشهود ممن لا تقبل شهادته، قال ذلك من أجل أن يبطل العقد، وإذا بطل العقد، بطل الطلاق المبني عليه، والذي حصلت به البينونة. فمثل هذا لا يقبل قوله، لأن الأصل الصحة.

ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ باع رجل على آخر سيارة بثلاثين ألفاً، وبعد يومين أتى البائع وقال: إن البيع لم يصح لأن العقد وقع بعد نداء الجمعة الثاني. وقال المشتري: لا، العقد وقع في غير هذا الوقت والعقد صحيح. فالقول: قول المشتري، ونقول للبائع: هات بينة على أن البيع وقع بعد نداء الجمعة الثاني، فإذا قال: ما عندي بينة، نقول للمشتري: احلف، ونحكم لك بالبيع.

ـ مثال آخر: تبايع رجلان فادعى البائع أن البيع غير صحيح، لأنه باع قبل أن يبلغ، وبيعُ مَنْ لم يبلغ لا بد فيه من إذن الولي. وقال المشتري: بل البيع كان بعد البلوغ؛ فالقول قول المشتري، بناءً على هذه القاعدة؛ لأن الأصل في العقود الصحة حتى يأتي ما يدل على فسادها.

لكن هذه المسألة قال فيها بعض أهل العلم: إن القول قول البائع، لأن هذا الأصل عورض بأصل آخر أقوى منه، وهو أن الأصل عدم البلوغ، فيحلف البائع في هذه الصورة أنه باع قبل أن يبلغ ويتبين بطلان العقد، وهذا لا يناقض القاعدة المذكورة في الأصل؛ لأنه عورض بأصل أقوى منه.

على أنه ينبغي في هذه الصورة أن يرجع إلى اجتهاد القاضي وذلك بالنظر في القرائن فإن رأى أن قوله أقرب إلى الصواب أخذ به.

ـ مثال آخر: لو باع إنسان بيته، ثم ادعى البائع أنه مرهون، وإذا كان مرهوناً لم يصح البيع، لأن المرهون مشغول بحق المرتهن، والمشغول لا يُشْغَل فادعى أنه مرهون ليفسد بذلك العقد فدعواه غير مقبولة، لأن الأصل الصحة، فإن أتى ببينة تشهد بأن هذا البيت حين العقد كان مرهوناً لفلان فإنه يقبل، لأننا قلنا لا تقبل الدعوى، ولم نقل لا تسمع الدعوى، وهناك فرق بين نفي القبول ونفي السماع. وسيأتي بيان ذلك في القاعدة التالية إن شاء الله.

ـ مثال آخر: ادعى المشتري الجهل بالمبيع، وأنه حين العقد لم يَرَهُ، يريد بذلك إفساد البيع، فدعواه غير مقبولة، لأن الأصل في العقد هو الصحة، وكون المبيع بيده ينفي دعواه الجهل به، وإلا لقال عند استلامه المبيع: إن البيع ما صح، وامتنع من قبضه.

ونظير ذلك: المرأة التي يشترط إذنها في النكاح، لو ادعت أنها لم تأذن، فإن كان قبل الدخول قبلت دعواها، وإن كان بعده فلا، لأنها مكنت من نفسها.

ـ مثال آخر: أن يدعي البائع أنه كان مكرهاً يعني فلا يصح البيع فإن دعواه لا تقبل إلا ببينة. وهكذا كل عقد إذا اختلف المتبايعان فيه فادعى أحدهما ما يقتضي فساده وأنكر الثاني فالقول قوله لأن الأصل وقوع العقود على الصحة.



71 ـ وكلَّ ما ينكره الحسُّ امنَعَا***سماعَ دعواه وضدَّهُ اسمَعَا

هذا له صلة بالبيت الذي قبله، وهذه القاعدة من القواعد العامة في الدعاوى؛ أن كل ما ينكره الحس فامنع سماع الدعوى فيه إطلاقاً؛ ومعنى عدم سماع الدعوى: أن القاضي لا ينظر في القضية، ويصرف المُتَدَاعِيين، ولا يسمع لهما، لأن الحس يُـكَـذِّب الدعوى.

قوله: (كل) بالنصب مفعول لقوله: (امنعا) والألف في قوله: (امنعا) للإطلاق وليست للتثنية.

ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ لو ادّعى شخص له عشرون سنة أن شخصاً له إحدى عشرة سنة ابن له، فإنها لا تسمع هذه الدعوى، لأنه لا يمكن أن يولد لشخص وله تسع سنين.

ـ لو ادّعى أن هذا الصغير من الضأن من شاته، والشاة حامل الآن، والصغير قد ولد له أربعة أيام أو خمسة، فإنه لا تسمع دعواه لأن الحس يكذبه.

ـ لو ادّعى أي شخص بأن هذا الولد الرقيق ابن لأمته، والأمة عمرها خمس عشرة سنة، وهذا الولد المُدَّعَى عمره عشر سنوات، فإن دعواه هنا لا تسمع لأن الحس يكذبه.

ـ لو ادّعى أحد من الناس أنه رأى الهلال بعد غروب الشمس، وكان الناس رأوه غاب قبل غروب الشمس بالمراصد والمكبرات، فدعوى هذا الرجل لا تسمع، لأنه يكذبها الحس.

لو ادعى أن شخصاً من المشرق اعتدى على شخص من المغرب وهو حين اعتدائه موجود في المغرب فإن هذه الدعوى لا تسمع أصلاً لأنها تخالف الحس، وأما ما كان بعيداً ولكنه ممكن فإن الدعوى فيه تسمع ثم ينظر ما تقتضيه الدعوى فيما بعد من بينه أو نكول أو غير ذلك.

فكل شيء يكذبه الحس لا نقول: لا تقبل الدعوى فيه، بل نقول: لا تسمع.

والفرق بين نفي السماع ونفي القبول، أن نفي السماع: أن يقول القاضي للمُتَدَاعِيين انصرفا لا أسمع دعواكما ولا يُشَكِّل لهما جلسة. وله أن يؤدبهما على هذه الدعوى.

أما نفي القبول فمعناه: أن القاضي يُشَكِّل جلسة ويستمع من الخصمين، ثم ينظر هل تقبل دعوى أحدهما على الآخر أم لا، ثم يجريها على ما تقتضيه الشريعة.

فَفَرَّق العلماء بين ذلك ليكون راحة للقاضي، بدلاً من أن يجلس ويستمع في أمر لا يمكن فإنه يصرفهما مباشرة.

72 ـ بيِّنةً أَ لْزِمْ لكلِّ مُدَّعِ***ومنكراً أَ لْزِمْ يميناً تُطِعِ

قوله: (بيِّنة) : مفعول لـ (أ لزم) : يعني ألزم كل مدع البينة ليحكم له بما ادعاه، (ومنكراً ألزم يميناً) يعني ألزم المنكر اليمين على ما أنكر (تطع) أي تطع النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «البينة على المدّعي واليمين على من أنكر».

وهذه من القواعد الهامة في الدعاوى. وذكرها الناظم بعد قوله فيما سبق: إن من ادعى شيئاً لا يمكن فإنها لا تسمع دعواه، لبيان أن من ادعى شيئاً ممكناً، فإنها لا تقبل دعواه إلا ببينة.

ـ مثال ذلك: لو ادعى زيد على عمرو ديناراً، فأنكر عمرو، وقلنا لزيد: ائت ببيّنة، فإن أتى ببينة حكم له بها، ولا يحكم له بمجرد دعواه، لأن دعواه سبب وليس مقتضياً للحكم، وإن لم يأت ببينة قيل للمنكر: احلف، فإن حلف برئ، وإن لم يحلف قضي عليه بالنكول.

فما هي البينة التي لا بد لكل مدعٍ إثباتها؟

الجواب: البينة على القول الراجح هي: كل ما أبان الحق وأظهره من شهود، أو قرائن، أو عادات أو غيرها.

ثم إن بيّنة الشهود تختلف:

فمنها: ما لا بد أن تكون أربعة رجال.

ومنها: ما لا بد أن تكون ثلاثة رجال.

ومنها: ما لا بد أن تكون رجلين.

ومنها: ما لا بد أن تكون رجلين، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً ويمين المدعي.

ومنها: ما لابد أن تكون شاهداً واحداً إما رجلاً أو امرأة.

أما الذي لا بد فيه من أربعة رجال عدول هو الزنا أو الإقرار به.

وأما الذي لا بد فيه من ثلاثة رجال، فهو: الرجل يكون غنياً، ثم يصيب ماله جائحة تتلفه، فيأتي يطلب من الزكاة، فهذا لا نقبل منه إلا بثلاثة رجال.

وأما الذي لا بد فيه من رجلين ذكرين، فهي الحدود ـ سوى الزنا، فسبق أنه لا بد فيه من أربعة شهداء ـ، والقصاص، وما ليس بمال ولا ملحقاً به. فالحدود مثل السرقة: لا بد فيها من رجلين يشهدان بأن هذا سرق، فإن أتى صاحب المال برجل وامرأتين فقط، ثبت حقه في المال ولم يثبت الحد، فَيُضَمَّنُ السارقُ المالَ المسروق، ولكن لا يقام عليه الحد، لأن بينة المال وُجِدت، وبينةُ الحد لم توجد وهذا مما يتبعض فيه الحكم.

وأما الذي لا بد فيه من رجلين، أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدعي، فهو: المال وما يقصد به المال، أما المال: فكالبيع والشراء والهبة وغيرها، وأما ما يقصد به المال: فكالرهن والضمان والكفالة وما أشبهها.

أما الرجلان، أو الرجل وامرأتان، فقد جاء في القرآن، قال الله تعالى: {{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}} [البقرة: 282] ، وأما القضاء بالشاهد واليمين فقد ثبتت بذلك السنة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم[(359)].

وأما الذي يكفى فيه شاهد واحد فهو: فيما لا يطّلع عليه إلا النساء كالرضاع والولادة، ولهذا نقبل شهادة المرأة في الرضاع، ولو كانت واحدة.

ـ فلو أن شخصاً تزوج بامرأة، وبعد الزواج جاءت امرأة ثقة، قالت: إني أرضعتكما خمس مرات رضاعاً مُحَرِّماً، فهنا نفرق بين الرجل وزوجته بشهادة هذه المرأة الواحدة.

ـ ولو أن رجلاً قال: أنا أشهد على فلانة أنها أرضعت هذه المرأة وهذا الرجل، كل واحد خمس مرات، يقول العلماء: إنه يقبل، لأن ما تقبل فيه المرأة يقبل فيه الرجل ولا عكس، وهذا قياس صحيح.

وقد تكون البينة مجرد الوصف، مثال ذلك:

ـ رجل وجد لُقَطَةً، عشرين ألفاً، وسأل وبحث، فجاء إنسان وقال: هي لي، هنا لا يلزم أن يأتي بالشهود، بل يكفي أن يصفها؛ لأن الوصف يقوم مَقام الشهادة. وإنما قام مَقام الشهادة لأنه ليس هناك طرف آخر يدّعيها، والملتقط مقر بأنها ليست ملكه، فاكتفي بالوصف كما جاء ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم[(360)].

والعادة أيضاً تكون بيّنة:

ـ رجل طلق امرأته، ولما طلقها ادعت المرأة أن أواني القهوة لها، وادعى الرجل أن الحُلي الذي عليها له، فهل نقبل قول المرأة في المسألة الأولى؟

نقول: لا، لأن العادة أن أواني القهوة من عند الرجل، وهل نقبل قول الرجل في المسألة الثانية؟ نقول: لا، لأن العادة أن الذي له الحُلي هو المرأة، ولا نحتاج أن نطالب بالشهود. والبينة في هاتين الصورتين هي العادة.

والقرينة أيضاً تكون بينة:

ـ رجل هارب عليه غترة وبيده غترة، ورجل آخر وراءه يصيح ويقول: أعطني غترتي، فقال الذي بيده الغترة، وهو الهارب: هذه لي، وقال الطالب: هذه غترتي، وليس هناك عادة تحكم بينهما؛ نقول هي للطالب.

فإذا قال الهارب: هات الشهود، الغترة بيدي وأنت مدع أنها لك، نقول: البينة ما بان به الحق، وهنا الحق يبين بأن الغترة للطالب.

لكن لو ادعى الطالب أن غترته هي التي على رأس الهارب، لأنها أحسن من التي بيده، فهنا لا بد فيها من بينة؛ لأن الأصل أن التي على رأسه غترته، حتى لو ادعى الطالب بأن الهارب أول ما أخذ غترته لبسها لأنها أحسن، وجعل غترته في يده، حتى إذا أُدرك وادُّعي عليه يقول: هذه التي بيدي هي غترتك. نقول: لا شك أن هذا فيه احتمال، ولكن لا يصل لأن يكون بينة.

المهم أن كل من ادعى دعوى فعليه البينة، والبينة كل ما يَبِيْنُ به الحق ويظهر، وهي إما شهود وإما قرائن وإما عادات وإما أحوال.

وقوله: (ومنكراً ألزم يميناً) : هنا عندنا اسمان منصوبان (منكراً) (يميناً) ، فلماذا نصب هذا الفعل مفعولين؟ نقول: لأن الفعل (ألزم) يتعدى إلى مفعولين، فهو من باب أعطى وكسا.

وظاهر كلام الناظم أن اليمين تجب على كل منكر في أي دعوى، وهذا هو ظاهر عموم الحديث. لكن بعض أهل العلم قيد ذلك بما يُقْضَى فيه بالنكول[(361)]، وهو المال وما يقصد به المال، وأما ما لا يقضى فيه بالنكول فإنه لا يُلْزَم المدعى عليه باليمين، لأنه إن لم يحلف فإنه لا يقضى عليه.

وإذا نَكَلَ المنكر فهل ترد اليمين على المدعي؟ في ذلك قولان للعلماء: فمنهم من قال: لا ترد، ومنهم من قال: ترد.

والصحيح أن هذا راجع إلى القاضي فإن رأى أن يردها على المدعي لاتهامه إياه بالكذب فلا بأس، وإلا فالأصل أن المنكر إذا نكل عن اليمين قضي عليه.

ـ مثاله إذا ادعى شخص على آخر فقال: إن في ذمتك لي عشرة آلاف درهم، وطلب منه البينة، فقال: لا بينة عندي. نقول للمدعى عليه: احلف، قال: لا أحلف. فهنا نقضي على هذا الذي نكل بالنكول، ونقول: سلم للمدعي عشرة آلاف ريال؛ لأنك إذا كنت صادقاً فإن اليمين لا يضرك، وامتناعك عن اليمين يدل على صدق دعوى المدعي، فإن قال: أنا أريد أن أفتدي يميني، فنقول له: افتد يمينك بما ادعاه المدعي عليك، وهي عشرة آلاف ريال.

ـ إنسان آخر ادعى على شخص أنه قذفه، فقال المدعى عليه: أنا لم أقذفه، فهل نحلفه؟

نقول: لا نحلفه، لأنه لو امتنع فإنه لا يقضى عليه بالنكول، إذ إن القضاء بالنكول يكون في المال وما يقصد به المال. لكن لو رأى القاضي أن مع المدعي قوة وقرينة، فهذا لا بأس به أن يُقضى على المدعى عليه بالنكول، لأنه يقال له: إذا كنت صادقاً أنك لم تقذفه، فما المانع من اليمين.

وهذا القول له وجهة قوية، لأن من كان صادقاً في نفي ما ادعي عليه لا يهمه أن يحلف، لأنه صادق ويبرئ ذمته، ويطمئن صاحبه.

ـ لو ادُّعي على رجل أنه زنى فأنكر، لم نحلفه، لأنه لا يقضى عليه بالنكول.

فكل من أنكر فإن عليه اليمين إلا فيما لا يقضى فيه عليه بالنكول.

فتبين أن القاعدة هي: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وأنه يستثنى من ذلك: إذا كان الظاهر أقوى من الأصل، فإننا لا نقبل يمين المدعى عليه، مثاله: ما سبق من دعوى الطالب غترة بيد هارب عليه غترة وبيده غترة، ويخرج هذا على الحديث بأن البينة ما بان به الحق، والحق يبين في هذه الصورة بأن الطالب هو الذي له الغترة ويقضى له بها.

ـ ادعى رجال الحُسْبَة، أو عامل الزكاة، على شخص أنه لم يؤد زكاة ماله، وقال هو: إنه أداها، فالقول قوله، ولو قال إنه أداها إليهم فعلى رجال الحُسْبَة أو العاملين اليمين على ما أنكروه.

وهل يلزم صاحب المال باليمين في الصورة التي قال إنه أداها أو لا؟

الجواب: الأصل أنه لا يلزم بها، لأنه مُؤْتَمن على دينه؛ نعم لو فرض أن الرجل ادعى أنه أداها إلى فلان، فسألنا فلاناً هذا فقال: لم يعطني شيئاً. فهنا نلزمه باليمين؛ لأن هناك فرقاً بين التقييد والإطلاق، أي: بين أن يقول أديتها إلى فلان، أو أديتها مطلقاً.

ـ وكذلك لو كان رجلاً ذا مال كثير، وقال: أديت الزكاة. ونعلم أنه لو أدى الزكاة لكان لها أثر في المجتمع، فهنا قد لا نقبل قوله، لأن الظاهر يخالفه ويكذبه.

مسألة: ما حكم تغليظ اليمين على من لزمته؟

الإجابة: الحكم بتغليظ اليمين راجعٌ إلى القاضي، ثم هل تغلّظ في كل شيء حتى في الشيء الزهيد كالدرهم ونحوه، أو لا تغلّظ إلا في الأشياء العظيمة؟ الصحيح أنها لا تغلّظ إلا في الأشياء الكبيرة، لأن عموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «واليمين على من أنكر»[(362)] يقتضي أنه لا تغليظ.

مسألة: كيف نميز بين المدعي والمدعى عليه في الخصومات؟

نقول: المدعي من يدعي خلاف الأصل، والمنكر من يثبت الأصل.

مسألة: لو حصلت سرقة بين جماعة من الناس، فألزم بعضهم بعضاً بالمباهلة[(363)]، فهل يجوز هذا؟

نقول: لا يجوز، لأن المباهلة لا تقال في الغالب إلا في المسائل الخطرة في مسائل دينية، أما مسائل الدنيا فالرسول صلّى الله عليه وسلّم بينها لنا: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»[(364)].

وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية وقد شرحه ابن رجب شرحاً جيداً من أحب أن يرجع إليه فليفعل[(365)].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 9:23 pm

ـ كلُّ أمينٍ يدعي الرَّدَّ قُبِلْ***ما لم يكنْ فيما له حظٌّ حَصَلْ

هذه قاعدة في دعاوي الأمناء

قوله: (كل أمين) : الأمين: هو كل من حصلت العين بيده بإذن من الشرع أو بإذن من المالك.

ـ فولي اليتيم أمين في مال اليتيم، لأن المال حصل بيده بإذن الشرع.

ـ المستأجر بالنسبة للمؤجر أمين، لأن العين حصلت في يده بإذن مالكها.

قوله: (يدعي الرد قبل) : يعني: إذا ادعى الأمين الرد، أي: رد العين إلى صاحبها فإنه يقبل قوله في الرد.

ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ رجل أودعته عشرة آلاف ريال، ثم أتيت إليه فيما بعد، وقلت: أدِّ لي الوديعة التي أودعتك، فقال: قد رددتها عليك، فلا يطالب بالبينة على الرد، بل نقول: القول قوله لأنه أمين ومحسن، وقد قال الله تعالى: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [التوبة: 91] ولو كان يغلب على ظننا صدق المودِع، لأن المودَع رجل ليس بالأمين، والمودِع يغلب على ظننا أنه أصدق فلا نقضي للمودِع لأنه هو الذي فَرّط بكونه أودعها عند من يشك في أمانته.

ـ ومثل ذلك: من أنقذ مالاً من هلكة، ثم ادعى صاحب المال أن هذا المنقِذ لم يَرُدَّه، إما أنه لم يرده مطلقاً، أو لم يرد بعضه بأن ادّعى صاحب المال أن المال أكثر مما رده منقذه، فهنا القول قول منقذ المال، لأنه محسن، فيدخل في عموم قوله تعالى: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] .

قوله: (ما لم يكن فيما له حظ حصل) : يعني: ما لم يكن في الأمور التي حصل للأمين فيها حظ؛ أي: منفعة، فإنه لا يقبل قوله في الرد حتى يأتي ببينة.

مثال ذلك: المستعير: رجل استعار من شخص قلماً، ثم ادعى المستعير أنه رده لصاحبه فهل يقبل قوله؟

نقول: لا، لأن له فيه حظّاً، فلا يقبل قوله في الرد، فهو قد قبضه لمصلحة نفسه وليس لمصلحة المالك ولأن الأصل عدم الرد، فإنه إذا لم يرد المال فهو ضامن له.

وإذا كان في ذلك حظ للطرفين، المالك والأمين فهل يقبل قوله في الرد؟ نقول: كلام المؤلف يدل على أنه لا يقبل، لأنه حصل له فيه نفع.

مثال ذلك: المستأجر: أَجَّرْتَ شخصاً سيارة لمدة يوم، ثم جئت أطلبه إياها فقال: رددتها عليك. فهل يقبل قول المستأجر؟

نقول: لا يقبل لأنه قبضها لمصلحة نفسه، أي لاستيفاء حقه؛ ولو قبلنا قوله لكنا أعطيناه الحظ مرتين.

ولأن الأصل أيضاً عدم الرد، بل وعليه ضمانه، لأن الأصل في قابض مال غيره الضمان، ولا يوجد ما يعارضه، هذا ما قرره الفقهاء رحمهم الله.

وفيه وجه آخر أنه يقبل لأن الحظ هنا ليس متمحضاً للقابض، بل هو للأمين وصاحب السيارة، إذ إن الأمين انتفع بالسيارة، وصاحب السيارة انتفع بالأجرة.

ولكن القول الأول أظهر وهو الراجح أنه لا يقبل قوله لأنه قبضها لمصلحة نفسه، ولأن الأصل عدم الرد.

إذاً نقول: الأمناء القابضون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ من قبض المال لحظ مالكه، مثل: المودَع.

2 ـ من قبض المال لحظ نفسه، مثل: المستعير.

3 ـ من قبضه لحظهما جميعاً مثل: المستأجر.

ومفهوم قول الناظم (كل أمين) : أن من ليس أميناً فإنه لا يقبل قوله في الرد، كالغاصب.

74 ـ وأَطْلِقِ القَبُولَ في دعوى التلَفْ***وكلُّ مَنْ يُقبل قولُه حَلَفْ

قوله: (وأطلق القبول في دعوى التلف) هذه القاعدة في دعوى الأمين التلف لا الرد، فإذا ادعى الأمين التلف فإنه يقبل قوله، سواء قبضه لحظ مالكه، أو لحظ نفسه، أو لحظهما جميعاً. وسواء حصلت العين بيده بإذن من الشارع، أو بإذن من المالك، لأن التلف ليس من فعله ولا باختياره.

مثال ذلك: المودَع، لما أتى إليه المودِع قال: أعطني الوديعة قال: تلفت أو سرقها سارق. فهل يقبل قوله؟ نقول: نعم، يقبل.

ـ طلب المعير العين التي أعارها للمستعير فقال: إنها تلفت. فإنه يقبل قوله، لأنه أمين، ولم يقل: إني رددتها عليك؛ لأن هذا دعوى إيقاع فعل من صاحبها وهو القبض، لأنه لو ادعى الرد فمعناه أن هناك رادًّا ومردوداً عليه، والمردود عليه أنكر.

ولكن هل يضمن المستعير إذا تلفت العارية وهي بيده، أم لا؟

هذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها. على أربعة أقوال: فمنهم من قال: لا تُضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط، ومنهم من قال: تضمن مطلقاً سواء تعدى أو فرط، أم لم يتعد ولم يفرط، ومنهم من قال: تضمن إن شرط المعير ضمانها وإلا فلا، ومنهم من قال: تضمن إلا أن يشترط المستعير عدم الضمان.

والقول الراجح أنها لا تُضمن إلا بتعد أو تفريط، لأنها حصلت في يد المستعير بإذن صاحبها وهو أمين فيها.

ـ المستأجر إذا طلبت منه العين المؤجرة فادّعى تلفها فإن القول قوله.

فالقاعدة أن كل أمين ـ وهو من وقعت العين بيده بإذن الشرع أو المالك ـ إذا ادعى التلف فإنه يقبل قوله.

ولكن إن ادعاه بأمر ظاهر لا يخفى عادة، مثل أن يقول: جاءت أمطار كثيرة على العين المستعارة واجترفها السيل، والأمطار الكثيرة ظاهرة، فنقول له: أقم البينة أولاً على وجود هذا الأمر الظاهر، ثم بعد ذلك نقبل قولك أنها تلفت به.

ولو قال: احترق البيت وفيه العين، نقول: أقم البينة على احتراق البيت، لأن الاحتراق أمر ظاهر، فإذا أقمتها نقبل قولك بأنها احترقت معه، ولا نقبل دعوى المؤتَمِن وهو صاحب العين، أن العين لم تكن بالبيت، بل يقبل دعوى الأمين أنها احترقت مع البيت.

والحاصل: أن الأمناء في دعوى الرد يختلفون، فيقبل قول الأمين في الرد إذا كان قد قبض العين لمصلحة مالكها، ولا يقبل قوله إذا كان له مصلحة في قبض العين، إما خالصة، أو مشتركة مع المالك.

وأما في التلف، فإن قول جميع الأمناء مقبول، سواء كانت العين بأيديهم لحظ مالكها، أو لحظهم هم، أو لحظهما جميعاً.

قوله: (وكل من يقبل قوله حلف) : هذه قاعدة: أن كل من قبلنا قوله من الأمناء لزمه اليمين على ما ادعاه، ولا يَكفي قوله بل لا بد من اليمين، فإن لم يحلف لم يقبل قوله، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»[(366)].

مثال ذلك: رجل أودعته مالاً فادعى أنه تلف فيقبل قوله لكنه يحلف.

ـ رجل آخر أعرته حاجة من الحوائج ادعى أنها تلفت فيقبل قوله أيضاً لكنه يحلف.

ـ رجل آجرته كتاباً فادعى أنه تلف فيقبل قوله لكنه يحلف.

وهكذا كل من كانت العين بيده بإذن من الشارع أو من المالك فإنه يقبل قوله في التلف لكنه لا بد أن يحلف.

وهذا الحلف أحياناً يكون في جانب المدعي، وأحياناً يكون في جانب المُدَّعَى عليه، فكل من قوي جانبه فإن اليمين تكون في حقه.

ويدل لهذا قصة القَسَامة حينما طلب النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدعِين أن يُقسموا[(367)]، مع أن الأصل أن اليمين في جانب المدعى عليه. لكن كانت اليمين في القَسَامة في حق المدعي لقوة جانبه.

ـ ومثال ذلك لو تنازع الزوجان بعد الفراق في أواني البيت فما يصلح للرجل فهو له، وما يصلح للمرأة فلها. ولكن لو ادعى الرجل ما يصلح له وهو بيد المرأة، فقالت: هو بيدي وهو ملكي، فهنا القرينة تشهد بأن المال للرجل فيكون له، ونقول له: احلف أنه لك. فهنا اليمين في جانب المدعي، لأن جانبه أقوى من جانب المدعى عليه.

فاليمين إذاً في جانب أقوى المُتَدَاعِيَيِْن.

واعلم أنه لا يُحَلَّفُ المرء في العبادات لأنها بين العبد وربه، فلو ادعى رجل أنه أدى الزكاة لم يحلف، لأنها حق لله، أمانة بين العبد وربه.

مسألة: إن قال قائل: إذا كان الأمين قد قبض العين لمصلحة مالكها، ثم ادعى الرد، فهو محسن فكيف نلزمه باليمين؟

والجواب أن نقول: لأن اليمين لا تضره إن كان صادقاً، وإن لم يكن صادقاً فإنه إن كان عنده تقوى لله فإنه لن يحلف، سواء في دعوى الرد إذا قبل قوله فيه، أو في دعوى التلف.

فإن قال قائل: إذا لم يحلف الأمين على الرد في دعوى الرد، أو على التلف في دعوى التلف، فما الحكم؟

فالجواب: الحكم أنه يضمن، لأنه لو كان صادقاً لم يضره أن يحلف، فإن قال قائل: لعله هاب اليمين؟ فالجواب: أنه إذا هاب اليمين فهذا دليل على ورعه، ومن تمام ورعه أن يضمن الحق لصاحبه.

مسألة: إذا ادعى المالك أن العيب حصل عند المستأجر فهل يقبل قوله؟

والجواب أن نقول: حتى لو حصل عند المستأجر وهو لم يتعد، ولم يفرط، فلا ضمان عليه، لكن إذا اختلف البائع والمشتري عند مَنْ حدث العيب؛ فقال البائع: إنه حدث عند المشتري، وقال المشتري: إنه حدث عند البائع، فإن كان لا يحتمل قول الثاني، أخذ بقول الأول.

مثال ذلك: إذا كان العيب إصبعاً زائدة وقال المشتري: إنه معيب عند البائع، وقال البائع: بل عند المشتري. فالقول قول المشتري، لأنه لا يمكن أن تنبت الإصبع، وإذا كان جرحاً طرياً نعلم أنه حدث عن قرب، فادعى المشتري أنه حدث عند البائع، وادعى البائع أنه حدث عند المشتري فالقول قول البائع هنا، وإذا كان يحتمل هذا وهذا، فمن العلماء من قال: إن القول قول البائع، ومنهم من قال: إن القول قول المشتري، وسيأتي الصحيح في المسألة إن شاء الله وفقاً لقواعد الفقهاء[(368)].

مسألة: إذا أتى المودِع ببيّنة على أنه أودعه ثم أنكر المودَع باليمين فما الحكم؟

والجواب أن نقول: إذا أتى المودِع ببيّنة أنه أودع الوديعة، فمعلوم أن القول قوله، وإنكار المودَع باليمين لا يقبل.

75 ـ أدِّ الأمانَ للذي قدْ أَمَّنَكْ***ولا تخنْ مَنْ خان فهْو قد هَلَكْ

وهذه أيضاً قاعدة مهمة: أنه يجب على الإنسان أن يؤدي الأمانة لمن أَمَّنَه على أي حال كان؛ سواء كانت وديعة أو عارية أو إجارة. بل حتى الكلام إذا أَمَّنَك عليه، فالواجب أن تؤدي الأمانة. ولهذا قال العلماء: إذا قال لك الرجل أَبْلِغْ سلامي فلاناً. فقلت: أفعل إن شاء الله، فإنه يجب عليك أن تنقل السلام، لأن الذي قال لك ذلك أَمَّنَك، فإن لم تقبل إبلاغ سلامه فلا يلزمك. ولهذا ينبغي للإنسان إذا وَدَّعَ أحداً يتوجه إلى بلد أن لا يقول: سلّم لي على الجماعة، أو على الطلبة، أو ما أشبه ذلك؛ لأنه يُحرج صاحبه، إن قبل تحمل المسؤولية، وإن رفض ربما يسخط صاحبه، ولكن يقول: سلّم لي على من سأل عني، فإذا قال ذلك، صار إذا سُئل تذكر، فيقول: فلان طيب ويسلم عليك.

ـ إذا كان الإنسان عليه دين لفلان مائة ألف، وكان قد أودع الذي له مائة ألف وديعة مائة ألف، فذهب الرجل المطلوب إلى الطالب وقال: أعطني الأمانة التي أودعتك إياها وهي المائة ألف، فأنكر، فهنا تكون البينة على المدعي، فنقول له ائت بالشهود على أنك أعطيت فلاناً مائة ألف؛ وإلا فلا شيء لك.

فإن قال: ما عندي بينة. قلنا: يحلف الرجل إذاً، فحلف بأنه ما أعطاه الأمانة، وفي ذمة المدعي للحالف مائة ألف، فهل نقول: اجحد الذي عندك، لأن الرجل خانك فخنه أو لا يجوز؟

نقول: لا يجوز، بل أوفه دَيْنَه، وأما وديعتك التي جحدها فحسابه على الله عزّ وجل.

إذاً إذا خانك أحد في معاملة فلا تخنه، أَدِّ الأمانة واصدق، وإذا كان قد خانك فحسابه على الله عزّ وجل. ولهذا قال: (ولا تخن من خان فهو قد هلك) أي خسر فيكون الوزر عليه وأنت لك الأجر؛ وبهذه القاعدة تستقيم أحوال الناس ولو قلنا: كل من خانك فخنه، لكان الناس يخون بعضهم بعضاً فتكثر الخيانات وتفسد الأمور.

وجاء في الحديث الصحيح: «أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»[(369)] وهذه المسألة ثقيلة على الطمّاعين وأهل الشح، فيقولون: كيف أقر له بدينه وهو أنكر الوديعة التي عنده؟

فنقول: نعم، أَدِّ الأمانة، واستثنى المؤلف من هذا بقوله:

76 ـ وجائزٌ أخذُك مالاً استُحِقْ***شرعاً ولو سرَّاً كضيفٍ فهْو حَقْ

استثنى هذه المسألة وهي إذا كان لك حق تستحقه شرعاً، لا بالمعاملة، لأن الذي تستحقه بالمعاملة قلنا ـ فيما سبق ـ: يجب أن تؤدي الأمانة له ولا تخنه، لكن إذا كان لك الحق واجباً شرعاً كالضيف، فله أن يأخذ من مال مضيفه لو لم يؤده حق الضيافة، ولو بغير علمه ولهذا قال: (ولو سراً) مثاله:

ـ نزل ضيف بشخص وقال: أنا ضيف عندك، فقال: أنا غير مستعد، ولكن أدلك على المسجد فإنه مكان للضيوف ممن أراد الصلاة. فانصرف الرجل، وتمكن من أن يأخذ شاة من بيت الرجل، وتمراً من نخله يكفيه، فذبح الشاة وأكل حتى شبع، وفي الصباح جاء له بالباقي فهل يجوز هذا العمل أَوْ لا؟

نقول: نعم، يجوز لأنه حق عليه، لكن إذا تمكن أن يجد شيئاً بدون ذبح الشاة، فليفعل مثل ما لو وجد لحماً من مذبوح، فهذا لا يأخذ شاة ليذبحها.

ـ نزل أناس على صاحب غنم ضيوفاً عليه، ولكن صاحب الغنم لم يقم بواجب الضيافة، فلهم أن يأخذوا من غنمه بقدر ضيافتهم بالمعروف، لأن وجوب الضيافة على صاحب الغنم ثابت بالشرع، وأخذُهم من ماله قَدْرَ ضيافتهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن إذا كان يُخاف من أخذهم من ماله بقدر ضيافتهم أن تقع فتنة بينهم وبينه، بقتال حاضراً أو مستقبلاً، فإن دَرْء المفاسد أولى.

والمراد بهذه المسألة ما لو سافر إنسان لغرض مقصود ونزل ضيفاً بآخر، لا أن إنساناً يسافر ليبحث عمن ينزل عنده، من أجل أن يأخذ حق الضيافة، فهذا لا يجوز، لأن هذا إنما سافر ليأكل أموال الناس.

لكن لو قال قائل: هل يجوز أن يشتروا من غنمه مقدار ضيافتهم، ثم يقولون: لم نشتر منك شيئاً.

فالجواب: لا يجوز هذا، لأن عقد البيع معه عقد شرعي، وثبوت الحق في ذممهم ثبت بفعلهم، فلا يحل لهم إنكاره من أجل أخذ ضيافتهم.

ـ ومن ذلك المرأة، فإن نفقتها واجبة على الزوج شرعاً، فلو كان زوجها بخيلاً، لا يعطيها ما يكفيها، وله مال تقدر على أخذه لتنفق على نفسها وأولادها ـ إن كان لها أولاد ـ بالمعروف، فهل لها أن تفعل؟

نقول: نعم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أفتى به هند بنت عتبة رضي الله عنها حين جاءت وقالت: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فهل علي من جناح إن أخذت من ماله؟ قال: «خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف»[(370)]، فلها أن تفعل لأن هذا حق شرعي وسببه ظاهر.

ـ ومثل ذلك أيضاً من تجب نفقته على شخص بخيل لا يعطيه ما ينفقه عليه، فإن له إذا قدر على شيء من ماله أن يأخذ منه بالمعروف، قياساً على حق الزوجة.

ـ رجل استأجر أجيراً فعمل الأجير حتى انتهت مدة الإجارة، وصار يطلب المستأجِر ولكنه يماطل به، فقدر الأجير على أخذ شيء من ماله، فهل يأخذ أو لا؟

نقول: لا يأخذ لأن الواجب هنا بالعقد لا بالشرع.

وهذا يقع كثيراً، ولو فتح الباب للأخذ بمثل هذا السبب غير الظاهر، لكان كثير من الناس يأخذ من مال غيره ويقول: أنا لي حق عليه، ويحصل بهذا شر كثير، ولو علم صاحب المال بأن عامله أخذ من ماله بغير علمه، حصل من الشجار والمنازعات ما لا يعلم بمغبته إلا الله عزّ وجل.

إذاً يستثنى من قولنا:

(أَدِّ الأمان للذي قد أمنك***ولا تخن من خان فهو قد هلك)

ما كان واجباً شرعاً؛ كحق الضيف ونفقة الزوجة والأولاد وما أشبه ذلك، فهؤلاء لهم أن يأخذوا من مال من منعهم، سراً أو علناً، وذلك لأن سبب الوجوب ظاهر معلوم، فلا تقع فيه الخيانة ولا الفوضى.

مسألة: في قول الناظم رحمه الله تعالى:

أَدِّ الأمان للذي قد أمَّنك***ولا تخن من خان فهو قد هلك

هل هذا على سبيل الوجوب، أو من باب الورع؟ فمن استأمنني على مال، وأنا أطلبه بدين عليه، فهل لو تحايلت وأخذت حقي منه بهذه الحيلة، يكون هذا من المحرم؟ وما الرأي في الحيلة لمن له حق عند غني مماطل؟

والجواب أن نقول: الحديث عام: «أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»[(371)]، فيجب أداء الأمانة، ولا تجوز الخيانة، وكما قلنا في الشرح: إن أدركت حقك في الدنيا فهذا هو المطلوب، وإن لم تدركه ففي الآخرة، وعلى هذا نقول: إن التحيل على أخذ المال على غير وجه شرعي محرم.

ولكني أرشد إخواني إلى ألاّ يفرطوا في الأموال، وأن يحفظوا عليهم أموالهم، وألاّ يؤدوا إلى أحد شيئاً إلاّ بشروط. وقد أرشد الله إلى هذا بقوله: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}} [البقرة: 282] وكون بعض الناس يستحي أن يُشْهِد، يقال له: أنت الذي فرطت، وأنت الذي أهملت، والإشهاد لا ينافي الحياء، لأنه حق.

وأما المماطل إذا قدرت على شيء من ماله، فلا يجوز لك أن تخونه، بل: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».

مسألة: إذا كان الوالد لا ينفق على أهل البيت، وابنه ساكن معهم، ويقوم في أكثر الأحيان بالصرف عليهم، نظراً لأنه موظف، ولكنه في بعض الأحيان لا يستطيع، فهل يجوز له أن يأخذ من مال أبيه بقدر ما يكفي البيت، وينفق عليه بدون علمه؟

الإجابة: نعم، يجوز له أن يأخذ من مال أبيه ما ينفقه على بيت أبيه بدون علمه.

77 ـ قد يَثْبُتُ الشيءُ لغيرِهِ تَبَعْ***وإنْ يكنْ لوِ استَقَلَّ لامْتَنَعْ

قوله: (قد) : هنا يحتمل أن تكون للتحقيق، ويحتمل أن تكون للتقليل، والمراد الأول يعني: أن الشيء يثبت لغيره تبعاً، لكن بشرط أن تتحقق التبعية، فإذا تحققت التبعية تحقق الإتباع.

وقوله: (تبع) : حال من فاعل (يثبت) وسكَّنها، مع أنها منصوبة، لأجل القافية، وكذلك وفقاً للغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب بالسكون.

وهذه القاعدة وهي أن الشيء قد يثبت تبعاً لغيره مع أنه لو استقل لكان حراماً قد نَصَّ عليها الفقهاء رحمهم الله، فقالوا: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وللقاعدة أمثلة كثيرة منها:

ـ اللبن: بيعه في الضرع حرام؛ للجهالة، ولعدم التمكن التام من استيفائه، فلا يحل بيعه. لكن لو باع شاة لبوناً، يعني فيها لبن، فإنه يجوز، فيكون صحة العقد على اللبن تبعاً.

ـ رجل باع شاة فيها لبن، بإناء كبير مملوء لبناً فهل يجوز بيع اللبن باللبن متفاضلاً؟ نقول: لا يجوز، ولكن هنا يجوز مع أن اللبن في الضرع أقل من اللبن الذي في هذا الإناء الكبير، لأن اللبن صار تبعاً.

ـ ومن ذلك تبعية الإنسان لأبويه في الدِّين، فإن الولد يثبت إسلامه تبعاً لوالديه وإن لم ينطق بالإسلام، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[(372)].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 9:31 pm

ـ قد يَثْبُتُ الشيءُ لغيرِهِ تَبَعْ***وإنْ يكنْ لوِ استَقَلَّ لامْتَنَعْ

قوله: (قد) : هنا يحتمل أن تكون للتحقيق، ويحتمل أن تكون للتقليل، والمراد الأول يعني: أن الشيء يثبت لغيره تبعاً، لكن بشرط أن تتحقق التبعية، فإذا تحققت التبعية تحقق الإتباع.

وقوله: (تبع) : حال من فاعل (يثبت) وسكَّنها، مع أنها منصوبة، لأجل القافية، وكذلك وفقاً للغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب بالسكون.

وهذه القاعدة وهي أن الشيء قد يثبت تبعاً لغيره مع أنه لو استقل لكان حراماً قد نَصَّ عليها الفقهاء رحمهم الله، فقالوا: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وللقاعدة أمثلة كثيرة منها:

ـ اللبن: بيعه في الضرع حرام؛ للجهالة، ولعدم التمكن التام من استيفائه، فلا يحل بيعه. لكن لو باع شاة لبوناً، يعني فيها لبن، فإنه يجوز، فيكون صحة العقد على اللبن تبعاً.

ـ رجل باع شاة فيها لبن، بإناء كبير مملوء لبناً فهل يجوز بيع اللبن باللبن متفاضلاً؟ نقول: لا يجوز، ولكن هنا يجوز مع أن اللبن في الضرع أقل من اللبن الذي في هذا الإناء الكبير، لأن اللبن صار تبعاً.

ـ ومن ذلك تبعية الإنسان لأبويه في الدِّين، فإن الولد يثبت إسلامه تبعاً لوالديه وإن لم ينطق بالإسلام، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[(372)].

ـ ومثّل الناظم بقوله:

78 ـ كحاملٍ إنْ بِيعَ حملُها امْتَنَعْ***ولو تُباعُ حاملاً لم يَمْتَنِعْ

قوله: (حامل) : سواء كان حَمْلَ أمة أو بعير أو شاة أو بقرة أو غير ذلك، فلو أنه باع الحمل وحده لكان هذا حراماً، والبيع باطلاً لأن فيه غرراً، لكن لو باع الأم وفيها هذا الحمل، صار البيع صحيحاً لأن الحمل صار تبعاً لها أي حزءاً من أجزائها. ولهذا لو قال: بعتك هذه الشاة وحملها لم يصح البيع لأنه أفرده عن أمه حيث عطفه عليها والعطف يقتضي المغايرة، أي أن المعطوف غير المعطوف عليه والمغايرة تكون بالعين كقولك: جاء زيد وعمرو، وتكون بالصفة كقوله تعالى: {{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى }} [الأعلى: 1 ـ 4] .

قوله: (حاملاً) حال من نائب الفاعل المستتر في قوله: (ولو تباع) ، يعني: لو تباع حال كونها حاملاً لم يمتنع، ولا يصح المعنى لو جعلت (حاملاً) نائب الفاعل.

ـ ومثل ذلك ثمر النخل؛ فبيع ثمر النخل وحده لا يجوز، حتى يبدو صلاحه كأن يَحْمَر، أو يصفر، وبيع النخل وعليه الثمر ولو قبل بدو صلاحه جائز.

أما الأول، فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها»[(373)]، وهو بأن تحمر، أو تصفر.

وأما الثاني، فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع»[(374)]؛ فمفهومه أن الثمرة قبل أن تؤبر تكون للمشتري، تبعاً لبيع أصلها، مع أنها لم يبدُ صلاحها بعد.

مسألة: هل يجوز بيع الثمرة لمالك الأصل قبل بُدُوِّ صلاحها؟

الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، ومثال ذلك أن يبيع الفلاح نصيبه من الثمرة على صاحب الشجرة، مثل أن يكون الفلاح قد عامل صاحب النخل بنصف الثمرة، ثم بدا للفلاح ألا يستمر في العمل، وباع نصيبه من الثمرة على صاحب الأصل، فمن العلماء من قال: إن هذا جائز، لأنه باع الثمر على صاحب الأصل، ومنهم من قال: إنه ليس بجائز، وهذا هو الحق، لأن نصيب العامل مستقل، ولم يملكه صاحب الأصل من جهته، بخلاف ما إذا اشترطه المشتري الذي اشترى الأصل، وهو عليه الثمر.

79 ـ وكلُّ شرطٍ مُفسدٍ للعقدِ***بذكرِهِ يُفسدُه بالقصدِ

وهذه أيضاً من القواعد المهمة.

كل شرط يُفْسِدُ العقدَ إذا ذكر فيه، فإنه يفسده أيضاً إذا نوي. يعني أن النية تقوم مقام النطق.

ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[(375)].

مثال ذلك: التحليل: فالمطلّقة ثلاثاً، لا تحل لمطلقها حتى يتزوجها زوج آخر ويجامعها، لقوله تعالى: {{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}} [البقرة: 230] . تنكح بمعنى تجامع.

فلو أن امرأةً طُلَّقت ثلاثاً من زوجها، فقام أهلها بتزويجها، وشرطوا على الزوج الثاني أن يطلقها إذا فعل ما يحللها لزوجها الأول، فرضي بهذا الشرط، فهنا الشرط باطل ومفسد للعقد ولا تحل لزوجها الأول بهذا العقد، لأنها تزوجت بعقد فاسد، والفاسد لا حكم له في نفسه، فضلاً عن غيره.

ولو أن الزوج الثاني نوى التحليل بدون علم الزوجة وأهلها، فالعقد أيضاً فاسد[(376)]، وذلك لأنه نوى ما يفسد العقد. فكل ما يفسد العقد بالذكر يفسده بالقصد.

ـ ومن ذلك، على المذهب، لو أن إنساناً تزوج بِنِيَّة الطلاق بعد شهر، فالنكاح باطل[(377)]؛ لأنه لو شرط أن يكون النكاح مؤقتاً بالشهر لكان هذا الشرط مفسداً للعقد، فإذا كان هذا الشرط مفسداً للعقد، كانت نيته ـ أيضاً ـ مفسدة للعقد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

ـ ومن ذلك أيضاً: لو أن إنساناً اشترى سلاحاً، واشترط أن يقاتل به المسلمين، فهذا الشرط باطل ومفسد للعقد، لكن لو نواه بدون شرط، كان العقد فاسداً فيما بينه وبين الله، وإن كان في الظاهر لا يفسد، فيما لو تحاكموا عند القاضي، ولهذا قال الناظم ممثلاً لذلك:

80 ـ مثلُ نكاحِ قاصدِ التحليلِ***ومَنْ نَوَى الطلاقَ للرَّحِيلِ

قوله: (مثل نكاح قاصد التحليل) : وهو المُحَلِّل يعني الذي يتزوج امرأة طلقها زوجها ثلاثاً، بنية أنه متى فعل ما تحل به للأول طلقها، فبمجرد النية يبطل النكاح، وإن لم يشترط ذلك، ومثال آخر ذكره بقوله:

(ومن نوى الطلاق للرحيل) : أي عند رحيله. واللام تأتي بمعنى عند كما في قوله تعالى: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس على أحد الاحتمالات.

(ومن نوى الطلاق للرحيل) يعني من تزوج في سفره ونوى أنه إذا رحل عن هذا البلد طلق، فيكون نكاحه بالنية، أنه متى رحل طلق؛ فهو في الواقع نكاح مؤقت، لكن لا بالشرط، بل بالنية، فيكون النكاح فاسداً، كما لو شرط عند العقد أن يطلقها إذا رجع لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات».

وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يحل به فرج المرأة، ولا يقع التوارث فيه، ولا يلحقه النسب، إذا كان الرجل عالماً بفساده.

وفي المسألة خلاف؛ فمن العلماء من قال: إذا تزوج الغريب بنيَّة الطلاق فلا حرج، وفَرَّق بينه وبين نكاح المتعة، بأن نكاح المتعة قد شرط فيه الفراق بعد انتهاء الأجل، فينفسخ النكاح بانتهائه، رضي أم لم يرض، وأما هذا فلم يشترط فيه الفراق، وربما يرغب في المرأة ويبقيها معه حتى بعد أن يسافر.

ولكن يقال: نعم، هذا فرق مؤثر إلا أنه فيه علة تمنعه، وهي الغش للزوجة وأهلها، لأن أهلها لو كانوا يعلمون أنه لا يريد أن يتزوجها إلا إلى مدة مكثه في بلدهم لم يزوجوه، فعلى هذا يكون هذا من باب المكر والغش والخداع، ولو أخبرهم أنه سيطلق عند رحيله وزوجوه على ذلك صار نكاح متعة.

ثم إنه يجب سد الباب في هذه المسألة سداً منيعاً، لأنه وجد من السفهاء الذين لا يبالون بممارسة الفاحشة، عياذاً بالله، من يذهب لبلاد الخارج ليتزوج بهذه النية، وليس له غرض إطلاقاً إلا أنه يتزوج بنية الطلاق إذا عاد، ولهذا يتزوجون عدة مرات في خلال ثلاثة شهور.

فهذه المسألة حتى لو قلنا بجوازها مع ما فيها من غش وخداع، فإنه يجب سد الباب، لئلا يكون ذريعة إلى السفر للزنى، نسأل الله العافية.

بل إن هذه المسألة لا تدخل تحت الخلاف الذي فرضه أهل العلم قطعاً، لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد، والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج، إنما سافر لحاجةٍ: طلب علم، أو مال، أو غير ذلك، واحتاج إلى النكاح فتزوج. أما هؤلاء فقد قصدوا من الأصل أن يذهبوا إلى البلد ليتزوجوا بنية الطلاق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 9:32 pm

ـ لكنَّ مَنْ يجهلُ قصدَ صاحِبِهْ***فالعقدُ غيرُ فاسدٍ مِنْ جانبِهْ

هذا استثناء جيد، يعني من لا يعلم نية صاحبه فالعقد في جانبه صحيح، لأنه ليس له إلا الظاهر.

فإذا جاء إنسان يتزوج امرأة مطلقة ثلاثاً، وزوجه أبوها وهو لا يدري أنه محلِّل فليس عليه إثم، والنكاح في حقها صحيح، ولو مات هذا المحلِّل ورثته زوجته واعتدت له، لأن النكاح في حقها، حيث كانت جاهلة، صحيح.

ولو طلقها هذا المحلِّل وبقيت على عدم علمها بالتحليل، حلت للزوج الأول.

وكذلك لو أن شخصاً باع على رجل آخر سلاحاً، وكان المشتري يريد أن يقتل به نفساً مُحَرَّمة، فالعقد في حق المشتري محرم وباطل، لكنه في حق البائع الذي لايدري، حلال وصحيح.

وكذلك أيضاً يقال: فيمن تحيل على الربا وقصد الربا عن طريق الحيلة، وصاحبه الذي عامله لم يعلم بذلك، فإنه يكون حراماً في حق من تحيل، غير حرام في حق من لم يعلم. وعلى هذا فقس.

ولهذا نقول: إن هذا الاستثناء لا بد منه، وأن من يجهل قصد صاحبه، فالعقد غير فاسد من جانبه.

دليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أقضي بنحو ما أسمع»[(378)] وما لا يسمعه الإنسان ليس مكلفاً به، ونحن عللنا بتعليل آخر وهو:

82 ـ لأنه لا يَعلمُ الذي أَسَرّ***فأُجْرِيَ العقدُ على ما قد ظَهَرْ

قوله: (لأنه) : أي الطرف الثاني.

(لا يعلم الذي أسر) : يعني الطرف الأول، أي لا يعلم أنه أسر التحيل وهي النية المبطلة للعقد.

(فأجري العقد على ما قد ظهر) : يعني أجري العقد على الظاهر، وظاهر العقد صحيح.

مثاله رجل خطب امرأة وتزوجها، وتم العقد والدخول. فظاهر العقد أنه صحيح، لأنه لا يعلم السر إلا عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى. فالأحكام في الدنيا تجرى على ظاهرها، ما لم يتبين خلاف ذلك، فإن تبين خلاف ذلك عمل بما يقتضيه ذلك التبين. أما في الآخرة فتجرى على البواطن لقوله تعالى: {{أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ *وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *}} [العاديات: 9، 10] ولقوله تعالى: { {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ *}{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *}} [الطارق: 8، 9] .

مسألة: من نوت تحليل نفسها لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثاً، بأن تزوجت آخر، فنكدت عليه ليطلقها، هل يصح نكاحها هذا؟

والجواب أن نقول: فيه خلاف بين العلماء، منهم من قال: مَنْ لا فُرْقَةَ بيده لا أثر لنيته، والمرأة لا فرقة بيدها فلا أثر لنيتها، وكونها تنكد عليه يمكن للزوج أن يقول لها: أنت ناشز، فينكد عليها، ويقول: امكثي في بيت أهلك حتى ترجعي إليّ فَيُفَوت عليها المقصود.

لكن بعض العلماء قال: لو توصلت إلى إيذائه حتى طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول، من باب معاقبتها بنقيض قصدها.

وهذا من باب السياسة الشرعية، والسياسة الشرعية ليس لها حدود، ما لم تخالف الشرع، لأن المقصود بها الإصلاح، حتى إن عمر رضي الله عنه منع الزوج من حق الرجعة ردعاً للتمادي في المحرّم، حيث كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما الطلاق الثلاث واحدة[(379)]، يعني قول الرجل لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، يكون الطلاق واحدة. وهو محرّم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لما بلغه أن ناساً فعلوا ذلك قام خطيباً وقال: «أَيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»[(380)] حتى استأذن أحد المسلمين أن يقتل هذا المطلِّق.

فلما كثر هذا في الناس في زمن عمر، رأى بحكمته وسياسته أن يلزم الرجل بما قال، وهو تعجل البينونة، فأمضى الطلاق الثلاث عليه.

وهذا من السياسة الحكيمة، وقيّض الله جمهور الأمة للقول بما قضى به عمر، وهذا مما يدل على صواب هذا الاجتهاد، ولكنه على سبيل العقوبة؛ إن احتيج إليها نفذت، وإلا رجعنا إلى الأصل وهو أن الطلاق الثلاث واحدة.

83 ـ والشرطُ والصلحُ إذا ما حَلَّلا***مُحَرَّماً أو عكسُه لنْ يُقْبَلا

(ما) : زائدة، كما قال الراجز:

يا طالباً خذ فائده***ما بعد إذا زائده

ومن ذلك قوله تعالى: {{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}} [الشورى: 37] . أي: وإذا غضبوا، وقوله تعالى: {{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}} [فصلت: 20] . أي: حتى إذا جاؤوها.

وقوله: (لن يقبلا) : خبر قوله: (والشرط والصلح) : وجواب (إذا) محذوف، دل عليه ما ذكر في قوله: (لن يقبلا): وقيل: إن الشرط في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب.

والمعنى أن الشرط بين المتعاقدين جائز ونافذ ومقبول، أي شرط كان إلا ما أحلّ حراماً أو حرم حلالاً، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] والأمر بالوفاء بالعقد، يشمل الوفاء بأصله ووصفه، ووصفه هي الشروط التي تشترط فيه فيجب الوفاء بها، وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً وحرم حلالاً».

ـ فإذا باع شخص عبداً على إنسان، وقال: أشترط عليك أن لا تنقل ملكه لأحد، لا ببيع ولا هبة، ووافق، فهل يلزم الشرط أو لا يلزم؟

نقول: يصح الشرط، وليس فيه محذور، لأن البائع قد يكون له غرض في هذا الشرط، وذلك أن العبد عنده غالٍ في نفسه ويحبه، ولولا أن المشتري صاحب له وغالٍ عليه ما باعه عليه، فيقول له: أشترط عليك ألا تنقل ملكه لا ببيع ولا هبة، فإذا قال: نعم، لزم الشرط، وحرم على المشتري أن ينقل ملكه إلى غيره، لأنه التزم به.

ـ وإذا باعه داره واشترط عليه أن يسكنها لمدة سنة جاز، لأن هذا الشرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وللمتعاقدين فيه مصلحة؛ حيث إن البائع انتفع بسُكنى الدار سنة، والمشتري انتفع بنزول الثمن، لأن البائع إذا اشترط أن يسكنها سنة لا بد أن تنقص القيمة، فيكون كل منهما انتفع وليس فيه محذور.

وقد جاءت السنة بمثل هذا الشرط، فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما باع على النبي صلّى الله عليه وسلّم جملاً له في أثناء السفر، واشترط على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحمله أي يحمل الجمل جابراً إلى المدينة، فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك الشرط[(381)]، والتزم به، وهذا شرط استبقاء منفعة في المبيع للبائع إلى أمد معلوم.

ـ كذلك لو اشترط البائع على المشتري الذي لم ينقد الثمن، أن يرهنه بيته، قال: أنا أبيع عليك هذه السيارة بثلاثين ألفاً بشرط أن ترهنني بيتك، فلا حرج، لأن الأصل في المعاملات الحل، ويجب الوفاء بهذا الشرط، لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه اشترى من يهودي طعاماً لأهله، وهو في المدينة، ورهنه درعه»[(382)].

ومثل ذلك: أن يبيع شيئاً على شخص بثمن، واشترط المشتري أن يكون مؤجلاً إلى سنة، سواء كان يحل دفعة واحدة، أو على دفعات، فهذا جائز، ولازم، وهو داخل في قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}} [البقرة: 282] .

والخلاصة: أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما خالف الشرع.

مثال ما خالف الشرع:

ـ لو أن رجلاً باع أَمَةً واشترط الاستمتاع بها لمدة سنة، فهل يجوز هذا؟ نقول: لا، لأنه أحلّ حراماً، والحرام هنا أن هذه الأَمَة لما انتقل ملكها، صار الذي يستمتع بها سيدها الثاني، لقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *}} [المؤمنون: 5 ـ 7] .

ـ رجل باع عبداً واشترط على المشتري أنه إذا أعتقه فولاؤه له؛ أي للبائع فهل يصح أو لا؟

نقول: لا يصح، لأنه أحلّ حراماً، وعطّل حقاً ثابتاً: «فإنما الولاء لمن أَعْتَق»[(383)]؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أراد أن يجعل الولاء لغير المُعْتِق، فيكون هذا الشرط قد أحل حراماً، وأسقط حكماً ثابتاً، فلا يكون مقبولاً.

ـ كذلك المصالحة بين الطرفين الأصل فيها الحل، وأنهما إذا اتفقا على أي شيء في الصلح فهو جارٍ ولازم، إلاّ إذا أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً.

كما لو تنازع رجلان في عين، فقال أحدهما: هذه لي، وقال الآخر: بل هي لي، ثم اصطلحا على أن تكون بينهما نصفين، فإن الصلح يصح، إلا إذا كان أحدهما يعلم أنه مبطل في دعواه، فالصلح في حقه باطل، لأنه به أحلَّ حراماً، مثل أن يكون المدعي يعلم أنها ليست له، ولكن يعلم أن هذا الرجل خجول حيي ولا يريد أن يطالب أحداً، ويعلم أنه إذا ادَّعى عليه أنها له، فإنه سوف يخضع للمصالحة، فهذا حرام على المدعي لأنه انتهك بهذا الصلح حرمة المسلم، واستحل ماله، فلا يصح.

ـ لو أن رجلاً استدان من آخر مائة ألف فاصطلح المدين مع الدائن على أن يمهله مدة مقابل زيادة في الدين، فلا يحل هذا الصلح لأنه صلح على ربا.

ـ امرأة لها زوج وخافت أن يطلقها، فاصطلحت معه على أن تسقط النفقة عنه، فهل يصح؟

نقول: نعم، يصح، لأن هذا لم يحلّ حراماً ولم يحرم حلالاً، النفقة لها، فإذا رضيت بإسقاطها على أن تبقى مع زوجها فالحق لها.

ـ رجل له امرأتان اصطلح مع إحداهما أن تبقى عنده بدون قَسْم ـ أي: لا يبيت عندها ـ، فهل يصح؟

نقول: نعم، يصح، لأن الحق لها، وقد أسقطته. فهذا الصلح لم يحلّ حراماً ولم يحرم حلالاً فيصح.

ـ ومن ذلك على القول الراجح لو كان لإنسان دين على آخر، مقداره عشرة آلاف يَحِلّ بعد سنة، فقال المطلوب لصاحب الدين: أصالحك على نصف المبلغ، وأنقده لك الآن، فوافق على ذلك، فلا حرج، لدخوله في عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»[(384)]. وهذا الحديث وإن كان قد تُكُلِّم فيه، فإنه ربما يؤخذ من عموم قول الله تبارك وتعالى في الزوجين: {{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}} [النساء: 128] وليس فيه محذور ربا، لأن غاية ما فيه إسقاط وإبراء باختيار، فمحذور الربا فيه بعيد، بل ليس فيه محذور أصلاً، وأما من منعه بحجة أنه ربا، أو وسيلة إلى الربا أو شبيه بالربا صورة فقوله ضعيف.

فالقاعدة: أن جميع الشروط التي تشترط في العقود وجميع المصالحات الأصل فيها الحل والصحة واللزوم، ما لم تناف الشرع، فإن شككنا في ذلك فالأصل الصحة حتى يقوم دليل على أن هذا الشرط أو أن هذا الصلح مخالف للشرع.

فإذا حصلت المنافاة للشرع فإنها لا تصح؛ والدليل على عدم الصحة عند المنافاة للشرع، قوله تعالى: {{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}} [آل عمران: 85] فنفى الله قبول دين من ابتغى غير الإسلام ديناً، كذلك من ابتغى شرطاً غير شرط الإسلام أو صلحاً غير صلح الإسلام فإنه لا يقبل منه، ويرد.

وفي السنة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(385)] وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»[(386)].

والمعنى يقتضي ذلك؛ إذ كيف نصحح ما نهى الله عنه، لأن تصحيحنا لما نهى الله عنه، إقرار للمنهي عنه. وهذا محادة ومضادة لله ورسوله.

مسألة: امرأة تقول: زوجي كان قد طلقني طلقة واحدة بالكلام دون ورق، فقال لي في عصبية جنونية: أنت طالق طالق طالق، هل يقع الطلاق نهائياً أم تعتبر طلقة واحدة؟

والجواب أن نقول: إذا كان غضبه شديداً، فإن الطلاق لا يقع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق»[(387)]. والغضب الشديد هو الذي لا يملك الإنسان نفسه عنده بحيث يطلق، وكأن أحداً أكرهه على ذلك، أما إذا كان الغضب عادياً، وطلقها، فإن الطلاق يقع، إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه، ولكن كم طلقة تقع؟ نقول: إذا كان لم ينو الثلاث، فإنه لا يقع إلا واحدة قولاً واحداً.

وأما إذا كان نوى الثلاث بقوله: أنت طالق طالق طالق، فمن العلماء من يقول: إن الثلاث تقع، ولا تحل له إلا بعد زوج في نكاح صحيح فيجامعها، ثم يفارقها، ومن العلماء من قال: إن الثلاث واحدة، والخلاف في هذا معروف.

فإن طلقها وهي حائض فإن الطلاق لا يقع، لأنه على غير أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(388)].

مسألة : امرأة اشترطت لنفسها على المتقدم لها أنه لو تزوج عليها فهي طالق، فهل تطلق بمجرد عقده على الثانية أو لها الخيار؟

والجواب أن نقول: أنه على حسب الشرط الذي حصل، فإذا قالت: إن تزوجت فأنا طالق، قال: نعم، واتفقا على هذا ثم عقد عليها وشرط هذا لها فتزوج فإنها تطلق، ولكن لو قالت: فلي الفسخ فهو أحسن حتى يصير الأمر بيدها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 517
تاريخ التسجيل : 29/03/2014

أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Empty
مُساهمةموضوع: رد: أصول الفقه : منظومة أصول الفقه    أصول الفقه : منظومة أصول الفقه  Emptyالأربعاء أبريل 09, 2014 9:35 pm

ـ وكلُّ مَشْغُولٍ فليس يُشْغَلُ***بمُسقطٍ لما به يَنْشَغِلُ

هذه قاعدة معروفة عند العلماء وهي: أن المشغول بمقتضى عقد لا يصح أن يعقد عليه عقد يبطل العقد الأول ويعبر عنها الفقهاء بقولهم: المشغول لا يُشْغَلُ، ولكن نحن قيّدناها فقلنا: (فليس يشغل بمسقط لما به ينشغل) ، فإن شُغِلَ بما لا يسقط فلا بأس، لكن إذا كان مشغولاً، ثم شغلناه بما يسقط الشغل الأول فإن ذلك لا يجوز.

مثال ذلك:

ـ إنسان رهن بيته عند آخر، نقول: البيت الآن مشغول بالرهن، فهل يمكن أن يرهنه شخصاً آخر؟ نقول: لا يمكن، لأنه لو رهنه لآخر بطل حق الأول، وهذا لا يجوز.

ـ كذلك لو أن إنساناً أَجَّر شيئاً لشخص لمدة شهر، ولما انتصف الشهر أَجَّره المالك لشخص آخر مدة تبتدئ من نصف الشهر الأول، فهذا لا يجوز، لأنهما يتعارضان، إن مَكَّن الثاني من الانتفاع به بطل حق الأول، وإن مَكَّن الأول، بطل حق الثاني، والأول هو السابق، فيكون الحكم له، فإن أَجَّره إياه مدة تبتدئ بعد انتهاء مدة الأول فلا بأس، لأنه لن ينشغل بالإجارة الثانية إلا بعد انتهاء انشغاله بالإجارة الأولى.

ـ إنسان أقرض شخصاً مائة ألف ريال ورهنه المقترض بيته، فإنه يصح، ثم جاءه المقترض مرة أخرى، وقال: أقرضني مائة ألف أخرى، وأرهنك البيت، يعني أجعل الرهن الثاني داخلاً في الرهن الأول، فهل يجوز أو لا؟

نقول: نعم يجوز، لأن الرهن الثاني لا يسقط الرهن الأول، بل هو باق. ولهذا كان القول الراجح: أنه يجوز الزيادة في دَيْن الرهن، يعني إذا رهنته بمائة فلك أن ترهنه بمائتين أيضاً للمرتهن الأول إذا رضي المرتهن بذلك لأن الحق له، وعليه عمل الناس، وذلك لأن هذا الشغل الأخير لا يسقط الشغل الأول.

ـ وكذلك لو أَجَّر الراهن رهنه صح ذلك، لأن التأجير لا يسقط حق المرتهن من الرهن، وتكون الأجرة تابعة للرهن.

ـ إنسان عزم على أن يؤجر بيته لمدة سنة لشخص، ثم يبيعه، أي: يبيع البيت بعد نصف السنة لشخص غير المستأجر، فالبيع صحيح، لأن البيت لن ينشغل بالبيع، إذ إن حق المستأجر سابق، ويبقى المستأجر في البيت المبيع حتى تتم مدة الإجارة، ولكن في هذه الحال يجب على البائع أن يخبر المشتري، بأن البيت مستأجر لمدة كذا وكذا، حتى يدخل على بصيرة، فإن لم يفعل، فللمشتري الفسخ إذا علم، لأنه سوف يُفَوِّت عليه الانتفاع بالمبيع مدة بقاء الإجارة، وللمشتري قسطه من الأجرة من حين الشراء إلا بشرط.

إذاً المشغول لا يُشْغَل إذا كان الشغل الثاني يسقط الشغل الأول، وإن كان لا يسقطه فإنه لا يضر لإمكان الجمع.



85 ـ كمُبْدَلٍ في حكمه اجعلْ بَدَلا***ورُبَّ مَفْضُولٍ يكونُ أَفْضَلا

قوله: (كمبدل في حكمه اجعل بدلا) : وهذه قاعدة مشهورة عند العلماء: أن البدل له حكم المبدل، يحل محله ويأخذ حكمه، فإن كان المبدل واجباً كان البدل واجباً، وإذا كان سنة كان البدل سنة وهكذا، وله أمثلة:

ـ الطهارة بالتراب: وهو التيمم، جعله الله تعالى بدلاً عن طهارة الماء عند تعذر استعماله لعدمه أو للتضرر باستعماله فيجعل لهذا البدل حكم المبدل في كل شيء على القول الراجح، فيستباح بطهارة التيمم ما يستباح بطهارة الماء ويرتفع الحدث بطهارة التيمم كما يرتفع بطهارة الماء فإذا تيمّم الإنسان لقراءة القرآن فله أن يصلّي بهذا التيمّم الفريضة والنافلة مع أنه لم يتيمّم لصلاة، لكنه تيمّم يقصد بذلك رفع الحدث. وكذلك لو تيمّم لصلاة الظهر، وبقي على طهارته حتى دخل وقت العصر، فإنه يصلّي بالتيمّم الأول، ولا يبطل تيمّمه بخروج الوقت، وكذلك لو تيمّم لجنابة، فإنه لا يلزم إعادة التيمّم عنها، حتى يجنب مرة أخرى.

مثال ذلك: رجل استيقظ من نومه ليلاً، فوجد عليه جنابة، فتيمم لها لصلاة الفجر، ثم دخل وقت الظهر فلا يلزم التيمّم عن الجنابة، لكن يلزمه التيمّم عن الحدث الأصغر إن كان قد انتقض وضوؤه في هذه المدة ما بين الفجر والظهر.

مثال ثان: رجل تيمّم لصلاة الضحى، وصلى وبقي لم يحدث حتى دخل وقت صلاة الظهر، فإنه يصلي الظهر بتيممه لصلاة الضحى، لأن البدل له حكم المبدل، وهو لو توضأ لصلاة الضحى، وبقي على طهارته حتى دخل وقت صلاة الظهر، صلى الظهر بلا إعادة وضوء، ويدل لهذا في مسألة التيمم قول الله تبارك وتعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}} [المائدة: 6] فبيّن الله عزّ وجل في هذه الآية أن التيمّم مُطَهِّر، فيفعل مَنْ تيمم لحدثٍ ما يفعله المتوضئ والمغتسل، ولا فرق.

لكن لو تيمم عن جنابة ثم وجد الماء، وجب عليه أن يغتسل، ولذلك دليلان:

الدليل الأول: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء، فليتق الله وليمسه بشرته»[(389)].

الدليل الثاني: ما رواه البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما في حديث طويل في قصة الرجل الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اعتزل القوم، فلم يصل، فسأله فقال الرجل: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك»، ثم بعد ذلك جاء الماء، واستقى الناس، وبقي منه فضلة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل: «خذ هذا ـ يعني: الفضلة ـ فأرقه على نفسك»[(390)].

وهذا دليل واضح على أن التيمم يبطل إذا وجد الماء، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على ذلك[(391)]، وإن كان بعض المتأخرين ذكر فيه خلافاً.

ـ لو أن رجلاً نذر أن يذبح بعيراً تقرّباً إلى الله عزّ وجل ولكنه لم يجد البعير، فذبح بدله سبع شياه، كان ذلك كافياً ومجزئاً، ويكون حكم هذه الشياه حكم البعير. وكذا في الأكل لو نذر أن يذبح سبع شياه فذبح بعيراً أجزأه، على خلافٍ في هذا.

ـ إنسان عَيَّن أضحية ثم أتلفها عمداً، فيجب عليه بدلُها، ويكون هذا البدل له حكم المبدل. ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيمن ذبح قبل الصلاة: «فليذبح أخرى مكانها»[(392)].

ـ وكذلك النقود الورقية، جُعلت بدلاً عن النقود المعدنية من ذهب أو فضة أو غيرها فيكون لها حكم المبدل.

ولهذا كان القول الراجح في هذه النقود الورقية أنه يجري فيها ربا النسيئة، وكذلك ربا الفضل إذا كانت من جنس واحد.

وأما إذا كانت من جنسين، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(393)].

ولهذا أفتينا بجواز أخذ تسعة ريالات من المعدن، بعشرة ريالات من الوَرَق، وذلك لاختلاف الجنس؛ فهذا ريال حديد، وهذا ريال وَرَق.

ـ إذا تلف المرهون بفعل الراهن، يجب عليه أن يعوض بدلاً عنه، توثيقاً لحق المرتهن، ويكون هذا الأخير حكمه حكم الأول، لأن البدل له حكم المبدل.

مسألة: هل يجزئ البعير عن سبع عقائق؟ يعني لو ولد للإنسان ثلاثة أبناء وبنت فلهم سبع شياه ست للأبناء الثلاثة، وواحدة للأنثى، فذبح بعيراً، فهل يجزئ؟

الجواب: لا يجزئ، لأن العقيقةَ فداءُ نفسٍ بنفسٍ، وأيضاً لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه عق بالبعير، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن العقيقة بالشاة أفضل من العقيقة بالبعير[(394)].

قوله: (ورب مفضول يكون أفضلا) : هذه أيضاً من القواعد. (رب) تأتي للتقليل وللتكثير، وكونها للتقليل كثير، وهو المراد هنا؛ لأن الغالب أن الفاضل هو الأفضل، والعبادات لا شك أنها تتفاضل فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وجنس الصلاة أفضل من غيرها من العبادات لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل لسبب يقتضي ذلك، والأمثلة على هذا كثيرة:

ـ إيقاع الراتبة القبلية قبل الصلاة أفضل من إيقاعها بعد الصلاة، بل إنه إذا تعمد تأخيرها حتى صلى الفريضة، فإنها لا تقبل منه، لأنه أخرجها عن وقتها بلا عذر.

لكن إذا كان مشغولاً بعلم يلزم منه تأخير صلاة الراتبة إلى ما بعد الصلاة المكتوبة، فنقول: هنا المفضول صار أفضل؛ فالمفضول تأخير الراتبة إلى ما بعد الصلاة، والأفضل تقديمها قبل الصلاة، لكن نقول هنا: صار المفضول أفضل لوجود مصلحة.

ـ كذلك الإبراد في صلاة الظهر: فالأفضل في الصلاة تقديمها في أول الوقت، لكن إذا اشتد الحر فالأفضل الإبراد. فالمفضول هنا أفضل من الفاضل.

ـ وكذلك صلاة العشاء: الأفضل فيها التأخير، فإذا شق فالأفضل التقديم.

ـ لو أن إنساناً في مكة دار الأمر بين أن يطوف أو يصلّي، وهو من الآفاقيين، فالعلماء يقولون: اشتغال الآفاقي بالطواف أفضل من اشتغاله بالصلاة؛ حيث لا يتيسر له أن يطوف في غير بيت الله الحرام، وأما الصلاة فيمكن أن يصليها في بلده[(395)].

فإذا قدَّرنا أنه إذا طاف حصل زحام، فإننا نقول له: إذا كان هناك زحام فترك الطواف أفضل، لأجل مصلحة التخفيف على الطائفين.

ولهذا تجدون الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قدم مكة في حجة الوداع، لم يطف إلا ثلاثة أطوفة، وهي أطوفة النسك: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. مع أنه بقي في ظاهر مكة أربعة أيام قبل الذهاب إلى منى، ولو شاء لنزل وطاف، لكنه عليه الصلاة والسلام ترك ذلك ليتسع المطاف لمن لم يطف.

ـ ولو دعا شخص رجلاً إلى وليمة عرس والمدعو صائم وحضر، فهنا أمامه ثلاثة أشياء، إما أن يفطر ويأكل فيحصل به جبر قلب صاحبه، وإما أن يمتنع عن الأكل، فلا يكون صاحبه ممنوناً بذلك، وإما أن يمتنع عن إجابة الدعوة وهذا أشد، فهنا نقول: احضر وكُلْ، ولو بطل صيامك، فالفطر هنا أفضل مع أنه في الأصل مفضول.

ـ ومثل ذلك لو دار الأمر بين أن يصلّي الإنسان، وهو يدافع الأخبثين في أول الوقت أو يقضي حاجته ويصلّي في آخر الوقت، فهنا الصلاة في آخر الوقت أفضل من الصلاة في أول الوقت، مع أن الأصل أن الصلاة في أول الوقت أفضل.

ـ وربما نقول: إن مثل ذلك لو دخل المسجد رجلان، وليس في الصف إلا محل رجل واحد، فهل الأفضل أن يتقدم أحدهما لهذا المكان ويصلّي الآخر منفرداً خلف الصف مع اختلاف العلماء في صحة صلاته في هذه الحال، أو الأفضل أن يصلّي مع صاحبه؟ نقول: الأفضل أن يصلّي مع صاحبه، لئلا يوقع صاحبه في حرج، أو في فساد صلاته على القول المرجوح، وإنما قلنا «على القول المرجوح»، لأن القول الراجح أنه إذا لم يجد الإنسان مكاناً في الصف صلى خلف الصف وحده مع الإمام، ولا حرج عليه، ولا ينبغي أن يجذب شخصاً من الصف ليصلّي معه، بل لو قيل: لا يجوز لكان له وجه، ولا ينبغي أن يتقدم ويصلّي مع الإمام يعني: إلى جنب الإمام، بل قد نقول: إنه مكروه، لأنه يستلزم مخالفة السنة في انفراد الإمام بمكانه، وربما يحصل فيه أذية في تخطي الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام، وحينئذٍ يصلّي وحده خلف الصف ولا حرج عليه.

وهذا لا شك أن له حظاً كبيراً من النظر، لأن هذا الرجل الذي وجد الصف تاماً تعذّر عليه القيام في الصف حساً، فيجوز له أن يصلّي وحده، كما يجوز للمرأة أن تصلّي وحدها خلف صف الرجال، لتعذر مقامها مع الرجال شرعاً.

ـ قراءة القرآن أفضل من الذكر عموماً، لكن إذا أَذَّنَ المؤذن فإجابته أفضل من قراءة القرآن، لأن الأذان له وقت خاص وضيق يذهب سببه، أما قراءة القرآن فوقتها موسع لا تفوت.

وبهذه القاعدة نعرف كيف نُوَجِّه أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلاً: يحث على اتباع الجنازة وتمر به الجنازة فلا يتبعها، وذلك لاشتغاله بما هو أفضل كتعليم الأمة وإرشادها.

كذلك نجد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يلتزم صيام الأيام البيض، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، لا يبالي أصامها في أول الشهر أو وسطه أو آخره[(396)]، وذلك لأنه قد يكون له أشياء تشغله عن صيام أيام البيض.

ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم)[(397)]، وكذلك في القيام؛ لأنه يفعل ما هو أنفع وأصلح، فيكون المفضول فاضلاً.

86 ـ كلُّ استدامةٍ فأقوى مِنْ بَدَا***في مثلِ طيب مُحْرِمٍ ذا قد بَدَا

قوله: (ذا قد بدا) : أي ظهر وتبين.

هذه أيضاً من القواعد الفقهية، أن الاستدامة أقوى من الابتداء.

ولها أمثلة؛ منها:

ـ الطيب للمحرم، ابتداءً لا يجوز، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي وقصته راحلته: «ولا تحنطوه»[(398)]، يعني: لا تطيبوه، لكن لو تطيب عند الإحرام قبل أن يعقد الإحرام وبقي الطيب على بدنه بعد الإحرام فلا بأس، قالت عائشة رضي الله عنها: (كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مُحْرِم)[(399)].

فهنا نقول: الاستدامة أقوى من الابتداء.

مسألة: من تطيب قبل الإحرام وصار وبيص المسك يُرى في رأسه، فأراد الوضوء، فماذا يفعل عند مسح رأسه؟

الظاهر لي أنه لا بأس بمسحه بيده، ولا يضر ذلك، ما دام الرجل لم يتقصد أن يعلق الطيب بيده.

ولو لم نقل بذلك للحق الناس حرج شديد، وهو مع ذلك خلاف ظاهر السنة؛ لأننا نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يُرَى وبيص المسك في رأسه، ومع ذلك يغتسل ويخلل رأسه وهو محرم، وفي مثل هذه الحال سوف يعلق الطيب بيده.

وأما مع القصد بأن مسح رأسه، وعرك رأسه شديداً ليعلق الطيب بيده، فهذا لا يجوز.

كذلك لا يجوز تقصد مسح الرأس المطيب بالرداء حتى يبقى الطيب في الرداء، لأن هذا استعمال طيب بلا حاجة، وتقصد لانتقال الطيب من الرأس إلى الرداء.

ـ إنسان محرم وكان قد طلق زوجته وهي في العدة، فراجعها وهو مُحْرِم، فإن المراجعة صحيحة، لأنها استدامة نكاح.

لكن لو أراد أن يتزوج امرأة وهو محرم، كان ذلك حراماً، والنكاح فاسداً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَنْكِح المُحْرِم ولا يُنْكِح ولا يَخْطِب»[(400)].

فهنا الاستدامة أقوى من الابتداء، لأن المراجعة استدامة النكاح وليست ابتداء نكاح؛ بدليل قوله تعالى: {{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}} [البقرة: 228] فسمى الله المطلِّق بعلاً، فدل ذلك على أنه لم يزل زوجاً، وأن مراجعته ليست ابتداء عقد، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الرجعية في حكم الزوجة إلا في مسائل قليلة استثنوها.

ـ إنسان أحرم وعنده صيد مما يحرم في الإحرام، فيبقى ملكه عليه، ولو أُهدي له صيدٌ وهو مُحْرِم، فليس له أن يقبله ولا يملكه، لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.

ـ إنسان ارتد عن الإسلام، وله زوجة مسلمة، وهي الآن في العدة، فيبقى نكاحها حتى تنتهي العدة ولا ينفسخ النكاح بمجرد ارتداده.

ولو أن المرتد عقد على امرأة من جديد لكان العقد غير صحيح.

إذاً فهذه القاعدة مفيدة ولها فروع كثيرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hadet123.7olm.org
 
أصول الفقه : منظومة أصول الفقه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى اسلامي رائع وضخم لأهل السنة والجماعة :: المنتدى الأول :: أصول الفقه-
انتقل الى: